لم تقتصر دعابات هواء نوفمبر الليلي على مصابيح الشارع العالية ، بل كان كل فينة يهبط ليشاغب ياقة ثوبي ، مثل نورس ينثني ملتقطاً سمكة من موجة هائجة ؛ رغم ذلك لم أبرح رصيف الإشارة اليومي ، متجولاً بين السيارات الفارهة كما يليق ببائع جوّال متمرس ، يعرف البلاط الرمادي جيداً ، ويقرأ الإسفلت حصوة حصوة ، يدرك اليد التي ترتفع بغتة ، ويلحظ العين التي تطرف أو تشيح أو تلعن !!
تشح مساءات الجمعة بالعابرين ، لا أحد يخرج من منزله أيام الجمع ، لا بد أن الأمهات يعددن العشاء ، ويضعن في المواقد حطباً ، تحفّه أباريق الشاي والحليب والنعناع ، أما الأولاد فقد انهمكوا في تغميس كعكاً في أكواب الحليب ، بعد أن أنهوا واجباتهم المدرسية ، واستعدوا للنوم الباكر .
لو لم أدفع بيدي صدر مدرس الجغرافيا ليسقط أرضاً ، وتنتاب التلاميذ نوبة ضحك هائلة ، جعلت المدرس يكتب في تقريره أنه تعرّض إلى اعتداء من طالب ، الذي تم رفعه إلى الجهة المختصة ، التي اتخذت قراراً سريعاً بفصلي من المدارس نهائياً . لو لم أفعل لكنت الآن أحاول حل واجب الرياضيات الحديثة ! !
اللعنة على هؤلاء الطلاب المرعوبين ، كيف لم يشهد أحد منهم على ما حدث في الفصل ، وما تعرضت له من جلد عشوائي بخرطوم مياه ، بسبب أنني لم أرسم خريطة العالم بشكل جيد ! ! اللعنة على العالم كله ، الذي لم يساعدني لكشف الحقيقة ! ! إلاّ ذاك الصحفي المسكين ، الذي زارني عصراً وسألني كثيراً ، وطلب مني أن أشرح الواقعة بالتفصيل ، وصدرت الجريدة في الغد بعنوان : طالب يتعرض لجلد عشوائي وفصل من المدرسة ! ! أعجبتني كلمة : عشوائي . بعد ذلك التحقيق الصحفي لم نعد نقرأ اسم ذاك الصحفي في الجريدة ، ولا في أي مطبوعة أخرى ! !
في مساءات الجمعة الكئيبة ، وفي ساعات متأخرة من نوفمبر ، تقف عند الإشارة سيارات فارهة سوداء ، حتى زجاجها مظلل بلون داكن ، فلا أرى شيئاً بداخلها ، لذلك لا أفهم مايحدث داخلها ، كثيرة هي الأشياء التي لا أفهمها في هذه المدينة الغريبة ، لذلك لم تكن كتب المدرسة تعلمني ما يحدث في الشارع ! !
هاهي سيارة كحلية بزجاج مظلل ، تقف بجوارها من ناحيتي سيارةٌ أخرى بلون اللؤلؤ ، زجاج سائقها مفتوح قبالتي ، لكن عيناه ، بل رأسه كله ، مرسل نحو السيارة الكحلية المجاورة ، كانت يده تومىء بعد أن فتح زجاجة المقعد المجاور إلى منتصفها ، فجأة هبطت الزجاجة المظللة الخلفية للسيارة الكحلية ، فأطلق طير الحبّ في القفص الذي أحمله تغريدة متواصلة ، لفتت انتباه سائق السيارة اللؤلؤية ، فنظر نحوي ، كأنما انتبه للمرة الأولى إلى وقفتي الليلية الطويلة ، أشار : بكم ؟ . بخمسة وثلاثين !. أخرج من حافظته الجلدية ورقة خمسمائة ، ناولني إياها ، وباليد الأخرى ناولني ورقة صغيرة مطوية ، مشيراً برأسه تجاه السيارة المجاورة . أخذتها مرتبكاً ، ودسستها من النافذة المظللة الزجاج ، فلم ألمح سوى أصابع طويلة وناعمة ، منتهية بأظفار ملونة تشبه أقماراً صغيرة ! !
بالكاد استطعت أن أصل إلى جزيرتي الآمنة ، على الرصيف ، حتى اخضرّت الإشارة ، ولوحتُ بالقفص للسيارة اللؤلؤية ، التي لم ألمح من نافذتها سوى إبهام السائق مشيراً أن كل شيء آخر تمام ! ! وقد أفزع صرير إطاراته طير الحب بمنقاره الصغير المحدودب ، ليخبط بجناحيه هائجاً جنبات القفص ! ! فتحت يدي المعروقة رغم برودة ليل نوفمبر ، فلمحت الورقة النقدية الكبيرة منطوية بسخاء ، لأول مرة في حياتي ، داخل كفي . وضعت القفص على الرصيف ، وخلعت بابه ، وهششتُ بيدي طير الحب لأطيّره ، ثم اجتزتُ ، خفيفاً ، الشارع الخالي ، دون أن أقرأ شروخ الإسفلت ، حتى لاتذكرني تلك الشروخ بخطوط خريطة العالم التي لم أتقن رسمها أبداً .
نوفمبر 2000م