محمد العرادي - تداعيات حادث سير.


فكرت دون الشعور بأي أسى أنها خنفساء منقطة. مثل تلك الخنفساء التي سحقتها مرة على إطار النافذة، فكرت في أنها هي أيضاً سُحقت على إطار نافذة ما. كان هذا في شارع رينفيلد أمام محل الرهونات الذي خرجت منه للتو، وكانت غير منتبهة لطريقها تعيد في رأسها بتوتر حساب ما تبقى معها من نقود. فكرت بذلك بعد أن صدمتها عربة يجرها حصان مصاب بالربو، إلا أنه كان في تلك اللحظة يجري بسرعة، خوفاً من سوط السائق المخمور الذي قال له: سوف أريك كيف تكون حصان سباق. فتحت عينيها على الخطوط الدقيقة المتعرجة والفجوات الصغيرة في الخشب الجانبي للعربة. ثم رأت أثر الرطوبة على حدوة الحصان. قبل أن تسقط على الأرض مغماً عليها، لكن لم يغمى عليها. رأت بشكل غير واضح الرجل الذي أغلق النافذة ثم أغلق النور في الطابق الثالث أعلى متجر أندرسون لبيع السيجار، وسمعت صوت تمدده على السرير. توقعت أنه عليه أن يفعل شيء قبل أن ينام، ولم تعرف ما عليه أن يفعل. تذكرت أن ابنها لم ينم منذ سنتين، لأنه ميت. ثم سألت كيف للميت أن ينام. صححت لنفسها أن ابنها قتل في أحداث الشغب التي أثارها العمال. فكرت لو أنه ما يزال يشتغل كعامل تشحيم في ورشة تصليح السفن لكان حالها أفضل، ثم تذكرت أنه سرقها مرتين. وقالت لو أنه سرقها لمرة ثالثة ربما لأصبحت خنفساء منقطة تشعر بالأسى. ثم قالت لماذا خنفساء منقطة. ربطت هذه الفكرة بخوف قديم، خوف لم تفهمه. إلا أنه خوف تافه كأن تخاف أن تكون قد نست برطمان مربى التوت الأحمر دون إغلاق. تقوم من سريرها لتتأكد، ثم تلعن نفسها، وتقول أنها مريضة. تسمع صوت صنبور الماء في الحمام، صوت دوران صنبور الماء. رأت الرجل الذي أغلق النافذة ثم أغلق النور، فتح النافذة ولم يشعل النور. دفعها منظره لتقول أنها تموت الآن. آخر مرة تلقت فيها العزاء عندما مات زوجها. لم تشعر بأي أسى أيضاً. كانت تظن أنها سوف ترتاح بعد موته، ولم تظهر لأحد هذا الظن. مر أمام رأسها جرذ رمادي كبير، توقف ونظر إليها، ثم استمر في الركض. قالت لا يوجد في مطبخي جرذ رمادي كبير على ظهره أثار حرق. سمعت صوت احتكاك أظافر الجرذ بحجر الجرانيت الذي رصف به الطريق، وقالت إن هذا مريع لو استمر. ثم انقطع كل شيء وتوقعت أنها ماتت. ثم اشتعل عامود الإنارة القصير والذي كان يشتعل بشكل متقطع. سألت لماذا عاشت هذه الحياة، ثم طلبت من الرب ألا تموت، ولو حرمها من كل متع الدنيا. نظرت باتجاه يافطة إعلانية لمتجر غلاسكي بير – هي كذا قرأت الاسم - نصبت على الأرض، رسم عليها ثلاث شابات يرتدين فساتين قصيرة وقبعات قماشية مستوحاة من أزياء فرنسية. ثم أعادت التفكير في معنى متع الدنيا، ولم تصل لشيء أبعد من فكرتها عن الحياة الأسرية الجيدة. وتذكرت لما نظرت مرة أخرى للشابة المرسومة في يسار اليافطة أنها لم تضع أي من مساحيق التجميل إلا في مره وحيده. طلبت من الرب الرحيم أن تعود لما كانت عليه. أحست بسائل دافئ ثقيل ينسكب على عظمة فخذها. مدت يدها ببطء، رأت اتساخ في أطراف أصابعها، أعادت يدها، وقالت هذا من ضغطها بقوة على النقود. ثم بعد ذلك مدت يدها بتثاقل، لمست دم وخيوط رفيعة من ثوبها الذي تمزق من أثر السقوط. قالت إنها سوف تموت، وأرادت في نفسها أن تعيش ولو لنصف ساعة أخرى. تذوقت طعماً غريباً في فمها، بصقت على الأرض، وامتد اللعاب من فمها للأرض على شكل خيط رفيع. قالت إنه دم نيء، ثم تعجبت كيف يكون الدم نيئاً. سمعت ضحكة المرأة التي تدخل سينما ديلوكس الآن. شكت في جدوى حياتها، ثم تذكرت بكره الإهانة التي تلقتها من زوجها وهو يرفع زجاجة الجعة وينسكب بعضها على قميصه الصيفي. كان يجلس في غرفة المعيشة، وهي في المطبخ تعيد غسيل بعض الأطباق النظيفة، سمعته يقول لها أن وجهها يشبه خصية الحصان، ثم ضحكت من التشبيه. وقالت إن الموت على أي حال سيء. وأرادت في نفسها أن تعيش ولو كان لوجهها شكل خصية الحصان. لكنها لم تستطع أن تقول ذلك. انتبهت لتبلل ظهرها، قالت أنها تتعرق. ثم تذكرت أنها خلعت مرفقها وهي بسن التاسعة، لقد وبختها أمها بشدة، تذكرت ذلك بوضوح كما لو كان يحدث أمامها الآن، ضربتها بقوة على كتفها الأيمن ‘‘ لماذا لم تنتبهي، كان يمكن أن تكسري عنقك‘‘ ولم تفهم ما علاقة المرفق بالعنق. بكت و تعرقت يداها. مدت ساقها، حاولت أن تمد ساقها ولم تدر هل مدتها على الوضع المناسب أم لا، سرت في جسدها لسعة باردة بعد أن لمست قدمها اليمنى حديد خط الترام، وفكرت أن أحداً سوف يساعدها. جاءتها رائحة حساء لحم الضأن منبعثة من مكان قريب، قالت: اللعنة علي، لست مريضة لكني مشوشة. ثم هلعت عندما فكرت أنها سوف تموت الآن: ماذا أفعل في القبر، محشورة أحدق في التراب، طيلة اليوم؟ و فكرت لو أنها تعرف كيف يكون الموت لكان الأمر مريحاً لها. ثم لم تعد منتبهة لرائحة حساء لحم الضأن المنبعثة من مكان قريب. رأت فم سائق العربة المخمور الذي صدمها، كان يتحرك ببطء. ينفتح وينغلق لكنها لم تسمع أي شيء مما قال، رأت رذاذ اللعاب يتطاير وشعر شاربه يهتز وقطعة سوداء عالقة بين قواطعه الأمامية. قالت: سوف أموت على أي حال لكن أرجوك ليس الآن، ولم توجه كلامها لأحد معين. ثم سمعت صوتاً دون أن تميز هل كان صوت سائق العربة المخمور أو صوت الشيطان في داخلها أو صوت زوجها: إذا جاء هذا الوقت الذي تعتقدين أنه مناسب، سوف تقولين مرة أخرى ليس الآن. حين سمعت ذلك كانت ترى الشرطي ينعطف في آخر الشارع من الجهة الشمالية، انعطف ودخل شارع غوردون. لاحظت بقعة داكنة في طرف بنطاله، ظنت أنها بقعة زيت قلي. ثم أحست بخدر في ساقها مرة أخرى، وتذكرت أنها لم تفكر في الموت من قبل، واستغربت لذلك. ثم سمعت صوت احتكاك أظافر الجرذ بالحجر لكنها لم تره، وأرادت أن تعيش ولو استمرت ملقاة على الأرض تسمع احتكاك أظافر الجرذ بحجر الجرانيت. وقالت دون أن تنطق شيء: سوف أعود لمحل الرهونات، وأخرج ولن تصدمني عربة مرة أخرى. ثم رأت فم سائق العربة المخمور وانطلق الصوت بشكل مفاجئ: من أي لعنة خَرجت. وبصق عليها وحاول أن يركلها. لكن السيد السمين في محل الرهونات كان قد خرج مستعجلاً لما صدمت عربة مسرعة زبونته التي كان يراقبها بدافع الملل وهي تخرج. قال لها أنها لم تتأذى، وحاول أن يساعدها لتنهض.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...