يوسف المحيميد - أحلام ثقيلة


كنت دائماً أرى ما لا يُرى، أرى في النوم قناديل تضحك، وعيونا تلتمع، وأرى أبي يتحدث مع غرباء عن الموسيقى، تحفهم السمفونية التاسعة لبتهوفن. كان أبي يتحدث إليهم منتشياً عن سوريٍّ مقيم في فرنسا، يدعى عابد عازريه، يتحدث عن نهجه الموسيقي، والآلات التي يستخدمها! كان وجه أبي تماماً، بتجاعيده وانفعالاته، بلحيته المصبوغة، وهو يتنقل من موزارت إلى بتهوفن إلىتشايكوفسكي إلى آخره، كان هو ذاته أبي، بجبهته المتغضنة وشاربه الحليق.


كنت أرى ما لا يُرى، أرى أبواب كثيرة، تنفتح على أبواب أخرى، أرى أمي تنظّف اللوحات الزائدة في المخزن، تمسح غبارها، وتقول لي: أنا أحب بول كلي، إنه فنان عظيم! كانت هي أمي السمراء، بوجهها المجدور، أمي التي لم تعد تلحّ بأن أكف عن رسم ذوات الأرواح، كنت أرى أمي تجلس على طاولة المطبخ، ترسم بورتريها لا أعرف لمن، قالت هذا (كليمنت)، هل تعرفه؟ قلت: لا. أشارت إليّ أن اتبعها، وهي تقول: سأطلعك على لوحاته!
كنت أرى دائماً ما لا يراه أحد، أرى المستشفى الذي أعالج به لوثة الدوار خالياً من المراجعين، ممراته لامعة، لا ألمح عليها سوى ظلي، ولا يقابلني أثناء مروري سوى الممرضات ببياض ملائكي، يبتسمن بوجوه شرق آسيوية، وتقودني إحداهن. كان الطبيب يبتسم لي، ويعتذر عن تأخره، رغم أنه لم يتأخر إطلاقاً! كنت أرى ما لا يُرى، من النافذة أرى أسلاك الكهرباء خالية من الغربان، والسماء لا تحوم فيها العقبان والنسور، كنت لا أرى الذباب يطنّ، ولا أسراب البعوض تتنقل فوق البرك والمستنقعات، حيث لا مستنقع قرب البيت أصلاً! كنت أرى الشوارع خالية، والناس يتحركون بدقة ونظام، كل واحد يؤثر الآخر، كنت أرى البلاد لا سادة فيها ولا عبيد، لا حكاماً ولا محكومين، كنت أرى مالا يُرى، كنت أسمع ما لا يسمع!
في آخر الليل، كنت أتنبّه فجأة، وأمشي وأنا شبه نائم نحو الثلاجة في طرف الغرفة، أسكب ماءً وأشرب، دون أن ينقطع ما أراه وأسمعه!
في الصباح أصحو، وأقص على أمي ما رأيت، كانت تقول هذه كوابيس، يا ولدي الحلم خفيف كالفراشة، لكن أحلامك ثقيلة مثل الحجارة! قبل أن أنام تنصحني دوماً: سمّ باسم الله، وانفض شرشفك قبل النوم، وبعدما تصحا!
صباح اليوم، فتحت عينيّ المرهقتين، وقد رأيت البارحة أشياء كثيرة لا تُرى ولا تحكى. شعرتُ بصداع رهيب في مقدمة رأسي. حين لمست جبيني صعقتني حرارة طاغية: لابد أنها الحمى! رأيت في الغرفة أشياء صغيرة تطير، تشبه البعوض: اللعنة، هل كانت طوال الليل تغرز خراطيمها الواهنة في وجهي، لتقتلني بالحمى، بينما أنا منهمك في رؤية مالا يراه أحد!
نهضتُ بتثاقل، وتذكرت وصية أمي، فأمسكت بالشرشف الأزرق من أطرافه، ثم نفضته بقوة مفاجئة، فتطاير من أنحائه ما يشبه الحشرات المضيئة، ارتبكتُ وأنا أفكر برؤياي الليلية المستمرة، هل هذه الأحلام التي قالت عنها أمي: إنها ثقيلة مثل حجارة! نفضتُ الشرشف ثانية فاصطخبَتْ حشراتٌ مضيئة تكاد تتصادم في فضاء الغرفة. أسرعت نحو النافذة وجذبتها، لتنفتح عن آخرها، وهالني منظر الحشرات المضيئة اللامعة مثل جواهر وهي تتدافع نحو ضوء الخارج، وتنساب من النافذة، وحين ابتعدت عن النافذة لأسمح لها بالمرور دون أن تتصادم ببعضها، سمعتُ على الفور تحطم أشياء في الأسفل، انطلقت عبر السلالم الحديدية إلى الحوش، لأرى أسفل نافذتي شظايا أحجار، وقد تفتت إلى أجزاء صغيرة جداً، ولم يكن هناك أي أثر للحشرات المضيئة، ولا لسخونة الحمى.



اكتوبر 2000م
الرياض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...