سأحاول أن أكون حياديا، ولكن من الصعب أن تبقى حياديا في مثل هذه المواضيع. وعموما هي قصة لا تصلح لكشتات بر في الربيع، أو تلك التي تقولها لتسلّي بها أطفالا. إنها قصة غير مريحة، ولكنها حقيقية وهي انعكاس لوقاحة هذا العالم بشكل عام، ولذا يجب أن تقال.
اليوم فقط، علمت أن محلا لبيع الهدايا سوف يفتتح في المكان الذي كان عليه بيت والد جدي. لقد هدمه جدي بمعول مثل المجنون كما يقال، ثم جلست الأرض فارغة، ثم بنى مسجدا فيها، ثم هدمه في واقعة أثارت جدلا كبيرا وكادت أن تؤدي به إلى أن يسجن في الإمارة. وعموما لجدي قصص شاطحة كثيرة، وهو كان رجلا فيه نزعة جنون نسبيا، ولا أحد يلومه. المهم، كان صغيرا حينها، لا يعرف عمره تحديدا، ولكن لنقل أنه في حدود العاشرة حينما حدث ما حدث. كان لديه أختان. أمه وأبوه على قيد الحياة حينها. لقد سمعتُ القصة عشرات المرات، أكثرها كانت في السر، حينما كنا لوحدنا أنا وهو. كان يصرخ عاليا أحيانا، وأحيانا يمنتج القصة بالصمت الطويل، وأحيانا يرويها بشكل حيادي وكأنها قصة الجني الذي ظهر له في وادي حنيفة. ولكنه لم يبكي ولو مرة. كان يقول إن رائحة غريبة بدأت تنتشر في المدينة حينها، رائحة عفن وتفسخ. صارت جلود الناس تتغير، تزرقّ وتصفرّ وتسودّ. ثم بدؤوا يتساقطون. يقول إن الموت شيء لا تخاف منه، فهو يحدث لك وتنتهي، ولكن ماذا لو كنت ميتا وأنت لم تمت بعد؟ ثم يقول هاه ويتطلع فيني مستفسرا بعينيه الممزوزتين الثاقبتين، فأهز كتفي بحدة وأقول وأنا وش يدريني، فيكشر في وجهي وينزرني أنت الحين رجال لازم تفهم. ولكنني لم أفهم، ما الذي يعنيه أن تكون ميتا وأنت لم تمت بعد. على أية حال. يقول إن أباه هو المجنون الحقيقي، مهوب أنا، ويقولها وهو يرفع سبابته في وجهي وكأنني أنا – وقد كنت أحيانا في السابعة من عمري فحسب – الذي اتهمته. هو المهبول مهوب أنا. يقول إنه استيقظ ذات يوم على صوت أذان أبو صالح فوق المئذنة المجاورة، وكان أيامها ينام في السطح. وحينما نزل رأى أخته لطيفة، ورأى في الضوء الخافت للفجر أن لونا غريبا بدأ ينقع في جلدها. كان يحدق أمامه حينما يقول هذا ويخيل لي أنه يراها أمامه، ثم يروي قصصا عن لطيفة وعلى فمه تكشيرة باردة. يقول إنها في مثل عمر خالي صالح (كان يشبّه الأعمار دائما بأعمار آخرين لأنه لا يعرف كيف يحسب الزمن)، وقد كان عمر خالي صالح 17 سنة حينها (هذا الكلام قبل 15 سنة). يقول إن لطيفة كانت تتقيأ، وعلى جلدها انطبع لون أصفر. ومن هنا تغير كل شيء تقريبا.
لا يهم ماذا كان، المهم أنه وباء، والناس تموت. تعرفون القصص، أكيد، القصص الشهيرة، العوائل التي يجدونها ميتة في بيتها دفعة واحدة، والقبور الكثيرة التي حُفرت لكل تلك الجثث. كلنا يعرف هذا الرعب الورقي والشفهي. يقول إنه خرج بعيدا عن أسوار البلدة، ووقف هناك أمام سفح جبلي يطل على واد مقفر، وقد نحت الجدب المتصحر مجاري الماء المتيبسة فيه مثل الشرايين. كل شيء جاف وقاحل. صخرٌ وحصىً وهضابٌ مدببة تسحب المدى إلى أبعد نقطة تصلها العين، حيث يلمع وترُ رطوبةٍ سرابيٍّ يرتعش ويُغشّي، وفوق هذا كله تبرك شمس أول العصر، مكورة بين قزع سحاب شديد البياض. يقول إن رائحة تأتيه من المزارع، حيث بدأ الناس يتقيحون ويموتون هناك دون أن يفهموا لماذا. ولكنها كانت رائحة رطوبة غريبة منقوعة في ورق الشجر، تُذكّر بالفجر، والبكور، والنقاء المألوف لساعة السَّحَر. يقول إنه سار طويلا في الامتداد الفارغ الأجرد، ترافقه صخور ووهاد وجروف وعقارب وخلاء وفراغ، وتزحف على جلده خطوط عرق وأشعة ضوء. يقول إنه رأى رجلا في الامتداد المجدب وسط الوتر الرطب المرتعش، يلوح بعيدا مثل ظل، وسط ثلاث خيام متناثرة حوله. كان يمسك مسحاة، ويحفر، يرفع ساعديه عاليا، يهبط بهما على الأرض، ويُسمع من بعيد صوت الضربة بعد لحظات، وكأنها تسافر عبر مسافات، وتقطع شعابا وتلالا وجروفا قبل أن تصل أخيرا إلى أذنيه. تك، تك، تك، مكتومة بالتراب والبُعْد. وقف يراقبه تحت الشمس التي تسقط ببطء في الأفق، تلك الحركة المنومة لرجل يرفع المسحاة، تصل إلى أعلى نقطة فوقه، ثم تهبط سريعا على الأرض، وتبقر برأسها التراب. تك تك تك. مرت أكثر من ساعة. كان الرجل قد لحَدَ أربعة حفر، ثم قام بسحب أربعة أجساد، وألقى كل واحدة منها في حفرة. ثم وقف أمامها، وقف فقط، ربما ليلتقط أنفاسه، أو ليحدق فيها في نظرة أخيرة، أو ليصلي، أو ليبصق عليها، ليس واضحا، ومن فوقه تبرد الشمس البرتقالية وراء جبل. يقول إن الرجل بدا وكأنه رفع رأسه، لقد كان بعيدا ولا يمكن أن يحدد هل رفع رأسه أم ماذا، لازال يبدو مثل ظل، ولكنه كان متأكدا أنه رفع رأسه نحوه، وحدق في المسافة كما يحدق هو في المسافة ويراه واقفا مثل ظل في المساحة الجدباء، حيث تختفي الشمس من بعدهما وراء جبل. يقول إنه عرف حينها، عرف كل ما سيحدث.
يقول إن البلدة لم يكن فيها رائحة الموت، وإنما النوم. الجميع في بيوتهم، والجميع بدأ يدرك أنه لم يعد للموت قيمة هنا، وأن أحدا لن يبكي على ميّته، وأن أكثر الناس حظا من مات في أول الأمر، حينما كان للموت قيمة. المكان في الخارج نائم، لا يوحي بالموت، كل شيء مختبئ في غموض أسواره المغلقة، والخارج نائم، مثل جني لا يُرى ولكنك تعلم أنه يختبئ أمامك في الظلام وأنه في أي لحظة سيقفز عليك ولن تكون قادرا على فعل شيء. هكذا كانت البلدة على حد تعبيره، بلدة جن. الصفرة على وجه لطيفة قد تحولت سوادا، وانتقلت إلى الآخرين، وكان كل شيء قد تقرر: سيموتون هنا. ولذا أقفلت الأبواب، وغرقوا في الغموض، والظلام، واستعدوا للجني الذي يربض فيه.
يقول إن والده جاء إليه وجلس بجانبه، وجهه متلون وعلى جلده لزوجة مثل المخاط. تفوح منه رائحة شجر وتراب ونخل، مختلطة برائحة نضج ذكوري لرجل قوي ومتقد. قال له كلاما، لم يخبرني به، يطرق طويلا حينما يروي هذه اللحظة، ثم يصف ظلام السماء الخالية من النجوم فوق الحوش المكشوف وجفاف المكان المتيبس الذي يغلفهما وشعيرات والده الطويلة التي تغطي يده الضخمة الخشنة، ويختم أنه مد ساعده على ظهره وضغطه إليه بقوة ففاحت تلك الرائحة الذكورية العنيفة أكثر، ثم قال له شيئا، ولكنه لا يخبرني به أيضا. تركه بعد لحظات، ورآه يذهب لغرفة الأختين، يقف أمام ضوء يصدر منها وينحت فجوة منيرة في الرواق، ثم يختفي داخلها، ويبقى الضوء في أثره. يصمت طويلا. ثم يكمل بفتور نزق أن الأمر لم يأخذ وقتا طويلا، لقد بدأ مع هزيع الليل. استلقى وقد بدأ يسمعهم في الظلام، ويصف الظلام بأنه مثل الكحل، وكأن أحدا ما سكب لونا أسود في المكان. أصوات تبدو ليست من هنا، مثل شياطين أو آلهة. ليس هم فقط، بل ربما ليس هم، ولكن من كل مكان، أصوات غريبة. لقد كان والده فلاحا، وهو سيكبر ليكون فلاحا، ولكن هذا الأنين الخافت لم يسمعه في حيوان من قبل. يقول إن الأمور تغيرت حينها إلى الأسوء، والنهاية تبدت حتمية.
تسلل من البيت مع مطلع الفجر. يقول إن والدته لازالت تقاوم وتطبب ابنتيها، أما والده فهوى سريعا، تبدلت رائحة النضج الذكوري المتقدة بأخرى تشبه رائحة بغل تعيس يوشك على الهلاك. عاد ليسير في القفر المجدب وراء البلدة، ورمى وراءه المزارع التي لازالت تفوح برائحة السَّحَر والرطوبة النباتية. في البعد المقفر حيث تستقر حفر الغريب الأربعة؛ لم يكن هنالك خيام، لقد اختفت، واختلطت تلك البقعة بالمساحة المجدبة الماحلة ومسحت بذلك أي أثر لمن كان هناك، ورغب في أن يقترب ويحدق في القبور، ولكنه لم يشعر بطاقة كافية لذلك، ورأى شجيرة سدر جامدة في انعدام الريح والنسمة، تقبع هناك وسط القفر، دون أدنى حركة، وكأنها جثة هامدة. يقول إنه بكى هناك، قليلا، ” ما طولت أصيح، شوي بس”، تحت الزرقة المصفرة للبكور، وأحس بالدمع الحار يتيبس على خديه، وهو يحدق في المسافات الشاسعة حوله، حيث لاشيء يتحرك، وحيث يبدو كل شيء متوقفا، مثل جثة هامدة. يروي أنه عاد ليسير في أزقة البلدة صباحا، يسب كل شيء وهو يروي ذلك، البيوت الطينية الصغيرة ونوافذها المسجى بعضها بستائر من القطن مثل اللحد، والسكك التي على حوافها حصى “سبع الحجر” بعد أن هجرها الأطفال الذين ماتوا أو يموتون أو انشغلوا بمن يموت من أهلهم. يسب كل الشيء، الناس والهواء والديرة بأكملها. وعموما هو هكذا، هذه شخصيته، حينما يكره شخصا فإنه يكره كل شيء، يكرهه ويكره أمه وأبوه وقبيلته وجماعته. في مرة من المرات، كنت معه وقد شارف الخامسة والتسعين، ولازال يقود سيارته بذات الجنون واللامبالاة، استفسر منه رجل عند إشارة عن مكان ما، فسأله جدي وقد تعرف على لهجته: أنت من الزلفي؟ فقال الرجل الله الله. هز جدي رأسه بخبث ثم أخذ يعطيه وصفا يوحي بالدقة، شارع كذا وكذا ومحل كذا وكذا وتمر من عند ذاك وذاك وتلف يمينا قبل المحل الفلاني وتواجه تقاطعا تسلك منه يسارا قبل المحل العلاني، والرجل يتابع بانتباه، حتى وصل جدي إلى النقطة الأخيرة: بتوصل لشينكو على يمينك، هاه؟ اذا مشيت جنبه وصار على يمينك، يعني باريته، إذا باريته دق علي وعلمني من يفوز، ثم فحط بالسيارة وترك الزلفاوي في دهشة بينما هو يضحك ويسبه، والسبب أنه تهاوش مع زلفاوي قبل سنوات، فكره أهل الزلفي كلهم. ولذا لك أن تتخيل كيف سيصف هذه البلدة حيث يموت كل شيء أحبه، يصفها وهو يسبها، يسب كل شيء، بحقد وعنف، ويصف بيتهم، الذي يقف عند زاوية بجانب المسجد، ويُطرق لحظة، ثم يصف النوافذ المحفورة في الطين، وهي تلوح معتمة، تستر ما يدور خلفها، نعم مثل لحد، تستر الوحوش الغامضة التي احتلت أجساد أهله. كله من هالديرة، يخبرني، كله منها الله يلعنها.
يقول إنهم بدؤوا بتخيل أشياء وهم يطفحون في عرقهم ومخاطهم وبولهم. كانوا يتبولون على أنفسهم بحسب قوله، كانت ملابسهم السفلية ناقعة بصفرة فاقعة، أبوه وأمه وأختيه، كلهم يتبولون على أنفسهم ولا يحسون، أو أنهم يحسون، لا يعلم. يتخيلون أشياء، يقولون أشياء غريبة. يقول إن والده كان يتلفظ بأشياء عصية على التصديق، أشياء بشعة، أشياء حتى هو الذي سيُتهم على امتداد حياته بالتجديف والدناءة والحقارة يتحرج من قولها. أشياء بشعة فحسب، لها علاقة بفعل أشياء محرمة الذكر بأطفال ونساء بل ودواب. يقول إنه رأى صدر أخته حصة مكشوفا وقد خلعت ملابسها لاواعية بما حولها من بشاعة الحرارة التي كانت تشعر بها وهي تسكب ماء على جسدها، لقد كان أول ثدي يراه في حياته، ورآه في أخته، عليه عرق متملح فوق المسامات الملونة ببقع احمرار ثخينة، يلمع مكورا ومدورا في انعكاس الضوء. يقول إنه رأى أمه تتبرز على نفسها، وإنّ هذا المنظر كان أبشع شيء رآه، لم تبدي خجلها منه، لأنها بحسب قوله لم تكن مدركة لما حولها. القذارة تندلق من فخذيها وتتفزر نحو قدميها سائلة مثل الطين، وهي تئن واقفة إذ كانت تحوال الذهاب للخلاء ثم تهوي مقعية مثل حيوان قبيح. يقول إنه تقيأ وبكى قليلا، ولكنه لم يرغب بالاقتراب منها، لم تكن هي أمه. كان يضحك أحيانا ويقول إنه فكر بالهرب، ولكن أين سيهرب؟ ذهب إلى بيت عمه في آخر البلدة فوجدهم أمواتا، وثلاثة أشخاص قد فتحوا الباب وهم يحوقلون ويحاولون إخراجهم. يسألون فيما بينهم وهو يقف خلفهم عمن من يعرف أقاربهم، فيصمت دون أن يقول شيئا، ويرى على أوجه الأشخاص الثلاثة اصفرارا ولزوجة حارقة، ويعلم أن الدور ربما سيمر عليهم قريبا، ولكنه يصمت ويحدق في جثة عمه وأبناء وبنات عمه داخل البيت المعتم. يقول إنه كان يعرف الموت، ليس غبيا، لقد شاهد أخته الصغيرة والجدري يقتلها ببطء قبل كم سنة، تموت أمامهم وفقاعاتٌ متقرحة تنحت وجهها الصغير الجميل وتجعله مثل صخرة نبتت لها ملامح إنسانية مشوهة. ولكن هذا شيء آخر. يبدأ بوصف أشياء غريبة، لا تمت لعوارض المرض، لا الطاعون ولا إنفلونزا الخنازير. يقول إن قروحا بدأت تظهر على أجسادهم، قروح تتقيح بصديد أصفر. ويقول إنهم يصرخون أحيانا، يصرخون صرخة ليست إنسية أو حيوانية، وإن هذه الصرخة تضرب نخاع عظمه فينتفض وتطير كل فكرة من عقله ولا يبقى إلا الذعر الخالص وسط الظلام. يقول إنه يستلقي في الظلام ويغلق عينيه بقوة، ويبدأ بملاحظة ألوان متكهربة في انعدام الرؤية الأسود، تختلط في بعضها بطريقة جنونية ثم فجأة تتكون منها صورة شنيعة لوجه مخيف أو جني مرعب فيفتح بفزع عينيه ولكنّ مزيدا من الظلمة يلحقه هناك تحت السماء الخالية من النجوم فيقفز ليتحرك فقط ولكنه يسمع أنينهم اللاإنسي ويرى والده يحاول المشي على قدميه وهو يترنح مثل وحش كسير. يقول إن الروائح لا توصف. روائح البراز والبول والمخاط والتقرح التي تتفرع في كل شق من البيت وتنطبع ثقيلة ولزجة ومتمططة على الجدارن وأسطح الأشياء، حتى أنه أحس بعدم قدرته على التنفس، وأحس بطعم البراز والقيء يخترق حلقه وينطبع بطعم شديد البشاعة في لسانه، لدرجة أنه سقط وهو يحاول الخروج من المنزل، وظن أنها النهاية وأنه سيموت مثلهم في اللحظة التي أظلمت عيناه فيها. ولم يفق إلا بعد ساعات. وهنا تنتهي القصة عدى القفلة. أبي يقول – نقلا عن شيبان لحق عليهم – إنهم دخلوا البيت بعد زمن، فضربتهم رائحة الموت والتفسخ والفضلات والتحلل، ولكنها لم تكن غريبة عليهم، فكل المدينة كانت هكذا كما يقولون، ووجدوا الجميع ميتا عداه، فحملوه وهو يحدق فيهم مشدوها ولا يبدو أنه يعرف أحدا أو أي شيء يراه. أما هو فيقول شيئا مختلفا، ويقسم بذلك، ويعدني وأنا في الثانية عشرة أن يأتي بشاهد يقال له أبو سعد ليخبر الحقيقة. يقول إنه حينما أفاق وتأكد من نجاته، رغم أنه كان ضعيفا جدا، “لكني دريت اني منيب ميت” على حد قوله، قام بغسل جثث عائلته الأربعة، ثم جرهم واحدا واحدا عند المدخل ووضعهم على بطانية وغطاهم بأخرى، ثم استجمع كل قوته ليجرها ثلاث خطوات من الباب إلى الخارج. لم يكن يعرف ما الوقت، ولكنه قدّر أنه الظهر. كانت السكة فاضية، ووقف ينتظر حتى مر به رجل، أبو سعد ما غيره، رفع يده له وطلب منه أن يساعده، ولكن الرجل ألقى نظرة على البطانية من بعيد وسأله: أهلك؟ فرد: إيه. فأطرق الرجل قليلا وقال: ما اقدر الحين، بروح أصلي على أخوي وبناته، أجيك وأجيب معي جماعة وأنا راجع. فهز رأسه موافقا وقال بنتظرك. وجلس بجانب البطانية التي تحمل الجثث المتكومة، ينتظر في الظهيرة.
عُـمّر ليعيش بعد ذلك قرابة 100 عام. إذا قالوا له في جملة ظرفية: الله يطول بعمرك، يرد جادا: ما يحتاج منيب ميت، الموت ما يدري وين يودي وجهه مني، خذ أهلي كلهم وعجز عني ما يسطي يوريني وجهه. وحينما قال له مسن من نفس البلدة زاره بعد غياب سنوات ذات يوم: تسننا متنا ذيك الايام ورجعنا يا. هزئ به وقال: أنت اللي مت، ما علي منك، أنا إذا مت منيب ميت إلا مرةٍ وحدة. ولأنه ابن فلاح، فقد عاش فلاحا، ولم يعرف شيئا غير الفلاحة. لحق على ما قبل النفط، وعاش أغلب عمره يتيما وفقيرا ومعدما. لازال يظن أن الفقر ينتظره عند الناصية ليقفز عليه ويقول “صدقت نفسك يا”. لا يؤمن بشيء غير الأدوية والسيارات، لا يؤمن بالمدنيات أو التعليب أو الناطحات أو الصناعات، يؤمن فقط بالسيارات التي لف بها شبه الجزيرة كلها فور دخولها المملكة من الساحل إلى الساحل ومن تلال دوقرة إلى صحراء الأحقاف، والأدوية والعلاجات التي تجسد الفكرة الإعجازية لإبرة تداوي وكبسولة تعالج كل شيء. ولذا لازال يظن أن في الموضوع خدعة ما، وأن أحدا لعينا منيوكا ابن كلب سوف يغلق “الزر” ذات يوم وستنتهي هذه المسرحية المريبة بأكملها وهو يضحك عليهم وسيكون عاجزا عن علاج نفسه وسيموت مثل كلب كما مات أبوه وأمه وأخواته الثلاثة. يقول دائما إن حربا ستقوم، لأنه لازال مقتنعا أن الحياة بئر ماء – بطريقة أو بأخرى – وأن الناس سوف يتقاتلون عليه. يعالج بهوس قدمه المتورمة بفعل الروماتيزم، لأنه لازال مقتنعا أنه سيحتاجها ليهرب ذات يوم وأنه لن يخدمه شيءٌ مثل نفسه. يخبئ كفنا في دالوب غرفته، كما يفعل كثيرون في مثل عمره على حد زعمه، ويشير إلى أنه من أهم ما يملك لأن الموت لا ينسق موعدا معك. يقول إنه لا يثق في حب الأمهات، لأنه شاهد في طفولته أما تقتل شخصا عابرا بقريتها وتسرق ما يملك لتطعم أطفالها. يصلي ويصوم ويزكي ويحج، لأن شيخا قال له “وش أنت خسران يا؟ اذا صح جنة، واذا لا كل اللي خسرته وقت وقرشين”. سمع طفلا يقول إن في الهند مليارا ونصف شخص، وجلس يومين يحاول فهم المليار، وحينما فهمه همس “وجع!!”، وقال إنها حتما المكان الذي يذهب إليه الموتى والمنسيون منذ بدء الخليقة، وإنه سيجد هناك أمه وأخته الصغيرة التي قتلها الجدري. يقول إنه تغدى بأناس كثر لأنه ظن فقط أنهم سيتعشون به، وإن أناسا آخرين سيتغدون به لأنهم يظنون فقط أنه يخطط أن يتعشى بهم. مات الرجل، قبل أشهر. بأناة على فراشه، وقبل انتهاء المسرحية، وفي جيبه خمسة أصفار بجانب الواحد، وفي هدوء فجر اثنيني آمن، وقبل أن يتغدى به أحد. مات وهو ينتظر، ولكن شيئا لم يحدث. وأيضا، لم يذهب للهند، ولم يرى أمه وأخته الصغيرة التي قتلها الجدري. دفن في مقبرة بجانب مسلخ. وسيظل هناك.
اليوم فقط، علمت أن محلا لبيع الهدايا سوف يفتتح في المكان الذي كان عليه بيت والد جدي. لقد هدمه جدي بمعول مثل المجنون كما يقال، ثم جلست الأرض فارغة، ثم بنى مسجدا فيها، ثم هدمه في واقعة أثارت جدلا كبيرا وكادت أن تؤدي به إلى أن يسجن في الإمارة. وعموما لجدي قصص شاطحة كثيرة، وهو كان رجلا فيه نزعة جنون نسبيا، ولا أحد يلومه. المهم، كان صغيرا حينها، لا يعرف عمره تحديدا، ولكن لنقل أنه في حدود العاشرة حينما حدث ما حدث. كان لديه أختان. أمه وأبوه على قيد الحياة حينها. لقد سمعتُ القصة عشرات المرات، أكثرها كانت في السر، حينما كنا لوحدنا أنا وهو. كان يصرخ عاليا أحيانا، وأحيانا يمنتج القصة بالصمت الطويل، وأحيانا يرويها بشكل حيادي وكأنها قصة الجني الذي ظهر له في وادي حنيفة. ولكنه لم يبكي ولو مرة. كان يقول إن رائحة غريبة بدأت تنتشر في المدينة حينها، رائحة عفن وتفسخ. صارت جلود الناس تتغير، تزرقّ وتصفرّ وتسودّ. ثم بدؤوا يتساقطون. يقول إن الموت شيء لا تخاف منه، فهو يحدث لك وتنتهي، ولكن ماذا لو كنت ميتا وأنت لم تمت بعد؟ ثم يقول هاه ويتطلع فيني مستفسرا بعينيه الممزوزتين الثاقبتين، فأهز كتفي بحدة وأقول وأنا وش يدريني، فيكشر في وجهي وينزرني أنت الحين رجال لازم تفهم. ولكنني لم أفهم، ما الذي يعنيه أن تكون ميتا وأنت لم تمت بعد. على أية حال. يقول إن أباه هو المجنون الحقيقي، مهوب أنا، ويقولها وهو يرفع سبابته في وجهي وكأنني أنا – وقد كنت أحيانا في السابعة من عمري فحسب – الذي اتهمته. هو المهبول مهوب أنا. يقول إنه استيقظ ذات يوم على صوت أذان أبو صالح فوق المئذنة المجاورة، وكان أيامها ينام في السطح. وحينما نزل رأى أخته لطيفة، ورأى في الضوء الخافت للفجر أن لونا غريبا بدأ ينقع في جلدها. كان يحدق أمامه حينما يقول هذا ويخيل لي أنه يراها أمامه، ثم يروي قصصا عن لطيفة وعلى فمه تكشيرة باردة. يقول إنها في مثل عمر خالي صالح (كان يشبّه الأعمار دائما بأعمار آخرين لأنه لا يعرف كيف يحسب الزمن)، وقد كان عمر خالي صالح 17 سنة حينها (هذا الكلام قبل 15 سنة). يقول إن لطيفة كانت تتقيأ، وعلى جلدها انطبع لون أصفر. ومن هنا تغير كل شيء تقريبا.
لا يهم ماذا كان، المهم أنه وباء، والناس تموت. تعرفون القصص، أكيد، القصص الشهيرة، العوائل التي يجدونها ميتة في بيتها دفعة واحدة، والقبور الكثيرة التي حُفرت لكل تلك الجثث. كلنا يعرف هذا الرعب الورقي والشفهي. يقول إنه خرج بعيدا عن أسوار البلدة، ووقف هناك أمام سفح جبلي يطل على واد مقفر، وقد نحت الجدب المتصحر مجاري الماء المتيبسة فيه مثل الشرايين. كل شيء جاف وقاحل. صخرٌ وحصىً وهضابٌ مدببة تسحب المدى إلى أبعد نقطة تصلها العين، حيث يلمع وترُ رطوبةٍ سرابيٍّ يرتعش ويُغشّي، وفوق هذا كله تبرك شمس أول العصر، مكورة بين قزع سحاب شديد البياض. يقول إن رائحة تأتيه من المزارع، حيث بدأ الناس يتقيحون ويموتون هناك دون أن يفهموا لماذا. ولكنها كانت رائحة رطوبة غريبة منقوعة في ورق الشجر، تُذكّر بالفجر، والبكور، والنقاء المألوف لساعة السَّحَر. يقول إنه سار طويلا في الامتداد الفارغ الأجرد، ترافقه صخور ووهاد وجروف وعقارب وخلاء وفراغ، وتزحف على جلده خطوط عرق وأشعة ضوء. يقول إنه رأى رجلا في الامتداد المجدب وسط الوتر الرطب المرتعش، يلوح بعيدا مثل ظل، وسط ثلاث خيام متناثرة حوله. كان يمسك مسحاة، ويحفر، يرفع ساعديه عاليا، يهبط بهما على الأرض، ويُسمع من بعيد صوت الضربة بعد لحظات، وكأنها تسافر عبر مسافات، وتقطع شعابا وتلالا وجروفا قبل أن تصل أخيرا إلى أذنيه. تك، تك، تك، مكتومة بالتراب والبُعْد. وقف يراقبه تحت الشمس التي تسقط ببطء في الأفق، تلك الحركة المنومة لرجل يرفع المسحاة، تصل إلى أعلى نقطة فوقه، ثم تهبط سريعا على الأرض، وتبقر برأسها التراب. تك تك تك. مرت أكثر من ساعة. كان الرجل قد لحَدَ أربعة حفر، ثم قام بسحب أربعة أجساد، وألقى كل واحدة منها في حفرة. ثم وقف أمامها، وقف فقط، ربما ليلتقط أنفاسه، أو ليحدق فيها في نظرة أخيرة، أو ليصلي، أو ليبصق عليها، ليس واضحا، ومن فوقه تبرد الشمس البرتقالية وراء جبل. يقول إن الرجل بدا وكأنه رفع رأسه، لقد كان بعيدا ولا يمكن أن يحدد هل رفع رأسه أم ماذا، لازال يبدو مثل ظل، ولكنه كان متأكدا أنه رفع رأسه نحوه، وحدق في المسافة كما يحدق هو في المسافة ويراه واقفا مثل ظل في المساحة الجدباء، حيث تختفي الشمس من بعدهما وراء جبل. يقول إنه عرف حينها، عرف كل ما سيحدث.
يقول إن البلدة لم يكن فيها رائحة الموت، وإنما النوم. الجميع في بيوتهم، والجميع بدأ يدرك أنه لم يعد للموت قيمة هنا، وأن أحدا لن يبكي على ميّته، وأن أكثر الناس حظا من مات في أول الأمر، حينما كان للموت قيمة. المكان في الخارج نائم، لا يوحي بالموت، كل شيء مختبئ في غموض أسواره المغلقة، والخارج نائم، مثل جني لا يُرى ولكنك تعلم أنه يختبئ أمامك في الظلام وأنه في أي لحظة سيقفز عليك ولن تكون قادرا على فعل شيء. هكذا كانت البلدة على حد تعبيره، بلدة جن. الصفرة على وجه لطيفة قد تحولت سوادا، وانتقلت إلى الآخرين، وكان كل شيء قد تقرر: سيموتون هنا. ولذا أقفلت الأبواب، وغرقوا في الغموض، والظلام، واستعدوا للجني الذي يربض فيه.
يقول إن والده جاء إليه وجلس بجانبه، وجهه متلون وعلى جلده لزوجة مثل المخاط. تفوح منه رائحة شجر وتراب ونخل، مختلطة برائحة نضج ذكوري لرجل قوي ومتقد. قال له كلاما، لم يخبرني به، يطرق طويلا حينما يروي هذه اللحظة، ثم يصف ظلام السماء الخالية من النجوم فوق الحوش المكشوف وجفاف المكان المتيبس الذي يغلفهما وشعيرات والده الطويلة التي تغطي يده الضخمة الخشنة، ويختم أنه مد ساعده على ظهره وضغطه إليه بقوة ففاحت تلك الرائحة الذكورية العنيفة أكثر، ثم قال له شيئا، ولكنه لا يخبرني به أيضا. تركه بعد لحظات، ورآه يذهب لغرفة الأختين، يقف أمام ضوء يصدر منها وينحت فجوة منيرة في الرواق، ثم يختفي داخلها، ويبقى الضوء في أثره. يصمت طويلا. ثم يكمل بفتور نزق أن الأمر لم يأخذ وقتا طويلا، لقد بدأ مع هزيع الليل. استلقى وقد بدأ يسمعهم في الظلام، ويصف الظلام بأنه مثل الكحل، وكأن أحدا ما سكب لونا أسود في المكان. أصوات تبدو ليست من هنا، مثل شياطين أو آلهة. ليس هم فقط، بل ربما ليس هم، ولكن من كل مكان، أصوات غريبة. لقد كان والده فلاحا، وهو سيكبر ليكون فلاحا، ولكن هذا الأنين الخافت لم يسمعه في حيوان من قبل. يقول إن الأمور تغيرت حينها إلى الأسوء، والنهاية تبدت حتمية.
تسلل من البيت مع مطلع الفجر. يقول إن والدته لازالت تقاوم وتطبب ابنتيها، أما والده فهوى سريعا، تبدلت رائحة النضج الذكوري المتقدة بأخرى تشبه رائحة بغل تعيس يوشك على الهلاك. عاد ليسير في القفر المجدب وراء البلدة، ورمى وراءه المزارع التي لازالت تفوح برائحة السَّحَر والرطوبة النباتية. في البعد المقفر حيث تستقر حفر الغريب الأربعة؛ لم يكن هنالك خيام، لقد اختفت، واختلطت تلك البقعة بالمساحة المجدبة الماحلة ومسحت بذلك أي أثر لمن كان هناك، ورغب في أن يقترب ويحدق في القبور، ولكنه لم يشعر بطاقة كافية لذلك، ورأى شجيرة سدر جامدة في انعدام الريح والنسمة، تقبع هناك وسط القفر، دون أدنى حركة، وكأنها جثة هامدة. يقول إنه بكى هناك، قليلا، ” ما طولت أصيح، شوي بس”، تحت الزرقة المصفرة للبكور، وأحس بالدمع الحار يتيبس على خديه، وهو يحدق في المسافات الشاسعة حوله، حيث لاشيء يتحرك، وحيث يبدو كل شيء متوقفا، مثل جثة هامدة. يروي أنه عاد ليسير في أزقة البلدة صباحا، يسب كل شيء وهو يروي ذلك، البيوت الطينية الصغيرة ونوافذها المسجى بعضها بستائر من القطن مثل اللحد، والسكك التي على حوافها حصى “سبع الحجر” بعد أن هجرها الأطفال الذين ماتوا أو يموتون أو انشغلوا بمن يموت من أهلهم. يسب كل الشيء، الناس والهواء والديرة بأكملها. وعموما هو هكذا، هذه شخصيته، حينما يكره شخصا فإنه يكره كل شيء، يكرهه ويكره أمه وأبوه وقبيلته وجماعته. في مرة من المرات، كنت معه وقد شارف الخامسة والتسعين، ولازال يقود سيارته بذات الجنون واللامبالاة، استفسر منه رجل عند إشارة عن مكان ما، فسأله جدي وقد تعرف على لهجته: أنت من الزلفي؟ فقال الرجل الله الله. هز جدي رأسه بخبث ثم أخذ يعطيه وصفا يوحي بالدقة، شارع كذا وكذا ومحل كذا وكذا وتمر من عند ذاك وذاك وتلف يمينا قبل المحل الفلاني وتواجه تقاطعا تسلك منه يسارا قبل المحل العلاني، والرجل يتابع بانتباه، حتى وصل جدي إلى النقطة الأخيرة: بتوصل لشينكو على يمينك، هاه؟ اذا مشيت جنبه وصار على يمينك، يعني باريته، إذا باريته دق علي وعلمني من يفوز، ثم فحط بالسيارة وترك الزلفاوي في دهشة بينما هو يضحك ويسبه، والسبب أنه تهاوش مع زلفاوي قبل سنوات، فكره أهل الزلفي كلهم. ولذا لك أن تتخيل كيف سيصف هذه البلدة حيث يموت كل شيء أحبه، يصفها وهو يسبها، يسب كل شيء، بحقد وعنف، ويصف بيتهم، الذي يقف عند زاوية بجانب المسجد، ويُطرق لحظة، ثم يصف النوافذ المحفورة في الطين، وهي تلوح معتمة، تستر ما يدور خلفها، نعم مثل لحد، تستر الوحوش الغامضة التي احتلت أجساد أهله. كله من هالديرة، يخبرني، كله منها الله يلعنها.
يقول إنهم بدؤوا بتخيل أشياء وهم يطفحون في عرقهم ومخاطهم وبولهم. كانوا يتبولون على أنفسهم بحسب قوله، كانت ملابسهم السفلية ناقعة بصفرة فاقعة، أبوه وأمه وأختيه، كلهم يتبولون على أنفسهم ولا يحسون، أو أنهم يحسون، لا يعلم. يتخيلون أشياء، يقولون أشياء غريبة. يقول إن والده كان يتلفظ بأشياء عصية على التصديق، أشياء بشعة، أشياء حتى هو الذي سيُتهم على امتداد حياته بالتجديف والدناءة والحقارة يتحرج من قولها. أشياء بشعة فحسب، لها علاقة بفعل أشياء محرمة الذكر بأطفال ونساء بل ودواب. يقول إنه رأى صدر أخته حصة مكشوفا وقد خلعت ملابسها لاواعية بما حولها من بشاعة الحرارة التي كانت تشعر بها وهي تسكب ماء على جسدها، لقد كان أول ثدي يراه في حياته، ورآه في أخته، عليه عرق متملح فوق المسامات الملونة ببقع احمرار ثخينة، يلمع مكورا ومدورا في انعكاس الضوء. يقول إنه رأى أمه تتبرز على نفسها، وإنّ هذا المنظر كان أبشع شيء رآه، لم تبدي خجلها منه، لأنها بحسب قوله لم تكن مدركة لما حولها. القذارة تندلق من فخذيها وتتفزر نحو قدميها سائلة مثل الطين، وهي تئن واقفة إذ كانت تحوال الذهاب للخلاء ثم تهوي مقعية مثل حيوان قبيح. يقول إنه تقيأ وبكى قليلا، ولكنه لم يرغب بالاقتراب منها، لم تكن هي أمه. كان يضحك أحيانا ويقول إنه فكر بالهرب، ولكن أين سيهرب؟ ذهب إلى بيت عمه في آخر البلدة فوجدهم أمواتا، وثلاثة أشخاص قد فتحوا الباب وهم يحوقلون ويحاولون إخراجهم. يسألون فيما بينهم وهو يقف خلفهم عمن من يعرف أقاربهم، فيصمت دون أن يقول شيئا، ويرى على أوجه الأشخاص الثلاثة اصفرارا ولزوجة حارقة، ويعلم أن الدور ربما سيمر عليهم قريبا، ولكنه يصمت ويحدق في جثة عمه وأبناء وبنات عمه داخل البيت المعتم. يقول إنه كان يعرف الموت، ليس غبيا، لقد شاهد أخته الصغيرة والجدري يقتلها ببطء قبل كم سنة، تموت أمامهم وفقاعاتٌ متقرحة تنحت وجهها الصغير الجميل وتجعله مثل صخرة نبتت لها ملامح إنسانية مشوهة. ولكن هذا شيء آخر. يبدأ بوصف أشياء غريبة، لا تمت لعوارض المرض، لا الطاعون ولا إنفلونزا الخنازير. يقول إن قروحا بدأت تظهر على أجسادهم، قروح تتقيح بصديد أصفر. ويقول إنهم يصرخون أحيانا، يصرخون صرخة ليست إنسية أو حيوانية، وإن هذه الصرخة تضرب نخاع عظمه فينتفض وتطير كل فكرة من عقله ولا يبقى إلا الذعر الخالص وسط الظلام. يقول إنه يستلقي في الظلام ويغلق عينيه بقوة، ويبدأ بملاحظة ألوان متكهربة في انعدام الرؤية الأسود، تختلط في بعضها بطريقة جنونية ثم فجأة تتكون منها صورة شنيعة لوجه مخيف أو جني مرعب فيفتح بفزع عينيه ولكنّ مزيدا من الظلمة يلحقه هناك تحت السماء الخالية من النجوم فيقفز ليتحرك فقط ولكنه يسمع أنينهم اللاإنسي ويرى والده يحاول المشي على قدميه وهو يترنح مثل وحش كسير. يقول إن الروائح لا توصف. روائح البراز والبول والمخاط والتقرح التي تتفرع في كل شق من البيت وتنطبع ثقيلة ولزجة ومتمططة على الجدارن وأسطح الأشياء، حتى أنه أحس بعدم قدرته على التنفس، وأحس بطعم البراز والقيء يخترق حلقه وينطبع بطعم شديد البشاعة في لسانه، لدرجة أنه سقط وهو يحاول الخروج من المنزل، وظن أنها النهاية وأنه سيموت مثلهم في اللحظة التي أظلمت عيناه فيها. ولم يفق إلا بعد ساعات. وهنا تنتهي القصة عدى القفلة. أبي يقول – نقلا عن شيبان لحق عليهم – إنهم دخلوا البيت بعد زمن، فضربتهم رائحة الموت والتفسخ والفضلات والتحلل، ولكنها لم تكن غريبة عليهم، فكل المدينة كانت هكذا كما يقولون، ووجدوا الجميع ميتا عداه، فحملوه وهو يحدق فيهم مشدوها ولا يبدو أنه يعرف أحدا أو أي شيء يراه. أما هو فيقول شيئا مختلفا، ويقسم بذلك، ويعدني وأنا في الثانية عشرة أن يأتي بشاهد يقال له أبو سعد ليخبر الحقيقة. يقول إنه حينما أفاق وتأكد من نجاته، رغم أنه كان ضعيفا جدا، “لكني دريت اني منيب ميت” على حد قوله، قام بغسل جثث عائلته الأربعة، ثم جرهم واحدا واحدا عند المدخل ووضعهم على بطانية وغطاهم بأخرى، ثم استجمع كل قوته ليجرها ثلاث خطوات من الباب إلى الخارج. لم يكن يعرف ما الوقت، ولكنه قدّر أنه الظهر. كانت السكة فاضية، ووقف ينتظر حتى مر به رجل، أبو سعد ما غيره، رفع يده له وطلب منه أن يساعده، ولكن الرجل ألقى نظرة على البطانية من بعيد وسأله: أهلك؟ فرد: إيه. فأطرق الرجل قليلا وقال: ما اقدر الحين، بروح أصلي على أخوي وبناته، أجيك وأجيب معي جماعة وأنا راجع. فهز رأسه موافقا وقال بنتظرك. وجلس بجانب البطانية التي تحمل الجثث المتكومة، ينتظر في الظهيرة.
عُـمّر ليعيش بعد ذلك قرابة 100 عام. إذا قالوا له في جملة ظرفية: الله يطول بعمرك، يرد جادا: ما يحتاج منيب ميت، الموت ما يدري وين يودي وجهه مني، خذ أهلي كلهم وعجز عني ما يسطي يوريني وجهه. وحينما قال له مسن من نفس البلدة زاره بعد غياب سنوات ذات يوم: تسننا متنا ذيك الايام ورجعنا يا. هزئ به وقال: أنت اللي مت، ما علي منك، أنا إذا مت منيب ميت إلا مرةٍ وحدة. ولأنه ابن فلاح، فقد عاش فلاحا، ولم يعرف شيئا غير الفلاحة. لحق على ما قبل النفط، وعاش أغلب عمره يتيما وفقيرا ومعدما. لازال يظن أن الفقر ينتظره عند الناصية ليقفز عليه ويقول “صدقت نفسك يا”. لا يؤمن بشيء غير الأدوية والسيارات، لا يؤمن بالمدنيات أو التعليب أو الناطحات أو الصناعات، يؤمن فقط بالسيارات التي لف بها شبه الجزيرة كلها فور دخولها المملكة من الساحل إلى الساحل ومن تلال دوقرة إلى صحراء الأحقاف، والأدوية والعلاجات التي تجسد الفكرة الإعجازية لإبرة تداوي وكبسولة تعالج كل شيء. ولذا لازال يظن أن في الموضوع خدعة ما، وأن أحدا لعينا منيوكا ابن كلب سوف يغلق “الزر” ذات يوم وستنتهي هذه المسرحية المريبة بأكملها وهو يضحك عليهم وسيكون عاجزا عن علاج نفسه وسيموت مثل كلب كما مات أبوه وأمه وأخواته الثلاثة. يقول دائما إن حربا ستقوم، لأنه لازال مقتنعا أن الحياة بئر ماء – بطريقة أو بأخرى – وأن الناس سوف يتقاتلون عليه. يعالج بهوس قدمه المتورمة بفعل الروماتيزم، لأنه لازال مقتنعا أنه سيحتاجها ليهرب ذات يوم وأنه لن يخدمه شيءٌ مثل نفسه. يخبئ كفنا في دالوب غرفته، كما يفعل كثيرون في مثل عمره على حد زعمه، ويشير إلى أنه من أهم ما يملك لأن الموت لا ينسق موعدا معك. يقول إنه لا يثق في حب الأمهات، لأنه شاهد في طفولته أما تقتل شخصا عابرا بقريتها وتسرق ما يملك لتطعم أطفالها. يصلي ويصوم ويزكي ويحج، لأن شيخا قال له “وش أنت خسران يا؟ اذا صح جنة، واذا لا كل اللي خسرته وقت وقرشين”. سمع طفلا يقول إن في الهند مليارا ونصف شخص، وجلس يومين يحاول فهم المليار، وحينما فهمه همس “وجع!!”، وقال إنها حتما المكان الذي يذهب إليه الموتى والمنسيون منذ بدء الخليقة، وإنه سيجد هناك أمه وأخته الصغيرة التي قتلها الجدري. يقول إنه تغدى بأناس كثر لأنه ظن فقط أنهم سيتعشون به، وإن أناسا آخرين سيتغدون به لأنهم يظنون فقط أنه يخطط أن يتعشى بهم. مات الرجل، قبل أشهر. بأناة على فراشه، وقبل انتهاء المسرحية، وفي جيبه خمسة أصفار بجانب الواحد، وفي هدوء فجر اثنيني آمن، وقبل أن يتغدى به أحد. مات وهو ينتظر، ولكن شيئا لم يحدث. وأيضا، لم يذهب للهند، ولم يرى أمه وأخته الصغيرة التي قتلها الجدري. دفن في مقبرة بجانب مسلخ. وسيظل هناك.