ما المانع أن تطهو فيليه السلمون ثلاثين مرة في اليوم، إن كان المقابل أن تستطيع أن تقول “لا” متى ما أردت؟
هكذا ينظر مايكل إلى حياته الجديدة.
لم يكن السلمون، ذا البنية الحمراء الدسمة، سمكته المفضلة، بل البرنزينو. فلحمه الأبيض الخفيف لا مثيل لذوبانه في الفم. ما أشهى أن تشطر السمكة إلى وجهين، و تعوم كل وجه على رقاقة من زيت الزيتون الحار، ثم تنثر أوراق الريحان و الزعتر المجفف، و شيئا من قشر الليمون الأخضر إن تيسر، و تقدمها بجانب الباستا بصلصة الصنوبر. لا متعة أجمل من تتشاطر تلك البهجة مع صديق، شخص عزيز، أو تبهر بها فتاة تروق لك. أو ربما مع أمك، كما يتودد لأمه مايكل كل عيد أم، ثم يغيضها بقوله: “ ما رأيك بالبرنزينو؟”.
أمه اليونانية تلح عليه أن يسميه “اللوب دي ماري” كما يليق بابن يوناني أصيل، إلا أنها تتجنب هذا الإلحاح في وجود والده الإيطالي، صاحب مطعم السمك. و رغم أن العائلة كلها -بشكل أو بآخر- تعمل في مطعم السمك الواقع على طريق شيربروك بمونتريال. إلا أن أبا مايكل احتكر حق تسمية كل الأسماك على قائمة الطعام، فأصبحت بصمة المطعم إيطالية.
ثمة أشياء جديدة تكشفت لمايكل من وراء هوسه الحديث بالسلمون. لا يهاجر السلمون عبر البحر إلا مرة واحدة، حينما تقرر الأسماك البالغة أنه قد آن لها أن تتوالد. و حينها تتدحرج مع التيار حتى تصل البحر، ثم تنثر بيوضها و نطفها قبل أن تفنى في مهجرها الجديد: المحيط. و تلك الرحلة، و إن ذكرت مايكل بهجرة والديه من أوروبا إلى كندا، ليست مثار عجبه. بل كيف أن صغار السلمون التي تنشأ في ذلك المهجر، فلا تعرف غيره و لا حتى تعرف آباءها، تجد طريقها إلى منابع النهر ذاتها ، كشعوب تتبع أسطورة أو نبوءة.
لم يكن من السهل على مايكل العمل و الدراسة، و هي المغامرة التي قد تؤدي إلى فشله في الدراسة أو عجزه المادي عن سداد أقساط الدراسة. يمكن القول أنه كان يفضل أن يتفرغ لدراسة الأدب و الكتابة الإبداعية بجامعة كنكورديا على أن يقضي بعض المساءات و نهايات الأسبوع في تحضير البيتزا و حشي الساندوتشات في “ الخمارون الثلاثة”. و كونه ابن طباخين، فلا أكثر إغاضة لجهده في المطبخ أن لا أحد يتذوق ما يصنعه، سوى المترنحون في شارع القديسة كاثرين، و الذين أتوا من أجل قدح بيرة آخر، فداهمتهم نوبة جوع لن يتذكروا بأية أكلة قاوموها. إلا أن ذلك كله أهون على مايكل، من أن يفعل ما يريده منه أبوه.
الطريقة الجديدة في طهي السلمون راقت كثيرا لصاحب “الخمارون الثلاثة”. ثمة منافع كثيرة لطهي السلمون بطريقة مايكل على طهيها بكريمة الباشميل، كما كانت قبلا على قائمة الطعام. أولها أنها أوفر، ثانيها أنها أقل دسما و امتلاءا فيبقى للزبون بعدها متسع لأقداح البيرة. و هكذا وجدت طريقته طريقها إلى قائمة الطعام حينما قرر أن يشاطر مايكل مديره سمكة سلمون. لا بد أن يكون زيت الزيتون حارا أولا قبل أن تقرر تعويم فيليه السلمون عليه، و إلا فإنك لن تتلذ بذلك المزيج الجميل لوجهها المقرمش و باطنها الطري، كما أنك لن تتتخلص من دهنها الفائض. و عندما تقترب من الاستواء تريق عليها مسحة من الخل. ثم تنثر فوقها بعضا من الزعتر و الكّبر، و تبشر عليها ما تيسر من قشر البرتقال. ثم تقدمها بجانب الرز و الفاصوليا البيضاء. و لا ألذ من الأثر الذي تتركه سمكة السلمون في فمك و نفسك حينما تنتهي منها. و هكذا وجد مايكل نفسه يطهو مابين عشرين إلى ثلاثين سمكة في نهاية الأسبوع الواحدة.
ليس طعمها وحده ما يجعل السلمون سمكة مايكل المفضلة، بل حكايته التي تثير دهشته و مخيلته. كل الأسماك تنصاع للسباحة مع تيار النهر. و حدها أسماك السلمون اليافعة تختار عصيان التيار و مقاومة فجاجته، على أمل الوصول إلى منابع النهر الوادعة في أعالي الجبال. تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، و التي في سبيلها قد ترى أسماك السلمون تقفز من مجرى للنهر إلى الذي يعلوه، و هي تحاول تجنب صفعات الدب الأمريكي الجائع، التي يهوي بها على كل من يعصي النهر، كحارس على تقاليد التيار.
ثمة تبعات لأن تكون ابنا لرجل إيطالي، خصوصا في المهجر. أبسطها أن يكون لك حظ في الطبخ، و اللباقة مع النساء، أو هكذا يتصور زملاء مايكل الكيوبكيون. لكن الأمر أكبر من ذلك. أن تكون ابنا لرجل إيطالي يعني أن لك حدودا في ماهو عمل مقبول أو غير مقبول. من الجيد أن تعمل في مطعم أبيك. و إن أردت وجاهة و مالا أكثر فمن الجيد جدا أن تعمل مع ابن العم طوني، و لكن لا تكدر أبيك بتفاصيل وطبيعة عملك مع طوني. أما إن اخترت أن تعمل بعيدا عن إرث العائلة فحري بك أن تتعلم حرفة ذات دخل ثابت و سمعة، كالطب أو الهندسة. كل تلك الخيارات كانت تضمن لمايكل رضى العائلة أو تضمن له دعم أبيه المالي لتعليمه، و تجنبه هذا التمزق بين دراسة الأدب و الوظيفة المؤقتة في “الخمارون الثلاثة”. إلا أن مايكل يفضل أن يكون سمكة سلمون عظيمة البنية و الدسم من كثرة القفز للمجاري الأعلى، على أن يكون سمكة برنزينو خفيفة تذوب في الفم.
.
هكذا ينظر مايكل إلى حياته الجديدة.
لم يكن السلمون، ذا البنية الحمراء الدسمة، سمكته المفضلة، بل البرنزينو. فلحمه الأبيض الخفيف لا مثيل لذوبانه في الفم. ما أشهى أن تشطر السمكة إلى وجهين، و تعوم كل وجه على رقاقة من زيت الزيتون الحار، ثم تنثر أوراق الريحان و الزعتر المجفف، و شيئا من قشر الليمون الأخضر إن تيسر، و تقدمها بجانب الباستا بصلصة الصنوبر. لا متعة أجمل من تتشاطر تلك البهجة مع صديق، شخص عزيز، أو تبهر بها فتاة تروق لك. أو ربما مع أمك، كما يتودد لأمه مايكل كل عيد أم، ثم يغيضها بقوله: “ ما رأيك بالبرنزينو؟”.
أمه اليونانية تلح عليه أن يسميه “اللوب دي ماري” كما يليق بابن يوناني أصيل، إلا أنها تتجنب هذا الإلحاح في وجود والده الإيطالي، صاحب مطعم السمك. و رغم أن العائلة كلها -بشكل أو بآخر- تعمل في مطعم السمك الواقع على طريق شيربروك بمونتريال. إلا أن أبا مايكل احتكر حق تسمية كل الأسماك على قائمة الطعام، فأصبحت بصمة المطعم إيطالية.
ثمة أشياء جديدة تكشفت لمايكل من وراء هوسه الحديث بالسلمون. لا يهاجر السلمون عبر البحر إلا مرة واحدة، حينما تقرر الأسماك البالغة أنه قد آن لها أن تتوالد. و حينها تتدحرج مع التيار حتى تصل البحر، ثم تنثر بيوضها و نطفها قبل أن تفنى في مهجرها الجديد: المحيط. و تلك الرحلة، و إن ذكرت مايكل بهجرة والديه من أوروبا إلى كندا، ليست مثار عجبه. بل كيف أن صغار السلمون التي تنشأ في ذلك المهجر، فلا تعرف غيره و لا حتى تعرف آباءها، تجد طريقها إلى منابع النهر ذاتها ، كشعوب تتبع أسطورة أو نبوءة.
لم يكن من السهل على مايكل العمل و الدراسة، و هي المغامرة التي قد تؤدي إلى فشله في الدراسة أو عجزه المادي عن سداد أقساط الدراسة. يمكن القول أنه كان يفضل أن يتفرغ لدراسة الأدب و الكتابة الإبداعية بجامعة كنكورديا على أن يقضي بعض المساءات و نهايات الأسبوع في تحضير البيتزا و حشي الساندوتشات في “ الخمارون الثلاثة”. و كونه ابن طباخين، فلا أكثر إغاضة لجهده في المطبخ أن لا أحد يتذوق ما يصنعه، سوى المترنحون في شارع القديسة كاثرين، و الذين أتوا من أجل قدح بيرة آخر، فداهمتهم نوبة جوع لن يتذكروا بأية أكلة قاوموها. إلا أن ذلك كله أهون على مايكل، من أن يفعل ما يريده منه أبوه.
الطريقة الجديدة في طهي السلمون راقت كثيرا لصاحب “الخمارون الثلاثة”. ثمة منافع كثيرة لطهي السلمون بطريقة مايكل على طهيها بكريمة الباشميل، كما كانت قبلا على قائمة الطعام. أولها أنها أوفر، ثانيها أنها أقل دسما و امتلاءا فيبقى للزبون بعدها متسع لأقداح البيرة. و هكذا وجدت طريقته طريقها إلى قائمة الطعام حينما قرر أن يشاطر مايكل مديره سمكة سلمون. لا بد أن يكون زيت الزيتون حارا أولا قبل أن تقرر تعويم فيليه السلمون عليه، و إلا فإنك لن تتلذ بذلك المزيج الجميل لوجهها المقرمش و باطنها الطري، كما أنك لن تتتخلص من دهنها الفائض. و عندما تقترب من الاستواء تريق عليها مسحة من الخل. ثم تنثر فوقها بعضا من الزعتر و الكّبر، و تبشر عليها ما تيسر من قشر البرتقال. ثم تقدمها بجانب الرز و الفاصوليا البيضاء. و لا ألذ من الأثر الذي تتركه سمكة السلمون في فمك و نفسك حينما تنتهي منها. و هكذا وجد مايكل نفسه يطهو مابين عشرين إلى ثلاثين سمكة في نهاية الأسبوع الواحدة.
ليس طعمها وحده ما يجعل السلمون سمكة مايكل المفضلة، بل حكايته التي تثير دهشته و مخيلته. كل الأسماك تنصاع للسباحة مع تيار النهر. و حدها أسماك السلمون اليافعة تختار عصيان التيار و مقاومة فجاجته، على أمل الوصول إلى منابع النهر الوادعة في أعالي الجبال. تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، و التي في سبيلها قد ترى أسماك السلمون تقفز من مجرى للنهر إلى الذي يعلوه، و هي تحاول تجنب صفعات الدب الأمريكي الجائع، التي يهوي بها على كل من يعصي النهر، كحارس على تقاليد التيار.
ثمة تبعات لأن تكون ابنا لرجل إيطالي، خصوصا في المهجر. أبسطها أن يكون لك حظ في الطبخ، و اللباقة مع النساء، أو هكذا يتصور زملاء مايكل الكيوبكيون. لكن الأمر أكبر من ذلك. أن تكون ابنا لرجل إيطالي يعني أن لك حدودا في ماهو عمل مقبول أو غير مقبول. من الجيد أن تعمل في مطعم أبيك. و إن أردت وجاهة و مالا أكثر فمن الجيد جدا أن تعمل مع ابن العم طوني، و لكن لا تكدر أبيك بتفاصيل وطبيعة عملك مع طوني. أما إن اخترت أن تعمل بعيدا عن إرث العائلة فحري بك أن تتعلم حرفة ذات دخل ثابت و سمعة، كالطب أو الهندسة. كل تلك الخيارات كانت تضمن لمايكل رضى العائلة أو تضمن له دعم أبيه المالي لتعليمه، و تجنبه هذا التمزق بين دراسة الأدب و الوظيفة المؤقتة في “الخمارون الثلاثة”. إلا أن مايكل يفضل أن يكون سمكة سلمون عظيمة البنية و الدسم من كثرة القفز للمجاري الأعلى، على أن يكون سمكة برنزينو خفيفة تذوب في الفم.
.