تنبح الكلاب في شارعنا كل ليلة حتى ينقشع عنها الصباح، فيتحول نباحها الى عواء ثم يهجع… تتحرك في وسط الشارع بشيء من الحرية، تقترب نحو صناديق القمامة، ترتفع اليها بأقدامها الامامية، تنبشها بأفواهها، تلتقط ما يسد جوعها ولا تتجاوزه، تلعق فمها بلسانها، تدفع جسدها بأقدامها إلى الخلف وتهبط على الأرض.
أما هي فنراها بشكل مختلف. ما تختلف فيه عن غيرها.. هو أننا في الحي نشعر انها لنا رغم انها ابنة الشارع الكبير.. يحلو لها أن تتمدد على الدرج الرخامي، تهز ذيلها، وتتمرغ على ظهرها في محاولة للبحث عن الدفء أيام الشتاء.
الكل يعتقد أنها له.. ولابد إنها تعتقد بشكل مختلف.. إنها لهذا الشارع.. لذا، لا تبرحه ابدا.. مسالمة وادعة. نحضر لها فضلات طعامنا.. فلا تضطر لأن تسلك مسلك الكلاب الأخرى، ولا تجوس خلال قمامة المنازل. نقترب منها ونمسد على ظهرها.. نطلق عليها أسماء مختلفة لكنها دائما أجنبية، وتستجيب لنا، وفي نهاية المطاف أطلقنا عليها إسم “لايكا”.
ذات يوم استلقت بيننا على الدرج الرخامي، تمرغت عليه، فرأينا حلمات أثدائها الوردية ترصع بطنها البيضاء.. كن ثمانية على مسافات متوازية… صرخ احدنا.. “انتاية” مش “ذكر”!
ومن يومها اختلفت نظرتنا للايكا..رأينا في عينيها بريقاً، وفي مقدمة أقدامها نعومةً، وفي أظفارها اناقةً، وفي شعرها الذي يطوق رقبتها لوناً اشهب، وفي ذيلها فرحا وهي تستقبلنا، والأهم أن بطنها مرصعة بحلمات وردية صغيرة يختفي بعضها تحت شعرها الابيض القصير.. كلما عنّ لها ان تتغنج أمامنا.
حين يحل رأس العام، يأتي بعمي صالح معه. كان عمي صالح من الجنوب، يهبط الشارع الكبير ببدلته العربية البيضاء،”والفرملة” المخططة بالاسود التي تشبه الصديري، المطرزة في حوافها والمقلمة طوليا، ويتدثر ببالطو قماشي أزرق، فتستقبله “لايكا” بالنباح وهي تهش ذيلها وتتراجع نحو الخلف.. تتمسح في ساقيه وتتبعه نحو بيتنا.
مهنة عمي صالح، تقليم دوالي العنب التي تزين أغلب بيوت الحي.. عادة ما تمتد الدوالي على “سِدة” في مدخل البيت، أو على جانبه فوق مستودع السيارات أو مبنى “المربوعة”.
وللدوالي مكانة خاصة لدى أهل طرابلس.. يتغنون ويهتمون ويستظلون بها، ويصنعون من أوراقها “براك”، كما يحاول الصغار باكراً امتطاء جذعها القاتم المتكون من أعراف رفيعة وطويلة تتراكم على بعضها وتتماسك في جذع طويل وملتوي، يتسلق على الحائط، ويدفع بأسلاكه وخيوطه لتشتبك مع أي نتوء وتتشبث به، ويمد أوراقه الخضراء الزرعي المعرورقة التي تشبه الكف بشكل مبهر وكأنها تستجدي من الشمس أشعتها.
كان مرمانا ونحن نتسلق جذع دالية العنب، الوصول إما الى سور البيت أو إلى السطح، يملؤنا شعور بالزهو والخيلاء… تُصنع “السِده” من تقاطعات مربعة من الخشب، وتقام على أعمدة لتُستدرج بها دالية العنب حتى تصل اليها وتتمدد عليها ويُتخذ من ظلها مكانا للجلوس والاسترخاء… “يالعنب ويالعنب.. الله يبارك على الدالية.. سفرة وعناقيد ذهب.. عناقيدك ياعالية.. عالية”.
كنا نحب عمي صالح.. أسمر البشرة، حاد التقاطيع، ابتسامته عريضة، تكشف عن أسنان صفراء.. يداه جافتان مغبرتان إلى الحد الذي تحول فيه لونهما إلى الرمادي.. كان يحمل في يده مقصا ومنجلا.
ما أن يدخل حديقة البيت حتى يخلع معطفه، فتبدو فرملته غير متوازنة حتى يفرغ من إحدى جيوبه الداخلية مفاتيحه، ودخانه، وولاعته. نعد له براد الشاي وكوباً زجاجياً صغيراً في سفرة معدنية.
يبدأ عمله بصمت وهو يتمتم.. بسم الله، يتناول مقصه ويبدأ في عملية “التعربين”، يتعلق بالدالية حتى يكاد أن يحتضنها ويبدأ في تقليمها وتشذيبها بيد ساحر، ثم يفتح ساقي السلم ويصعد على درجاته بعد أن يتأكد بيديه من صلابته وتوازنه.. ويستمر في عملية التقليم أعلى “الدالية”. يرمي بالأوراق والأعراف الجافة من حولها، ثم يجمعها ويكدسها أمام البيت.. يختار بعض الأعرف ويضعها على جنب لإعادة غرسها في أماكن اخرى من الحديقة أو لدى الجيران.
يجلس على التراب تحت الدالية من حين لآخر يرشف بصوت عالٍ كوب الشاي وهو يدخن… نحوم حوله.. يبتسم احيانا، ويخال إلينا في احيان اخرى انه لا يرانا..كان يتأبط الدالية أو ينظر برأس مائل إلى أعلاها بإعجاب.
وطالما أن عمي صالح يعمل، فإن باب البيت الخارجي يظل مفتوحا، تنتهز “لايكا” الجلبة في الداخل وغدو عمي صالح ورواحه، وانغماسه في عمله، لتبدأ هي الأخرى في لعبة الدخول إلى الحديقة والخروج إلى الشارع.. تقتفي اثرنا وتجري إلى جانبنا وتحوم معنا حول عمي صالح، وتتبعه وهو يحمل أغصان وأوراق الدالية ويكدسها أمام السور الخارجي.. ذات يوم التفت نحونا وسأل.. “كلب وإلا كلبة؟”، اجبنا في وقت واحد “كلبة”.. ضحك وقال بصوت عالٍ.. “العام هذا بتاكلوا لين تعيَوا من بزولة الكلبة”… صعقنا ونحن نسمعه ينطق بجملة كهذه.. لكن عمي صالح تناول بهدوء مقصه ومنجله، ارتدى معطفه، وأعاد اشياءه إلى جيبه ورحل.
حل الربيع، وسرت قشعريرة في عروق النباتات، وتفتحت زهور الياسمين والفل، ونفث مسك الليل انفاسه، وجادت أشجار التوت البري بثمارها المعسلة، وفقست أشجار اللوز أزهارها، وتفتحت لفافات القرنفل، وتدلت حبيبات شجر الحنة الصلبة. كنا نلهو تحت دوالينا، نلتقط الحب من العناقيد المتدلية كالمشكاة، نضغط بأسنانا على كرياته السوداء، ونتلذذ بعصيره.. لكننا هذه المرة أمعنّا في حباته النظر ورايناها في شكل يشبه حلمات “لايكا” حينما تنجب وترضع جراءها.
لم نشعر أن “لايكا” كانت تقاوم الكثير. كنا نظن أن شارعنا المسالم، يعاملها بعطف.. أبواب مفتوحة، وصغار يمرحون ويضحكون ويتمازحون، أمهات طيبات يمددن أياديهن إلى أفواهنا ما أن ندخل عليهن بكسرة خبز، أو حبات كاكاوية، أوبسكويت، أو كعك أو عنقود عنب.. كانت ” لايكا” تدخل مثلنا لكنها لا تعتب البيوت.. تهز ذيلها وترتمي على بلاط الحدائق الضيقة، ثم تنهض فجأة وتخرج إلى الشارع مجددا.
تختفي “لايكا” حين يقترب موعد إنجابها.. نفتقدها، نبحث عنها، فلا نجدها.. حتى تعود ذات يوم، هزيلة، ضعيفة، وقد هبطت بطنها وبرزت حلمات أثدائها.. نتذكر جملة عمي صالح مجددا… نرى جراءها خلفها، أو يلعقون حليبها… لكن بقاؤهم لا يطول، يبقى معها واحد ثم يرحل هو الآخر، او تأتي سيارة البلدية لتحملهم لوجهة لا نعلمها.
شاخت “لايكا” ولم تعد تختفي أو تنجب، ظهرت على جسدها اعراض جانبية، تساقط شعرها وظهرعلى جلدها طفح أحمر، لم تعد تنبح وتجمعت على جانبي ذنبها رغاوٍ بيضاء.. أهملها اولاد الشارع ثم تحاشوها ثم خافوا منها..لم يعد جسدها الهزيل قادراً على حملها.
“نرفعوها الهلال الأزرق”؟، كان مبنى قريب يرتسم عليه هلال أزرق، يطبب الحيوانات.. “لايكا” حيوان عاش بيننا ومعنا. فرشنا شرشف بالقرب منها وهششنا عليها لكي تتحرك نحوه وتستلقي عليه حتى نحملها.. لكنها لم تستجب. “شورها انعمت” صرخ أحدنا. لم نعد نرغب في لمسِها، لكننا اضطررنا إلى دفعها دفعاً نحو الشرشف، ثم حملناها من أطرافه، وذهبنا بها إلى مبنى الهلال الازرق. دخلناه لأول مرة.. وجدنا شابا يرتدي بالطو ابيض متسخ.. طلب منا وضعها على طاولة مرتفعه بعض الشيء، ارتدى قفازا بلاستيكيا وأخذ يعاينها ثم قال.. “كلبة منو هذه؟”… صحنا معا “كلبتنا”… إبتسم ولم يرد.
أفهمنا الطبيب البيطري أنها مريضة مرضاً لا شفاء منه، وإنه ينصح بإنهاء حياتها، وإن ما عليه إلا أن يغرس ابرة في ساقها. نظرنا إلى بعضنا البعض وظننا أن القرار لنا.
لم يكن الطبيب صبورا، ولا رغبة له في اطالة الحديث.. ولا في سماع رأينا.. انتقل الى درجه وأخرج الإبرة وأفرغ فيها سائل وغرسها في عضلة ساقها وهو يقول.. “تي هي كلبة شارع في الأخير”… لم تنتفض “لايكا” أو حتى تتحرك، أغمضت عينيها وودعتنا ونحن نقف من حولها.
التفت الينا الطبيب وقال.. “توا ارفعوها ولوحوها بعيد..”… لم نصدق أن هذه مهمتنا.. أتينا بها للعلاج، فقتلها وهاهو يطلب منا رميها بعيدا.
حملناها مجددا.. أحدنا كان يبكي والباقي لفه حزن عميق.. خرجنا بها بذات الشرشف لكنها كانت أكثر ثقلا، ولا نعرف أين نتجه بها.. قال أحدنا.. “ندفنوها في الجنان؟” رد الآخر “جنان شكون؟”.. كنا قد اقتربنا من مكب قمامة حديدي، التقت نظراتنا وتفاهمنا دون كلام، رفعنا الشرشف ورمينا به في الصندوق.. ثم هربنا… كان شعورنا في تلك اللحظات إننا ارتكبنا جريمة وأخفيناها.
بعد غياب “لايكا” انتشرت القطط في الحي، لكن دوالي الشارع وعناقيدها الثقيلة بحبات العنب السوداء الممشوقة الطولية ظلت تذكرنا بتفاصيل “لايكا”، بطنها البيضاء، وحلمات أثدائها الوردية.
* عن بلد الطيوب
أما هي فنراها بشكل مختلف. ما تختلف فيه عن غيرها.. هو أننا في الحي نشعر انها لنا رغم انها ابنة الشارع الكبير.. يحلو لها أن تتمدد على الدرج الرخامي، تهز ذيلها، وتتمرغ على ظهرها في محاولة للبحث عن الدفء أيام الشتاء.
الكل يعتقد أنها له.. ولابد إنها تعتقد بشكل مختلف.. إنها لهذا الشارع.. لذا، لا تبرحه ابدا.. مسالمة وادعة. نحضر لها فضلات طعامنا.. فلا تضطر لأن تسلك مسلك الكلاب الأخرى، ولا تجوس خلال قمامة المنازل. نقترب منها ونمسد على ظهرها.. نطلق عليها أسماء مختلفة لكنها دائما أجنبية، وتستجيب لنا، وفي نهاية المطاف أطلقنا عليها إسم “لايكا”.
ذات يوم استلقت بيننا على الدرج الرخامي، تمرغت عليه، فرأينا حلمات أثدائها الوردية ترصع بطنها البيضاء.. كن ثمانية على مسافات متوازية… صرخ احدنا.. “انتاية” مش “ذكر”!
ومن يومها اختلفت نظرتنا للايكا..رأينا في عينيها بريقاً، وفي مقدمة أقدامها نعومةً، وفي أظفارها اناقةً، وفي شعرها الذي يطوق رقبتها لوناً اشهب، وفي ذيلها فرحا وهي تستقبلنا، والأهم أن بطنها مرصعة بحلمات وردية صغيرة يختفي بعضها تحت شعرها الابيض القصير.. كلما عنّ لها ان تتغنج أمامنا.
حين يحل رأس العام، يأتي بعمي صالح معه. كان عمي صالح من الجنوب، يهبط الشارع الكبير ببدلته العربية البيضاء،”والفرملة” المخططة بالاسود التي تشبه الصديري، المطرزة في حوافها والمقلمة طوليا، ويتدثر ببالطو قماشي أزرق، فتستقبله “لايكا” بالنباح وهي تهش ذيلها وتتراجع نحو الخلف.. تتمسح في ساقيه وتتبعه نحو بيتنا.
مهنة عمي صالح، تقليم دوالي العنب التي تزين أغلب بيوت الحي.. عادة ما تمتد الدوالي على “سِدة” في مدخل البيت، أو على جانبه فوق مستودع السيارات أو مبنى “المربوعة”.
وللدوالي مكانة خاصة لدى أهل طرابلس.. يتغنون ويهتمون ويستظلون بها، ويصنعون من أوراقها “براك”، كما يحاول الصغار باكراً امتطاء جذعها القاتم المتكون من أعراف رفيعة وطويلة تتراكم على بعضها وتتماسك في جذع طويل وملتوي، يتسلق على الحائط، ويدفع بأسلاكه وخيوطه لتشتبك مع أي نتوء وتتشبث به، ويمد أوراقه الخضراء الزرعي المعرورقة التي تشبه الكف بشكل مبهر وكأنها تستجدي من الشمس أشعتها.
كان مرمانا ونحن نتسلق جذع دالية العنب، الوصول إما الى سور البيت أو إلى السطح، يملؤنا شعور بالزهو والخيلاء… تُصنع “السِده” من تقاطعات مربعة من الخشب، وتقام على أعمدة لتُستدرج بها دالية العنب حتى تصل اليها وتتمدد عليها ويُتخذ من ظلها مكانا للجلوس والاسترخاء… “يالعنب ويالعنب.. الله يبارك على الدالية.. سفرة وعناقيد ذهب.. عناقيدك ياعالية.. عالية”.
كنا نحب عمي صالح.. أسمر البشرة، حاد التقاطيع، ابتسامته عريضة، تكشف عن أسنان صفراء.. يداه جافتان مغبرتان إلى الحد الذي تحول فيه لونهما إلى الرمادي.. كان يحمل في يده مقصا ومنجلا.
ما أن يدخل حديقة البيت حتى يخلع معطفه، فتبدو فرملته غير متوازنة حتى يفرغ من إحدى جيوبه الداخلية مفاتيحه، ودخانه، وولاعته. نعد له براد الشاي وكوباً زجاجياً صغيراً في سفرة معدنية.
يبدأ عمله بصمت وهو يتمتم.. بسم الله، يتناول مقصه ويبدأ في عملية “التعربين”، يتعلق بالدالية حتى يكاد أن يحتضنها ويبدأ في تقليمها وتشذيبها بيد ساحر، ثم يفتح ساقي السلم ويصعد على درجاته بعد أن يتأكد بيديه من صلابته وتوازنه.. ويستمر في عملية التقليم أعلى “الدالية”. يرمي بالأوراق والأعراف الجافة من حولها، ثم يجمعها ويكدسها أمام البيت.. يختار بعض الأعرف ويضعها على جنب لإعادة غرسها في أماكن اخرى من الحديقة أو لدى الجيران.
يجلس على التراب تحت الدالية من حين لآخر يرشف بصوت عالٍ كوب الشاي وهو يدخن… نحوم حوله.. يبتسم احيانا، ويخال إلينا في احيان اخرى انه لا يرانا..كان يتأبط الدالية أو ينظر برأس مائل إلى أعلاها بإعجاب.
وطالما أن عمي صالح يعمل، فإن باب البيت الخارجي يظل مفتوحا، تنتهز “لايكا” الجلبة في الداخل وغدو عمي صالح ورواحه، وانغماسه في عمله، لتبدأ هي الأخرى في لعبة الدخول إلى الحديقة والخروج إلى الشارع.. تقتفي اثرنا وتجري إلى جانبنا وتحوم معنا حول عمي صالح، وتتبعه وهو يحمل أغصان وأوراق الدالية ويكدسها أمام السور الخارجي.. ذات يوم التفت نحونا وسأل.. “كلب وإلا كلبة؟”، اجبنا في وقت واحد “كلبة”.. ضحك وقال بصوت عالٍ.. “العام هذا بتاكلوا لين تعيَوا من بزولة الكلبة”… صعقنا ونحن نسمعه ينطق بجملة كهذه.. لكن عمي صالح تناول بهدوء مقصه ومنجله، ارتدى معطفه، وأعاد اشياءه إلى جيبه ورحل.
حل الربيع، وسرت قشعريرة في عروق النباتات، وتفتحت زهور الياسمين والفل، ونفث مسك الليل انفاسه، وجادت أشجار التوت البري بثمارها المعسلة، وفقست أشجار اللوز أزهارها، وتفتحت لفافات القرنفل، وتدلت حبيبات شجر الحنة الصلبة. كنا نلهو تحت دوالينا، نلتقط الحب من العناقيد المتدلية كالمشكاة، نضغط بأسنانا على كرياته السوداء، ونتلذذ بعصيره.. لكننا هذه المرة أمعنّا في حباته النظر ورايناها في شكل يشبه حلمات “لايكا” حينما تنجب وترضع جراءها.
لم نشعر أن “لايكا” كانت تقاوم الكثير. كنا نظن أن شارعنا المسالم، يعاملها بعطف.. أبواب مفتوحة، وصغار يمرحون ويضحكون ويتمازحون، أمهات طيبات يمددن أياديهن إلى أفواهنا ما أن ندخل عليهن بكسرة خبز، أو حبات كاكاوية، أوبسكويت، أو كعك أو عنقود عنب.. كانت ” لايكا” تدخل مثلنا لكنها لا تعتب البيوت.. تهز ذيلها وترتمي على بلاط الحدائق الضيقة، ثم تنهض فجأة وتخرج إلى الشارع مجددا.
تختفي “لايكا” حين يقترب موعد إنجابها.. نفتقدها، نبحث عنها، فلا نجدها.. حتى تعود ذات يوم، هزيلة، ضعيفة، وقد هبطت بطنها وبرزت حلمات أثدائها.. نتذكر جملة عمي صالح مجددا… نرى جراءها خلفها، أو يلعقون حليبها… لكن بقاؤهم لا يطول، يبقى معها واحد ثم يرحل هو الآخر، او تأتي سيارة البلدية لتحملهم لوجهة لا نعلمها.
شاخت “لايكا” ولم تعد تختفي أو تنجب، ظهرت على جسدها اعراض جانبية، تساقط شعرها وظهرعلى جلدها طفح أحمر، لم تعد تنبح وتجمعت على جانبي ذنبها رغاوٍ بيضاء.. أهملها اولاد الشارع ثم تحاشوها ثم خافوا منها..لم يعد جسدها الهزيل قادراً على حملها.
“نرفعوها الهلال الأزرق”؟، كان مبنى قريب يرتسم عليه هلال أزرق، يطبب الحيوانات.. “لايكا” حيوان عاش بيننا ومعنا. فرشنا شرشف بالقرب منها وهششنا عليها لكي تتحرك نحوه وتستلقي عليه حتى نحملها.. لكنها لم تستجب. “شورها انعمت” صرخ أحدنا. لم نعد نرغب في لمسِها، لكننا اضطررنا إلى دفعها دفعاً نحو الشرشف، ثم حملناها من أطرافه، وذهبنا بها إلى مبنى الهلال الازرق. دخلناه لأول مرة.. وجدنا شابا يرتدي بالطو ابيض متسخ.. طلب منا وضعها على طاولة مرتفعه بعض الشيء، ارتدى قفازا بلاستيكيا وأخذ يعاينها ثم قال.. “كلبة منو هذه؟”… صحنا معا “كلبتنا”… إبتسم ولم يرد.
أفهمنا الطبيب البيطري أنها مريضة مرضاً لا شفاء منه، وإنه ينصح بإنهاء حياتها، وإن ما عليه إلا أن يغرس ابرة في ساقها. نظرنا إلى بعضنا البعض وظننا أن القرار لنا.
لم يكن الطبيب صبورا، ولا رغبة له في اطالة الحديث.. ولا في سماع رأينا.. انتقل الى درجه وأخرج الإبرة وأفرغ فيها سائل وغرسها في عضلة ساقها وهو يقول.. “تي هي كلبة شارع في الأخير”… لم تنتفض “لايكا” أو حتى تتحرك، أغمضت عينيها وودعتنا ونحن نقف من حولها.
التفت الينا الطبيب وقال.. “توا ارفعوها ولوحوها بعيد..”… لم نصدق أن هذه مهمتنا.. أتينا بها للعلاج، فقتلها وهاهو يطلب منا رميها بعيدا.
حملناها مجددا.. أحدنا كان يبكي والباقي لفه حزن عميق.. خرجنا بها بذات الشرشف لكنها كانت أكثر ثقلا، ولا نعرف أين نتجه بها.. قال أحدنا.. “ندفنوها في الجنان؟” رد الآخر “جنان شكون؟”.. كنا قد اقتربنا من مكب قمامة حديدي، التقت نظراتنا وتفاهمنا دون كلام، رفعنا الشرشف ورمينا به في الصندوق.. ثم هربنا… كان شعورنا في تلك اللحظات إننا ارتكبنا جريمة وأخفيناها.
بعد غياب “لايكا” انتشرت القطط في الحي، لكن دوالي الشارع وعناقيدها الثقيلة بحبات العنب السوداء الممشوقة الطولية ظلت تذكرنا بتفاصيل “لايكا”، بطنها البيضاء، وحلمات أثدائها الوردية.
* عن بلد الطيوب