إنه رجل شبه مجهول تقريبا، يرد ذكره بأسماء مختلفة لا مرجعية لها عدا مرجعيتها الجغرافية، إذ تتفق المرويات على أنه ابن زنا لم يُعرف له أب، وأنه قاطع طريق في جبال ألبرز على امتداد خراسان وفارس، حارب مع وضد الغزنويين والسلاجقة والخاقانيين والبويهيين في آن واحد. تتشابك سيرته التي يشترك في روايتها أكثر من مصدر بأسماء مختلفة وإحالات متداخلة وتواريخ كرونولوجية متناقضة كما هو متوقع من شخصية هامشية غير مؤثرة، حرصتُ على تتبعها وإكمال ما لحق بها من نقص بافتراضات تاريخية لن تخلو حتما من الخطأ والخرص أو حتى المبالغة.
حينما قرر السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي غزو كشمير، ما بين عامي 407-409، والتي ظلت متعذرة لسنوات بسبب برودتها ووعورتها، خرج بجيش كبير من عاصمته غزنة يخترق جبالا وعرة وسهولا موحلة بادرهم فيها الشتاء متقدما عن وقته، في رحلة أسهب في وصفها الرحالة ابن النقاش الخوارزمي. سهولٌ فسيحة بنتانة مطر متأسن ينقع في العشب والطين. رياحٌ باردة تكلح سمرتَها في مسامات الأوجه المتيبسة. ثم ثلوجٌ سدت منافذ الجبال وسوَّت بين الأباطح والتلال. آلاف من البشر يملؤون السهوب الثلجية ويقطعون الوديان والأنهار الجليدية ويصّعدون في ممرات الجبال البيضاء مثل الذر. ولكن لاشيء يفوق غبش السديم الذي تُحدثه نُدف الثلج الصغيرة، حينما تواصل الهطول لأيام برتابة وهدوء، تُـضبب الأبعاد وتُعلّق الإحساس بالمكان والزمان، الصنوبر والقُـنن والمنحدرات والهضاب، الشمس والقمر والنجوم وتمايز الضوء والظل، كلها تظهر وأنت تخترق فقاعة هذا السديم على هيئةِ حوافٍ مرسومة. أحدهم عربيٌ طائي من العراق كاد أن يُجن، اقتنع أنه يسير عالقا في حلم كما يقول صاحبه، صورةٌ منحوتة في المدى الدخاني تكرر نفسها بلا نهاية. بعد مدة من الترحال، زمرةٌ من الجنود المستنزفين، لا يتجاوز عددهم ستة تقريبا، ضاعت أسماؤهم في التاريخ ولم يُعرف عنهم إلا أنهم كانوا صعاليك من أماكن متفرقة في جبال الديلم والجوزجان، سرقوا طعاما وعتادا وهربوا من الجيش. ضلوا الطريق أسابيع عديدة، البراري الحصوية وقد تآكل البياض فوقها مثل بثور على جلد، الضباب الذي يبدو وكأنه بَرَك بالسماء قريبا من الأرض، الأدغال والمفازات والجبال والأهوار، يقتحمون رساتيق وقرى ومدنا على امتداد خراسان، يسرقون ويغتصبون ويمضون إلى غاية لم تحدد. حتى وصلوا بعد سنة تقريبا إلى حواف مدينة أستراباذ في جرجان آخر الخريف. ثمة بيت طيني منعزل على طرف مزرعة قمح مجزوز، قريبا من دسكرة صغيرة، يعيش فيه شيخ مسن وثلاث بنات. الصعاليك الأربعة – حيث نقص اثنان منهم كما يبدو – وزعوا أنفسهم بعشوائية تبادلية بين الفتيات. ضربوا الشيخ ورموه خلف البيت تحت المطر. نضجت عربدتهم في الليل أكثر، شربوا الخمر كله، أدخلوا الشيخ الذي كان بين الموت والحياة، وضعوا مصحفا على جبينه وأخذوا يقرؤون آيات محرفة ويخلطون بينها وبين قصائد صعلكة في حفلة تأبين معربدة. يغتصبون الفتيات في الصالة التي تطفح بلزوجة المطر النتن، حيث الأب المسجى بالمصحف على وجهه، وحيث الآخرون يغنون ويرقصون ويتقيؤون. حينما خرجت العصابة بعد أيام، كانت قد خلفت وراءها ميتين، الأب والابنة الصغرى، وأخرى كانت حاملا، هي والدة قتادة، والثالثة بعين يمنى مسمولة بالنار، قتلت نفسها بعد ذلك بأيام.
فترة طفولته فجوة مغيبة تماما. فلا مصادر تؤكد ما الذي حدث بالضبط. سنراه لاحقا، في السابعة عشرة من عمره، ينتسب إلى عصابةِ أحداثٍ صغيرة في جبال ألبرز عند الديلم، يُذكر أنه هرب من بيت لم يُحدَّد وهو في الحادية عشرة من عمره. سنجد قبل ذلك أنه عمل فور هربه صبيا في متجر أقمشة في بكراباذ، كان يسرق عدة شُـقّات من الأبريسم والقطن ويبيعها بعيدا عن السوق، إلى أن قبض عليه صاحب المحل وطرده. سنجده في الطريق إلى بوشنج بجانب نيسابور، يقطع السهول السهبية المرقعة بحشائش العشب وأشجار السنديان، يمر بمَـزارع صغيرة تبرز في واجهتها أشكالٌ ظلية بشرية في خلفية الغسق المتباطئ، مستنزفة ومحدودبة تغطيها رثاثة غليظة وهي تحرث وتحفر، حتى صادفه شيخ عطف على منظر الصبي الذي يمشي وحيدا في الصيف الحارق، فعرض أن يُركبه معه، وحينما باتا الليلة تحت شجرة تين كبيرة أخذ يخبره أنه ترك للتو العمل عسكردارا (ناقل بريد) في ديوان بلخ عند أبي عبد الله الفارسي، وأنه اعتاد على حياة الطرق حتى صار يستثقل المدن، يبدد أيام تقاعده وهو يضرب الأرض من مكان إلى آخر. يقول الشيخ أن الفتى كان يجلس بصمت متجهم وهو يحدق، وكأنه ينتظر حدوث شيء ما، وحينما أفاق في الصباح لم يجده ولم يجد الخيل، سار نصف فرسخ في اتجاه الأثر فوجد الخيل ميتا وقد انكسرت رقبته داخل خندق صغير، وبجانبه فردة حذاء ممزقة، ولا أثر للصبي. ثم سنجده أبعد في نَسا يعيش فيما بدا مع شيخ سكير مشهور في المدينة يدعى عباس، متسول يلوح دائما وكأنه بُني مع أساسات المدينة، كنت تراهما حسب شهادة صانعة تجوب البيوت وهما يجران أسمالهما البالية في أزقة نسا، التناقض والتشابه الحاد بين طفل دميم نحيل وجائع وشيخ دميم نحيل وجائع. نفقد خيطه هنا، وأغلب الظن أن عباس قد مات في مثل ذلك الوقت، حيث انقطعت أخباره. ثم نجد قتادة في أبيورد، يعمل مساعدا لشاعر مُـكْدٍ يدّعي الصوفية ويزعم أنه روح أبي فرعون الساسي، رائد المكدين البصريين في القرن الثالث، قد عادت إلى الحياة. يُهرّج ويقص ويستجدي ويحتال في الأسواق والمساجد، يروي قصصا وأشعارا عن رحلات خرافية لأماكن لا تُصدق. إحداها وأشهرها قصته حينما مات ودخل جهنم. قابله ملَـكٌ متعاطف معه وقال له إنك أتعس مخلوق خلقه الله حظا، وأنه لا أتعس منك إلا نعجةٌ في عهد نوح، وجدت مرعى كبيرا فارغا بعد جوع وترحال طويل، وحينما همّت بالأكل جاء الطوفان واقتلعها مع المرعى. وكيف أنه تعذب في جهنم بجانب زمرة من الأعيان المشهورين، فأتقن الخطابة من قس بن ساعدة، والشعر من الفرزدق، والنكاح من مصعب بن الزبير، واللواطة من أبي نواس. ولكن تم استخراجه فجأة من هناك، وقال له الملَـك الذي أخرجه أن أهل أبيورد (ويغير اسم المدينة حسب الحاجة) في ضمور وتعاسة، وأنهم يحتاجون إلى رجل مثلك، ثم ينهي قصته وهو يفرد ذراعيه ويقول “أنا هنا”. تعلم منه قتادة شيئا من الشعر والفكاهة وفنون التحايل، حتى انفصلا، إذ نراه فجأة في خلاء ما وسط خراسان أثناء الشتاء، وهي الرواية التي سنأخذها من قتادة بنفسه حينما كان يحارب لاحقا مع السلاجقة، إذ يروي قصة مرت به وهو في الرابعة عشرة من عمره، يقول أنه خرج من أبيورد برفقة رجل لا يذكره (متقمص روح أبي فرعون الساسي غالبا). آواهما ليل الشتاء الثلجي إلى خربة وجدا فيها جثة صوفي من الشكفتية، تفسخ لحمه عن عظم مدقوق مثل الطين، تستقر أغراضه في مكانها لم تعبث بها يد أو ريح، بجانبه رسالة مكتوبة إلى امرأة يبدو أنها زوجته، موضوعة بطريقة موجهة لذلك العابر المستجير بهذه الخربة ذات يوم، يقول قتادة أن الرجل الذي كان معه أشعل النار وجلسا حولها، ثم وضع طرف الرسالة على اللهب، “وراقبناها تحترق، ثم قال لي لابد أن المرأة قد شبعت موتا مثل صاحبها”. وحينما أصبحا كان الثلج قد توقف، خرجا وسارا في المفازة السهبية الكبيرة المرقعة بالبياض والتربة. وفي لحظة خاطفة، تكوّن خلفهما طوفانٌ أبيضٌ هائل، يملؤ الفراغ بين الأرض والسماء، يزحف. أدركتهما العاصفة الثلجية فطوّحت بهما، تحمله عن الأرض في انعدامٍ تام للرؤية، ارتقت به ريحُها المخروطية نحو سلسلة جبال يصّعد فيها وهو لا يعلم أفي الأرض هو أم في الهواء، وحينما انقشعت العاصفة وجد نفسه على حافة جبل يكشف زاوية بانورامية للسُّهْب الذي تغطى تماما بالثلج تحت قدميه. كان في المكان بياضٌ ساطع قوي، مثل دهان مسكوب على ذلك القعر السهوبي الشاسع. لم يكن هناك صوت، ولا حتى أزيزُ صمتٍ خافت. لم يكن هناك روحٌ أو حركة أو نَـفَسٌ أو ظلال أو شجر أو أثر. بياضٌ دهانيٌّ ساطع فقط، بياضٌ دهانيٌّ ساطعٌ معدوم الحياة يطمر السهب بأكمله. العاصفة قتلت كل شيء، خلَّـفت نُدفا صغيرة تبخرها المفازة في فضائها، بالونةُ دخانٍ مرتفعة في السماء تكفن السُّهب الأبيض. العاصفة قتلت كل شيء. إنه مكانُ ما بعد الموت. ثم يقول وهو في الثلاثينات من عمره يشرح ما شعر به وهو في الرابعة عشر من عمره “الله أو الشيطان، أحدهما كان هناك. لست أعلم من”. وللأسف، هذه هي الجملة الوحيدة التي سنجد قتادة يقول فيها شيئا شخصيا، فكلُّ القصة مرويات منقولة لأحداث مجردة. المهم، نعود إلى الكرونولوجيا. سنجده بعد ذلك في نيسابور، في ماخور جنوب المدينة يديره قواد مسن، يعمل بأجر الطعام والمسكن في سرداب سفلي مكدس بالخردة. إحدى العاهرات ثلاثينية متهتكة تلقب بمياسة، كانت هندية فاتنة تجيد أكثر من لغة وتحفظ كثيرا من الشعر، لا يُعلم كيف انتهى المطاف بها هنا، مما مكننا من اقتناص عدة قصص عن قتادة في ذلك المكان. كانت شبقة ولكن متطلبة، التجربة الطويلة وسعت آفاقها الحسية إلى سقف إعجازي لم يعد يكفيه مجرد أداء جيد، ولذا كانت تقول أنها لم تذق لذة جماع عظيمة منذ سنوات، “كل الرجال صار طعمهم واحدا”. وفد إلى الماخور ذات يوم رجل فارع الطول عريض البنية من بلخ، حارب لسنوات مع الغزنويين في فتوحات الهند، تكفي رؤية وجهه المتحجر بالقوة والبهيمية أن تتنبأ بأنه الرجل المناسب للمهمة. حينما رأته وحادثته استحكمت غُـلمتها وساقته أمامها وقد استجمعت ثوبها لتحدد رسم أردافها التي تترجرج في مشيها، ولأول مرة منذ مدة طويلة كانت تصرخ بقوة، كان الماخور كما يقول الراوي في لحظة صمت مطبق ينصت لصراخ هذه المجنونة متى سينتهي وهذا البعير الهائج متى سيفرغ. صرخت بكل ما يقتبس مفردات دينية للتعبير عن نشوة تكاد تكون تجليا ماورائيا “يا إلهي. يا ربي. الله أكبر. فتحٌ مبين” إلخ، حتى بلغ قاموس مفرداتها إلى حدِّ أن صرخت بشيء ربما تجلى من أعماق مرجعيتها الجغرافية “شيفا”، وحينها توقف الرجل دفعة واحدة، وعلى وجهه ذهول وصدمة، ولأجل أن نفهم جيدا ما حدث، فيجب أن نعلم أن “شيفا” هو أكبر أصنام مدينة سومنات المقدسة، الذي كان هذا البلخي قد ساهم في تحطيمه مع الغزنويين، كما أنه ساهم أيضا في تحطيم مئات من الأصنام التي لا يمكن حصرها، فهو محطمُ أصنامٍ محترف أفنى حياته في القيام بذلك، ولذا حدق فيها لحظة بذهول ثم صرخ “يا عدوة الله” وانقض عليها يخنقها. أول من هجم عليه كان صبي الماخور، ولم يسمه الراوي باسمه، إذ كان يصفه بجسد لا تلحظه إلا وهو منزو في ركن مظلم متلصص، كان يقف بارتباك في الرواق ممسكا بعدة دراهم وينتظر أن يدخل عليها، ربما ليعرض استئجار خدماتها، فتح الباب وانقض على البعير البلخي الهائج متعلقا في ظهره مثل حدبة، وهو لازال ممسكا بدراهمه المتعرقة في راحة يده، ثم اجتمع كل من في الماخور حتى أسقطوا البلخي على ظهره وسقطوا معه ليكتفوه في الأرض، حيث كان الشيء الوحيد المنتصب بين جملة الأجساد المنبطحة هو ذكر البلخي الذي لازال صامدا مثل الفنار بينهم. ثم نقرأ قصة لاحقة لمياسة وهي تذكر قتادة باسمه، “صبي دميم أشعَـر الصدر أمرد الوجه، مثل رجل وطفل في جسد واحد” ثم تزفر بخفة وتكمل “رحمته والله يا أختي، ذكرني بكلب كنت أربيه”، وكيف أنه صار ينام عندها حينما تكون لوحدها، تجعله ينام غالبا على الأرض بجانب سريرها، وتسمح له أحيانا أن يكون بجانبها فتصحو وتراه نائما على صدرها العاري مثل كلب كما تقول. ثم نجده لاحقا في سجن نيسابور، دون أن نعلم تفاصيل القصة، منزو في ركن مظلم متلصص، يصفه لص يروي قصة لا علاقة لها به ولكنه يعرج عليه بشكل عابر “كان فتى غريبا اعتدت رؤيته أحيانا عند عجرم القواد. قلت له ضاحكا لا تجزع، ستجد قوادا آخر تعمل لديه. ولكنه لم يرفع رأسه ولم يطرف له جفن. لقد ظننا أنه مات”. نجده لاحقا في طوس، ونعلم أن رجلان لم يُعرَّفا قاما بقطع الخنصرين من يديه، ولا نعلم قصة هذا الحدث المهم. كان يعمل طيانا (يطلي جدران البيوت بالطين) عند رجل يقال له الغوري، يستخدمه العامة لبناء بيوتهم، حيث يُرى الصبيُّ ليلا بخنصريه المقطوعين وندوب وجهه وهو يجلس في هذه البيوت التي لم تكتمل، وحيدا في الظلمة، لا تصدر منه حركة واحدة. أحد اللاطة يقول أنه جاء بأمرد ليختلي به في بيت من بيوت الغوري التي لازالت تبنى، وبينما كانا يتهتكان ويخلعان ملابسهما أحس بجسد في الزاوية، وحينما التفت رآه جالسا وهو يحدق فيهما، يقول أنني ظننته جنيا فقفزت فزعا إلى الوراء، جلسنا برهة نتطلع في بعضنا، عيناه تلمعان في وجه جامد لا ملامح فيه، ظننت لوهلة أنه ميت، غير أنه قال أخيرا وهو يهز كتفيه “لا أمانع”، ولكنني لبست ثيابي وأخذت الصبي وخرجنا لا نلوي على شيء، “والله لازلتُ أظنه جنيا لعنه الله”. ثم نجده وهو في السادسة عشرة من عمره تقريبا، يعمل في بستان على حافة رستاق عند الطابران خارج طوس، يملكه ثلاثة إخوة مشبوهين يسكنون في بيت على طرفه، اشتروه خربا واستوطنوه في عزلة تامة قادمين من مكان مجهول. جاء ذكرهم أول الأمر في التعريض بعاصفة رملية غامضة كادت أن تعصف برساتيق طوس كلها. كانت تُروى عنهم أخبار غريبة جدا، ولم نعرف كيف انتهى قتادة إليهم. اختفوا فجأة مثلما ظهروا فجأة ذات صيف، فعمل قتادة في حقل القمح لوحده حينما حل الموسم وانتقل ليعيش في البيت عوضا عن مَـربد الغنم الصغير الفارغ، وبدا وكأنه يستقر هناك، خصوصا حينما وردت أخبارٌ تزعم أن الإخوة الثلاثة قد قُتلوا مع جيش سالار الهند (قائد جيوش الغزنويين) أحمد ينالتكين الذي تمرد على السلطان مسعود بن محمود فأرسل له جيشا قضى عليه. يروي شيخ طوسي يسلك الطريق أسبوعيا إلى نوقان كيف أن صبيا يُرى من بعيد مثل الظل في انعكاس الشمس وهو يحرث حقلا يباسا ويسكن بيتا كبيرا لوحده، رغم أن ضوءَ فانوسٍ خافت صار يُرى ليلا وهو يضيء المربد الصغير حيث ينام الفتى. وبدأ مع الوقت يرث عن الإخوة المختفين أقاويل الغموض الغريبة التي صارت تقال عنه. وقد زاد أسطورة الغرابة هذه حينما اختفى هو أيضا، أخذ ما يمكن أخذه ومضى. ثم نجده أخيرا في سجن نيسابور لسبب مجهول، وهنا تَـعرّف على فتى لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، نعلم أنه مشرد معدم كان في طريقه للهرب من نيسابور “التي لا تحبني” حسب تعبيره حينما قُبض عليه، إذ طلب منه نخاس في السوق أن يراقب جواريه الست ريثما يذهب لقضاء حاجة طارئة مقابل نصف درهم، وحينها قرر استغلال وقت الفراغ وتوديع نيسابور التي لا تحبه بأن يسحب أجمل واحدة منهن وأن ينكحها في ركن ما مقابل نصف الدرهم الذي لم يتسلمه بعد، ولكن الجارية، التي ربما رأت نفسها أرفع منزلة من المومس أو استخسرت نصف الدرهم مقابل جسدها أو ببساطة تقززت من منظر المراهق القذر، ركلته وجلدته وسط السوق الضاحك، في الوقت الذي عاد فيه النخاس وعلم بما حدث فجلده أيضا وسلمه إلى المحتسب (ضابط مدني يراقب الأسواق) الذي “لا يحبني أيضا”، حيث أرسله إلى السجان – لم يقل عنه شيئا ولكنني أفترض أنه لا يحبه أيضا – الذي قرر حبسه عدة أيام دون أن يحوله إلى القاضي. أخبر الفتى قتادةَ أنه يخطط للذهاب إلى آمل طبرستان، حيث يعرف صديقا له انضم إلى عصابة هناك في جبال ألبرز شمال الديلم، وهناك نجد قتادة بعد أن لحق به وهو في السابعة عشرة من عمره كما أسلفت. القصة الوحيدة التي وجدتها عن عصابة الأحداث هذه، هي ما يحكيه تاجر من أسفرايين ضل طريقه وهو عائد من همذان ودخل على جبال ألبرز من جهة جيلان في أول الخريف. يقول أن جماعة من الصعاليك قفزت عليه فجأة بسيوف وخناجر وأحجار، ولكنه تفاجأ أنهم كانوا صبيانا لا يتجاوزون السابعة عشرة من عمرهم، يغطي العرق زغب شواربهم الخفيفة ويُـقلّم وجوههم ترابٌ وسخام وقذارة، ولذا لم يأخذهم بما يكفي من الجدية، يقول أنهم لم يجترئوا على قتالي، كان يظهر عليهم الخوف والتوجس، ولذا اتفقت على مقايضة معهم دون كلام، تراجعت عن البضاعة وتركتهم يقتربون ليأخذوا شيئا منها، وحينما أكثروا هددتهم بالسيف فتراجعوا وهم يسبون ويلعنون، بل أن أحدهم حاول أن يبصق علي ولكن الريح واجهت بصقته وعكستها على وجهه بين عينيه فاستدار وهو يضرب الهواء ويمسح البصقة، ثم رأيتهم يلوذون بالهرب وهم يتقافزون فرحين مثل أطفال ويختفون في سفوح الجبال الصخرية فوقي.
في نهارٍ شتائي من يوم لم يُحدَّد، خرج صياد يقال له ربيع بن الفضل، بيهقيٌّ مهاجر استوطن قرية في رُستاق لم يُذكر اسمه جنوب شرق بحر الخزر (قزوين حاليا). كان الشتاء قد طبع الأرض بقشرة جليد لم تثخن بعد، ولذا لم يكن ثمة شيء ليصاد، ولكنه خرج رغم ذلك ليرى الخزر. على ضفافه، وبين أشجار الصفصاف الطويلة، رأى شكلا في الظل، وحينما اقترب منه بحذر كان شابا متدثرا بأغصان تفتتت وتناثرت، وجهه مزرق باحتقان دم متجمد. كان حيا بالكاد. حمله وذهب به إلى كوخ صيد قريب، ثم نقله مع صيادين آخرين إلى بيته، حيث اعتنت به امرأته، وهو ينتفض في حمى قوية. بعد أيام بدأ يهذي، ذكر جملا غير مفهومة عن أصحاب له في قارب، يعبرون الخزر من طبرستان شمال فارس اختصارا نحو أقصى شمال جرجان. أبلغ الصيادُ كبير القرية الذي أخذ ثلة من الرجال وذهبوا إلى هناك. كان الشتاء قارصا في تلك السنة، لم يشهدوا زمهريرا مثله كما يقول الراوي، الصقيع يغطي الآن كل شيء، الهواء البارد يجرح حدقة العين فترى رجالا بأعين رطبة دامعة، متدثرين تحت فرو كثيف. حواف شرق الخزر الضحلة كانت قد تجمدت تقريبا، قشرةُ جليدٍ ثقيلة تسمع تحتها خرير ماء بعيد، سيطمر الثلج سطحها الزجاجي قريبا، وكأنها قطعة مرآة هائلة تلمع وتغشّي. تطوع أحدهم ليقطعه وحيدا. المكان فيه صفاء الشتاءات الغائمة الذي يكشف المدى بانعدام سطوعه. يحدق بين قدميه في صفحة الجليد الأبخر، يمسح الدخان بقدمه عله يرى شيئا في الماء، وبعد مدة من المشي رأى وجها بشريا عالقا في سطحه، مسطّحٌ وكأنه يُحدق في السماء، بفم مفتوح ووجه لا دم فيه وعينين هامدتين، متشبث بقطعة خشب، لابد أنه مات وهو ممسك بها فتجمدت معه، قدماه تعومان في الماء ولكن وجهه ويداه متجمدة في التصاقه بقشرة الجليد. يقول أنه رأى الجثث في أماكن مقاربة، ولكنه ليس متأكدا إن كان لم يتوهم ذلك، أشكالٌ ظلية شبحية، تعوم بشعور رأس طويلة وأياد ممدودة، تصعد وتختفي في العمق المعتم.
في ميهنة، يجيء ذكر شاب لا يُعرف عمره، يبدو كبيرا بندوب وجهه وخنصريه المقطوعين، ولكنه في الحقيقة أصغر من مظهره، يسمي نفسه قداح القيزوني، وهو ما كان اسما غريبا نوعا ما، حتى أنه ظل عالقا في بال البعض. كان قداح يعيش تقريبا في الخانقاه الذي بناه الصوفي أبو سعيد بن أبي الخير، عدا ساعات يخرج فيها إلى المساجد القريبة والأسواق الصغيرة. يصفه أحد الدراويش أنه يبدو غالبا مثل ظل، يجلس دائما في الزاوية المظلمة وعلى هيئته وجوم مراقب، يقول أنك في اللحظة التي تراه فيها بوجهه المُعرِض وخنصريه المقطوعين وعينيه المجوفتين تدرك أن أشياء كثيرة حدثت لهذا الشخص، حتى عرفه الجميع واعتادوا على مظهره الصموت المتلصص في الزاوية. إذا تحدث، وهو ما كان نادرا، يسألهم غالبا عن سيرة الفضيل بن عياض، الذي كان قاطع طريق بين سرخس وأبيورد، قبل أن يصير قبلة الصوفيين في خراسان، فيأخذ ما سمع ويعود إلى زاويته وعلى ملامحه استغراب شارد. كنت ترى قداح وهو يجلس في الزاوية ممسكا برق عليه رباعيات ابن أبي الخير “المقامات في التوحيد”، مكتوبة بالفارسية التي لا يجيد قراءتها، رغم أن الدرويش يعود ليقول “أظن أنه لم يكن يجيد القراءة أصلا، رغم أنه يتكلم لسانان أو أكثر”. اختفى قداح ذات ليلة، خرج ولم يعد، وظلت زاويته الكئيبة شاغرة لا يجلس فيها أحد، كما كانت قبله. ثم نرى رجلا يقال له أبو حامد، يعمل كاتبا في مجلس القضاء، اعتاد أن يرتاد الخانقاه ويوزع الطعام والصدقات على دراويشه ويجالسهم ويحادثهم. في يوم ما كان يدون ما يمليه أحد القضاة، وإذا بشاب يقاد في قضية ما، رفع رأسه فرأى قداح، كان قد سُجن منذ أيام وتأخر تقديمه بحكم مرض ألمّ به. أراد أبو حامد أن يخبر القاضي أن ثمة خطأ في الموضوع، ولكن القاضي ابتدر المتهم فسأله إن كان يقر بما فعل؟ فقال قداح بنبرة عفوية تخلو من المبالاة: نعم. سأل القاضي: إذاً تُـقرُّ أنك كنت تسرق الأموال من جيوب المصلين والسابلة في الأسواق؟ فرد بنفس نبرة الصوت المستسلمة اللامبالية: نعم. أحد أفراد الشرطة المرافقين له أبلغ القاضي أنهم اكتشفوا أيضا أن اسمه ليس قداح وإنما قتادة، ولكنه اعترض بقلة اهتمام وقال أن اسمه ليس قتادة أيضا، سأله القاضي إذاً ما اسمك؟ فهز كتفيه وهو يغمغم لا أعلم. ومن هنا تنقطع القصة. الغالب أنه تم تعزيره بحكم مخفف، وربما سجن مدة من الوقت، ولكن لم ينفذ فيه حد القصاص لسبب ما.
هنا تحدث أول فترة انقطاع طويلة. ولكن لاحقا، هنالك قصة عابرة يرويها تاجر مسن من مرو الروذ. إذ يحكي أن عصابة معروفة قطعت الطريق على قافلته عند جبال جرجان هو ومن معه، وأصرّ على أن أصغرهم هو شاب يدعى صابر، عرفه من خنصريه المقطوعين، كان تاجرٌ من أصدقائه قد أخبره بقصة حدثت معه وهو متجه إلى بخارى، حيث تاه في تلك المفازة الرملية المهلكة بين مرو الشاهجان وآمُل جيحون، وبعد ساعات صادف شابا بخنصرين مقطوعين يسكن تجويفا صغيرا بين صخرتين عملاقتين في الصحراء، وحيدا منعزلا، حتى ظن أنه من الشكفتية الصوفية الذين يأوون إلى المغارات والكهوف، رغم صغر سنه الذي لم يكن جليا على مظهره الأشعث الأغبر. يقول أنه لم يجد بدا من أن يبيت لديه بصحبة صبي كان يرافقه، لقد خسرا كثيرا من الماء ولم يكن لدى أي منهما معرفة بهذه المتاهة الرملية. ثم يقسم أنه أحس وهو نائم على جنبه بهذا الشاب وراءه، يمسك خنجرا أو سيفا، يتنفس بهدوء رتيب. يقول لقد ظللتُ ساكنا في موضعي، فكرت لو أنه كان سيقتلني لقتلني، ولذا لم أتحرك لئلا أفاجئه فيعقد عزمه، وبقيت على جنبي أدعو الله أن يكف يده، حتى تحرك وعاد إلى فراشه. ويكمل أنه في الصباح دلّه على أفضل الطرق نحو جيحون، وكأنه يعرف هذه المفازة عن ظهر قلب، “وذهبت وأنا أعلم أن روحي قد رُدّت إلي”. نفترض من هذه القصة أن تلك الفجوة كان قد أمضاها في تلك الصحراء، وهو ما لم نقع فيه على مصدر للأسف، رغم ما يبدو لتلك الفترة الغريبة من أهمية في وضع اللمسات الأخيرة على شخصيته. ولذا نعود للحكاية الأولى، فهذا الاكتشاف المهم بانتمائه لهذه العصابة فتح بابا في القصة لأخبارهم المنتشرة في مصادر تلك المنطقة على امتداد عدة سنوات. كانوا 15 رجلا تقريبا، يزيدون وينقصون بين حين وآخر، يعيشون بين جبال ألبرز من جهة جرجان. يختفون في شهور الصيف القليلة، ولا يُعرف بالضبط هل يظلون مستقرين في الجبال أم ينزلون عنها إلى الحواضر القريبة، ويظهرون في شهور الشتاء الثلجية التي تمتد أحيانا إلى أكثر من ستة أشهر. لهم طقوس خاصة في السرقة، فهم ملثمون غالبا، على خيولهم، يغلب عليهم التنظيم والاحترافية. روى أحدهم أن ثلاثة منهم قطعوا عليه الطريق في أول أيام الشتاء، حيث كان الثلج يتساقط بكثافة. كانوا متدثرين تماما بالفرو، لا تبرز منهم إلا أعينهم، اثنان منهما بيد مقطوعة. يقول أن جميعهم سفّاحون، وخصوصا مقدمهم، رجل فارع القامة من فارياب. يقول أنهم إذا كانوا في مزاج جيد، ولم تقل شيئا يغضبهم، سيسمحون لك بالذهاب، وإلا. على امتداد عدة سنوات، سطت العصابة على عشرات المسافرين والقوافل، واختطفت ما لا يقل عن 10 نساء. تم العثور على جثث ثلاثة منهن، أحدها يُرجح أنها التي روى عنها ابن النعيم في كتابه “الرحلات” بأنه صادف في طريقه من الري إلى نَسا امرأة عارية مصلوبة على شجرة عند جبال ألبرز، قد بدأ جلدها يتفسخ بلطخات سوداء تُرقّع قشرة الثلج الذي كان يغطيها. أما البقية فلا أحد يعرف ما الذي حل بهن، أو على الأقل لم يصلنا شيء عن ذلك. كانت تروى عنهم أخبار غامضة، وكأن لهم مجتمعا خاصا بهم وأسلوب حياة هناك في الجبال. بل أن أحدهم يروي قصة عن أنهم كانوا لا يأكلون إلا لحوم البشر، وآخر يقول أنهم يعيشون عراة في البرد لا يلبسون شيئا. رجل من أبيورد لم يكن يعرف بأمرهم يقول أنه مر بتلك المنطقة ذات يوم متجها إلى مدينة قزوين، ورأى هيئة رجل يقف بعيدا على حافة جبل شاهق، يبدو عاريا في ذلك الشتاء الزمهريري، يُطلق سهاما في الهواء، يقول حدقت في السماء فلم أرى طيورا أو شيئا يحلق، كان مجرد رجل عار على حافة الجبل في الصقيع يطلق سهاما على لا شيء! لاحقهم الغزنويون أولا ممثلين في ولاة أقاليمهم – وتحديدا العميد أبو الفضل السورى المعز والي خراسان حينها – والذين كانوا يحظون باستقلالية إدارية، ولكن دون جدوى، ربما بسبب انشغالهم بمحاربة السلاجقة – والقرخانيين والهنود في مناطق أخرى غير خراسان – حينها. وبعد أن توغل السلاجقة في سيطرتهم على المنطقة، وعينوا ولاة جددا، أرسلوا سرية صغيرة لا تتجاوز عشرة أشخاص للقضاء عليهم إثر اختطافهم فتاتين من دسكرة في رستاق مجاور، ولكن السرية علِـقت في ثلوج ألبرز المتراكمة، ثم وجدوا جثثهم مصلوبة من نتوءات الجبال، يقول أحدهم أنك ترفع رأسك وأنت تمشي وترى من بعيد جسدا يتدلى على حافة الجبل بين ندف الثلج البيضاء المتساقطة، وكأنه ظل يتأرجح بخفة مع الريح. حينما أنزلوا الجثث وقشعوا الثلج عنها انكشفت لهم الأجساد مسلوخة عن جلودها، الأحشاء والألياف تقشّرت في حمرة باهتة، مما جعل السلاجقة – الذين كانوا وقتها قد سيطروا تماما على ذلك الجزء من خراسان – يرسلون كتيبة حربية كاملة قضت عليهم وعادت برأس قائدهم الفاريابي ومرت به في كل حاضرة مجاورة للجبال. لم يُذكر قتادة في هذه المصادر، ربما لأنه كان جنديا صغيرا وهامشيا في العصابة، ولكن ما يحير هو أنك ستجد اسمه يرد في أماكن مختلفة، تكاد تكون متداخلة كرونولوجياً، مما يلمح إلى أنه لم يكن مع الجماعة حينها، وأنه ربما انسحب منها في فترة ما. فنجده مع جيش الغزنويين بقيادة السلطان مسعود الذي زحف إلى جيش طغرلبك السلجوقي من سرخس وحتى مرو الشاهجان، إلا أن قتادة قام فجأة أثناء المعارك المتفرقة بقتل ثلاثة جنود من جيشه وسرقة خيولهم وعتادهم ولاذ بالهرب فيما ذُكر نحو الديلم. ولكننا نجده مع الغزنويين نفسهم مرة أخرى في معركة لم تحدد انتصروا فيها على القراخانيين في الشمال. ثم سنجده في جيش طغرلبك السلجوقي الذي هزم جيش السلطان مسعود في داندقان. ثم سنجده مسجونا لدى الزياريين في طبرستان على خلفية جريمة لم تذكر. ثم سنجده لاحقا في قصة عابرة لعاهرة في ماخور في خوارزم بعد أن استولى السلاجقة عليها وتوافد عدة جنود إلى ماخورها، حيث تروي أن رجلا يدعى قداح القيزوني – فيما يبدو من سياق القصة أنه ليس جنديا وإنما مجرد زبون – قد سكر سكرا معميا لدرجة أنه بعد أن بدد أمواله على ثلاث قحبات وهو يهذي ويترنح، حاول اغتصاب جندي صغير السن لازال أمردا فاجتمعوا عليه يضحكون معه ويوجهونه إلى فتاة، حيث افترضوا أنه بلغ من السكر درجة لم يعد يستبين ما أمامه، ولكنه انتفض منهم واتجه إلى الجندي الأمرد مرة أخرى وهو يخلع ملابسه فاجتمعوا عليه وجلدوه ورموه. ثم سنجده مع جيش البويهيين الذين عادوا ليستحوذوا على همذان التي كان طغرلبك قد استحوذ عليها قبل عام. ثم نجده – وهنا يصير الأمر مثيرا للسخرية بصراحة – مع الجيش السلجوقي الذي أرسله طغرلبك ليستعيد همذان من البويهيين من جديد! تحدث ثاني فترة انقطاع طويلة في كرونولوجيا قتادة، لابدّ أنه قضاها في الحروب اللامنقطعة بين دول تلك المنطقة المتناحرة. حيث سنجده لاحقا مع جيش طغرلبك المتجه إلى غزو أرمينية وحصار مدينة منازكرد، حيث تُروى قصة عن جندي خراساني بخنصرين مقطوعين حارب مع الجيش، وحينما فتحوا قرية من القرى القريبة من منازكرد التي ظلت متعذرة عن الفتح، أُخذت نساؤها سبايا وتم انتقاء الأجمل منهن كما جرت العادة لقادة الجيش، ولأن قتادة ربما رأى في ذلك إهمالا لجهوده وجهود زملائه المظفرة، ولأنه لا يبالي مقدار خراء بمظلمة زملائه، فقد أخذ على عاتقه مسؤولية تصحيح مظلمته، وحاول اختطاف واحدة منهن من خيام القادة، حيث يتم الاحتفاظ بها هناك نظيفة وطازجة. تحايل على الحراس حتى وصل إليها، حاولت الهرب والصراخ فشج رأسها وكمم فمها وغطى وجهها وحملها في جنح الظلام إلى خيله، ربطها في السرج بإحكام، ومضى يخترق سهولا موحلة بمطر منقطع حتى ظهر الفجر، وقف وشرب الماء، ثم أنزلها وفك وثاقها وحل غطاءها، وحينها اكتشف أنها كانت قد ماتت، ربما متأثرة بالشج في رأسها، فقتادة كان معتادا على جماجم جنود لا تفلقها الشهب، ولذا يبدو أنه لم يوازن ضربته. أكمل الشرب من قربته، تبول، جلس يأكل عصيدة ويشرب نبيذا كان قد سرقهما، يحدق في الأفق المصفر فوق المساحة السهبية الشاسعة التي تقود إلى جبال القوقاز الصغرى بهدوءِ محترفٍ تعوّد على الخسارات السخيفة، ثم أكمل سيره، وترك الجثة وراءه على آثار حوافر الخيل بين نقع المطر. بعد سنتين تقريبا لا نعلم ما الذي حدث فيها، سنجده أخيرا في باب الأبواب، بخنصرين مقطوعين، محاربٌ متمرس، قاطع طرق قديم، ولكن لا أحد يعرفه، لا أحد يدرك أنه محارب أو صعلوك، لا أحد يتعرف عليه، يلبس ثياب المتسولين، يبدو مثل المتسولين، ولكنه لا يتسول، لا يسأل، يقف كل يوم من طلعة الصبح وحتى انتشار الليل عند باب المدينة، يحدق، يحدق فقط، يداه في جيبه، وقفته خاملة مستنزفة لا تتحرك قيد شعرة، عيناه لا تطرفان إلا نادرا، سَحنته تذكّر بجثة هامدة. يمر به الناس، يحاكيه أحدهم، يصرخ في وجهه أحدهم، يتصدق عليه أحدهم، ولكنه لا يرد، لا يبدي أي حركة. تراه ينحف كل يوم، يهزل كل يوم، يشحب ويتصحر ويتآكل أكثر مما كان عليه كل يوم، ولكنه لا يتحرك، يحدق فقط، والناس تمر، والمدينة تعيش، والأصوات تعلو، تنتشي، تصلي، تغني، تتألم، تتسامر، تتجادل، تنام. حتى جاء صباح ما، ولم يكن موجودا.
في آخر المنخفض الجنوبي لجبال القوقاز الكبرى (القبق سابقا)، شرق أذربيجان، هنالك امتدادات سهلية طويلة ومتنوعة تمتد إلى واحات وبحيرات وغابات مختلطة تشتبك بالهضاب والجبال التي ترتفع تدريجيا حتى قمم بازاردوزو وشاهداف في وسط القوقاز، تُشكّلها صخور طباشيرية وجوراسية بعضها موجود هناك منذ 200 مليون سنة. تختلف هيئتها المتناقضة الغامضة في كل فصل من فصول العام. شجر البلوط القوقازي بأوراق أغصانه وجذوعه الكثة التي تطمر ساقه فيبدو وكأنه دغل فارع يتداخل مع أشجار زيزفون مشذبة في مرج عشبي نُجَيلي شاسع. سلسلةُ جبالٍ خضراء متموجة تغطي بعضَها أدغالُ بتيولا متلاصقة وشجيرات قيقب كثة، وعلى الأخرى ممراتٌ نحتتها الأرجل والحوافر في الخضرة، يعبرها حجاجُ سفرٍ وعر. هضابٌ وسهول تغطيها تربة داكنة محصحَصَةُ النبات تمتدّ بك قاحلةً إلى امتداد البصر، في بعضها سهولٌ طميِيَّة صلصالية مترسبة لم تتصلد ومسطحات ملحية مقفرة، وسهوبٌ مستوية تغطيها أعشاب مناخات الاستبس المائلة للصفرة. نهرٌ جارٍ تحفه متاريس جبال وتلال عليها أشجار الزان والنغت الدبق المحدودبة، تتمطى لتكوّن سقفا أخضر ولكنها تنكمش في المنتصف عن فرجة خندقية يلج منها الضوء، يلمع دائما في انعكاس الماء الذي لا يتوقف. مستنقعات مغيضية دخيلة برواسبِ الطحالب الخثة، تقطعها قوارب تومض مثل بيوت عائمة في الخضرة السائلة. دوحاتُ أشجار المُـرّان متفرعةٌ بأغصانٍ وجذوع عملاقة تتوزع عشوائيا على امتداد مرعى واسع تغطيه حشائش عشب أخضر قمحي. ثم أخيرا غابة مختلطة من الزان تزاحمه أشجار الكستناء والتنوب والدردار، تتطاول على ارتفاعات تيجان متفاوتة، تجري فيها الجداول من أمكنة مختلفة، تسمع خريرها قادما من مكان ما، تغطي أرضها تربة سمراء مرقعة بحشائش عشب أخضر ويابس وشجيرات شرد متفرقة، ترتفع في هضاب وتنخفض في أودية تستوطنها دببة ونمور ووعول وزواحف وحيوانات غريبة لا اسم لها وتمتد في متاهة طويلة تشتبك في آخرها برساتيق وقرى وبساتين. في الخريف، تُغشّي المكان صفرةٌ باهتة، مطليةٌ على قشرة الهواء نفسها، يتخلص الشجر من أوراقه المتيبسة فتبدو ألحيتها العارية مثل عواميد تتكئ عليها السماء، تختلط الأوراق الصفراء الميتة بالتربة الكتسنائية، تتكسر تحت الأقدام والحوافر، تبعث رائحةً كئيبة تخنق الهواء، يفوح منها شعورُ فقـدٍ ما يُذكّر مارا عابرا بنهاياتٍ يحنُّ لها ولن يصل إليها، بيوتٌ وأصواتٌ وطرقٌ وأوجه. ويحل أول الشتاء، ويهطل مطر يتأسن في التراب والزرع، مطر يفرض لزوجة دبقة تنقع في الجلد حتى تصير جلدا آخر يتغشى برطوبة خانقة، وكأنك تغرق دائما أينما ذهبت. تتبعها ندف الثلج التي تسقط صغيرة، وتصير الأرض مزيجا من سمرة مرقعة بالبياض، تُخشخش تحت الأقدام والحوافر تربةٌ مبللةٌ بثلج يذوب، وتفوح من المدى روائح لا يمكن تحديدها، تحملها رياح الشمال القادمة من مهجر بعيد، وتبدأ صبغة جليد تغطي سواقي الجداول والأنهار، وتختفي طيورٌ في أوكار الدفئ وسط الأشجار، ويلمع كل شيء بغشاء ماء متجمد، ويغلب على المكان رعدةُ البرد الحزينة التي تبعث ذكرى أشياء منسية. ويتكاثر الثلج، ويختفي كل نَفَس حي من المكان، ويرتفع النثار والضباب ليطمس الأبعاد في رؤية محدودة مثل قوقعة مكورة، وترى ذلك البياض الدهانيّ الساطع الذي تشعر في كل مرة تراه أنك لم تر مثله من قبل، يغطي سطح كل شيء بسطوعه المعمي، يطمر نصف سيقان الأشجار فتبدو وكأنها شواهد قبور، ذلك البياض المعدوم الهيئة والشكل، يُميت الحواس، يسكُّ قشرة صقيع على جسدك حتى يصل بك إلى حالة حياد حسي، وكأنك لست موجودا حيث تقف، يُـذكّر المار العابر بأماكن يعرفها رغم أنه لم يرها، بيوتٌ وطرقٌ وملاعبُ وشطآن لم تحدث، أماكن لا وجود لها، يشعر الرجل فيه أنه فقد كل شيء، وأنه يلج غربة حيادية قاسية أبدية يختلق الخيال فيها صورا، وأنه لن يجد طريقا بعد اليوم، فقد طُمرت كل الطرق إلى الأبد، وأنّه لن يصادف امرأة تلمس جلده أو طفلا يُحمل بين يديه أو شجرة ثمر ظلا فوقه، ويدرك أنّ هنا، حيث يفيض البياض الحيادي الأبدي وتُسمع أصوات انهيارات ثلجية في جبال بعيدة لامرئية وراء النثار والضباب، تتجمع كل قسوةٍ وغربة أحس بها إنسان من قبل. ويحل الربيع، ويحل الصيف، ويحل الخريف، ويحل المطر، ويحل البرد، ويحل الثلج، وتتنقل الغابة في امتداد سهلي جبلي من أشكال مختلفة. كان قتادة يُرى في هذا الامتداد، متوحدا طوال عامين تقريبا، يحمل خيمته ورحله، يتنقل من بقعة إلى بقعة، يقتات على الصيد، يعيش جالسا عند خيمته، محدقا في الفراغ، هيئته توحي بمسافر عالق لا يصل.
كان أحد التجار قد اعتاد أن يصطاد في المنطقة التحتية لهذه الغابة، حيث كان له بيت في قرية قريبة يرتاده من أردبيل، يرافقه صبيه الذي يروي القصة. “كان يحبذ صيد الوعول، ولكنه يتركها جيفة” يقول الصبي، فلم يكن لديه اهتمام بالطعام أو الجلد منها، “يقوم بذلك حينما يخسر مالا أو يتكدر لسبب ما”. في صباح يوم من أيام الخريف، خرجا وتوغلا في الغابة. “لقد قمنا بهذا أكثر مرة خلال ذلك الشهر، لقد كان شهرا مملا”. مرت ساعة ولم يصادف التاجر شيئا، وبدأ يضيق ذرعا بذلك. وحينما وجد أخيرا وعلا، اختبأ كعادته وراء شجيرة وأطلق سهمه الذي لا يخطئ، أصاب رقبته فأزّ وتأرجح وسقط، اعتدل التاجر فرحا “وهتف لي: سيدك يا جميل صياد ماهر. وقد كان يرفع الكلفة حينما نكون لوحدنا”. تنفس الصعداء وارتاح باله قليلا، فجلس للفطور. يتقاسم طعامه مع الصبي، ويقص عليه حكايات طويلة عن تجاراته. بعد انتهائهما، طلب من الصبي أن يأتيه بخرقة يمسح بها يده، نهض الصبي واتجه إلى الرحل. وفجأة، ومن لا مكان، أصاب التاجرَ سهمٌ منحوتٌ صغير. بدا وكأنه لم يستوعب للحظة، طأطأ رأسه، الوخز الغامض يزداد ألما، حدق فيه بذهول، كان في مكان ما فوق كبده، أمسكه وتحسسه وتفحصه وكأنه لازال عاجزا عن الاستيعاب، ثم بدأ يئن بجزع، “لم يكن يفهم ما الذي حدث. لم أفهم أنا أيضا ما الذي حدث”. وحينها خرج قتادة من أحراش بعيدة وراء الشجر، يمشى ببطء وهو يُخرج سهما أطول منحوتا من السنديان، “يمشي وكأنه يتنزه. أشار لي دون أن يلتفت أن أقف عند الرحل وألا أتحرك، ولم أكن سأتحرك، جسمي كله كان مشلولا”. اقترب حتى وقف أمام التاجر الذي كان يرتعش الآن، يحدق أمامه مشدوها، ممسكا بالسهم، وكأنه إذا أطلقه لن يفهم شيئا، رفع رأسه وكأنه انتبه فجأة لحضور جسد أمامه، حدق في الرجل الطويل النحيل الذي يبدو “وكأنه جذعٌ انفصل عن شجرته. كان مرعبا”، ظل التاجر صامتا بذهول وحيرة، ثم انفجر بعدها يصرخ ويهذي، “لم يكن واضحا ما الذي كان يقوله، ولكني أظنه كان يتوسل، ويعجز عن إيجاد لسانه”، يصيح، يهذي، يرتعش، وقتادة يقف أمامه وقفة انتظار متريث، “شعره طويل ينحدر على كتفيه، رداؤه فرو مثل وشاح طويل. أقسم لك، كان مرعبا مثل أحلام الحمى”، يُمسك بالسهم في يد وبالقوس في يد أخرى، وينتظر. صمت التاجر فجأة، دفعة واحدة، وجهه تحجر، عيناه جحظتا. وكأن تلك كانت إشارة النهاية. وضع قتادة السهم في القوس، شده بقوة “حتى أنني سمعت معها انقباض الوتر” ثم أطلقه على رأس التاجر بقوته القصوى لدرجة أن شدخا انفلق إلى أرنبة أنفه. “لم تحملني قدماي، سقطت وتقيأت وظننت أنني التالي وبدأت أصلي للمسيح. وحينما لم ينفلق وجهي إلى نصفين، رفعت رأسي ورأيت الرجل يمشي بعيدا، عائدا إلى الأحراش التي خرج منها. وبعدها لم يره أحد في هذه المنطقة”
يحدث أطول انقطاع في كرونولوجيا قتادة، لعدة سنوات.
ما يحدث حينها أمر غريب يصعب البتّ فيه. فثمة قصة لشخص شبيه به تماما، في خلفيته التاريخية تحديدا، يعيش مزارعا في حقل قمح مع زوجة وطفل صغير، في مكان ما في إحدى رساتيق بلخ. تم ذكره في معرض الحديث عن وباء غامض تعرضت له أشجار المنطقة وكادت أن تُـهلك حقول المزارعين، من ضمنها مزرعة هذا المزارع المجهول ذو البنصرين المقطوعين الذي كان قاطع طريق في زمن ما.
وفي نفس الوقت تقريبا، نرى اسمه يرد ضمن تقرير أعده أحد نواب شرطة أردبيل غرب بحر الخزر لرئيسه، يذكر فيه اسم قاطع طريق يدعى صابر، يلقب بـ “ذو الأصابع الثمانية”، يسكن جبال تاليش ويرأس عصابة مكونة من 11 شخصا.
ومن هنا يختفي قتادة تماما في الهامش، بلا أثر.
أحيانا، أحاول إقناع نفسي بقصص وردت وأربطها به، لا لشيء سوى لحدس ما. منها قصة أبي حامد الغزالي في شبابه حينما كان عائدا من جرجان إلى طوس وهجم عليه قطاع طرق كما نقل عنه السبكي “أخذوا جميع ما معي ومضوا فتبعتهم فالتفت إليّ مقدّمهم وقال: ارجع ويحك وإِلا هلكت! فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك: فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها. فضحك وقال: كيف تدّعي أنّك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلّم إِليّ المخلاة” القصة لا تنتمي بتاتا لقتادة، لعدة أسباب أهمها أنه لو كان قتادة لما صار هنالك إمام يدعى الغزالي. ولكنني كما قلت، شيء لا يتعدى الحدس. فأيٌّ من تلك القصص لا تبدو فعلا مرتبطة بقتادة، وهي حتما لن تخبرنا للأسف بنهايته. ولكن أظن أنه يمكننا أن نتجوز في القول ونخرص أن نهايته أيا كانت ستكون مقاربة لحياته، من المستبعد أن تكون نهاية مدنية إن جاز التعبير، ستكون حتما هامشية وعنيفة. وهو ما جعلني أقنع نفسي برواية جنونية من تلك الروايات “الحدسية” غير المؤكدة، تقول أنه هو الذي ورد ذكره عابرا في كتاب شعبي فارسي عنوانه “أساطير المقاتلين القدماء”، تجده في بعض الأكشاك التي تبيع الكتب القديمة كصورة عن مخطوطة عتيقة تباع بشكل محظور نوعا ما، أو لنقل تباع بحذر، حيث أنه يتعرض لجرائم الإسماعيليين في قلعة آلموت. ورغم وقوعه في فخ الخرافات التي تصم تلك الجماعة، إلا أن في مشهد منه، صورة تبدو واقعية إلى حد بعيد، تورِد ذكر شيخ سبعيني بلا اسم، أمضى كل حياته كقاطع طريق في امتداد ألبرز كله من جرجان وحتى جيلان، انضم إلى الحشاشين من مكان لم يُعرّف، وهو ما بدا “عادلا” له ولي وللقارئ أن ينضم شخص هامشي وحشي لا يملك رفاهية الولاء والانتماء مثل قتادة إلى جماعة مشبوهة مثل الحشاشين، تعتبر نموذج التطور التنظيمي المثالي للصعاليك وقطاع الطرق. وقبل الهجوم الذي شنه السلاجقة على القلعة في الحملة التي وجهها ملكشاه، صعد العجوز على القلعة، وفور وصوله إلى الأعلى، ودون أن تتسنى له فرصة أن يستقيم بطولِه، هوى سريعا من المئذنة وفي رأسه سهم يشق منتصف جمجمته تماما.
ولكن كما قلت، مجرد حدس.
_______________
1 – كان ابن النقاش قد وفد إلى غزنة متجها إلى خوارزم من رحلة طويلة موثقة بالفارسية على الامتداد من خراسان وحتى الأندلس، استقبله السلطان محمود المعروف بحبه للأدب والعلم، والذي كان بدوره قد وفد إلى غزنة من خوارزم بعد أن ضمها إلى سلطانه. وحينما قرر المسير نحو كشمير طلب منه ابن النقاش أن يرافقه. يسهب في وصف حال الجيش نفسه، راياته ومراتبه وتنظيمه بداية من القائد العام الذي يلقب بـ”حاجب برزك”، ومرورا بقوات العبيد تحت قيادة ما يلقب بـ”سالار غلمان”، وحتى أرذل طبقات الجنود من المتطوعين في ما يشبه الوظائف العسكرية. ويؤرخ تفاصيل اليوم في وصف تصويري معبر لمعالم الجبال والسهول والحيوانات. فيستفيض مثلا في وصف مشهد حينما قطع الجيش بأكمله سهلا ممتدا من الوحل “لو صعد رجلٌ شاهقا ورأى السهل المقعر بين متاريس الجبال بعد خروجهم منه لظن أنه يرى قعر جهنم المتفحم وعليه آثار الجثث المعذبة المسحوبة فوقه” ثم يسهب في وصف جنود المراتب المتدنية وهو يتجول بينهم “أجساد متقرحة مشرمة تعلوها سمرة كالحة، إذا تعرى أحدهم في قفر حسبته صخرة أو ساق شجرة موتدة في الأرض. أقوامٌ من أعراق ومسالك مختلفة، يتحدثون بلغات لم أسمعها من قبل، لا شيء يجمعهم إلا السيف. أمرُّ بأحدهم فيرمقني شزرا، وأكاد أقسم أنه يشتهي رقبتي”.
2– بل أن قصة غير مؤكدة تُروى عن هذا البلخي، تقول أنه حاول تحطيم معبد سوباهار في كابول. حيث كان الغزنويون – كما يزعم البعض – يتسامحون مع النشاطات البوذية خارج المناطق الهندية، وذلك تبعا لأسباب سياسية طويلة. المهم، تم القبض على البلخي بتهمة التخريب، وحينما حاول أن يشرح للقاضي مهمته الاحترافية التي أمضى جُـلّ حياته يقوم بها مع السلطان محمود، لم يجد أحدا ينصت له، وتم فرض عقوبة لم تحدد عليه.
3- ذكرها الجغرافي ابن مرزوق الإسفراييني في كتابه “مسالك خراسان”، حيث كانت تستقر البساتين في الخريف وسط هدوءِ رياحٍ رطبة، وكان كل شيء يتم إعداده للشتاء بعد موسم ناجح وصل سعر القفيز فيه إلى الضعف. “يتوقعون في المجالس متى سيحل الصقيع. ويقول أحدهم أن الشتاء سيجيء لماما ويرحل” ثم يصف المزارع والغابات والسهول وقد تجردت من أوراقها في اصفرارِ خريفٍ نقي، “وكأن طوس تحترق في الغروب”. ولكن فجأة هبّت عاصفة رملية. “كانت تلوح قادمة من مكان لا يمكن تحديده” يصفها وكأنها دخيلٌ ماورائيٌّ، جغرافيا وزمنيا. رياحٌ تحمل حبات رمل حمراء لهبية تطوق الرؤية وتلج المنازل، امتدت لأيام طويلة، تطمس كل شيء في طريقها وتفرض عزلة حسية صارمة، حتى توحّد الناس فيها وصاروا يرون في حمرتها الشاحبة أشياء مخيفة. يقول أحدهم أنك كنت ترى فيها أحبابك ممن ماتوا، أوجههم وأجسادهم مجوفة بلا ملامح تحددها ندف الرمل، تظهر في هيئاتٍ من الألم والصراخ والعذاب. كنت ترى أشياء لك، أزمان ومنازل وشطآن وطرق وملاعب قديمة هجرتها ويتفتت قلبك حنينا إليها. بل وترى أشياء منك، فكرة مرعبة راودتك، حلم مخيف عشته، كَمَدٌ يائس ألمّ بك، نبوءة كابوسية ستحلُّ عليك. “كلها صارت مرئية في ضباب الرمل الأحمر هذا”. وحينما رحل، كنت ترى الناس تحدق في بعضها وكأنها جاءت من سفر سحيق لم يكن متوقعا أن تجيء منه، تخرج من أوكارها وعليها قشرةُ حمرة كالحة، وفي أرواحهم حزنُ من رأى حلما مزعجا ينخر ندبة لا تزول. “كنت تجلس مع الرجل فتقول له لقد رأيت أمي وهي تصرخ وتتألم وكأنها تحترق، فيرد الرجل منكسرا لقد رأيت نفسي وأنا أموت”.
4- أوردها ابن ربيع النيسابوري في كتابه “تاريخ خراسان الأكبر” للتعريض بخطورة الطرق في فترة تصارع الحكم بين الغزنويين والسلاجقة. حيث يصف “شرذمة يستوطنون قنن الجبال التي تنخر السحاب، يختبئون وراء الوعر ويعيثون فسادا في الأرض” يقول أنك إذا صادفت جماعة منهم ستجد أن أكثرهم بيد مقطوعة إثر قصاص قديم، وأن ندوبا تشوّه أوجههم، بعضهم مفقوء العين، آخر يقطع وجهه شق مثل خندق. يقتلون في سبيل القتل أحيانا ليس إلا، يتكلمون لغات غريبة لم تسمع بها من قبل، ولا تعلم كيف يفهم أحدهم الآخر.
5– أسهب ابن النعيم في وصفها، بل أنه عاد لاحقا إلى الإشارة إليها عدة مرات في كتابه. حيث وصف كيف أنهما (هو ودلال من همذان) كانا يسيران في شعيب ضيق تُـطبق على دفتيه متاريس كثبان ثلجية. “وكأننا بين دفتي كتاب تهمُّ بإغلاقه”. وبينما كانا يسيران في هذا المسار الضيق رآها في المدى البعيد الملتفّ، حيث كانت معلقة من غصن عالٍ تغطيه قنة الكثيب المحدودبة في الزاوية المائلة، ولذا بدا وكأنها معلقة هكذا في الهواء. “لقد بعثت قشعريرة ورعبا في جسدي”. وحينما اقتربا منها برزت الصورة كاملة: شجرة الصفصاف الثلجية، الغصن العالي الذي شُنقت منه، حيث يبدو أن من شنقها قد عقد الحبل من قنة الكثيب المجاور ورماها لتتدلى. ثم وصف أنها كانت عارية الجسد، وأنها فيما بدا له حامل في شهر متوسط. قشرة الصقيع التي على جلدها لم تغطي حلمة ثديها التي تعلقت فيه إما ندفة ثلج أو قطرة حليب، لم يكن هذا واضحا. ويبدو من خلال وصفه، أنه قد تأثر كثيرا بالصورة هذه، “لم تكن أول مرة أرى فيها جثة امرأة مقتولة، ولكن كان في هذه شيء يثير الكمد والألم”. حاول أن يقنع رفيقه أن يعاونه على إنزالها، ولكنه رفض، وبعد محاولات فردية بصعوده إلى الكثيب ومحاولة تسلقه للشجرة، رضي بهزيمته، ومضى بحسرة لم يستطع إخفاءها. ولكنه يروي لاحقا في موضع آخر كيف عاد مع خمسة رجال من قرية مجاورة، وأنزلوها. وكيف أنه لم يجد لها عائلة، أو أحدا يعود نسبها إليه، ولذا دفنت ولم يحضر إلا من يحتسب الأجر.
6– ذكرها أبو الفضل البلخي في كتابه “زراعة بلخ”. وقد قدم وصفا بليغا مسهبا لتآكل الأشجار وحصحصة النبات، وكأنه يصف وباء بشريا. كان يقول أن “أوراق الشجر تصفرُّ أولا وكأنها وجهُ معتلٍّ أحرضه المرض. ثم يدمي لحاؤها بسواقي نسغ صمغية. ثم ينثني جذعها ويحدودب مثل عجوز يمشي وعينه على قدميه، وتظل تنثني أكثر حتى تنكفئ على نفسها مثل الجنين في بطن أمه. ثم يتآكل لحاؤها ويتفتت وتبقى هناك خشبا مقوسا نبت من الأرض. لعمري ما رأيت موتا أشد كمدا من هذا”.
7– أريد طمأنة القارئ، الذي أجزم أنه اكتشف الآن أنّ كل مصادر الكتب بكتّابها في هوامش هذه القصة ملفقة، بأن أؤكد له أن مصدر هذه القصة هو الاسثناء. راجع طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، وهو كتاب “حقيقي” لمؤلف “حقيقي”، وستجدها مذكورة في ترجمة الغزالي.
8- آخر مصدر ملفق في القصة، أعدكم.
.
حينما قرر السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي غزو كشمير، ما بين عامي 407-409، والتي ظلت متعذرة لسنوات بسبب برودتها ووعورتها، خرج بجيش كبير من عاصمته غزنة يخترق جبالا وعرة وسهولا موحلة بادرهم فيها الشتاء متقدما عن وقته، في رحلة أسهب في وصفها الرحالة ابن النقاش الخوارزمي. سهولٌ فسيحة بنتانة مطر متأسن ينقع في العشب والطين. رياحٌ باردة تكلح سمرتَها في مسامات الأوجه المتيبسة. ثم ثلوجٌ سدت منافذ الجبال وسوَّت بين الأباطح والتلال. آلاف من البشر يملؤون السهوب الثلجية ويقطعون الوديان والأنهار الجليدية ويصّعدون في ممرات الجبال البيضاء مثل الذر. ولكن لاشيء يفوق غبش السديم الذي تُحدثه نُدف الثلج الصغيرة، حينما تواصل الهطول لأيام برتابة وهدوء، تُـضبب الأبعاد وتُعلّق الإحساس بالمكان والزمان، الصنوبر والقُـنن والمنحدرات والهضاب، الشمس والقمر والنجوم وتمايز الضوء والظل، كلها تظهر وأنت تخترق فقاعة هذا السديم على هيئةِ حوافٍ مرسومة. أحدهم عربيٌ طائي من العراق كاد أن يُجن، اقتنع أنه يسير عالقا في حلم كما يقول صاحبه، صورةٌ منحوتة في المدى الدخاني تكرر نفسها بلا نهاية. بعد مدة من الترحال، زمرةٌ من الجنود المستنزفين، لا يتجاوز عددهم ستة تقريبا، ضاعت أسماؤهم في التاريخ ولم يُعرف عنهم إلا أنهم كانوا صعاليك من أماكن متفرقة في جبال الديلم والجوزجان، سرقوا طعاما وعتادا وهربوا من الجيش. ضلوا الطريق أسابيع عديدة، البراري الحصوية وقد تآكل البياض فوقها مثل بثور على جلد، الضباب الذي يبدو وكأنه بَرَك بالسماء قريبا من الأرض، الأدغال والمفازات والجبال والأهوار، يقتحمون رساتيق وقرى ومدنا على امتداد خراسان، يسرقون ويغتصبون ويمضون إلى غاية لم تحدد. حتى وصلوا بعد سنة تقريبا إلى حواف مدينة أستراباذ في جرجان آخر الخريف. ثمة بيت طيني منعزل على طرف مزرعة قمح مجزوز، قريبا من دسكرة صغيرة، يعيش فيه شيخ مسن وثلاث بنات. الصعاليك الأربعة – حيث نقص اثنان منهم كما يبدو – وزعوا أنفسهم بعشوائية تبادلية بين الفتيات. ضربوا الشيخ ورموه خلف البيت تحت المطر. نضجت عربدتهم في الليل أكثر، شربوا الخمر كله، أدخلوا الشيخ الذي كان بين الموت والحياة، وضعوا مصحفا على جبينه وأخذوا يقرؤون آيات محرفة ويخلطون بينها وبين قصائد صعلكة في حفلة تأبين معربدة. يغتصبون الفتيات في الصالة التي تطفح بلزوجة المطر النتن، حيث الأب المسجى بالمصحف على وجهه، وحيث الآخرون يغنون ويرقصون ويتقيؤون. حينما خرجت العصابة بعد أيام، كانت قد خلفت وراءها ميتين، الأب والابنة الصغرى، وأخرى كانت حاملا، هي والدة قتادة، والثالثة بعين يمنى مسمولة بالنار، قتلت نفسها بعد ذلك بأيام.
فترة طفولته فجوة مغيبة تماما. فلا مصادر تؤكد ما الذي حدث بالضبط. سنراه لاحقا، في السابعة عشرة من عمره، ينتسب إلى عصابةِ أحداثٍ صغيرة في جبال ألبرز عند الديلم، يُذكر أنه هرب من بيت لم يُحدَّد وهو في الحادية عشرة من عمره. سنجد قبل ذلك أنه عمل فور هربه صبيا في متجر أقمشة في بكراباذ، كان يسرق عدة شُـقّات من الأبريسم والقطن ويبيعها بعيدا عن السوق، إلى أن قبض عليه صاحب المحل وطرده. سنجده في الطريق إلى بوشنج بجانب نيسابور، يقطع السهول السهبية المرقعة بحشائش العشب وأشجار السنديان، يمر بمَـزارع صغيرة تبرز في واجهتها أشكالٌ ظلية بشرية في خلفية الغسق المتباطئ، مستنزفة ومحدودبة تغطيها رثاثة غليظة وهي تحرث وتحفر، حتى صادفه شيخ عطف على منظر الصبي الذي يمشي وحيدا في الصيف الحارق، فعرض أن يُركبه معه، وحينما باتا الليلة تحت شجرة تين كبيرة أخذ يخبره أنه ترك للتو العمل عسكردارا (ناقل بريد) في ديوان بلخ عند أبي عبد الله الفارسي، وأنه اعتاد على حياة الطرق حتى صار يستثقل المدن، يبدد أيام تقاعده وهو يضرب الأرض من مكان إلى آخر. يقول الشيخ أن الفتى كان يجلس بصمت متجهم وهو يحدق، وكأنه ينتظر حدوث شيء ما، وحينما أفاق في الصباح لم يجده ولم يجد الخيل، سار نصف فرسخ في اتجاه الأثر فوجد الخيل ميتا وقد انكسرت رقبته داخل خندق صغير، وبجانبه فردة حذاء ممزقة، ولا أثر للصبي. ثم سنجده أبعد في نَسا يعيش فيما بدا مع شيخ سكير مشهور في المدينة يدعى عباس، متسول يلوح دائما وكأنه بُني مع أساسات المدينة، كنت تراهما حسب شهادة صانعة تجوب البيوت وهما يجران أسمالهما البالية في أزقة نسا، التناقض والتشابه الحاد بين طفل دميم نحيل وجائع وشيخ دميم نحيل وجائع. نفقد خيطه هنا، وأغلب الظن أن عباس قد مات في مثل ذلك الوقت، حيث انقطعت أخباره. ثم نجد قتادة في أبيورد، يعمل مساعدا لشاعر مُـكْدٍ يدّعي الصوفية ويزعم أنه روح أبي فرعون الساسي، رائد المكدين البصريين في القرن الثالث، قد عادت إلى الحياة. يُهرّج ويقص ويستجدي ويحتال في الأسواق والمساجد، يروي قصصا وأشعارا عن رحلات خرافية لأماكن لا تُصدق. إحداها وأشهرها قصته حينما مات ودخل جهنم. قابله ملَـكٌ متعاطف معه وقال له إنك أتعس مخلوق خلقه الله حظا، وأنه لا أتعس منك إلا نعجةٌ في عهد نوح، وجدت مرعى كبيرا فارغا بعد جوع وترحال طويل، وحينما همّت بالأكل جاء الطوفان واقتلعها مع المرعى. وكيف أنه تعذب في جهنم بجانب زمرة من الأعيان المشهورين، فأتقن الخطابة من قس بن ساعدة، والشعر من الفرزدق، والنكاح من مصعب بن الزبير، واللواطة من أبي نواس. ولكن تم استخراجه فجأة من هناك، وقال له الملَـك الذي أخرجه أن أهل أبيورد (ويغير اسم المدينة حسب الحاجة) في ضمور وتعاسة، وأنهم يحتاجون إلى رجل مثلك، ثم ينهي قصته وهو يفرد ذراعيه ويقول “أنا هنا”. تعلم منه قتادة شيئا من الشعر والفكاهة وفنون التحايل، حتى انفصلا، إذ نراه فجأة في خلاء ما وسط خراسان أثناء الشتاء، وهي الرواية التي سنأخذها من قتادة بنفسه حينما كان يحارب لاحقا مع السلاجقة، إذ يروي قصة مرت به وهو في الرابعة عشرة من عمره، يقول أنه خرج من أبيورد برفقة رجل لا يذكره (متقمص روح أبي فرعون الساسي غالبا). آواهما ليل الشتاء الثلجي إلى خربة وجدا فيها جثة صوفي من الشكفتية، تفسخ لحمه عن عظم مدقوق مثل الطين، تستقر أغراضه في مكانها لم تعبث بها يد أو ريح، بجانبه رسالة مكتوبة إلى امرأة يبدو أنها زوجته، موضوعة بطريقة موجهة لذلك العابر المستجير بهذه الخربة ذات يوم، يقول قتادة أن الرجل الذي كان معه أشعل النار وجلسا حولها، ثم وضع طرف الرسالة على اللهب، “وراقبناها تحترق، ثم قال لي لابد أن المرأة قد شبعت موتا مثل صاحبها”. وحينما أصبحا كان الثلج قد توقف، خرجا وسارا في المفازة السهبية الكبيرة المرقعة بالبياض والتربة. وفي لحظة خاطفة، تكوّن خلفهما طوفانٌ أبيضٌ هائل، يملؤ الفراغ بين الأرض والسماء، يزحف. أدركتهما العاصفة الثلجية فطوّحت بهما، تحمله عن الأرض في انعدامٍ تام للرؤية، ارتقت به ريحُها المخروطية نحو سلسلة جبال يصّعد فيها وهو لا يعلم أفي الأرض هو أم في الهواء، وحينما انقشعت العاصفة وجد نفسه على حافة جبل يكشف زاوية بانورامية للسُّهْب الذي تغطى تماما بالثلج تحت قدميه. كان في المكان بياضٌ ساطع قوي، مثل دهان مسكوب على ذلك القعر السهوبي الشاسع. لم يكن هناك صوت، ولا حتى أزيزُ صمتٍ خافت. لم يكن هناك روحٌ أو حركة أو نَـفَسٌ أو ظلال أو شجر أو أثر. بياضٌ دهانيٌّ ساطع فقط، بياضٌ دهانيٌّ ساطعٌ معدوم الحياة يطمر السهب بأكمله. العاصفة قتلت كل شيء، خلَّـفت نُدفا صغيرة تبخرها المفازة في فضائها، بالونةُ دخانٍ مرتفعة في السماء تكفن السُّهب الأبيض. العاصفة قتلت كل شيء. إنه مكانُ ما بعد الموت. ثم يقول وهو في الثلاثينات من عمره يشرح ما شعر به وهو في الرابعة عشر من عمره “الله أو الشيطان، أحدهما كان هناك. لست أعلم من”. وللأسف، هذه هي الجملة الوحيدة التي سنجد قتادة يقول فيها شيئا شخصيا، فكلُّ القصة مرويات منقولة لأحداث مجردة. المهم، نعود إلى الكرونولوجيا. سنجده بعد ذلك في نيسابور، في ماخور جنوب المدينة يديره قواد مسن، يعمل بأجر الطعام والمسكن في سرداب سفلي مكدس بالخردة. إحدى العاهرات ثلاثينية متهتكة تلقب بمياسة، كانت هندية فاتنة تجيد أكثر من لغة وتحفظ كثيرا من الشعر، لا يُعلم كيف انتهى المطاف بها هنا، مما مكننا من اقتناص عدة قصص عن قتادة في ذلك المكان. كانت شبقة ولكن متطلبة، التجربة الطويلة وسعت آفاقها الحسية إلى سقف إعجازي لم يعد يكفيه مجرد أداء جيد، ولذا كانت تقول أنها لم تذق لذة جماع عظيمة منذ سنوات، “كل الرجال صار طعمهم واحدا”. وفد إلى الماخور ذات يوم رجل فارع الطول عريض البنية من بلخ، حارب لسنوات مع الغزنويين في فتوحات الهند، تكفي رؤية وجهه المتحجر بالقوة والبهيمية أن تتنبأ بأنه الرجل المناسب للمهمة. حينما رأته وحادثته استحكمت غُـلمتها وساقته أمامها وقد استجمعت ثوبها لتحدد رسم أردافها التي تترجرج في مشيها، ولأول مرة منذ مدة طويلة كانت تصرخ بقوة، كان الماخور كما يقول الراوي في لحظة صمت مطبق ينصت لصراخ هذه المجنونة متى سينتهي وهذا البعير الهائج متى سيفرغ. صرخت بكل ما يقتبس مفردات دينية للتعبير عن نشوة تكاد تكون تجليا ماورائيا “يا إلهي. يا ربي. الله أكبر. فتحٌ مبين” إلخ، حتى بلغ قاموس مفرداتها إلى حدِّ أن صرخت بشيء ربما تجلى من أعماق مرجعيتها الجغرافية “شيفا”، وحينها توقف الرجل دفعة واحدة، وعلى وجهه ذهول وصدمة، ولأجل أن نفهم جيدا ما حدث، فيجب أن نعلم أن “شيفا” هو أكبر أصنام مدينة سومنات المقدسة، الذي كان هذا البلخي قد ساهم في تحطيمه مع الغزنويين، كما أنه ساهم أيضا في تحطيم مئات من الأصنام التي لا يمكن حصرها، فهو محطمُ أصنامٍ محترف أفنى حياته في القيام بذلك، ولذا حدق فيها لحظة بذهول ثم صرخ “يا عدوة الله” وانقض عليها يخنقها. أول من هجم عليه كان صبي الماخور، ولم يسمه الراوي باسمه، إذ كان يصفه بجسد لا تلحظه إلا وهو منزو في ركن مظلم متلصص، كان يقف بارتباك في الرواق ممسكا بعدة دراهم وينتظر أن يدخل عليها، ربما ليعرض استئجار خدماتها، فتح الباب وانقض على البعير البلخي الهائج متعلقا في ظهره مثل حدبة، وهو لازال ممسكا بدراهمه المتعرقة في راحة يده، ثم اجتمع كل من في الماخور حتى أسقطوا البلخي على ظهره وسقطوا معه ليكتفوه في الأرض، حيث كان الشيء الوحيد المنتصب بين جملة الأجساد المنبطحة هو ذكر البلخي الذي لازال صامدا مثل الفنار بينهم. ثم نقرأ قصة لاحقة لمياسة وهي تذكر قتادة باسمه، “صبي دميم أشعَـر الصدر أمرد الوجه، مثل رجل وطفل في جسد واحد” ثم تزفر بخفة وتكمل “رحمته والله يا أختي، ذكرني بكلب كنت أربيه”، وكيف أنه صار ينام عندها حينما تكون لوحدها، تجعله ينام غالبا على الأرض بجانب سريرها، وتسمح له أحيانا أن يكون بجانبها فتصحو وتراه نائما على صدرها العاري مثل كلب كما تقول. ثم نجده لاحقا في سجن نيسابور، دون أن نعلم تفاصيل القصة، منزو في ركن مظلم متلصص، يصفه لص يروي قصة لا علاقة لها به ولكنه يعرج عليه بشكل عابر “كان فتى غريبا اعتدت رؤيته أحيانا عند عجرم القواد. قلت له ضاحكا لا تجزع، ستجد قوادا آخر تعمل لديه. ولكنه لم يرفع رأسه ولم يطرف له جفن. لقد ظننا أنه مات”. نجده لاحقا في طوس، ونعلم أن رجلان لم يُعرَّفا قاما بقطع الخنصرين من يديه، ولا نعلم قصة هذا الحدث المهم. كان يعمل طيانا (يطلي جدران البيوت بالطين) عند رجل يقال له الغوري، يستخدمه العامة لبناء بيوتهم، حيث يُرى الصبيُّ ليلا بخنصريه المقطوعين وندوب وجهه وهو يجلس في هذه البيوت التي لم تكتمل، وحيدا في الظلمة، لا تصدر منه حركة واحدة. أحد اللاطة يقول أنه جاء بأمرد ليختلي به في بيت من بيوت الغوري التي لازالت تبنى، وبينما كانا يتهتكان ويخلعان ملابسهما أحس بجسد في الزاوية، وحينما التفت رآه جالسا وهو يحدق فيهما، يقول أنني ظننته جنيا فقفزت فزعا إلى الوراء، جلسنا برهة نتطلع في بعضنا، عيناه تلمعان في وجه جامد لا ملامح فيه، ظننت لوهلة أنه ميت، غير أنه قال أخيرا وهو يهز كتفيه “لا أمانع”، ولكنني لبست ثيابي وأخذت الصبي وخرجنا لا نلوي على شيء، “والله لازلتُ أظنه جنيا لعنه الله”. ثم نجده وهو في السادسة عشرة من عمره تقريبا، يعمل في بستان على حافة رستاق عند الطابران خارج طوس، يملكه ثلاثة إخوة مشبوهين يسكنون في بيت على طرفه، اشتروه خربا واستوطنوه في عزلة تامة قادمين من مكان مجهول. جاء ذكرهم أول الأمر في التعريض بعاصفة رملية غامضة كادت أن تعصف برساتيق طوس كلها. كانت تُروى عنهم أخبار غريبة جدا، ولم نعرف كيف انتهى قتادة إليهم. اختفوا فجأة مثلما ظهروا فجأة ذات صيف، فعمل قتادة في حقل القمح لوحده حينما حل الموسم وانتقل ليعيش في البيت عوضا عن مَـربد الغنم الصغير الفارغ، وبدا وكأنه يستقر هناك، خصوصا حينما وردت أخبارٌ تزعم أن الإخوة الثلاثة قد قُتلوا مع جيش سالار الهند (قائد جيوش الغزنويين) أحمد ينالتكين الذي تمرد على السلطان مسعود بن محمود فأرسل له جيشا قضى عليه. يروي شيخ طوسي يسلك الطريق أسبوعيا إلى نوقان كيف أن صبيا يُرى من بعيد مثل الظل في انعكاس الشمس وهو يحرث حقلا يباسا ويسكن بيتا كبيرا لوحده، رغم أن ضوءَ فانوسٍ خافت صار يُرى ليلا وهو يضيء المربد الصغير حيث ينام الفتى. وبدأ مع الوقت يرث عن الإخوة المختفين أقاويل الغموض الغريبة التي صارت تقال عنه. وقد زاد أسطورة الغرابة هذه حينما اختفى هو أيضا، أخذ ما يمكن أخذه ومضى. ثم نجده أخيرا في سجن نيسابور لسبب مجهول، وهنا تَـعرّف على فتى لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، نعلم أنه مشرد معدم كان في طريقه للهرب من نيسابور “التي لا تحبني” حسب تعبيره حينما قُبض عليه، إذ طلب منه نخاس في السوق أن يراقب جواريه الست ريثما يذهب لقضاء حاجة طارئة مقابل نصف درهم، وحينها قرر استغلال وقت الفراغ وتوديع نيسابور التي لا تحبه بأن يسحب أجمل واحدة منهن وأن ينكحها في ركن ما مقابل نصف الدرهم الذي لم يتسلمه بعد، ولكن الجارية، التي ربما رأت نفسها أرفع منزلة من المومس أو استخسرت نصف الدرهم مقابل جسدها أو ببساطة تقززت من منظر المراهق القذر، ركلته وجلدته وسط السوق الضاحك، في الوقت الذي عاد فيه النخاس وعلم بما حدث فجلده أيضا وسلمه إلى المحتسب (ضابط مدني يراقب الأسواق) الذي “لا يحبني أيضا”، حيث أرسله إلى السجان – لم يقل عنه شيئا ولكنني أفترض أنه لا يحبه أيضا – الذي قرر حبسه عدة أيام دون أن يحوله إلى القاضي. أخبر الفتى قتادةَ أنه يخطط للذهاب إلى آمل طبرستان، حيث يعرف صديقا له انضم إلى عصابة هناك في جبال ألبرز شمال الديلم، وهناك نجد قتادة بعد أن لحق به وهو في السابعة عشرة من عمره كما أسلفت. القصة الوحيدة التي وجدتها عن عصابة الأحداث هذه، هي ما يحكيه تاجر من أسفرايين ضل طريقه وهو عائد من همذان ودخل على جبال ألبرز من جهة جيلان في أول الخريف. يقول أن جماعة من الصعاليك قفزت عليه فجأة بسيوف وخناجر وأحجار، ولكنه تفاجأ أنهم كانوا صبيانا لا يتجاوزون السابعة عشرة من عمرهم، يغطي العرق زغب شواربهم الخفيفة ويُـقلّم وجوههم ترابٌ وسخام وقذارة، ولذا لم يأخذهم بما يكفي من الجدية، يقول أنهم لم يجترئوا على قتالي، كان يظهر عليهم الخوف والتوجس، ولذا اتفقت على مقايضة معهم دون كلام، تراجعت عن البضاعة وتركتهم يقتربون ليأخذوا شيئا منها، وحينما أكثروا هددتهم بالسيف فتراجعوا وهم يسبون ويلعنون، بل أن أحدهم حاول أن يبصق علي ولكن الريح واجهت بصقته وعكستها على وجهه بين عينيه فاستدار وهو يضرب الهواء ويمسح البصقة، ثم رأيتهم يلوذون بالهرب وهم يتقافزون فرحين مثل أطفال ويختفون في سفوح الجبال الصخرية فوقي.
في نهارٍ شتائي من يوم لم يُحدَّد، خرج صياد يقال له ربيع بن الفضل، بيهقيٌّ مهاجر استوطن قرية في رُستاق لم يُذكر اسمه جنوب شرق بحر الخزر (قزوين حاليا). كان الشتاء قد طبع الأرض بقشرة جليد لم تثخن بعد، ولذا لم يكن ثمة شيء ليصاد، ولكنه خرج رغم ذلك ليرى الخزر. على ضفافه، وبين أشجار الصفصاف الطويلة، رأى شكلا في الظل، وحينما اقترب منه بحذر كان شابا متدثرا بأغصان تفتتت وتناثرت، وجهه مزرق باحتقان دم متجمد. كان حيا بالكاد. حمله وذهب به إلى كوخ صيد قريب، ثم نقله مع صيادين آخرين إلى بيته، حيث اعتنت به امرأته، وهو ينتفض في حمى قوية. بعد أيام بدأ يهذي، ذكر جملا غير مفهومة عن أصحاب له في قارب، يعبرون الخزر من طبرستان شمال فارس اختصارا نحو أقصى شمال جرجان. أبلغ الصيادُ كبير القرية الذي أخذ ثلة من الرجال وذهبوا إلى هناك. كان الشتاء قارصا في تلك السنة، لم يشهدوا زمهريرا مثله كما يقول الراوي، الصقيع يغطي الآن كل شيء، الهواء البارد يجرح حدقة العين فترى رجالا بأعين رطبة دامعة، متدثرين تحت فرو كثيف. حواف شرق الخزر الضحلة كانت قد تجمدت تقريبا، قشرةُ جليدٍ ثقيلة تسمع تحتها خرير ماء بعيد، سيطمر الثلج سطحها الزجاجي قريبا، وكأنها قطعة مرآة هائلة تلمع وتغشّي. تطوع أحدهم ليقطعه وحيدا. المكان فيه صفاء الشتاءات الغائمة الذي يكشف المدى بانعدام سطوعه. يحدق بين قدميه في صفحة الجليد الأبخر، يمسح الدخان بقدمه عله يرى شيئا في الماء، وبعد مدة من المشي رأى وجها بشريا عالقا في سطحه، مسطّحٌ وكأنه يُحدق في السماء، بفم مفتوح ووجه لا دم فيه وعينين هامدتين، متشبث بقطعة خشب، لابد أنه مات وهو ممسك بها فتجمدت معه، قدماه تعومان في الماء ولكن وجهه ويداه متجمدة في التصاقه بقشرة الجليد. يقول أنه رأى الجثث في أماكن مقاربة، ولكنه ليس متأكدا إن كان لم يتوهم ذلك، أشكالٌ ظلية شبحية، تعوم بشعور رأس طويلة وأياد ممدودة، تصعد وتختفي في العمق المعتم.
في ميهنة، يجيء ذكر شاب لا يُعرف عمره، يبدو كبيرا بندوب وجهه وخنصريه المقطوعين، ولكنه في الحقيقة أصغر من مظهره، يسمي نفسه قداح القيزوني، وهو ما كان اسما غريبا نوعا ما، حتى أنه ظل عالقا في بال البعض. كان قداح يعيش تقريبا في الخانقاه الذي بناه الصوفي أبو سعيد بن أبي الخير، عدا ساعات يخرج فيها إلى المساجد القريبة والأسواق الصغيرة. يصفه أحد الدراويش أنه يبدو غالبا مثل ظل، يجلس دائما في الزاوية المظلمة وعلى هيئته وجوم مراقب، يقول أنك في اللحظة التي تراه فيها بوجهه المُعرِض وخنصريه المقطوعين وعينيه المجوفتين تدرك أن أشياء كثيرة حدثت لهذا الشخص، حتى عرفه الجميع واعتادوا على مظهره الصموت المتلصص في الزاوية. إذا تحدث، وهو ما كان نادرا، يسألهم غالبا عن سيرة الفضيل بن عياض، الذي كان قاطع طريق بين سرخس وأبيورد، قبل أن يصير قبلة الصوفيين في خراسان، فيأخذ ما سمع ويعود إلى زاويته وعلى ملامحه استغراب شارد. كنت ترى قداح وهو يجلس في الزاوية ممسكا برق عليه رباعيات ابن أبي الخير “المقامات في التوحيد”، مكتوبة بالفارسية التي لا يجيد قراءتها، رغم أن الدرويش يعود ليقول “أظن أنه لم يكن يجيد القراءة أصلا، رغم أنه يتكلم لسانان أو أكثر”. اختفى قداح ذات ليلة، خرج ولم يعد، وظلت زاويته الكئيبة شاغرة لا يجلس فيها أحد، كما كانت قبله. ثم نرى رجلا يقال له أبو حامد، يعمل كاتبا في مجلس القضاء، اعتاد أن يرتاد الخانقاه ويوزع الطعام والصدقات على دراويشه ويجالسهم ويحادثهم. في يوم ما كان يدون ما يمليه أحد القضاة، وإذا بشاب يقاد في قضية ما، رفع رأسه فرأى قداح، كان قد سُجن منذ أيام وتأخر تقديمه بحكم مرض ألمّ به. أراد أبو حامد أن يخبر القاضي أن ثمة خطأ في الموضوع، ولكن القاضي ابتدر المتهم فسأله إن كان يقر بما فعل؟ فقال قداح بنبرة عفوية تخلو من المبالاة: نعم. سأل القاضي: إذاً تُـقرُّ أنك كنت تسرق الأموال من جيوب المصلين والسابلة في الأسواق؟ فرد بنفس نبرة الصوت المستسلمة اللامبالية: نعم. أحد أفراد الشرطة المرافقين له أبلغ القاضي أنهم اكتشفوا أيضا أن اسمه ليس قداح وإنما قتادة، ولكنه اعترض بقلة اهتمام وقال أن اسمه ليس قتادة أيضا، سأله القاضي إذاً ما اسمك؟ فهز كتفيه وهو يغمغم لا أعلم. ومن هنا تنقطع القصة. الغالب أنه تم تعزيره بحكم مخفف، وربما سجن مدة من الوقت، ولكن لم ينفذ فيه حد القصاص لسبب ما.
هنا تحدث أول فترة انقطاع طويلة. ولكن لاحقا، هنالك قصة عابرة يرويها تاجر مسن من مرو الروذ. إذ يحكي أن عصابة معروفة قطعت الطريق على قافلته عند جبال جرجان هو ومن معه، وأصرّ على أن أصغرهم هو شاب يدعى صابر، عرفه من خنصريه المقطوعين، كان تاجرٌ من أصدقائه قد أخبره بقصة حدثت معه وهو متجه إلى بخارى، حيث تاه في تلك المفازة الرملية المهلكة بين مرو الشاهجان وآمُل جيحون، وبعد ساعات صادف شابا بخنصرين مقطوعين يسكن تجويفا صغيرا بين صخرتين عملاقتين في الصحراء، وحيدا منعزلا، حتى ظن أنه من الشكفتية الصوفية الذين يأوون إلى المغارات والكهوف، رغم صغر سنه الذي لم يكن جليا على مظهره الأشعث الأغبر. يقول أنه لم يجد بدا من أن يبيت لديه بصحبة صبي كان يرافقه، لقد خسرا كثيرا من الماء ولم يكن لدى أي منهما معرفة بهذه المتاهة الرملية. ثم يقسم أنه أحس وهو نائم على جنبه بهذا الشاب وراءه، يمسك خنجرا أو سيفا، يتنفس بهدوء رتيب. يقول لقد ظللتُ ساكنا في موضعي، فكرت لو أنه كان سيقتلني لقتلني، ولذا لم أتحرك لئلا أفاجئه فيعقد عزمه، وبقيت على جنبي أدعو الله أن يكف يده، حتى تحرك وعاد إلى فراشه. ويكمل أنه في الصباح دلّه على أفضل الطرق نحو جيحون، وكأنه يعرف هذه المفازة عن ظهر قلب، “وذهبت وأنا أعلم أن روحي قد رُدّت إلي”. نفترض من هذه القصة أن تلك الفجوة كان قد أمضاها في تلك الصحراء، وهو ما لم نقع فيه على مصدر للأسف، رغم ما يبدو لتلك الفترة الغريبة من أهمية في وضع اللمسات الأخيرة على شخصيته. ولذا نعود للحكاية الأولى، فهذا الاكتشاف المهم بانتمائه لهذه العصابة فتح بابا في القصة لأخبارهم المنتشرة في مصادر تلك المنطقة على امتداد عدة سنوات. كانوا 15 رجلا تقريبا، يزيدون وينقصون بين حين وآخر، يعيشون بين جبال ألبرز من جهة جرجان. يختفون في شهور الصيف القليلة، ولا يُعرف بالضبط هل يظلون مستقرين في الجبال أم ينزلون عنها إلى الحواضر القريبة، ويظهرون في شهور الشتاء الثلجية التي تمتد أحيانا إلى أكثر من ستة أشهر. لهم طقوس خاصة في السرقة، فهم ملثمون غالبا، على خيولهم، يغلب عليهم التنظيم والاحترافية. روى أحدهم أن ثلاثة منهم قطعوا عليه الطريق في أول أيام الشتاء، حيث كان الثلج يتساقط بكثافة. كانوا متدثرين تماما بالفرو، لا تبرز منهم إلا أعينهم، اثنان منهما بيد مقطوعة. يقول أن جميعهم سفّاحون، وخصوصا مقدمهم، رجل فارع القامة من فارياب. يقول أنهم إذا كانوا في مزاج جيد، ولم تقل شيئا يغضبهم، سيسمحون لك بالذهاب، وإلا. على امتداد عدة سنوات، سطت العصابة على عشرات المسافرين والقوافل، واختطفت ما لا يقل عن 10 نساء. تم العثور على جثث ثلاثة منهن، أحدها يُرجح أنها التي روى عنها ابن النعيم في كتابه “الرحلات” بأنه صادف في طريقه من الري إلى نَسا امرأة عارية مصلوبة على شجرة عند جبال ألبرز، قد بدأ جلدها يتفسخ بلطخات سوداء تُرقّع قشرة الثلج الذي كان يغطيها. أما البقية فلا أحد يعرف ما الذي حل بهن، أو على الأقل لم يصلنا شيء عن ذلك. كانت تروى عنهم أخبار غامضة، وكأن لهم مجتمعا خاصا بهم وأسلوب حياة هناك في الجبال. بل أن أحدهم يروي قصة عن أنهم كانوا لا يأكلون إلا لحوم البشر، وآخر يقول أنهم يعيشون عراة في البرد لا يلبسون شيئا. رجل من أبيورد لم يكن يعرف بأمرهم يقول أنه مر بتلك المنطقة ذات يوم متجها إلى مدينة قزوين، ورأى هيئة رجل يقف بعيدا على حافة جبل شاهق، يبدو عاريا في ذلك الشتاء الزمهريري، يُطلق سهاما في الهواء، يقول حدقت في السماء فلم أرى طيورا أو شيئا يحلق، كان مجرد رجل عار على حافة الجبل في الصقيع يطلق سهاما على لا شيء! لاحقهم الغزنويون أولا ممثلين في ولاة أقاليمهم – وتحديدا العميد أبو الفضل السورى المعز والي خراسان حينها – والذين كانوا يحظون باستقلالية إدارية، ولكن دون جدوى، ربما بسبب انشغالهم بمحاربة السلاجقة – والقرخانيين والهنود في مناطق أخرى غير خراسان – حينها. وبعد أن توغل السلاجقة في سيطرتهم على المنطقة، وعينوا ولاة جددا، أرسلوا سرية صغيرة لا تتجاوز عشرة أشخاص للقضاء عليهم إثر اختطافهم فتاتين من دسكرة في رستاق مجاور، ولكن السرية علِـقت في ثلوج ألبرز المتراكمة، ثم وجدوا جثثهم مصلوبة من نتوءات الجبال، يقول أحدهم أنك ترفع رأسك وأنت تمشي وترى من بعيد جسدا يتدلى على حافة الجبل بين ندف الثلج البيضاء المتساقطة، وكأنه ظل يتأرجح بخفة مع الريح. حينما أنزلوا الجثث وقشعوا الثلج عنها انكشفت لهم الأجساد مسلوخة عن جلودها، الأحشاء والألياف تقشّرت في حمرة باهتة، مما جعل السلاجقة – الذين كانوا وقتها قد سيطروا تماما على ذلك الجزء من خراسان – يرسلون كتيبة حربية كاملة قضت عليهم وعادت برأس قائدهم الفاريابي ومرت به في كل حاضرة مجاورة للجبال. لم يُذكر قتادة في هذه المصادر، ربما لأنه كان جنديا صغيرا وهامشيا في العصابة، ولكن ما يحير هو أنك ستجد اسمه يرد في أماكن مختلفة، تكاد تكون متداخلة كرونولوجياً، مما يلمح إلى أنه لم يكن مع الجماعة حينها، وأنه ربما انسحب منها في فترة ما. فنجده مع جيش الغزنويين بقيادة السلطان مسعود الذي زحف إلى جيش طغرلبك السلجوقي من سرخس وحتى مرو الشاهجان، إلا أن قتادة قام فجأة أثناء المعارك المتفرقة بقتل ثلاثة جنود من جيشه وسرقة خيولهم وعتادهم ولاذ بالهرب فيما ذُكر نحو الديلم. ولكننا نجده مع الغزنويين نفسهم مرة أخرى في معركة لم تحدد انتصروا فيها على القراخانيين في الشمال. ثم سنجده في جيش طغرلبك السلجوقي الذي هزم جيش السلطان مسعود في داندقان. ثم سنجده مسجونا لدى الزياريين في طبرستان على خلفية جريمة لم تذكر. ثم سنجده لاحقا في قصة عابرة لعاهرة في ماخور في خوارزم بعد أن استولى السلاجقة عليها وتوافد عدة جنود إلى ماخورها، حيث تروي أن رجلا يدعى قداح القيزوني – فيما يبدو من سياق القصة أنه ليس جنديا وإنما مجرد زبون – قد سكر سكرا معميا لدرجة أنه بعد أن بدد أمواله على ثلاث قحبات وهو يهذي ويترنح، حاول اغتصاب جندي صغير السن لازال أمردا فاجتمعوا عليه يضحكون معه ويوجهونه إلى فتاة، حيث افترضوا أنه بلغ من السكر درجة لم يعد يستبين ما أمامه، ولكنه انتفض منهم واتجه إلى الجندي الأمرد مرة أخرى وهو يخلع ملابسه فاجتمعوا عليه وجلدوه ورموه. ثم سنجده مع جيش البويهيين الذين عادوا ليستحوذوا على همذان التي كان طغرلبك قد استحوذ عليها قبل عام. ثم نجده – وهنا يصير الأمر مثيرا للسخرية بصراحة – مع الجيش السلجوقي الذي أرسله طغرلبك ليستعيد همذان من البويهيين من جديد! تحدث ثاني فترة انقطاع طويلة في كرونولوجيا قتادة، لابدّ أنه قضاها في الحروب اللامنقطعة بين دول تلك المنطقة المتناحرة. حيث سنجده لاحقا مع جيش طغرلبك المتجه إلى غزو أرمينية وحصار مدينة منازكرد، حيث تُروى قصة عن جندي خراساني بخنصرين مقطوعين حارب مع الجيش، وحينما فتحوا قرية من القرى القريبة من منازكرد التي ظلت متعذرة عن الفتح، أُخذت نساؤها سبايا وتم انتقاء الأجمل منهن كما جرت العادة لقادة الجيش، ولأن قتادة ربما رأى في ذلك إهمالا لجهوده وجهود زملائه المظفرة، ولأنه لا يبالي مقدار خراء بمظلمة زملائه، فقد أخذ على عاتقه مسؤولية تصحيح مظلمته، وحاول اختطاف واحدة منهن من خيام القادة، حيث يتم الاحتفاظ بها هناك نظيفة وطازجة. تحايل على الحراس حتى وصل إليها، حاولت الهرب والصراخ فشج رأسها وكمم فمها وغطى وجهها وحملها في جنح الظلام إلى خيله، ربطها في السرج بإحكام، ومضى يخترق سهولا موحلة بمطر منقطع حتى ظهر الفجر، وقف وشرب الماء، ثم أنزلها وفك وثاقها وحل غطاءها، وحينها اكتشف أنها كانت قد ماتت، ربما متأثرة بالشج في رأسها، فقتادة كان معتادا على جماجم جنود لا تفلقها الشهب، ولذا يبدو أنه لم يوازن ضربته. أكمل الشرب من قربته، تبول، جلس يأكل عصيدة ويشرب نبيذا كان قد سرقهما، يحدق في الأفق المصفر فوق المساحة السهبية الشاسعة التي تقود إلى جبال القوقاز الصغرى بهدوءِ محترفٍ تعوّد على الخسارات السخيفة، ثم أكمل سيره، وترك الجثة وراءه على آثار حوافر الخيل بين نقع المطر. بعد سنتين تقريبا لا نعلم ما الذي حدث فيها، سنجده أخيرا في باب الأبواب، بخنصرين مقطوعين، محاربٌ متمرس، قاطع طرق قديم، ولكن لا أحد يعرفه، لا أحد يدرك أنه محارب أو صعلوك، لا أحد يتعرف عليه، يلبس ثياب المتسولين، يبدو مثل المتسولين، ولكنه لا يتسول، لا يسأل، يقف كل يوم من طلعة الصبح وحتى انتشار الليل عند باب المدينة، يحدق، يحدق فقط، يداه في جيبه، وقفته خاملة مستنزفة لا تتحرك قيد شعرة، عيناه لا تطرفان إلا نادرا، سَحنته تذكّر بجثة هامدة. يمر به الناس، يحاكيه أحدهم، يصرخ في وجهه أحدهم، يتصدق عليه أحدهم، ولكنه لا يرد، لا يبدي أي حركة. تراه ينحف كل يوم، يهزل كل يوم، يشحب ويتصحر ويتآكل أكثر مما كان عليه كل يوم، ولكنه لا يتحرك، يحدق فقط، والناس تمر، والمدينة تعيش، والأصوات تعلو، تنتشي، تصلي، تغني، تتألم، تتسامر، تتجادل، تنام. حتى جاء صباح ما، ولم يكن موجودا.
في آخر المنخفض الجنوبي لجبال القوقاز الكبرى (القبق سابقا)، شرق أذربيجان، هنالك امتدادات سهلية طويلة ومتنوعة تمتد إلى واحات وبحيرات وغابات مختلطة تشتبك بالهضاب والجبال التي ترتفع تدريجيا حتى قمم بازاردوزو وشاهداف في وسط القوقاز، تُشكّلها صخور طباشيرية وجوراسية بعضها موجود هناك منذ 200 مليون سنة. تختلف هيئتها المتناقضة الغامضة في كل فصل من فصول العام. شجر البلوط القوقازي بأوراق أغصانه وجذوعه الكثة التي تطمر ساقه فيبدو وكأنه دغل فارع يتداخل مع أشجار زيزفون مشذبة في مرج عشبي نُجَيلي شاسع. سلسلةُ جبالٍ خضراء متموجة تغطي بعضَها أدغالُ بتيولا متلاصقة وشجيرات قيقب كثة، وعلى الأخرى ممراتٌ نحتتها الأرجل والحوافر في الخضرة، يعبرها حجاجُ سفرٍ وعر. هضابٌ وسهول تغطيها تربة داكنة محصحَصَةُ النبات تمتدّ بك قاحلةً إلى امتداد البصر، في بعضها سهولٌ طميِيَّة صلصالية مترسبة لم تتصلد ومسطحات ملحية مقفرة، وسهوبٌ مستوية تغطيها أعشاب مناخات الاستبس المائلة للصفرة. نهرٌ جارٍ تحفه متاريس جبال وتلال عليها أشجار الزان والنغت الدبق المحدودبة، تتمطى لتكوّن سقفا أخضر ولكنها تنكمش في المنتصف عن فرجة خندقية يلج منها الضوء، يلمع دائما في انعكاس الماء الذي لا يتوقف. مستنقعات مغيضية دخيلة برواسبِ الطحالب الخثة، تقطعها قوارب تومض مثل بيوت عائمة في الخضرة السائلة. دوحاتُ أشجار المُـرّان متفرعةٌ بأغصانٍ وجذوع عملاقة تتوزع عشوائيا على امتداد مرعى واسع تغطيه حشائش عشب أخضر قمحي. ثم أخيرا غابة مختلطة من الزان تزاحمه أشجار الكستناء والتنوب والدردار، تتطاول على ارتفاعات تيجان متفاوتة، تجري فيها الجداول من أمكنة مختلفة، تسمع خريرها قادما من مكان ما، تغطي أرضها تربة سمراء مرقعة بحشائش عشب أخضر ويابس وشجيرات شرد متفرقة، ترتفع في هضاب وتنخفض في أودية تستوطنها دببة ونمور ووعول وزواحف وحيوانات غريبة لا اسم لها وتمتد في متاهة طويلة تشتبك في آخرها برساتيق وقرى وبساتين. في الخريف، تُغشّي المكان صفرةٌ باهتة، مطليةٌ على قشرة الهواء نفسها، يتخلص الشجر من أوراقه المتيبسة فتبدو ألحيتها العارية مثل عواميد تتكئ عليها السماء، تختلط الأوراق الصفراء الميتة بالتربة الكتسنائية، تتكسر تحت الأقدام والحوافر، تبعث رائحةً كئيبة تخنق الهواء، يفوح منها شعورُ فقـدٍ ما يُذكّر مارا عابرا بنهاياتٍ يحنُّ لها ولن يصل إليها، بيوتٌ وأصواتٌ وطرقٌ وأوجه. ويحل أول الشتاء، ويهطل مطر يتأسن في التراب والزرع، مطر يفرض لزوجة دبقة تنقع في الجلد حتى تصير جلدا آخر يتغشى برطوبة خانقة، وكأنك تغرق دائما أينما ذهبت. تتبعها ندف الثلج التي تسقط صغيرة، وتصير الأرض مزيجا من سمرة مرقعة بالبياض، تُخشخش تحت الأقدام والحوافر تربةٌ مبللةٌ بثلج يذوب، وتفوح من المدى روائح لا يمكن تحديدها، تحملها رياح الشمال القادمة من مهجر بعيد، وتبدأ صبغة جليد تغطي سواقي الجداول والأنهار، وتختفي طيورٌ في أوكار الدفئ وسط الأشجار، ويلمع كل شيء بغشاء ماء متجمد، ويغلب على المكان رعدةُ البرد الحزينة التي تبعث ذكرى أشياء منسية. ويتكاثر الثلج، ويختفي كل نَفَس حي من المكان، ويرتفع النثار والضباب ليطمس الأبعاد في رؤية محدودة مثل قوقعة مكورة، وترى ذلك البياض الدهانيّ الساطع الذي تشعر في كل مرة تراه أنك لم تر مثله من قبل، يغطي سطح كل شيء بسطوعه المعمي، يطمر نصف سيقان الأشجار فتبدو وكأنها شواهد قبور، ذلك البياض المعدوم الهيئة والشكل، يُميت الحواس، يسكُّ قشرة صقيع على جسدك حتى يصل بك إلى حالة حياد حسي، وكأنك لست موجودا حيث تقف، يُـذكّر المار العابر بأماكن يعرفها رغم أنه لم يرها، بيوتٌ وطرقٌ وملاعبُ وشطآن لم تحدث، أماكن لا وجود لها، يشعر الرجل فيه أنه فقد كل شيء، وأنه يلج غربة حيادية قاسية أبدية يختلق الخيال فيها صورا، وأنه لن يجد طريقا بعد اليوم، فقد طُمرت كل الطرق إلى الأبد، وأنّه لن يصادف امرأة تلمس جلده أو طفلا يُحمل بين يديه أو شجرة ثمر ظلا فوقه، ويدرك أنّ هنا، حيث يفيض البياض الحيادي الأبدي وتُسمع أصوات انهيارات ثلجية في جبال بعيدة لامرئية وراء النثار والضباب، تتجمع كل قسوةٍ وغربة أحس بها إنسان من قبل. ويحل الربيع، ويحل الصيف، ويحل الخريف، ويحل المطر، ويحل البرد، ويحل الثلج، وتتنقل الغابة في امتداد سهلي جبلي من أشكال مختلفة. كان قتادة يُرى في هذا الامتداد، متوحدا طوال عامين تقريبا، يحمل خيمته ورحله، يتنقل من بقعة إلى بقعة، يقتات على الصيد، يعيش جالسا عند خيمته، محدقا في الفراغ، هيئته توحي بمسافر عالق لا يصل.
كان أحد التجار قد اعتاد أن يصطاد في المنطقة التحتية لهذه الغابة، حيث كان له بيت في قرية قريبة يرتاده من أردبيل، يرافقه صبيه الذي يروي القصة. “كان يحبذ صيد الوعول، ولكنه يتركها جيفة” يقول الصبي، فلم يكن لديه اهتمام بالطعام أو الجلد منها، “يقوم بذلك حينما يخسر مالا أو يتكدر لسبب ما”. في صباح يوم من أيام الخريف، خرجا وتوغلا في الغابة. “لقد قمنا بهذا أكثر مرة خلال ذلك الشهر، لقد كان شهرا مملا”. مرت ساعة ولم يصادف التاجر شيئا، وبدأ يضيق ذرعا بذلك. وحينما وجد أخيرا وعلا، اختبأ كعادته وراء شجيرة وأطلق سهمه الذي لا يخطئ، أصاب رقبته فأزّ وتأرجح وسقط، اعتدل التاجر فرحا “وهتف لي: سيدك يا جميل صياد ماهر. وقد كان يرفع الكلفة حينما نكون لوحدنا”. تنفس الصعداء وارتاح باله قليلا، فجلس للفطور. يتقاسم طعامه مع الصبي، ويقص عليه حكايات طويلة عن تجاراته. بعد انتهائهما، طلب من الصبي أن يأتيه بخرقة يمسح بها يده، نهض الصبي واتجه إلى الرحل. وفجأة، ومن لا مكان، أصاب التاجرَ سهمٌ منحوتٌ صغير. بدا وكأنه لم يستوعب للحظة، طأطأ رأسه، الوخز الغامض يزداد ألما، حدق فيه بذهول، كان في مكان ما فوق كبده، أمسكه وتحسسه وتفحصه وكأنه لازال عاجزا عن الاستيعاب، ثم بدأ يئن بجزع، “لم يكن يفهم ما الذي حدث. لم أفهم أنا أيضا ما الذي حدث”. وحينها خرج قتادة من أحراش بعيدة وراء الشجر، يمشى ببطء وهو يُخرج سهما أطول منحوتا من السنديان، “يمشي وكأنه يتنزه. أشار لي دون أن يلتفت أن أقف عند الرحل وألا أتحرك، ولم أكن سأتحرك، جسمي كله كان مشلولا”. اقترب حتى وقف أمام التاجر الذي كان يرتعش الآن، يحدق أمامه مشدوها، ممسكا بالسهم، وكأنه إذا أطلقه لن يفهم شيئا، رفع رأسه وكأنه انتبه فجأة لحضور جسد أمامه، حدق في الرجل الطويل النحيل الذي يبدو “وكأنه جذعٌ انفصل عن شجرته. كان مرعبا”، ظل التاجر صامتا بذهول وحيرة، ثم انفجر بعدها يصرخ ويهذي، “لم يكن واضحا ما الذي كان يقوله، ولكني أظنه كان يتوسل، ويعجز عن إيجاد لسانه”، يصيح، يهذي، يرتعش، وقتادة يقف أمامه وقفة انتظار متريث، “شعره طويل ينحدر على كتفيه، رداؤه فرو مثل وشاح طويل. أقسم لك، كان مرعبا مثل أحلام الحمى”، يُمسك بالسهم في يد وبالقوس في يد أخرى، وينتظر. صمت التاجر فجأة، دفعة واحدة، وجهه تحجر، عيناه جحظتا. وكأن تلك كانت إشارة النهاية. وضع قتادة السهم في القوس، شده بقوة “حتى أنني سمعت معها انقباض الوتر” ثم أطلقه على رأس التاجر بقوته القصوى لدرجة أن شدخا انفلق إلى أرنبة أنفه. “لم تحملني قدماي، سقطت وتقيأت وظننت أنني التالي وبدأت أصلي للمسيح. وحينما لم ينفلق وجهي إلى نصفين، رفعت رأسي ورأيت الرجل يمشي بعيدا، عائدا إلى الأحراش التي خرج منها. وبعدها لم يره أحد في هذه المنطقة”
يحدث أطول انقطاع في كرونولوجيا قتادة، لعدة سنوات.
ما يحدث حينها أمر غريب يصعب البتّ فيه. فثمة قصة لشخص شبيه به تماما، في خلفيته التاريخية تحديدا، يعيش مزارعا في حقل قمح مع زوجة وطفل صغير، في مكان ما في إحدى رساتيق بلخ. تم ذكره في معرض الحديث عن وباء غامض تعرضت له أشجار المنطقة وكادت أن تُـهلك حقول المزارعين، من ضمنها مزرعة هذا المزارع المجهول ذو البنصرين المقطوعين الذي كان قاطع طريق في زمن ما.
وفي نفس الوقت تقريبا، نرى اسمه يرد ضمن تقرير أعده أحد نواب شرطة أردبيل غرب بحر الخزر لرئيسه، يذكر فيه اسم قاطع طريق يدعى صابر، يلقب بـ “ذو الأصابع الثمانية”، يسكن جبال تاليش ويرأس عصابة مكونة من 11 شخصا.
ومن هنا يختفي قتادة تماما في الهامش، بلا أثر.
أحيانا، أحاول إقناع نفسي بقصص وردت وأربطها به، لا لشيء سوى لحدس ما. منها قصة أبي حامد الغزالي في شبابه حينما كان عائدا من جرجان إلى طوس وهجم عليه قطاع طرق كما نقل عنه السبكي “أخذوا جميع ما معي ومضوا فتبعتهم فالتفت إليّ مقدّمهم وقال: ارجع ويحك وإِلا هلكت! فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك: فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها. فضحك وقال: كيف تدّعي أنّك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلّم إِليّ المخلاة” القصة لا تنتمي بتاتا لقتادة، لعدة أسباب أهمها أنه لو كان قتادة لما صار هنالك إمام يدعى الغزالي. ولكنني كما قلت، شيء لا يتعدى الحدس. فأيٌّ من تلك القصص لا تبدو فعلا مرتبطة بقتادة، وهي حتما لن تخبرنا للأسف بنهايته. ولكن أظن أنه يمكننا أن نتجوز في القول ونخرص أن نهايته أيا كانت ستكون مقاربة لحياته، من المستبعد أن تكون نهاية مدنية إن جاز التعبير، ستكون حتما هامشية وعنيفة. وهو ما جعلني أقنع نفسي برواية جنونية من تلك الروايات “الحدسية” غير المؤكدة، تقول أنه هو الذي ورد ذكره عابرا في كتاب شعبي فارسي عنوانه “أساطير المقاتلين القدماء”، تجده في بعض الأكشاك التي تبيع الكتب القديمة كصورة عن مخطوطة عتيقة تباع بشكل محظور نوعا ما، أو لنقل تباع بحذر، حيث أنه يتعرض لجرائم الإسماعيليين في قلعة آلموت. ورغم وقوعه في فخ الخرافات التي تصم تلك الجماعة، إلا أن في مشهد منه، صورة تبدو واقعية إلى حد بعيد، تورِد ذكر شيخ سبعيني بلا اسم، أمضى كل حياته كقاطع طريق في امتداد ألبرز كله من جرجان وحتى جيلان، انضم إلى الحشاشين من مكان لم يُعرّف، وهو ما بدا “عادلا” له ولي وللقارئ أن ينضم شخص هامشي وحشي لا يملك رفاهية الولاء والانتماء مثل قتادة إلى جماعة مشبوهة مثل الحشاشين، تعتبر نموذج التطور التنظيمي المثالي للصعاليك وقطاع الطرق. وقبل الهجوم الذي شنه السلاجقة على القلعة في الحملة التي وجهها ملكشاه، صعد العجوز على القلعة، وفور وصوله إلى الأعلى، ودون أن تتسنى له فرصة أن يستقيم بطولِه، هوى سريعا من المئذنة وفي رأسه سهم يشق منتصف جمجمته تماما.
ولكن كما قلت، مجرد حدس.
_______________
1 – كان ابن النقاش قد وفد إلى غزنة متجها إلى خوارزم من رحلة طويلة موثقة بالفارسية على الامتداد من خراسان وحتى الأندلس، استقبله السلطان محمود المعروف بحبه للأدب والعلم، والذي كان بدوره قد وفد إلى غزنة من خوارزم بعد أن ضمها إلى سلطانه. وحينما قرر المسير نحو كشمير طلب منه ابن النقاش أن يرافقه. يسهب في وصف حال الجيش نفسه، راياته ومراتبه وتنظيمه بداية من القائد العام الذي يلقب بـ”حاجب برزك”، ومرورا بقوات العبيد تحت قيادة ما يلقب بـ”سالار غلمان”، وحتى أرذل طبقات الجنود من المتطوعين في ما يشبه الوظائف العسكرية. ويؤرخ تفاصيل اليوم في وصف تصويري معبر لمعالم الجبال والسهول والحيوانات. فيستفيض مثلا في وصف مشهد حينما قطع الجيش بأكمله سهلا ممتدا من الوحل “لو صعد رجلٌ شاهقا ورأى السهل المقعر بين متاريس الجبال بعد خروجهم منه لظن أنه يرى قعر جهنم المتفحم وعليه آثار الجثث المعذبة المسحوبة فوقه” ثم يسهب في وصف جنود المراتب المتدنية وهو يتجول بينهم “أجساد متقرحة مشرمة تعلوها سمرة كالحة، إذا تعرى أحدهم في قفر حسبته صخرة أو ساق شجرة موتدة في الأرض. أقوامٌ من أعراق ومسالك مختلفة، يتحدثون بلغات لم أسمعها من قبل، لا شيء يجمعهم إلا السيف. أمرُّ بأحدهم فيرمقني شزرا، وأكاد أقسم أنه يشتهي رقبتي”.
2– بل أن قصة غير مؤكدة تُروى عن هذا البلخي، تقول أنه حاول تحطيم معبد سوباهار في كابول. حيث كان الغزنويون – كما يزعم البعض – يتسامحون مع النشاطات البوذية خارج المناطق الهندية، وذلك تبعا لأسباب سياسية طويلة. المهم، تم القبض على البلخي بتهمة التخريب، وحينما حاول أن يشرح للقاضي مهمته الاحترافية التي أمضى جُـلّ حياته يقوم بها مع السلطان محمود، لم يجد أحدا ينصت له، وتم فرض عقوبة لم تحدد عليه.
3- ذكرها الجغرافي ابن مرزوق الإسفراييني في كتابه “مسالك خراسان”، حيث كانت تستقر البساتين في الخريف وسط هدوءِ رياحٍ رطبة، وكان كل شيء يتم إعداده للشتاء بعد موسم ناجح وصل سعر القفيز فيه إلى الضعف. “يتوقعون في المجالس متى سيحل الصقيع. ويقول أحدهم أن الشتاء سيجيء لماما ويرحل” ثم يصف المزارع والغابات والسهول وقد تجردت من أوراقها في اصفرارِ خريفٍ نقي، “وكأن طوس تحترق في الغروب”. ولكن فجأة هبّت عاصفة رملية. “كانت تلوح قادمة من مكان لا يمكن تحديده” يصفها وكأنها دخيلٌ ماورائيٌّ، جغرافيا وزمنيا. رياحٌ تحمل حبات رمل حمراء لهبية تطوق الرؤية وتلج المنازل، امتدت لأيام طويلة، تطمس كل شيء في طريقها وتفرض عزلة حسية صارمة، حتى توحّد الناس فيها وصاروا يرون في حمرتها الشاحبة أشياء مخيفة. يقول أحدهم أنك كنت ترى فيها أحبابك ممن ماتوا، أوجههم وأجسادهم مجوفة بلا ملامح تحددها ندف الرمل، تظهر في هيئاتٍ من الألم والصراخ والعذاب. كنت ترى أشياء لك، أزمان ومنازل وشطآن وطرق وملاعب قديمة هجرتها ويتفتت قلبك حنينا إليها. بل وترى أشياء منك، فكرة مرعبة راودتك، حلم مخيف عشته، كَمَدٌ يائس ألمّ بك، نبوءة كابوسية ستحلُّ عليك. “كلها صارت مرئية في ضباب الرمل الأحمر هذا”. وحينما رحل، كنت ترى الناس تحدق في بعضها وكأنها جاءت من سفر سحيق لم يكن متوقعا أن تجيء منه، تخرج من أوكارها وعليها قشرةُ حمرة كالحة، وفي أرواحهم حزنُ من رأى حلما مزعجا ينخر ندبة لا تزول. “كنت تجلس مع الرجل فتقول له لقد رأيت أمي وهي تصرخ وتتألم وكأنها تحترق، فيرد الرجل منكسرا لقد رأيت نفسي وأنا أموت”.
4- أوردها ابن ربيع النيسابوري في كتابه “تاريخ خراسان الأكبر” للتعريض بخطورة الطرق في فترة تصارع الحكم بين الغزنويين والسلاجقة. حيث يصف “شرذمة يستوطنون قنن الجبال التي تنخر السحاب، يختبئون وراء الوعر ويعيثون فسادا في الأرض” يقول أنك إذا صادفت جماعة منهم ستجد أن أكثرهم بيد مقطوعة إثر قصاص قديم، وأن ندوبا تشوّه أوجههم، بعضهم مفقوء العين، آخر يقطع وجهه شق مثل خندق. يقتلون في سبيل القتل أحيانا ليس إلا، يتكلمون لغات غريبة لم تسمع بها من قبل، ولا تعلم كيف يفهم أحدهم الآخر.
5– أسهب ابن النعيم في وصفها، بل أنه عاد لاحقا إلى الإشارة إليها عدة مرات في كتابه. حيث وصف كيف أنهما (هو ودلال من همذان) كانا يسيران في شعيب ضيق تُـطبق على دفتيه متاريس كثبان ثلجية. “وكأننا بين دفتي كتاب تهمُّ بإغلاقه”. وبينما كانا يسيران في هذا المسار الضيق رآها في المدى البعيد الملتفّ، حيث كانت معلقة من غصن عالٍ تغطيه قنة الكثيب المحدودبة في الزاوية المائلة، ولذا بدا وكأنها معلقة هكذا في الهواء. “لقد بعثت قشعريرة ورعبا في جسدي”. وحينما اقتربا منها برزت الصورة كاملة: شجرة الصفصاف الثلجية، الغصن العالي الذي شُنقت منه، حيث يبدو أن من شنقها قد عقد الحبل من قنة الكثيب المجاور ورماها لتتدلى. ثم وصف أنها كانت عارية الجسد، وأنها فيما بدا له حامل في شهر متوسط. قشرة الصقيع التي على جلدها لم تغطي حلمة ثديها التي تعلقت فيه إما ندفة ثلج أو قطرة حليب، لم يكن هذا واضحا. ويبدو من خلال وصفه، أنه قد تأثر كثيرا بالصورة هذه، “لم تكن أول مرة أرى فيها جثة امرأة مقتولة، ولكن كان في هذه شيء يثير الكمد والألم”. حاول أن يقنع رفيقه أن يعاونه على إنزالها، ولكنه رفض، وبعد محاولات فردية بصعوده إلى الكثيب ومحاولة تسلقه للشجرة، رضي بهزيمته، ومضى بحسرة لم يستطع إخفاءها. ولكنه يروي لاحقا في موضع آخر كيف عاد مع خمسة رجال من قرية مجاورة، وأنزلوها. وكيف أنه لم يجد لها عائلة، أو أحدا يعود نسبها إليه، ولذا دفنت ولم يحضر إلا من يحتسب الأجر.
6– ذكرها أبو الفضل البلخي في كتابه “زراعة بلخ”. وقد قدم وصفا بليغا مسهبا لتآكل الأشجار وحصحصة النبات، وكأنه يصف وباء بشريا. كان يقول أن “أوراق الشجر تصفرُّ أولا وكأنها وجهُ معتلٍّ أحرضه المرض. ثم يدمي لحاؤها بسواقي نسغ صمغية. ثم ينثني جذعها ويحدودب مثل عجوز يمشي وعينه على قدميه، وتظل تنثني أكثر حتى تنكفئ على نفسها مثل الجنين في بطن أمه. ثم يتآكل لحاؤها ويتفتت وتبقى هناك خشبا مقوسا نبت من الأرض. لعمري ما رأيت موتا أشد كمدا من هذا”.
7– أريد طمأنة القارئ، الذي أجزم أنه اكتشف الآن أنّ كل مصادر الكتب بكتّابها في هوامش هذه القصة ملفقة، بأن أؤكد له أن مصدر هذه القصة هو الاسثناء. راجع طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، وهو كتاب “حقيقي” لمؤلف “حقيقي”، وستجدها مذكورة في ترجمة الغزالي.
8- آخر مصدر ملفق في القصة، أعدكم.
.