وقف مستنداً إلى أكياس الدقيق المتراكمة بعضها فوق بعض في أرجاء المتجر الكبير . كان الجو كدراً، ذرات الدقيق تسبح في الهواء ، رائحة الزيت والدقيق وعرق العاملين تزكم الأنوف. استنشق ذرات الدقيق . كان يفكر، وكانت عيناه التي سجدت تحتهما سحابتا حزن ، حائرتين ، وملامح وجهه المتجعد تتقلص وتتمدد ، وشفتاه ترتجفان ، واستقرت عيناه على صاحب المتجر. ماذا؟ أيقدم على عمل كهذا الذي ترعرعت فكرته في رأسه منذ البارحة ؟ أنزل عينيه عن وجه التاجر المنهمك في عد الأوراق المالية التي تطرح إليه كل لحظة ، وقفزتا في خفة إلى الدرج ، وتمسحتا بكل ورقة من الأوراق الخضراء المتراكمة فيه ، وشرعت أنامله تتحسس بعضها بعضاً في حركات لاشعورية كأنها ألسنة تتلمظ ..
البارحة طلب منه الطبيب أن يودع زوجته في مستشفى لتعالج . إنها في حالة سيئة ، تتعذب ، تموت شيئاً فشيئاً . أولاده الصغار سيشردون في ظلمات أزقة الحياة إذا هي ماتت . آه .. سيقضى عليهم بالشقاء ، كما قضي عليه .. كنت أنا وحدي الشقي . وحدي .. فأصبحنا سبعة أشقياء. منذ الأمس لم يذق طعماً للطعام ، حتى أولاده وزوجته العليلة ، لم تدغدغ أفواههم جميعاً قطعة خبز . طال بهم الانتظار ليلة أمس. عاد مع منتصف الليل ودخل مسكنه الحقير حاملاً سلال الكآبة والحزن ، ولطمت سمعه أنات زوجته ، وسكب سعالها في صدره ألماً مريراً . وفي الصباح قبل أن تداعب الشمس عيون صغاره ، وتستفيق زوجته من غيبوبة الحمى ، غادر البيت.
ضرب بقبضة يمينه على كيس الدقيق المتكيء عليه ، وارتفعت سحابات من الغبار الدقيق غيمت الجو . كان صاحب المتجر ما يزال يعد أوراق المال ، فلم يأبه بشيء .. يجب أن تعيش زوجتي . يجب أن يعيش أولادي .. يجب أن ياكلوا .. أن يأكلوا . وكادت كلماته هذه أن تسمع، وفطن إلى نفسه وعاد فركز عينيه على الدرج ، وتمسحت عيناه بالأوراق تلحس زركشاتها.
بدأت حركة المتجر تخفت ، ولملم صاحب المتجر في هدوء ونظام كل ما جمعه من مال ، ودسه في قاع الدرج , وأقفله بمفتاح متين ، وطفقت عينا الرجل الذي ترك مسنده ، وأخذ يجر قدميه نحو المنضدة الطويلة ، تتابع حركات التاجر بعصبية ، وركزتا على المفتاح ، وشرع قلبه يخفق بقوة حين ترك التاجر المفتاح ملقى على المنضدة ولها عنه . أحس أنه مقدم على عمل دنيء لم يقدم عليه من قبل ، وشعر أنه خسيس ، حقير ، وبدأت أصابعه ترتعش ، واربد وجهه ، وارتجفت شفتاه ، وهمس بداخله أحد لم يسمعه من قبل ، ذو صوت مهيب : يالك من رجل دنيء ! كيف تقوم بهذا العمل ؟ ألا تهاب الله ؟ وتسارعت نبضات قلبه ، وزاد ارتعاش يده ، لكنها امتدت إلى المفتاح ، والتاجر عنه في غفلة ، وعاد الصوت المهيب أعلى من ذي قبل : يالك من لص حقير! يالك من لص حقير! ولمست يده المرتعشة القطعة المعدنية ، وأحس كأن أفعى تلذغه. وسحب يده في خوف ، وأحس أنه كلب جائع . أحس أنه كلب ، وضخم إحساسه الصوت المهيب : كلب .. كلب .. كلب. ووجد نفسه يقفز إلى الشارع ، فأخذ نفساً طويلاً من الهواء النقي ، وأحس كأنه تخلص من هم بغيض. ما أجمل أن يكون الإنسان شريفاً طاهراً ، إنه يكون أغنى الناس ، وتذكر صغاره . إنهم ينتظرونه بشوق ، ستة أفواه مفتوحة تنتظر خبزاً وطعاماً ، أيطعمها الشرف ؟ أيحييها بالعزة والكرامة ؟ ومضى على غير هدى يشق أمواج الناس المتلاطمة في الطرقات ، وقرر في نفسه أن يعيد الكرة ، فيأخذ ذلك المال . ورفع عينيه إلى السماء ، فوجد زرقتها بدأت تقتم مؤذنة بغروب الشمس، وسمع مواء قطط صغيرة في زاوية زقاق ضيق ، والتفت إليها : قطط مشردة ربما ماتت أمها ، وقارن بينها وبين صغاره ، وتصور أن أمهم ماتت بدائها ، وأحس أنه يريد أن يبكي . وقف لحظة يتأمل القطط الصغيرة الضارعة التي تموء مواءً أليماً ، ورآها وهي تأخذ طريقها بوهن وضعف ، وطغى على نفسه ضرب من الإشفاق على هذه القطط المتشردة الضعيفة ، وتابع سيره إلى جحره ، وطافت بذهنه فكرة غريبة : هذه القطط صغيرة وضعيفة ، لكنها تحاول أن تعيش ، وتعتمد في محاولتها هذه على نفسها ، فهي وإن كانت صغيرة وضعيفة كأولاده ، فهي لا تعتمد على الغير ، فلماذا لا يكون أولاده مثل هذه القطط ؟ وخيل إليه أن القطط شريفة عزيزة النفس ، لذلك قرر في نفسه مرة أخرى أن يظل شريفاً مهما كانت الأحوال. وكانت أستار الظلام قد أسدلت على الكون ، وأحس وهو يشقها ، بقوة لم يحسها من قبل ، وقصد بيته .
هرع إليه ابنه الأصغر بعد الرضيع : بابا .. بابا هل تحمل لنا خبزاً ؟ إننا جائعون .. إننا جائعون ..
أحس الأب بكلمة الجوع كرصاصة تستقر في قلبه ، ورفع ابنه إلى صدره. واشرأبت رؤوس صغيرة من حجرة ضيقة ، وتبادلت النظرات متسائلة ، ثم انحنت خائبة. شهد الأب ذلك ، وتناهى إلى سمعه سعال زوجته ، وأحس بقلبه يتمزق ..
الدكتورعبد الجبار العلمي
* ( إحدى تجارب الكتابة في مجال القصة القصيرة .
نشرت بجريدة العلم / صفحة " أصوات " سنة 1966 )
البارحة طلب منه الطبيب أن يودع زوجته في مستشفى لتعالج . إنها في حالة سيئة ، تتعذب ، تموت شيئاً فشيئاً . أولاده الصغار سيشردون في ظلمات أزقة الحياة إذا هي ماتت . آه .. سيقضى عليهم بالشقاء ، كما قضي عليه .. كنت أنا وحدي الشقي . وحدي .. فأصبحنا سبعة أشقياء. منذ الأمس لم يذق طعماً للطعام ، حتى أولاده وزوجته العليلة ، لم تدغدغ أفواههم جميعاً قطعة خبز . طال بهم الانتظار ليلة أمس. عاد مع منتصف الليل ودخل مسكنه الحقير حاملاً سلال الكآبة والحزن ، ولطمت سمعه أنات زوجته ، وسكب سعالها في صدره ألماً مريراً . وفي الصباح قبل أن تداعب الشمس عيون صغاره ، وتستفيق زوجته من غيبوبة الحمى ، غادر البيت.
ضرب بقبضة يمينه على كيس الدقيق المتكيء عليه ، وارتفعت سحابات من الغبار الدقيق غيمت الجو . كان صاحب المتجر ما يزال يعد أوراق المال ، فلم يأبه بشيء .. يجب أن تعيش زوجتي . يجب أن يعيش أولادي .. يجب أن ياكلوا .. أن يأكلوا . وكادت كلماته هذه أن تسمع، وفطن إلى نفسه وعاد فركز عينيه على الدرج ، وتمسحت عيناه بالأوراق تلحس زركشاتها.
بدأت حركة المتجر تخفت ، ولملم صاحب المتجر في هدوء ونظام كل ما جمعه من مال ، ودسه في قاع الدرج , وأقفله بمفتاح متين ، وطفقت عينا الرجل الذي ترك مسنده ، وأخذ يجر قدميه نحو المنضدة الطويلة ، تتابع حركات التاجر بعصبية ، وركزتا على المفتاح ، وشرع قلبه يخفق بقوة حين ترك التاجر المفتاح ملقى على المنضدة ولها عنه . أحس أنه مقدم على عمل دنيء لم يقدم عليه من قبل ، وشعر أنه خسيس ، حقير ، وبدأت أصابعه ترتعش ، واربد وجهه ، وارتجفت شفتاه ، وهمس بداخله أحد لم يسمعه من قبل ، ذو صوت مهيب : يالك من رجل دنيء ! كيف تقوم بهذا العمل ؟ ألا تهاب الله ؟ وتسارعت نبضات قلبه ، وزاد ارتعاش يده ، لكنها امتدت إلى المفتاح ، والتاجر عنه في غفلة ، وعاد الصوت المهيب أعلى من ذي قبل : يالك من لص حقير! يالك من لص حقير! ولمست يده المرتعشة القطعة المعدنية ، وأحس كأن أفعى تلذغه. وسحب يده في خوف ، وأحس أنه كلب جائع . أحس أنه كلب ، وضخم إحساسه الصوت المهيب : كلب .. كلب .. كلب. ووجد نفسه يقفز إلى الشارع ، فأخذ نفساً طويلاً من الهواء النقي ، وأحس كأنه تخلص من هم بغيض. ما أجمل أن يكون الإنسان شريفاً طاهراً ، إنه يكون أغنى الناس ، وتذكر صغاره . إنهم ينتظرونه بشوق ، ستة أفواه مفتوحة تنتظر خبزاً وطعاماً ، أيطعمها الشرف ؟ أيحييها بالعزة والكرامة ؟ ومضى على غير هدى يشق أمواج الناس المتلاطمة في الطرقات ، وقرر في نفسه أن يعيد الكرة ، فيأخذ ذلك المال . ورفع عينيه إلى السماء ، فوجد زرقتها بدأت تقتم مؤذنة بغروب الشمس، وسمع مواء قطط صغيرة في زاوية زقاق ضيق ، والتفت إليها : قطط مشردة ربما ماتت أمها ، وقارن بينها وبين صغاره ، وتصور أن أمهم ماتت بدائها ، وأحس أنه يريد أن يبكي . وقف لحظة يتأمل القطط الصغيرة الضارعة التي تموء مواءً أليماً ، ورآها وهي تأخذ طريقها بوهن وضعف ، وطغى على نفسه ضرب من الإشفاق على هذه القطط المتشردة الضعيفة ، وتابع سيره إلى جحره ، وطافت بذهنه فكرة غريبة : هذه القطط صغيرة وضعيفة ، لكنها تحاول أن تعيش ، وتعتمد في محاولتها هذه على نفسها ، فهي وإن كانت صغيرة وضعيفة كأولاده ، فهي لا تعتمد على الغير ، فلماذا لا يكون أولاده مثل هذه القطط ؟ وخيل إليه أن القطط شريفة عزيزة النفس ، لذلك قرر في نفسه مرة أخرى أن يظل شريفاً مهما كانت الأحوال. وكانت أستار الظلام قد أسدلت على الكون ، وأحس وهو يشقها ، بقوة لم يحسها من قبل ، وقصد بيته .
هرع إليه ابنه الأصغر بعد الرضيع : بابا .. بابا هل تحمل لنا خبزاً ؟ إننا جائعون .. إننا جائعون ..
أحس الأب بكلمة الجوع كرصاصة تستقر في قلبه ، ورفع ابنه إلى صدره. واشرأبت رؤوس صغيرة من حجرة ضيقة ، وتبادلت النظرات متسائلة ، ثم انحنت خائبة. شهد الأب ذلك ، وتناهى إلى سمعه سعال زوجته ، وأحس بقلبه يتمزق ..
الدكتورعبد الجبار العلمي
* ( إحدى تجارب الكتابة في مجال القصة القصيرة .
نشرت بجريدة العلم / صفحة " أصوات " سنة 1966 )