إن لم تكن قد سمعت بـ محمد شحرور، فلعلك شاهدت الشتائم التي أطلقت بحقه في اليومين الماضيين بعد إعلان وفاته، وربما شاركت فيها.
في أواسط الألفية الحالية تسنى لأبناء جيلنا أخيراً الاطلاع على النتاجات الثقافية والمعرفية بيسر وسهولة من خلال شبكة الإنترنت، لتبدأ بعض المنتديات والمواقع وخاصة بعد ظهور "يوتيوب" بتداول مقاطع للدكتور محمد شحرور (1938-2019) معظمها مسجّل بجودة رديئة من شاشة تلفزيون "أوربت" الخاصة المشفّرة.
كان هناك رجل يتحدث بإدهاش عن فهم آخر للنصوص القرآنية، ويطلق نظرياته وتحليلاته بصورة شجاعة مدعمة بالبراهين، لم يكن ذلك الرجل إلا محمد شحرور الذي أجرى عشرات اللقاءات مع عدد كبير من التلفزيونات المصرية في تسعينات القرن الماضي دون أن نلمحه ولو مرة على الشاشة السورية الوحيدة.
دفعني الفضول لاقتناء أول كتاب أطلقه في العام 1990 بعنوان "الكتاب والقرآن" كان ضخماً كبيراً، يبدو أن الرجل وضع فيه كل ما خلُصَ إليه منذ قدومه من الاتحاد السوفيتي في ستينات القرن الماضي، لتتوالى بعده "الإسلام والإيمان"، "الدولة والمجتمع"، "تجفيف منابع الإرهاب"، "السنة الرسولية والسنة النبوية".. الخ.
يتبع محمد شحرور منهجاً علمياً في كلّ ما خلُص إليه من نتاج فكري على مدار نصف قرن من الزمن، منهج وضعهُ بنفسه يعتمد على ثلاثة حوامل، تتلخص في عدم وجود الترادف، وعدم العبثية، وعدم الحشوية في القرآن.
خلال قرن من الزمان أنتج العقل العربي مئات الآلاف من الشعراء، ولكنه لم ينتج سوى عدد ضئيل جداً من العلماء
ويصرّ شحرور على عدم وجود الترادف في أي لسانٍ في العالم خاصة في اللغة العربية، إذ يرى أن العقل الترادفي هو من أحد أهم سمات العقل العربي الذي لا يفرّق بين كلمتي "جاء، وأتى" ولا يفرّق بين كلمتي "أب، ووالد" ولا يفرّق بين كلمتي "كتاب، وقرآن" وهو -برأيه- أحد أهم أسباب انحطاط النتاج المعرفي للعقل العربي، أنه خلال قرن من الزمان أنتج العقل العربي مئات الآلاف من الشعراء، ولكنه لم ينتج سوى عدد ضئيل جداً من العلماء.
فبرأيه أن المعنى الموجود في كلمة "أتى" يستحيل أن يتطابق مع المعنى الموجود في كلمة "جاء" والمعنى الموجود في كلمة "نبي" يختلف عن المعنى الموجود في كلمة "رسول".
ومن هنا بدأ شحرور البناء لتفسير ظاهرة اختلاف ورود تلك الكلمات في القرآن، مستشهداً على كلامه بأن "الله الذي خلق السموات والأرض والكون الذي يتسم بدقة متناهية في ذراته وإلكتروناته وبروتوناته تجعل من اختلاف أحدها ولو بـ 1 مم كارثة، لا يمكن أن يكون كلامه (الله) أقلّ دقة من صناعته".
لذلك يرفض شحرور الترادف تماماً في التعامل مع القرآن، ويرى أن الترادف يعمل أكثر مع الشعر، وهذا سبب جنوح العقل العربي إلى الشاعرية في طريقة تفكيره "فالشاعر إن كانت قافيته بائية ختم بيته بـ أب، وأما إن كانت قافيته دالية فيختم بيته بـ والد"، لا فرق لديه فالاثنان عنده واحد، ولكن في كتاب الله هذا أمر غير مقبول.
ومن هنا بدأت بذور نظريته المعرفية بالتشكّل عندما قرأ في سورة البقرة "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، ليصل إلى الآية 185 "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس"، فأطلق شحرور شهقته الأولى "الكتاب هدى للمتقين، والقرآن هدى للناس"، إذن الكتاب شيء والقرآن شيء آخر، تمخّض ذلك بعد ثلاثين عاماً كتاباً ضخماً بـ 600 صفحة!
يؤمن الشحرور أيضاً بعدم الحشوية في الكتاب، فحرف "ما" الذي يأتي بعد "إذا" والذي يعدّه النحاة حرفاً زائداً يراه شحرور ضرورياً لأنه ورد في القرآن في آية "وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً".
أثار الشحرور عواصف فكرية كبرى وانبرى عشرات رجال الدين أمامه لمناظرته بعد تقديم نظريته المدهشة والتي بنى عليها 14 كتاباً تُشكل اليوم بشكل لا لبس فيه فقهاً عصرياً جديداً، قوامه إعمال العقل.
على مدار ثلاثين عاماً الماضية خاض الشحرور عشرات المناظرات مع أعتى رجال الدين خاصة في الأزهر الشريف
على مدار ثلاثين عاماً الماضية خاض الشحرور عشرات المناظرات مع أعتى رجال الدين خاصة في الأزهر الشريف، بسبب أفكاره وتفسيراته "الغريبة" لبعض سور القرآن خاصة ما يتعلق منها بفقه المرأة وتعدد الزوجات الذي يراه شحرور محصوراً بحالة واحد فقط وهي أن يتزوج المرء الزوجة الثانية في حال كانت أرملة حصراً وعندها أولاد، مستشهداً على ذلك بآية "فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" التي تسبق الآية الشهيرة "فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، إذ أن جواب الشرط منوط بالشرط الذي يسبقه وهو اليتامى، بالرغم من أن جمهور المفسرين فسروا تلك الآية بحديث عن عائشة تقول فيه إن كلمة "اليتامى" يقصد بها "اليتمية" إذ يقول الحديث "إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء (...) أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق. وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: ((وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى...)).
شحرور دحض هذا الحديث ببساطة خاصة معتمداً على الدقة اللغوية التي يعتمدها في القرآن في كلمة "يتامى" أي أنها تعني الذكور والإناث، عائداً للآية التي سبقتها في سورة النساء "وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً" النساء2، فالحديث هنا عن اليتامى بشكل أساسي وكلمة "تقسطوا" يراها مختلفة عن كلمة "اعدلوا" فالقسط برأيه هو الإيفاء من طرف لآخر، بينما العدل هو شيء يتوسط اثنين.
يفسر الشحرور القرآن بالقرآن كما يقول، فكلمة مسلم مثلاً التي وردت عشرات المرات في القرآن في تلك الآيات:
الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} الجن 14
إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } آل عمران 67
الحواريون: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران 52
نوح: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يونس 72
لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} الذاريات
يشير شحرور بأن كلاً من الجن وإبراهيم ونوح ولوط والحواريين وغيرهم ممن وصفهم الكتاب بـ"المسلمين" هم ليسوا من أتباع محمد (ص) ومع ذلك فهم من المسلمين بنص الكتاب، ومن هنا بزغت فكرته ليفرّق بين ما هو "مسلم" وما هو "مؤمن" فليس جميع المسلمين من أتباع محمد (ص)، ومن هنا نسف محمد شحرور حصر بطاقة الإسلام بالأركان المعروفة "الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج"، معتبراً أن علماء الفقه عبر التاريخ "أقامت أركاناً للإسلام من عندها" مستبعدة الأخلاق ومنظومة القيم.
ومن هنا فإن تلك الأمثلة البسيطة التي كان يتبعها محمد شحرور أقامت الدنيا ولم تقعدها في مراحل متعددة، لأنها ببساطة تنسف أصول الفقه من أساسها والتي يرى الشحرور أنها بنيت بالأساس على مصالح سياسية بحتة لتخدم أهواء السلطة السياسية آنذاك خاصة في العصر الأموي قبل أن يقفل باب الاجتهاد تماماً كما يقول.
هذه أمثلة بسيطة عن أفكار محمد شحرور، إذ لا تتسع أي مادة صحفية لأفكاره، فتجربة عمرها خمسون عاماً من الأجدى أن تقرأ وتدرس بتمعن قبل الحديث عنها، لذلك لا يتسع المقام هنا.
حفلة شتائم
أثار خبر وفاة محمد شحرور عاصفة جديدة من السب والشتم، حاملها الرئيس كان صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، في مقابل طرف آخر كان يرى بأن الشحرور هو مثال للمجدد العصري وصاحب هم وقضية جوهرها عالمية الإسلام وعدم احتكاره من قبل العروبة التي تحولت معظم مفاهيمها التي كانت سائدة في القرن السابع إلى "دين" من خلال احتكار العرب للإسلام، خاصة بما يتعلق باللباس العربي للمرأة والرجل ومنظومة القيم المتمثلة بالسبي والغزو والثأر والرق.
الساخطون على شحرور يرون فيه بأنه يهدم أهم مصادر التشريع في الإسلام وهو السنة النبوية المتمثلة بالأحاديث النبوية والمحصورة في كتابي البخاري ومسلم والسيرة، في شكل من أشكال المؤامرة على الإسلام لإضعافه، وتحليل الخمر وإباحة العلاقات الجنسية غير الشرعية.
تحولت كل تلك التفسيرات والاتهامات التي بني معظمها بشكلٍ ببغائي إلى مسوغٍ لشتم الشحرور، بل لمنع الترحم عليه أيضاً، لأنه "حطبة من حطبات جهنم" كما وصفه البعض.
يؤخذ على محمد شحرور في إطلالاته التلفزيونية سوء مخارج الحروف وعدم امتلاكه لناصية اللغة نطقاً رناناً جليّاً كما هي العادة مع رجال الدين، وسبّب هذا سوء فهم في كثير من الأحايين، خاصة بعد الاجتزاء الذي يحدث لمقابلاته التلفزيونية، ونراها مقتضبة محصورة بجملة واحدة يطلق بعدها أحكام من قبيل "شاهد محمد شحرور يحلل الزنا"..الخ، لذلك فإن أي محاولة لتناول الرجل يجب -برأيي- أن تكون من خلال قراءة عدد من كتبه الـ 14 قبل الحكم عليه، خاصة أن منهجه العملي متسلسل ويتبع بعضه بعضاً وإن أي انفصال لأي مِن أسس هذا العقد ستؤدي إلى انفراطه برمته.
إن مفهوم العقل العربي الترادفي والعبثي والشاعري في كثير من الأحايين، والذي لم يتوقف عن السباب على محمد شحرور طيلة 30 عاماً هو نفسه العقل الذي كان شحرور يتناوله في كتبه وأبحاثه، والذي سيبقى حبيس كتب الأصول والفقه المقدسة التي بنى الفقهاء حولها سوراً منيعاً يمنع ويكفّر أي أحد من الاقتراب أو التفكير حتى بنقدها يوماً.
في أواسط الألفية الحالية تسنى لأبناء جيلنا أخيراً الاطلاع على النتاجات الثقافية والمعرفية بيسر وسهولة من خلال شبكة الإنترنت، لتبدأ بعض المنتديات والمواقع وخاصة بعد ظهور "يوتيوب" بتداول مقاطع للدكتور محمد شحرور (1938-2019) معظمها مسجّل بجودة رديئة من شاشة تلفزيون "أوربت" الخاصة المشفّرة.
كان هناك رجل يتحدث بإدهاش عن فهم آخر للنصوص القرآنية، ويطلق نظرياته وتحليلاته بصورة شجاعة مدعمة بالبراهين، لم يكن ذلك الرجل إلا محمد شحرور الذي أجرى عشرات اللقاءات مع عدد كبير من التلفزيونات المصرية في تسعينات القرن الماضي دون أن نلمحه ولو مرة على الشاشة السورية الوحيدة.
دفعني الفضول لاقتناء أول كتاب أطلقه في العام 1990 بعنوان "الكتاب والقرآن" كان ضخماً كبيراً، يبدو أن الرجل وضع فيه كل ما خلُصَ إليه منذ قدومه من الاتحاد السوفيتي في ستينات القرن الماضي، لتتوالى بعده "الإسلام والإيمان"، "الدولة والمجتمع"، "تجفيف منابع الإرهاب"، "السنة الرسولية والسنة النبوية".. الخ.
يتبع محمد شحرور منهجاً علمياً في كلّ ما خلُص إليه من نتاج فكري على مدار نصف قرن من الزمن، منهج وضعهُ بنفسه يعتمد على ثلاثة حوامل، تتلخص في عدم وجود الترادف، وعدم العبثية، وعدم الحشوية في القرآن.
خلال قرن من الزمان أنتج العقل العربي مئات الآلاف من الشعراء، ولكنه لم ينتج سوى عدد ضئيل جداً من العلماء
ويصرّ شحرور على عدم وجود الترادف في أي لسانٍ في العالم خاصة في اللغة العربية، إذ يرى أن العقل الترادفي هو من أحد أهم سمات العقل العربي الذي لا يفرّق بين كلمتي "جاء، وأتى" ولا يفرّق بين كلمتي "أب، ووالد" ولا يفرّق بين كلمتي "كتاب، وقرآن" وهو -برأيه- أحد أهم أسباب انحطاط النتاج المعرفي للعقل العربي، أنه خلال قرن من الزمان أنتج العقل العربي مئات الآلاف من الشعراء، ولكنه لم ينتج سوى عدد ضئيل جداً من العلماء.
فبرأيه أن المعنى الموجود في كلمة "أتى" يستحيل أن يتطابق مع المعنى الموجود في كلمة "جاء" والمعنى الموجود في كلمة "نبي" يختلف عن المعنى الموجود في كلمة "رسول".
ومن هنا بدأ شحرور البناء لتفسير ظاهرة اختلاف ورود تلك الكلمات في القرآن، مستشهداً على كلامه بأن "الله الذي خلق السموات والأرض والكون الذي يتسم بدقة متناهية في ذراته وإلكتروناته وبروتوناته تجعل من اختلاف أحدها ولو بـ 1 مم كارثة، لا يمكن أن يكون كلامه (الله) أقلّ دقة من صناعته".
لذلك يرفض شحرور الترادف تماماً في التعامل مع القرآن، ويرى أن الترادف يعمل أكثر مع الشعر، وهذا سبب جنوح العقل العربي إلى الشاعرية في طريقة تفكيره "فالشاعر إن كانت قافيته بائية ختم بيته بـ أب، وأما إن كانت قافيته دالية فيختم بيته بـ والد"، لا فرق لديه فالاثنان عنده واحد، ولكن في كتاب الله هذا أمر غير مقبول.
ومن هنا بدأت بذور نظريته المعرفية بالتشكّل عندما قرأ في سورة البقرة "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، ليصل إلى الآية 185 "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس"، فأطلق شحرور شهقته الأولى "الكتاب هدى للمتقين، والقرآن هدى للناس"، إذن الكتاب شيء والقرآن شيء آخر، تمخّض ذلك بعد ثلاثين عاماً كتاباً ضخماً بـ 600 صفحة!
يؤمن الشحرور أيضاً بعدم الحشوية في الكتاب، فحرف "ما" الذي يأتي بعد "إذا" والذي يعدّه النحاة حرفاً زائداً يراه شحرور ضرورياً لأنه ورد في القرآن في آية "وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً".
أثار الشحرور عواصف فكرية كبرى وانبرى عشرات رجال الدين أمامه لمناظرته بعد تقديم نظريته المدهشة والتي بنى عليها 14 كتاباً تُشكل اليوم بشكل لا لبس فيه فقهاً عصرياً جديداً، قوامه إعمال العقل.
على مدار ثلاثين عاماً الماضية خاض الشحرور عشرات المناظرات مع أعتى رجال الدين خاصة في الأزهر الشريف
على مدار ثلاثين عاماً الماضية خاض الشحرور عشرات المناظرات مع أعتى رجال الدين خاصة في الأزهر الشريف، بسبب أفكاره وتفسيراته "الغريبة" لبعض سور القرآن خاصة ما يتعلق منها بفقه المرأة وتعدد الزوجات الذي يراه شحرور محصوراً بحالة واحد فقط وهي أن يتزوج المرء الزوجة الثانية في حال كانت أرملة حصراً وعندها أولاد، مستشهداً على ذلك بآية "فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" التي تسبق الآية الشهيرة "فانكحوا ما طاب لكم من النساء"، إذ أن جواب الشرط منوط بالشرط الذي يسبقه وهو اليتامى، بالرغم من أن جمهور المفسرين فسروا تلك الآية بحديث عن عائشة تقول فيه إن كلمة "اليتامى" يقصد بها "اليتمية" إذ يقول الحديث "إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء (...) أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق. وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: ((وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى...)).
شحرور دحض هذا الحديث ببساطة خاصة معتمداً على الدقة اللغوية التي يعتمدها في القرآن في كلمة "يتامى" أي أنها تعني الذكور والإناث، عائداً للآية التي سبقتها في سورة النساء "وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً" النساء2، فالحديث هنا عن اليتامى بشكل أساسي وكلمة "تقسطوا" يراها مختلفة عن كلمة "اعدلوا" فالقسط برأيه هو الإيفاء من طرف لآخر، بينما العدل هو شيء يتوسط اثنين.
يفسر الشحرور القرآن بالقرآن كما يقول، فكلمة مسلم مثلاً التي وردت عشرات المرات في القرآن في تلك الآيات:
الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} الجن 14
إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } آل عمران 67
الحواريون: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران 52
نوح: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يونس 72
لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} الذاريات
يشير شحرور بأن كلاً من الجن وإبراهيم ونوح ولوط والحواريين وغيرهم ممن وصفهم الكتاب بـ"المسلمين" هم ليسوا من أتباع محمد (ص) ومع ذلك فهم من المسلمين بنص الكتاب، ومن هنا بزغت فكرته ليفرّق بين ما هو "مسلم" وما هو "مؤمن" فليس جميع المسلمين من أتباع محمد (ص)، ومن هنا نسف محمد شحرور حصر بطاقة الإسلام بالأركان المعروفة "الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج"، معتبراً أن علماء الفقه عبر التاريخ "أقامت أركاناً للإسلام من عندها" مستبعدة الأخلاق ومنظومة القيم.
ومن هنا فإن تلك الأمثلة البسيطة التي كان يتبعها محمد شحرور أقامت الدنيا ولم تقعدها في مراحل متعددة، لأنها ببساطة تنسف أصول الفقه من أساسها والتي يرى الشحرور أنها بنيت بالأساس على مصالح سياسية بحتة لتخدم أهواء السلطة السياسية آنذاك خاصة في العصر الأموي قبل أن يقفل باب الاجتهاد تماماً كما يقول.
هذه أمثلة بسيطة عن أفكار محمد شحرور، إذ لا تتسع أي مادة صحفية لأفكاره، فتجربة عمرها خمسون عاماً من الأجدى أن تقرأ وتدرس بتمعن قبل الحديث عنها، لذلك لا يتسع المقام هنا.
حفلة شتائم
أثار خبر وفاة محمد شحرور عاصفة جديدة من السب والشتم، حاملها الرئيس كان صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، في مقابل طرف آخر كان يرى بأن الشحرور هو مثال للمجدد العصري وصاحب هم وقضية جوهرها عالمية الإسلام وعدم احتكاره من قبل العروبة التي تحولت معظم مفاهيمها التي كانت سائدة في القرن السابع إلى "دين" من خلال احتكار العرب للإسلام، خاصة بما يتعلق باللباس العربي للمرأة والرجل ومنظومة القيم المتمثلة بالسبي والغزو والثأر والرق.
الساخطون على شحرور يرون فيه بأنه يهدم أهم مصادر التشريع في الإسلام وهو السنة النبوية المتمثلة بالأحاديث النبوية والمحصورة في كتابي البخاري ومسلم والسيرة، في شكل من أشكال المؤامرة على الإسلام لإضعافه، وتحليل الخمر وإباحة العلاقات الجنسية غير الشرعية.
تحولت كل تلك التفسيرات والاتهامات التي بني معظمها بشكلٍ ببغائي إلى مسوغٍ لشتم الشحرور، بل لمنع الترحم عليه أيضاً، لأنه "حطبة من حطبات جهنم" كما وصفه البعض.
يؤخذ على محمد شحرور في إطلالاته التلفزيونية سوء مخارج الحروف وعدم امتلاكه لناصية اللغة نطقاً رناناً جليّاً كما هي العادة مع رجال الدين، وسبّب هذا سوء فهم في كثير من الأحايين، خاصة بعد الاجتزاء الذي يحدث لمقابلاته التلفزيونية، ونراها مقتضبة محصورة بجملة واحدة يطلق بعدها أحكام من قبيل "شاهد محمد شحرور يحلل الزنا"..الخ، لذلك فإن أي محاولة لتناول الرجل يجب -برأيي- أن تكون من خلال قراءة عدد من كتبه الـ 14 قبل الحكم عليه، خاصة أن منهجه العملي متسلسل ويتبع بعضه بعضاً وإن أي انفصال لأي مِن أسس هذا العقد ستؤدي إلى انفراطه برمته.
إن مفهوم العقل العربي الترادفي والعبثي والشاعري في كثير من الأحايين، والذي لم يتوقف عن السباب على محمد شحرور طيلة 30 عاماً هو نفسه العقل الذي كان شحرور يتناوله في كتبه وأبحاثه، والذي سيبقى حبيس كتب الأصول والفقه المقدسة التي بنى الفقهاء حولها سوراً منيعاً يمنع ويكفّر أي أحد من الاقتراب أو التفكير حتى بنقدها يوماً.