تروي كامبلين - ربما تكون شاعراً سيّئاً.. ترجمة: جمال جمعة

من السهل أن تكون شاعرًا سيئًا في هذه الأيام. كل ما عليك فعله هو "كتابة ما تشعر به"، وتأكد من أنك قد قسمته إلى سطور. فمنذ أن أصبح "الشعر الحر" مسيطراً على الشعر في القرن الماضي، توصل كل شخص إلى استنتاج أنه يمكن أن يصير شاعراً. إذا كنت تريد أن تُعتبر شاعراً فسيتوجب عليك تعلّم كيفية النظم على البحر الخماسيّ التفاعيل واستخدام القافية الختامية والجناس الاستهلالي، ناهيك عن استعمال الإيقاعات، وأنماط الأصوات، والأشكال الشعرية الأخرى، عندها سيكون عدد الشعراء في العالم أقلّ نتيجة لذلك، وعدد الشعراء السيئين أقلّ بكثير.
هذا لا يعني بالطبع أن "الشعر الحر" جميعه سيئ، كما لا يعني أن الشعر التقليدي جيّد كلّه أيضًا. فعلى الرغم من سهولة كتابة "الشعر الحر"، إلاّ أن من الصعب بمكان إتقانه. ومن أجل إتقانه، فمن المرجح أنك لن تضطرّ لتعلّم أمور من قبيل الكتابة على التفاعيل الخماسية، والتروكية [تفعيلة يونانية قديمة] والتفعيلات الأخرى، أو كيفية كتابة السونيتات، والغزليات والأشكال الشعرية الأخرى، ولا تعلّم الانتباه إلى القوافي، والسجعات، وغيرها من الإيقاعات. سيتوجب عليك خلق أساس شعريّ لإبداع قصائد "شعر حر" أكثر براعة.
حتى ولو تعلمت كل هذه الجوانب من الشعر، على الرغم من ذلك، فمن المرجح أنك ستصبح في النهاية شاعراً سيئاً. ثمة الكثير لتتقنه من أجل كتابة الشعر غير الشكل. ينبغي أن يكون ثمة مضمون مثير للاهتمام كذلك. وأنا أكره أن أقول لك هذا، لكنك قد تكون غير مثير للاهتمام. فقد تفكّر جوهرياً بنفس الأشياء، فيما يخص الأصدقاء والعائلة والحياة، مثلما يفكر أيّ شخص آخر. وهذه بالضبط النقطة التي يكشف فيها الشعر الحر عن ضعفه. بالنتيجة، إذا كنت تكتب بشكل خاص جملاً نثرية ذات سطور منفصلة، فإنك فقط ستقول بالضبط ما يتبادر إلى ذهنك أولاً.
لسوء الحظ، كل ما يتبادر إلى الذهن أولاً من المرجح أن يكون هو نفسه الذي يتبادر أولاً لمعظم الأذهان. كيف يمكنك معالجة ذلك؟ حسنًا، يمكنك أن تتوقف وتحاول التفكير فيما يتبادر إلى ذهنك ثانياً. وإذا بدا لك ذلك شائعًا جدًا، ففكر فيما يتبادر إلى ذهنك ثالثاً. ومع ذلك، إذا كنت تكتب شعراً مقفى، فيمكنك في الواقع قسر نفسك على أن تأتي بأشياء أكثر إثارة للاهتمام، وذلك ببساطة لأنك مضطر للعثور على القافية. والأمر نفسه ينطبق على الكتابة في إيقاع منتظم. يجب أن تتناسب الكلمة التالية مع الإيقاع، وإذا كنت بحاجة إلى مقطع لفظي مشدَّد، فقد لا تعمل الكلمة التي تبادرت إلى ذهنك أولاً. وإذا كان عليك أن تأتي بقافية في الجملة التالية، فقد لا تتمكن من كتابة السطر التالي الذي تبادر لذهنك أولاً. ستجد نفسك مضطرًا للعثور على كلمات أخرى، وعبارات أخرى، وطرق تفكير أخرى.
في أفضل الحالات، ستنتهي القصيدة في الواقع إلى كتابة نفسها، إذا جاز التعبير. هذا يحدث بالتأكيد في كثير من الأحيان كلما مارست كتابة الشعر الموزون. في الحقيقة، ستجد على الأرجح أن معظم قصائدك المبكرة التي نظمتها على البحر الخماسيّ، على سبيل المثال، لم تكن جيدة على الإطلاق. يتطلب الأمر الكثير جداً من الشعر الرديء لتعلّم كيفية كتابة أبيات البحر الخماسي بشكل جيد، أو إطلاقاً. لكن من خلال الممارسة، ستجد بأنك في نهاية المطاف سوف تكون قادرًا على الكتابة على البحر الخماسيّ دون تفكيرٍ في الأمر تقريباً. عندما تصل إلى هذه النقطة، من المهم أن تتحدى نفسك أكثر، جرّب أوزاناً مختلفة، جرّب قوافي مختلفة، جرب أنماطاً شعرية مختلفة، جرب أشكالاً مختلفة.
عندما تتعلم الكتابة بأشكال مختلفة، ستلاحظ أنه يمكنك فقط قول أشياء محدَّدة في تلك الأشكال. الكتابة بطريقة "الشعر المُرسَل" فقط أمر مقيِّدٌ للغاية، إذ يسمح لك بقول بعض الأشياء بطرق معينة لا غير. السونيتات تتيح طريقة أخرى لقول الأشياء، وأنواع مختلفة من السونيتات (على سبيل المثال السونيتات الشكسبيرية مقابل البتراركية [نسبة إلى فرانشيسكو بتراركا]) تسمح كذلك بقول هذه الأشياء بطرق مختلفة. الغزل يخلق طرقًا جديدة لقول الأشياء التي لا تستطيع السوناتة فعلها. يمكن للمرء أن يستمر ويستمر. يمكنك أن تتناول نفس الموضوع، والكتابة عن هذا الموضوع بمجموعة متنوعة من الأشكال، وستكتشف أنك تقول أشياء مختلفة للغاية في كل شكلٍ منها. ولربما تقول أشياء متعاكسة. وقد تفاجئ نفسك حتى بما ستفكر فيه، أو إلى أين سيأخذك الشكل.
عندما تتقن مجموعة متنوعة من الأشكال، عندما تتقن العديد من الإيقاعات والقوافي، فإنك ستبدأ بالشعور كما لو أنك لست من يقود كتابة قصائدك بعد الآن، بل ستشعر كما لو أنك قد سُحبت. هذا هو الشعور الذي يدعوه اليونانيون القدماء "الميوزات" أو ربّات الإلهام. ربّات الإلهام هن بنات الذكريات والإله زيوس، مما يدل على أن الإغريق فهموا أن امتلاك رأس مليء بالمعرفة كان بنفس أهمية الحماس Enthusiasm (والذي يعني حرفيًا "ممتلئ بالإله")، والإلهام (الذي يعني "ممتلئ بالروح الإلهية"). تأتي ربّات الإلهام إليك عندما تكون مستعدًا للقائهن. وقبل زيارة الميوزات لك، سيشعر شِعرك دائمًا بالدفع والإكراه، ومن المحتمل أن تكون موضوعاتك موضوعات غير شاعرية، سياسة، قضايا اجتماعية، وشؤون وقتيّة أخرى. القصائد السيئة هي قصائد مرحلتها، قابلة فقط على أن تكون مفهومة تماماً في فترتها الزمنية. القصائد الرائعة تتجاوز الزمن، وفي بعض الأحيان تكون حتى لا زمن لها. لن تكتب مثل هذه القصائد أبدًا إلى أن تصل النقطة التي تأتي فيها ربّات الإلهام لزيارتك.
ما الذي يجعل الميوزات تزورك؟ لقد ذكرتُ من قبل أن إعداد نفسك من خلال تعلّم مختلف الأبنية والأشكال الشعرية، ليس فقط تلك التي في ثقافتك، لكن أيضاً التي في الثقافات الأخرى. الأمر الآخر الذي اقترحته في الفقرة أعلاه هو المعرفة، نطاق واسع من المعرفة. إذا كنت لا تعرف الكثير، فلن يكون لديك الكثير لتكتب عنه. الجهل لا يخلق الغموض، والتعلم القليل يخلق الغطرسة. الشعراء الكبار يعرفون الكثير لدرجة أنهم يصلون إلى درجة اليأس من معرفة أي شيء على الإطلاق.
عند هذه المرحلة، تبدأ في الوصول إلى الحكمة، وهي كذلك شرط ضروري لتكون شاعراً عظيماً. فالجمع بين المعرفة والحكمة، بين التنوع والوحدة، هو الجمال بعينه، وهذا ما يقودنا إلى مملكة الفنون، مملكة الشعر. الشاعر، ليكون شاعراً عظيماً، سيكون معنياً بخلق أعمال ذات جمال رفيع. وقبل أن تدرك أن الشعر يدور حول الجمال، أو عن خَلق الجمال في العالم، لن يمكنك أن تكون شاعراً عظيماً، أو شاعراً جيداً، أو حتى شاعراً متواضعاً. يمكنك فقط أن تكون شاعراً سيّئاً.
العالم مليء بالشعراء السيئين. الشعراء السيئون يكتبون عن مواضيع سطحية ومؤقتة كالسياسة، والشعراء السيئون يجهلون الاقتصاد والعلوم العصبية وفيزياء الكمّ أو أيّة معارف أخرى (ليس عليك أن تعرف كل هذه الأشياء بالطبع ـ لكن عليك أن تعرف شيئًا ما! ـ فلا ينبغي أن تكتب عن أي شيء أنت جاهل به !!!)، الشعراء السيئون لا يمتلكون مهارةً لفعل أي شيء سوى كتابة قصائد شعر حر سيئة، شعراء دون مهارة للقيام بأي شيء سوى كتابة السونيتات الفظيعة، الشعراء السيئون لا يملكون قِيراطاً من الحكمة، الشعراء السيئون يكتبون عن ذواتهم فقط. العالم مليء بالشعراء السيئين. نحتاج أن نبدأ العمل لنصبح شعراء جيدين من أجل التغيير.
إنه لعمل شاق أن يكون المرء شاعراً جيدًا، ولهذا السبب لا يرغب العديد من الناس في القيام بذلك. من السهل كتابة قصيدة شعر حر عاديّة، ولكن من الصعب أن تكتب قصيدةً موزونة عاديّة. فلماذا إذن لا نكتب شعراً حرّاً عاديّاً؟ هذا هو، في نهاية المطاف، ما يفعله معظم الناس.
لكن يجب عليك أن تسأل نفسك: لماذا تريد أن تكون شاعراً سيّئاً؟

جمال جمعة

- جريدة الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...