"لك الله يا رأسي المسكين
قضيت في الخدمة ثلاثة وثلاثين تماماً
لم تفز فيها بمغنم، لم تقفز فيها بفرحة
لا ولا قول جميل
لا ولا وصف رفيع"
- أغنية شعبية ‘
1
- في المرة الأولى لم أرى وجهه بسبب وقوفه في الصفوف المتقدمة وكنت خلفه بعدة صفوف، ولكن سمعت صوته ورأيت رأسه وكتفيه يتحركان وهو يتحدث في معسكر التدريب الجنوبي ويعتبر المركز الأكبر لأنه يضم عدد كبير من المتطوعين صغار السن إضافة للجند النظاميين أمثالي، قبل بدأ المعارك على الجبهة كنا في كل صباح نصطف في طوابير طويلة لا أكاد أرى آخرها في الساحة المبللة بماء المطر والتي تطل عليها مهاجعنا. لم تكن هذه الصفوف تعتمد على ترتيب معين لأن كل من فيها هم رتب متدنية ومتطوعون جاء أكثرهم تحت التهديد أو خوفاً على مصادرة أموالهم إن كانوا من أصحاب الدكاكين الصغيرة أو أن تصادر الحكومة حقولهم إن كانوا من المزارعين وبعضهم بدافع حماستهم الوطنية. كان كما أظن في الصف الثاني لما هدده القائد الميداني والذي يشرف على الصفوف بالعقاب ولا أعرف ما الذي فعله ليستحق العقاب، تقدم خطوة وهو منتصب ورفع صوته كمن يقسم القسم العسكري: اليهودي لا يعاقبه إلا الله ثم اتبعها بصوت منخفض وأمه بالطبع. انفجرت الصفوف بالضحك حتى القادة الذين يقفون أمامنا على بعد أربع أو خمس أمتار من أول صف كانت كروشهم تهتز من الضحك، وأخذ بعض من في الصفوف المتأخرة يتساءلون ماذا قال الرجل؟ . فيما بعد عرفت أشياء كثيرة عن ألكسي أو اليهودي ألكسي كانت كثير من أحاديث الجنود تدور حول وضعه والمكانة التي يتمتع بها في المعسكر، حتى أن البعض كان يقسم على أنه يعمل لصالح الكولونيل بشكل خاص ينقل له الأخبار وربما كتب بعض التقارير أو حتى نقلها مشافهة في زياراته القليلة لمكتب الكولونيل الذي يرتفع لثمانية أو عشرة أمتار ربما، صحيح أن زياراته قليلة لكن بالنسبة لمجند برتبته، هذا أمر مستحيل تماماً و خارم لكل التراتبية العسكرية التي تطبق بصرامة في هذا المعسكر. جمعتني نوبات حراسة كثيرة مع ألكسي ونشأت بيننا علاقة لا أفهمها بشكل واضح، ربما هو الخوف أو الكرة كنت أراه مثل الشيطان الذي لا يتوقف عن إطلاق الوساوس في رأسي، وفي ذات الوقت كنت معجبا به كمقاتل يمكن الإعتماد عليه، لقد كان شجاعاً وجريئا. الجميع على إختلاف رتبهم يخشون ذكر اسم الكولونيل حتى وإن رافق ذلك إظهار الاحترام والتقدير كان ألكسي يسخر منه بشكل مبالغ به، يقلد مشيته بتهكم، يسخر من الطريقة التي يرفع بها بنطاله كل عصر عندما يخرج من مكتبة ليطل علينا، يطلق بعض النكت التي تشكك بشجاعة الكولونيل، كان يفعل أشياء كثيرة من الجنون فعلها. كان الضباط يعجبهم ألكسي بحسه الكوميدي الساخر كان الضباط الأعلى رتب يستخدمونه للسخرية من الضباط الذين تحتهم وفي آخر النهار ألكسي يسخر من الجميع. في أحد المرات التي كنت معه في نوبة حراسة قال لي: كما ترى لست أقوم بأعمال خارقة، هي فقط العبودية التي أقدمها للكولونيل والأسلوب المضحك والرسائل التي أكتبها لابنتي هي أيضا تقربني من الكولونيل لكنكم جنود أغبياء.
2
- في صيف 1935 كانت المرة الأولى التي ألتقيه بها في الخندق رقم 3 أتذكر ذلك تماماً، عندما كان يحشر رأسه في خوذه نتنه ملوثة بدم وتراب نزعها من رأس مجند مقتول بجواره ويقول له : لا تكن طماعاً يا ابن الملعونة فلم تعد هذه الأشياء مفيدة بالنسبة لك، ومقاسها مناسب لرأسي. ثم ألبسه خوذته القديمة وقال له: لا تقلق لن أترك رأسك عارياً هذه سوف تحميك وضرب بيده ضربتين على الخوذة وكأنه يتأكد من ثباتها. لما رآني مصدوماً وأحدق به بكأبة وخوف قال لي وهو يفتش في جيوب بنطال هذا المقتول: هنا نستفيد من كل شيء، حاول أن تستفيد أنت أيضاً. هكذا قال لي سمعت ذلك بوضوح. كنت للتو وصلت مع مجموعة كبيرة من جنود وحدات المشاة من الكتيبة الثانية التابعة للفوج الرابع عشر كتعزيزات للجبهة الجنوبية محملين في عربات نقل الجنود البطيئة والتي تجلب الصداع بتمايلها على الطرق الترابية. قبل أن نصل عرف الجميع أنهم اقتربوا من الجبهة، الأدخنة الرمادية ترتفع من كل مكان، الأصوات لا تتوقف عن التداخل فيما بينها فلا يكاد يتضح شيء. منذ أن توقفت العربة أخذ الضابط الميداني يصرخ بنا: اركضوا اركضوا ، وكان يحرك يده مشيراً بإتجاه الخندق الذي انحشرنا فيه مثل النمل. عندما إنزلقت داخل الخندق بأرضيته الطينية كان الأمر يشبه الحلم، كل شيء يحدث ببطء لدرجة أن اللعاب المنبعث من أفواه الجنود بطيء ويمكنك أن تراقبه حتى يسقط على الأرض أو على بنطال أحد المجندين، كذلك الإنفجارات وتطاير الأشلاء، صراخ الضباط يتردد ببطء ويمكنك رؤية شفاههم وهي تتحرك للأعلى وتنقبض وهم يصدرون الأوامر، الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقول أنه يتصرف على نحو سريع هو الموت. كان الأمر مريعاً للغاية، اعتدت حياة معسكر التدريب البعيد تماماً عن الجبهة، كانت التدريبات القاسية تجعلنا ننام مساءا مثل القتلى، بعد التدريبات الصباحية والتي ننهيها دون استخدام الأسلحة يكون وقت الراحة والغداء نقضيه في الأغلب داخل مهاجعنا وهي غرف إسمنتية تنتشر بها رائحة كريهة، لها باب حديدي أكله الصدأ وشبابيك صغيرة موزعة بشكل غير منسق على الجدار المطل على الساحة، وتمتد الغرفة الواحدة تقريبا بطول خمسة عشر متراً وعرض خمسة أو ستة أمتار يتوزع بها مجموعة من الأسرة بأغطية خشنة بالية كل سريرين فوق بعضهم البعض، وقد ننام قليلاً لنستيقظ على صوت قرع الباب بقوة وإصرار حتى بعدما يستيقظ الجميع لنستعد لتدريبات الرماية على البنادق الخفيفة. في المساء نتسلل خلسة من مهاجعنا للمطاعم وحانات القرية القريبة، حيث أطباق الدجاج المشوي أو شوربة الروبيان التي تعدها لنا السيدة مارينا في مطعمها الذي تديره هي وابتنها، وبعد ذلك نقيم الحفلة المسائية المعتادة نتناول الفودكا، نغني أغاني الريفيين ونرقص مع ممرضات المستشفى العسكري اللاتي لا يكون عليهن مناوبة ليلية. كل هذا انتهى الآن.
3
- يرمز له في محادثات اللاسلكي بالخندق رقم 3 أما نحن في داخله فنعرفه بـ حفرة القيء فهذا الخندق نتن بشكل لا يمكن احتماله وكأنك في معدة خنزير تقيأ ثم عاد وابتلع قيئه وأنت تسبح في وحل من القيء. عندما تدخل الحفرة وكأنك تدخل في متاهة لا نهاية لها ممرات طويلة بالطول والعرض متصلة فيما بينها بشكل معقد و مليئة بالتضاريس الرملية، وفي بعض الممرات التي تكون عريضة وأبعد عن الخط الأول للإشتباكات تجد غرف للقيادة يكون فيها جندي اللاسلكي و ضابط وهو القائد المباشر لنا ومساعديه. في أعلى الخندق أسلاك شائكة لا يمكنك تجاوزها وأكياس الرمل والكثير من الجثث التي يلقونها لتسد النقص في الأماكن التي لا يوجد بها أكياس رمل. مهمتي كانت مراقبة الجزء الغربي من المنطقة المفتوحة أمامي والاستماع لأحاديث اليهودي ألكسي وتدخين التبغ الذي يسرقه ألكسي من مكاتب الضباط أو من بناطيل الجند الذين يسقطون قتلى. كان يتحدث كما لو كان قائداً عاماً بثقة ودون أن يخاف من أن يوقع به أحد من رجال مخابرات الجيش خصوصاً عندما كان يتحدث عن عبثية الحرب وفساد الضباط أو حتى عندما يسخر من الكولونيل. قال لي مرة وهو ينظف بندقيته ودون أن ينظر لي: أنت تخاف من أن تنقل أحاديثي للقيادة فتتورط، الجميع هنا خائف. والجميع هنا لا يدري ما الذي يحدث أو لماذا نقاتل هؤلاء الملاعين جئت من حقلي الصغير بالإكراة ، لم أحمل سلاحاً من قبل وأعنف عمل فعلته في حياتي أن شجعت زوجتي المسكينة على قتل دجاجة، بالمناسبة زوجتي تطهو الدجاج بطريقة لا يمكنك مقاومتها. مازلت أتذكر أحاديثه بشكل واضح، أتذكر انه قال بانفعال عندما سمع إشاعة عن هدنة قريبة: الله يعلنهم هم وهدنتهم، كل هؤلاء القتلى يذهبون سدى ذلك الوقت التعيس الذي قضيناه دون فائدة فقط نفكر في النجاة ثم يتحدث القادة العظماء الذين ينامون طيلة الحرب ثم يستيقظون ويقولون: اوووه نمنا كثيراً والناس يتحاربون يجب أن ننهي هذا، فلينهي الله حياتهم. لا قيمة لنا ولا معنى لحياتنا الشخصية، ينظرون لي ولك يا أخي على أننا أدوات يستخدمونها مثل ما يستخدمون سراويلهم الداخلية ثم رفعة علبة حديدية بها بعض الفودكا وهي مسروقة في الغالب وقال: الله يلعنهم هم وسراويلهم الداخلية يا أخي، كل ما يفكرون به هو أن يسجل كل شيء بأسمائهم وأن يقول الرجل في المذياع ها هم قادتنا العظماء يحرزون النصر العظيم. وأنتم أيها التعساء هنا تفقدون أيديكم ورؤوسكم بسبب الألغام، ما معنى أن نتقاتل لعدة شهور متتالية ثم دون أن يتغير أي شيء يقولون هدنة، الله وحده يعلم أي شيء هذا الذي يحدث. كان القليل من الجند يستمعون لألكسي بذهول وصمت.
4
- ابنتي الطيبة إيفا ...
لماذا لا تصلني رسائل منك ومن أمك المسكينة التي كثيراً ما أشفق عليها لم ترى أشياء كثيرة طيبة في حياتها، اقرئي عليها هذه الرسالة بصوت مرتفع و أخبريها أني عائد قريباً بعدما ننتصر على هؤلاء الملاعين. جميع المجندين هنا يستقبلون الرسائل أرجو أن تصلني واحدة قريباً. أنا بخير هنا تعلمت استخدام البندقية وقتلت كما أظن ثلاثة من جنود العدو و كلباً ضالاً كان يعاني من إصابة سيئة للغاية ماعدا ذلك يمضي وقتي في المراقبة والتفكير في شجاعة قائدنا العظيم الكولونيل بودانوف لقد رأيته يقتل الكثير من جنود العدو بصرخة واحدة لقد كانوا يتساقطون بمجرد سماع صوته، كما لو كانت عاصفة شديدة تقتلع الأشجار. عندما نفقد الأمل أو نشعر في الخوف نتذكر قائدنا العظيم الكولونيل بودانوف فتدب فينا الحياة ونقاتل بكل بسالة، لا يمكن لقائد مثل الكولونيل بودانوف أن يكون له جنود جبناء هذا لا يليق بشريف قدره و شجاعته. لذلك نحن نعلم أن الذين يموتون أو يهربون لا يستحقون أن يكونوا جنودا تحت إمرة الكولونيل بودانوف. لدي الكثير من القصص لأحكيها لك عندما أعود وسوف تكونين في غاية الفخر بهذا القائد العظيم الكولونيل بودانوف، فأنا مضطر هنا للاختصار لضيق الوقت وقلة الورق. أرجو أن تكونا والكلب لوك بخير وأشجار الحقل أيضا.
الجندي أيرفائيل أليكسي
جهنم البعيدة 23 / 11
وليبارك الله سيدنا القائد العظيم الكولونيل بودانوف
- لكن هذا تافه و كذب واضح فلم يحدث شيء من هذا !
: هذا الأمر كله تافه ، والسيد الملعون الكولونيل بودانوف لا ينتظر شيئاً حقيقياً. الثناء ونسب الإنتصارات له تفعل بعقله ما تفعله الفودكا فلا يقدر على تمييز شيء.
- لكن ما علاقة الكولونيل برسالتك لأبنتك !
: أنتم أغباء ولا تفهمون إلا أن تمسكوا بنادقكم كما يأمركم الضابط وتتساءلون هل نمسكها بالطريقة الصحيحة؟ الرسائل لا تذهب بعيداً يأخذونها ثم يذهبون بها لمكتب المخابرات ثم إن ما وجدوا فيها ما يخص الكونوليل عرضوها عليه، ويتخلصون من باقي الرسائل.
- لا يمكن أن يكون هذا معقولاً.
5
- رغم أن الغارات الجوية توقفت والاشتباكات المباشرة هدأت كثيراً بحكم المفاوضات حول الهدنة أو كذلك كنا نتوقع إلا أن قذيفةُ لم تترك لألكسي الفرصة. كانت تلك آخر مرة رأيته فيها لا أتذكر تاريخها بشكل واضح، لكن الثلج كان يغطي الأرض. و لأكون دقيقا فيما أقول لقد رأيت جثته يحملها رجلان، أحدهما يمسك بقدميه والآخر يمسك بيديه وبعد أن لوحا بجثته في الهواء رمياه في الشاحنة المعدة لنقل الجثث فوق كومة من الجثث الأخرى والتي تعفن بعضها. فزعت لمّا رأيتهم يلقون بجثته وبدأت يدي بالإرتعاش وتوسعت عيناي وشعرت وكأن كل شيء يمضي ببطء شديد، أحسست بكأبة كما أشّتد الألم في معدتي وقلت في نفسي: ماذا لو أن ما كان يقوله ألكسي صحيح ؟
قضيت في الخدمة ثلاثة وثلاثين تماماً
لم تفز فيها بمغنم، لم تقفز فيها بفرحة
لا ولا قول جميل
لا ولا وصف رفيع"
- أغنية شعبية ‘
1
- في المرة الأولى لم أرى وجهه بسبب وقوفه في الصفوف المتقدمة وكنت خلفه بعدة صفوف، ولكن سمعت صوته ورأيت رأسه وكتفيه يتحركان وهو يتحدث في معسكر التدريب الجنوبي ويعتبر المركز الأكبر لأنه يضم عدد كبير من المتطوعين صغار السن إضافة للجند النظاميين أمثالي، قبل بدأ المعارك على الجبهة كنا في كل صباح نصطف في طوابير طويلة لا أكاد أرى آخرها في الساحة المبللة بماء المطر والتي تطل عليها مهاجعنا. لم تكن هذه الصفوف تعتمد على ترتيب معين لأن كل من فيها هم رتب متدنية ومتطوعون جاء أكثرهم تحت التهديد أو خوفاً على مصادرة أموالهم إن كانوا من أصحاب الدكاكين الصغيرة أو أن تصادر الحكومة حقولهم إن كانوا من المزارعين وبعضهم بدافع حماستهم الوطنية. كان كما أظن في الصف الثاني لما هدده القائد الميداني والذي يشرف على الصفوف بالعقاب ولا أعرف ما الذي فعله ليستحق العقاب، تقدم خطوة وهو منتصب ورفع صوته كمن يقسم القسم العسكري: اليهودي لا يعاقبه إلا الله ثم اتبعها بصوت منخفض وأمه بالطبع. انفجرت الصفوف بالضحك حتى القادة الذين يقفون أمامنا على بعد أربع أو خمس أمتار من أول صف كانت كروشهم تهتز من الضحك، وأخذ بعض من في الصفوف المتأخرة يتساءلون ماذا قال الرجل؟ . فيما بعد عرفت أشياء كثيرة عن ألكسي أو اليهودي ألكسي كانت كثير من أحاديث الجنود تدور حول وضعه والمكانة التي يتمتع بها في المعسكر، حتى أن البعض كان يقسم على أنه يعمل لصالح الكولونيل بشكل خاص ينقل له الأخبار وربما كتب بعض التقارير أو حتى نقلها مشافهة في زياراته القليلة لمكتب الكولونيل الذي يرتفع لثمانية أو عشرة أمتار ربما، صحيح أن زياراته قليلة لكن بالنسبة لمجند برتبته، هذا أمر مستحيل تماماً و خارم لكل التراتبية العسكرية التي تطبق بصرامة في هذا المعسكر. جمعتني نوبات حراسة كثيرة مع ألكسي ونشأت بيننا علاقة لا أفهمها بشكل واضح، ربما هو الخوف أو الكرة كنت أراه مثل الشيطان الذي لا يتوقف عن إطلاق الوساوس في رأسي، وفي ذات الوقت كنت معجبا به كمقاتل يمكن الإعتماد عليه، لقد كان شجاعاً وجريئا. الجميع على إختلاف رتبهم يخشون ذكر اسم الكولونيل حتى وإن رافق ذلك إظهار الاحترام والتقدير كان ألكسي يسخر منه بشكل مبالغ به، يقلد مشيته بتهكم، يسخر من الطريقة التي يرفع بها بنطاله كل عصر عندما يخرج من مكتبة ليطل علينا، يطلق بعض النكت التي تشكك بشجاعة الكولونيل، كان يفعل أشياء كثيرة من الجنون فعلها. كان الضباط يعجبهم ألكسي بحسه الكوميدي الساخر كان الضباط الأعلى رتب يستخدمونه للسخرية من الضباط الذين تحتهم وفي آخر النهار ألكسي يسخر من الجميع. في أحد المرات التي كنت معه في نوبة حراسة قال لي: كما ترى لست أقوم بأعمال خارقة، هي فقط العبودية التي أقدمها للكولونيل والأسلوب المضحك والرسائل التي أكتبها لابنتي هي أيضا تقربني من الكولونيل لكنكم جنود أغبياء.
2
- في صيف 1935 كانت المرة الأولى التي ألتقيه بها في الخندق رقم 3 أتذكر ذلك تماماً، عندما كان يحشر رأسه في خوذه نتنه ملوثة بدم وتراب نزعها من رأس مجند مقتول بجواره ويقول له : لا تكن طماعاً يا ابن الملعونة فلم تعد هذه الأشياء مفيدة بالنسبة لك، ومقاسها مناسب لرأسي. ثم ألبسه خوذته القديمة وقال له: لا تقلق لن أترك رأسك عارياً هذه سوف تحميك وضرب بيده ضربتين على الخوذة وكأنه يتأكد من ثباتها. لما رآني مصدوماً وأحدق به بكأبة وخوف قال لي وهو يفتش في جيوب بنطال هذا المقتول: هنا نستفيد من كل شيء، حاول أن تستفيد أنت أيضاً. هكذا قال لي سمعت ذلك بوضوح. كنت للتو وصلت مع مجموعة كبيرة من جنود وحدات المشاة من الكتيبة الثانية التابعة للفوج الرابع عشر كتعزيزات للجبهة الجنوبية محملين في عربات نقل الجنود البطيئة والتي تجلب الصداع بتمايلها على الطرق الترابية. قبل أن نصل عرف الجميع أنهم اقتربوا من الجبهة، الأدخنة الرمادية ترتفع من كل مكان، الأصوات لا تتوقف عن التداخل فيما بينها فلا يكاد يتضح شيء. منذ أن توقفت العربة أخذ الضابط الميداني يصرخ بنا: اركضوا اركضوا ، وكان يحرك يده مشيراً بإتجاه الخندق الذي انحشرنا فيه مثل النمل. عندما إنزلقت داخل الخندق بأرضيته الطينية كان الأمر يشبه الحلم، كل شيء يحدث ببطء لدرجة أن اللعاب المنبعث من أفواه الجنود بطيء ويمكنك أن تراقبه حتى يسقط على الأرض أو على بنطال أحد المجندين، كذلك الإنفجارات وتطاير الأشلاء، صراخ الضباط يتردد ببطء ويمكنك رؤية شفاههم وهي تتحرك للأعلى وتنقبض وهم يصدرون الأوامر، الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقول أنه يتصرف على نحو سريع هو الموت. كان الأمر مريعاً للغاية، اعتدت حياة معسكر التدريب البعيد تماماً عن الجبهة، كانت التدريبات القاسية تجعلنا ننام مساءا مثل القتلى، بعد التدريبات الصباحية والتي ننهيها دون استخدام الأسلحة يكون وقت الراحة والغداء نقضيه في الأغلب داخل مهاجعنا وهي غرف إسمنتية تنتشر بها رائحة كريهة، لها باب حديدي أكله الصدأ وشبابيك صغيرة موزعة بشكل غير منسق على الجدار المطل على الساحة، وتمتد الغرفة الواحدة تقريبا بطول خمسة عشر متراً وعرض خمسة أو ستة أمتار يتوزع بها مجموعة من الأسرة بأغطية خشنة بالية كل سريرين فوق بعضهم البعض، وقد ننام قليلاً لنستيقظ على صوت قرع الباب بقوة وإصرار حتى بعدما يستيقظ الجميع لنستعد لتدريبات الرماية على البنادق الخفيفة. في المساء نتسلل خلسة من مهاجعنا للمطاعم وحانات القرية القريبة، حيث أطباق الدجاج المشوي أو شوربة الروبيان التي تعدها لنا السيدة مارينا في مطعمها الذي تديره هي وابتنها، وبعد ذلك نقيم الحفلة المسائية المعتادة نتناول الفودكا، نغني أغاني الريفيين ونرقص مع ممرضات المستشفى العسكري اللاتي لا يكون عليهن مناوبة ليلية. كل هذا انتهى الآن.
3
- يرمز له في محادثات اللاسلكي بالخندق رقم 3 أما نحن في داخله فنعرفه بـ حفرة القيء فهذا الخندق نتن بشكل لا يمكن احتماله وكأنك في معدة خنزير تقيأ ثم عاد وابتلع قيئه وأنت تسبح في وحل من القيء. عندما تدخل الحفرة وكأنك تدخل في متاهة لا نهاية لها ممرات طويلة بالطول والعرض متصلة فيما بينها بشكل معقد و مليئة بالتضاريس الرملية، وفي بعض الممرات التي تكون عريضة وأبعد عن الخط الأول للإشتباكات تجد غرف للقيادة يكون فيها جندي اللاسلكي و ضابط وهو القائد المباشر لنا ومساعديه. في أعلى الخندق أسلاك شائكة لا يمكنك تجاوزها وأكياس الرمل والكثير من الجثث التي يلقونها لتسد النقص في الأماكن التي لا يوجد بها أكياس رمل. مهمتي كانت مراقبة الجزء الغربي من المنطقة المفتوحة أمامي والاستماع لأحاديث اليهودي ألكسي وتدخين التبغ الذي يسرقه ألكسي من مكاتب الضباط أو من بناطيل الجند الذين يسقطون قتلى. كان يتحدث كما لو كان قائداً عاماً بثقة ودون أن يخاف من أن يوقع به أحد من رجال مخابرات الجيش خصوصاً عندما كان يتحدث عن عبثية الحرب وفساد الضباط أو حتى عندما يسخر من الكولونيل. قال لي مرة وهو ينظف بندقيته ودون أن ينظر لي: أنت تخاف من أن تنقل أحاديثي للقيادة فتتورط، الجميع هنا خائف. والجميع هنا لا يدري ما الذي يحدث أو لماذا نقاتل هؤلاء الملاعين جئت من حقلي الصغير بالإكراة ، لم أحمل سلاحاً من قبل وأعنف عمل فعلته في حياتي أن شجعت زوجتي المسكينة على قتل دجاجة، بالمناسبة زوجتي تطهو الدجاج بطريقة لا يمكنك مقاومتها. مازلت أتذكر أحاديثه بشكل واضح، أتذكر انه قال بانفعال عندما سمع إشاعة عن هدنة قريبة: الله يعلنهم هم وهدنتهم، كل هؤلاء القتلى يذهبون سدى ذلك الوقت التعيس الذي قضيناه دون فائدة فقط نفكر في النجاة ثم يتحدث القادة العظماء الذين ينامون طيلة الحرب ثم يستيقظون ويقولون: اوووه نمنا كثيراً والناس يتحاربون يجب أن ننهي هذا، فلينهي الله حياتهم. لا قيمة لنا ولا معنى لحياتنا الشخصية، ينظرون لي ولك يا أخي على أننا أدوات يستخدمونها مثل ما يستخدمون سراويلهم الداخلية ثم رفعة علبة حديدية بها بعض الفودكا وهي مسروقة في الغالب وقال: الله يلعنهم هم وسراويلهم الداخلية يا أخي، كل ما يفكرون به هو أن يسجل كل شيء بأسمائهم وأن يقول الرجل في المذياع ها هم قادتنا العظماء يحرزون النصر العظيم. وأنتم أيها التعساء هنا تفقدون أيديكم ورؤوسكم بسبب الألغام، ما معنى أن نتقاتل لعدة شهور متتالية ثم دون أن يتغير أي شيء يقولون هدنة، الله وحده يعلم أي شيء هذا الذي يحدث. كان القليل من الجند يستمعون لألكسي بذهول وصمت.
4
- ابنتي الطيبة إيفا ...
لماذا لا تصلني رسائل منك ومن أمك المسكينة التي كثيراً ما أشفق عليها لم ترى أشياء كثيرة طيبة في حياتها، اقرئي عليها هذه الرسالة بصوت مرتفع و أخبريها أني عائد قريباً بعدما ننتصر على هؤلاء الملاعين. جميع المجندين هنا يستقبلون الرسائل أرجو أن تصلني واحدة قريباً. أنا بخير هنا تعلمت استخدام البندقية وقتلت كما أظن ثلاثة من جنود العدو و كلباً ضالاً كان يعاني من إصابة سيئة للغاية ماعدا ذلك يمضي وقتي في المراقبة والتفكير في شجاعة قائدنا العظيم الكولونيل بودانوف لقد رأيته يقتل الكثير من جنود العدو بصرخة واحدة لقد كانوا يتساقطون بمجرد سماع صوته، كما لو كانت عاصفة شديدة تقتلع الأشجار. عندما نفقد الأمل أو نشعر في الخوف نتذكر قائدنا العظيم الكولونيل بودانوف فتدب فينا الحياة ونقاتل بكل بسالة، لا يمكن لقائد مثل الكولونيل بودانوف أن يكون له جنود جبناء هذا لا يليق بشريف قدره و شجاعته. لذلك نحن نعلم أن الذين يموتون أو يهربون لا يستحقون أن يكونوا جنودا تحت إمرة الكولونيل بودانوف. لدي الكثير من القصص لأحكيها لك عندما أعود وسوف تكونين في غاية الفخر بهذا القائد العظيم الكولونيل بودانوف، فأنا مضطر هنا للاختصار لضيق الوقت وقلة الورق. أرجو أن تكونا والكلب لوك بخير وأشجار الحقل أيضا.
الجندي أيرفائيل أليكسي
جهنم البعيدة 23 / 11
وليبارك الله سيدنا القائد العظيم الكولونيل بودانوف
- لكن هذا تافه و كذب واضح فلم يحدث شيء من هذا !
: هذا الأمر كله تافه ، والسيد الملعون الكولونيل بودانوف لا ينتظر شيئاً حقيقياً. الثناء ونسب الإنتصارات له تفعل بعقله ما تفعله الفودكا فلا يقدر على تمييز شيء.
- لكن ما علاقة الكولونيل برسالتك لأبنتك !
: أنتم أغباء ولا تفهمون إلا أن تمسكوا بنادقكم كما يأمركم الضابط وتتساءلون هل نمسكها بالطريقة الصحيحة؟ الرسائل لا تذهب بعيداً يأخذونها ثم يذهبون بها لمكتب المخابرات ثم إن ما وجدوا فيها ما يخص الكونوليل عرضوها عليه، ويتخلصون من باقي الرسائل.
- لا يمكن أن يكون هذا معقولاً.
5
- رغم أن الغارات الجوية توقفت والاشتباكات المباشرة هدأت كثيراً بحكم المفاوضات حول الهدنة أو كذلك كنا نتوقع إلا أن قذيفةُ لم تترك لألكسي الفرصة. كانت تلك آخر مرة رأيته فيها لا أتذكر تاريخها بشكل واضح، لكن الثلج كان يغطي الأرض. و لأكون دقيقا فيما أقول لقد رأيت جثته يحملها رجلان، أحدهما يمسك بقدميه والآخر يمسك بيديه وبعد أن لوحا بجثته في الهواء رمياه في الشاحنة المعدة لنقل الجثث فوق كومة من الجثث الأخرى والتي تعفن بعضها. فزعت لمّا رأيتهم يلقون بجثته وبدأت يدي بالإرتعاش وتوسعت عيناي وشعرت وكأن كل شيء يمضي ببطء شديد، أحسست بكأبة كما أشّتد الألم في معدتي وقلت في نفسي: ماذا لو أن ما كان يقوله ألكسي صحيح ؟