كنت بسنواتي الثمان أبسط هيمنتي على بانغانتي دون أن أفعل شيئاً سوى أن أمدّ ذراعيّ فوقها. وكنت أغطيّ مساحة الضيعة الصغيرة المغلفة بالغبار الصلصالي.
في الساعة العاشرة صباحاً، وفي موسم الحر، كانت الأرض تتخلى عن زينتها الليلية لتتشح بحُليَّها الصباحية. ففي تلك الساعة، يكون العطر الذي يغمر القرية الواقعة عند سفح الجبل في ذروته، فيما تمنح قطرات الندى التي تغطي النباتات والغبار، إحساساً عميقاً بالراحة.
إنها ساعة الاستراحة التي يتخللها الركض ولعب الكريكيت. وهو أيضاً الوقت الذي طالما أنتظرُه لألتهم الفطائر المحلاّة واستسلم لإنفاق كل ثروتي عليها. فقد كان مبلغ العشر فرنكات، هو كل ما أمتلكه في الأيام التي يمكنني أن أتفاخر حينها وأُعلن امتلاكي مبلغاً ما. كنت أعطي البائعة النقود، وأتوارى بامتنان وأنا مأخوذ بفطائري المفضلة.
يا لصباحات بانغانتي البهية!
كانت المدينة تشتمل على طريق معبد تمتد مسافة كيلومترين، ولا شيء أكثر من ذلك. وتصطف على أحد جانبي الطريق دائرة (الانضباط العسكري) وكوخ أستاذي، وصفُّ أختي الصغيرة وصفّي، وساحة كرة القدم، وحديقة الأطفال، ومفرزة الدرك العسكري مع مجموعة من المنازل التي تتضمن منزل نائب الحاكم والمفوّض والمفتش. أما من الجانب الآخر مقابل دائرة (الانضباط)، فتقع مكاتب السيد المفتش ومدير مدرستي، ثم، مدرستي وقصر العدالة، ومسكن الحاكم والعمدة ثم مقر الشرطة.
كنا نشعر براحة خاصة في منزل السيد المفتش. فهناك نغدو أطفالاً كالآخرين، أحراراً في الجلوس على الأرض والتهام فطائر البطاطا والفاصوليا، تلك التي كانت تقدمها لنا الأُم جوس قبل أن تطردنا من مطبخها لاحقاً. كنت أغبط أطفالها الذين يتناولون طعامهم بلا صحون، ولا منضدة، وهم واقفون، ودون أن يتجشموا عناء الالتزام بالقواعد. كنا نهرع خارج مطبخ الأم جوس ونحن نضحك، ونمضي لنأكل راكضين دون أن نخشى اتساخ المفرش. وبعد أن ينهكنا التعب، ويعلو أجسادنا الغبار والعرق من شدة الركض وكثرة القفز، نستسلم للتعب، ونطلق لأنفسنا العنان للإحساس بالسعادة في حفر المخابئ وصيد الصراصر. وعلى الرغم من أنني لا أذهب إلى أي مكان قبل الاستئذان من والدي، لكن يحدث في بعض أيام العطل أن أنسحب، أدخل خُفية إلى الحديقة الكبيرة حيث أتسلق أشجار المنغا والافاكاتو وبعد أن يفاجئني الجوع، أتوارى بين شتلات الطماطم التي كان لُبّها يمتلئ عصيراً.
يالها من ليالٍ عشتها في بانغانتي!
وبعد ذلك انقلب كل شيء رأساً على عقب.
ففي بانغانتي، لم يعد ثمة شيء حقيقي سوى: العُصاة.
كانوا يطلقون النار في وضح النهار على طلبة المدارس الذين يهربون، مثلما يستهدفون المدرسين. ويضرمون النار في المستشفيات، ويقطعون رؤوس الأطباء ويشقون بطون الحبالى. إن العُصاة لايكلّون ولا يتركون فرصة راحة لأحد، وبخاصة للحاكم، أبي، الذي أصبح نحيفاً وشاحباً بسببهم. وكانت رسائل التهديد تصل حتى إلى غرفته دون أن يعلم كيف تمّ ذلك، علماً أن أمي الغيور كانت وحدها التي تحتفظ لديها بمفتاح احتياطي لغرفته.
وبالنسبة إلي، أنا المتأثر بالسجين سيمو، كنت أعتقد بأن العُصاة يتمتعون بسلطة سحرية تمكنهم من عبور الجدران والدخول أينما يشاؤون دون أن يلاحظهم العساكر أو أفراد الحماية.
وأخيراً، قُبض على نائب الحاكم في أحد الكمائن.
عدُت في ذلك اليوم من المدرسة عند الظهر. كانت ثمة شاحنة عسكرية وبضع سيارات تقف قبالة مدخل المنزل. وكان الأشخاص الذين يخرجون منه يبدون بهيئة مهيبة.
كنت أقترب من الشاحنة، حين رأيت علماً وطنياً يغلف شيئاً ما.. طويلاً .. مثل... جسد إنسان.. اضطربت دقات قلبي: كلا! ليس أبي!
تسمرتُ في مكاني وقد اعترتني الدهشة، وبقيت صامتاً مثل سمكة كارب. اقترب مني السجين سيمو وقال بضحكة مصطنعة: "آه، رأيت؟ أليس كذلك؟ ولكن اطمئن، إنه ليس أباك. تعال وضَع حقيبتك".
لم أتحرك، فعاود القول: "ألا تصدقني؟ تعال، سأريك. تعال إذن لترى، أقول لك. ثم رفع السجين حافة العلم".
كان كل شيء مغطى بالدم وبالغبار. وبقي سر هذا الوجه المشوه بفظاعة سراً غامضاً بالنسبة لي .
* (ماري كلير داني ، ولدت في Edéa في الكاميرون، وأكملت دراستها في الكلية العليا لجامعة الآداب في Yaondé ثم في انجلترا وألمانيا والولايات المتحدة إذ نالت الاختصاص في الترجمة من جامعة جورج تاون Georgetown بواشنطن. عُرفت بنظم الشعر وبنشاطها المسرحي، وكتبت أيضاً رواية. وهي ممثلة وقد أدت عدة مشاهد مع جماعة "اللآلئ السود" وقد عملت مترجمة فورية في الجمعية العامة بالكاميرون. وهي أم لأربعة أولاد.)
في الساعة العاشرة صباحاً، وفي موسم الحر، كانت الأرض تتخلى عن زينتها الليلية لتتشح بحُليَّها الصباحية. ففي تلك الساعة، يكون العطر الذي يغمر القرية الواقعة عند سفح الجبل في ذروته، فيما تمنح قطرات الندى التي تغطي النباتات والغبار، إحساساً عميقاً بالراحة.
إنها ساعة الاستراحة التي يتخللها الركض ولعب الكريكيت. وهو أيضاً الوقت الذي طالما أنتظرُه لألتهم الفطائر المحلاّة واستسلم لإنفاق كل ثروتي عليها. فقد كان مبلغ العشر فرنكات، هو كل ما أمتلكه في الأيام التي يمكنني أن أتفاخر حينها وأُعلن امتلاكي مبلغاً ما. كنت أعطي البائعة النقود، وأتوارى بامتنان وأنا مأخوذ بفطائري المفضلة.
يا لصباحات بانغانتي البهية!
كانت المدينة تشتمل على طريق معبد تمتد مسافة كيلومترين، ولا شيء أكثر من ذلك. وتصطف على أحد جانبي الطريق دائرة (الانضباط العسكري) وكوخ أستاذي، وصفُّ أختي الصغيرة وصفّي، وساحة كرة القدم، وحديقة الأطفال، ومفرزة الدرك العسكري مع مجموعة من المنازل التي تتضمن منزل نائب الحاكم والمفوّض والمفتش. أما من الجانب الآخر مقابل دائرة (الانضباط)، فتقع مكاتب السيد المفتش ومدير مدرستي، ثم، مدرستي وقصر العدالة، ومسكن الحاكم والعمدة ثم مقر الشرطة.
كنا نشعر براحة خاصة في منزل السيد المفتش. فهناك نغدو أطفالاً كالآخرين، أحراراً في الجلوس على الأرض والتهام فطائر البطاطا والفاصوليا، تلك التي كانت تقدمها لنا الأُم جوس قبل أن تطردنا من مطبخها لاحقاً. كنت أغبط أطفالها الذين يتناولون طعامهم بلا صحون، ولا منضدة، وهم واقفون، ودون أن يتجشموا عناء الالتزام بالقواعد. كنا نهرع خارج مطبخ الأم جوس ونحن نضحك، ونمضي لنأكل راكضين دون أن نخشى اتساخ المفرش. وبعد أن ينهكنا التعب، ويعلو أجسادنا الغبار والعرق من شدة الركض وكثرة القفز، نستسلم للتعب، ونطلق لأنفسنا العنان للإحساس بالسعادة في حفر المخابئ وصيد الصراصر. وعلى الرغم من أنني لا أذهب إلى أي مكان قبل الاستئذان من والدي، لكن يحدث في بعض أيام العطل أن أنسحب، أدخل خُفية إلى الحديقة الكبيرة حيث أتسلق أشجار المنغا والافاكاتو وبعد أن يفاجئني الجوع، أتوارى بين شتلات الطماطم التي كان لُبّها يمتلئ عصيراً.
يالها من ليالٍ عشتها في بانغانتي!
وبعد ذلك انقلب كل شيء رأساً على عقب.
ففي بانغانتي، لم يعد ثمة شيء حقيقي سوى: العُصاة.
كانوا يطلقون النار في وضح النهار على طلبة المدارس الذين يهربون، مثلما يستهدفون المدرسين. ويضرمون النار في المستشفيات، ويقطعون رؤوس الأطباء ويشقون بطون الحبالى. إن العُصاة لايكلّون ولا يتركون فرصة راحة لأحد، وبخاصة للحاكم، أبي، الذي أصبح نحيفاً وشاحباً بسببهم. وكانت رسائل التهديد تصل حتى إلى غرفته دون أن يعلم كيف تمّ ذلك، علماً أن أمي الغيور كانت وحدها التي تحتفظ لديها بمفتاح احتياطي لغرفته.
وبالنسبة إلي، أنا المتأثر بالسجين سيمو، كنت أعتقد بأن العُصاة يتمتعون بسلطة سحرية تمكنهم من عبور الجدران والدخول أينما يشاؤون دون أن يلاحظهم العساكر أو أفراد الحماية.
وأخيراً، قُبض على نائب الحاكم في أحد الكمائن.
عدُت في ذلك اليوم من المدرسة عند الظهر. كانت ثمة شاحنة عسكرية وبضع سيارات تقف قبالة مدخل المنزل. وكان الأشخاص الذين يخرجون منه يبدون بهيئة مهيبة.
كنت أقترب من الشاحنة، حين رأيت علماً وطنياً يغلف شيئاً ما.. طويلاً .. مثل... جسد إنسان.. اضطربت دقات قلبي: كلا! ليس أبي!
تسمرتُ في مكاني وقد اعترتني الدهشة، وبقيت صامتاً مثل سمكة كارب. اقترب مني السجين سيمو وقال بضحكة مصطنعة: "آه، رأيت؟ أليس كذلك؟ ولكن اطمئن، إنه ليس أباك. تعال وضَع حقيبتك".
لم أتحرك، فعاود القول: "ألا تصدقني؟ تعال، سأريك. تعال إذن لترى، أقول لك. ثم رفع السجين حافة العلم".
كان كل شيء مغطى بالدم وبالغبار. وبقي سر هذا الوجه المشوه بفظاعة سراً غامضاً بالنسبة لي .
* (ماري كلير داني ، ولدت في Edéa في الكاميرون، وأكملت دراستها في الكلية العليا لجامعة الآداب في Yaondé ثم في انجلترا وألمانيا والولايات المتحدة إذ نالت الاختصاص في الترجمة من جامعة جورج تاون Georgetown بواشنطن. عُرفت بنظم الشعر وبنشاطها المسرحي، وكتبت أيضاً رواية. وهي ممثلة وقد أدت عدة مشاهد مع جماعة "اللآلئ السود" وقد عملت مترجمة فورية في الجمعية العامة بالكاميرون. وهي أم لأربعة أولاد.)