1
لطالما تساءلتُ و أنا أقرأ في ملاحمِ المنكوبين و المصلوبين و المُعذّبين، كيف أمكنهم أن يصمدوا حتى لحظةِ لفظِ نفسِهم الأخير؟ كيف أمكنهم أن يجتازوا مراحل التعذيب المختلفة، الواحدةَ تلوَ الأخرى، دون أن تحدثَ -و لو لمرةٍ واحدة- تلك الفضيحة الهائلة؛ حينما يصرخُ الواحدُ منهم بأعلى الصوت: "بحقِ الله أطلقوني، لم أعد أحتمل! أكفرُ بما تشاءون، و أقولُ ما تشاءون، و لكن أوقفوا الألم، أوقفوا الألم."
أفكر في الموضوع ثانية، فأتمتم ما بيني و نفسي: "لا بدّ أنّ هناكَ شيئاً ما يشغلهم! شيئاً ما يفصلهم عن العالم الخارجي، ربما هيَ فكرةٌ بالغة الجمال تملأهم، ربما هي نفس الفكرةِ التي يموتون من أجلِها!"
الأفكار! الأفكار! كم أعلينا من شأنها! إلى درجة أن عُزيت ماهية الجنس البشري إلى هذه الخاصية العقلية. إن لحظة مثل هذه (لحظة الإعدام) جديرةٌ باختبار جدوى هذه المَلكة العقلية، باختبار هذا التراث البشري الطويل من المعارف و الفنون و الأفكار- ما جدواه إذا نحنُ لم نبقَ؟ بعدَ دقائق سوف يموت الفرد! يموتُ و يختفي و يصبحُ عدماً، جمجمةً ينخرُها الدودُ، و لا تمتلئ بالأفكار بل بالهواء و العفن. أيّ نوعٍ من الأفكار سوف يدورُ في رأسٍ رجلٍ ينتظر لحظته الأخيرة؟ ذكريات سابقة! صورٌ قديمةَ! وجهٌ حبيب! طلبُ مغفرة! فزعٌ هائل! ظلمة أبدية! العقلُ أم الروح؟ الدنيا أم ما بعدَها؟ و لكن، و أثناء هذه اللحظات العصيبة، و بينما يحضّرُ المحكوم عليه بالإعدام نفسَه كي يغادرَ هذا العالم، هناك الألم! هذا المسمار الهائل الفظيع، الذي يربطه بتراب الأرض، إنه النار أو الصليب أو الخازوق، و في كل لحظةٍ تحاول فيها روحهُ التحليقَ و النجاءَ من هذه الأرض، يسري الألمُ مزمجراً على طول أعصابِه، ليطردَ أيّ فكرةٍ من شأنها أن تعزّيه أو أن تشغلَه عن الفزع.
دارت كل هذه الأفكار في خاطري و أنا أقرأ عن اللحظات الأخيرة للفيلسوف النولاني المنكوب جيوردانو برونو. هذا الراهب الدومينيكي الذي خلعه الفاتيكان، و من ثمّ قامت محاكم التفتيش بحرقه حياً. للأسف، ليس هناك إلا وثائق معدودة تطفحُ منها نبرةُ التعصب الديني و التشفّي الهائج. إحداها رسالة سطّرها نكرةٌ ألماني يُدعى جاسبار شوب، لا يمكنُ الاعتمادُ عليها، خصوصاً أن صاحبها المتذبذب ما بين البروتيستانية و الكاثوليكية عُرفَ بخداعه و تزويره. أينَ أجدُ الحقيقة إذن؟ كيف أستطيع النفاذ إلى أفكار جيردانو برونو في لحظاته الأخيرة، كيفَ لي أن أتطلعَ في وجهه؟
عندما أدركت أن المواردَ التاريخية شحيحة و لا تملك مصداقية، عندها عمدتُ إلى طريقة منهجية أخرى: الاعتماد على أفكار و كتب برونو. لا بدّ أنّ فكرته الأخيرة التي تعلق بها قبل الموت هي نفسها إحدى تلك الأفكار التي كانت هاجساً لهُ أثناء حياته و ملأت كتبه: السُعار البطولي، عشاءُ رماد الأربعاء، طرد الوحش المنتصر، حامل الشمعة. عندما اعتمدتُ هذه الطريقة، انزاحَ الغبارُ فجأة، و إذا بي أتطلعُ في وجهِ جيوردانو، مباشرة. يُقالُ أنّ للجمال سطوةً تعادلُ سطوةَ الحقيقة، و سواء أكان هذا القولُ صحيحاً أما لا، صرتُ أؤمن بأن الأحداث لم تجرِ (و لم يكن يمكنُ لها أن تجري) إلا بهذه الطريقة..
2
في ظلام إحدى زنانِ برجِ نونا الرطبة يقبعُ جيوردانو برونو. لم يكن ليأبه لرطوبة الزنزانة و لا لبرودتها، لم يكن ليأبه لوعورتها و لا لظلمتها، و هو الذي قضى فيها ما يقاربُ سبع سنوات، و لم تبقَ لهُ سوى ليلة واحدة. كان يتمنى شيئاً واحداً فقط، شيئاً واحداً كان من شأنه أن يعزّيه في ظلمته و في خوفه: لو أنّ سقف هذه الزنزانة مرصعٌ بالنجوم.
يتذكرُ أولَ ليلةٍ لهُ في العراء، عندما ترك خلفَه قرية نولا، و غادرها قاصداً نابولي كي يصبحَ راهباً دومينيكياً. عندما أظلّه الليل، استلقى على ظهره، و أخذ يتأمل في قبة الفلكِ الواسعة. فوقه، كانت ملايين النجمات تتألقُ في السماء. تمتمَ في نفسه: "لو أنّ للجمال صورةً مطلقة لكانت هذه! لا بدّ أنَّ وجهَ الله يطلُ عليها، و لا بدّ أن النورَ الذي تعكسهُ هو نورُه." مضتْ على تلك الليلة خمسة و ثلاثون سنة، و ها هو الآن محبوسٌ في زنزانة مظلمة في روما، ينتظرُ أن يُحرقَ حيّاً أمام الملأ، و السببُ النجوم.
يسمعُ جيوردانو صرير مِفتاحٍ يدور في قفلٍ حديدي، و عندما يُدفع الباب، يتسلل إلى الزنزانة ضياء بسيط. لم يرفع جيوردانو رأسه، فلقد كان يتوقع حضورَ ضيفه الأخير و يرتقبه. يرفعُ الكاردينال بيلارمينو طرف ثوبه، و يجترئُ بضعَ خطواتٍ تسمحُ لنور مصباحهِ أن يضئ جبهة الراهب الهرطيق. يتنحنحُ بيلارمينو:
"غداً سوف يأتي الجلادون، و يقتادونك إلى ساحة الورود، حيثُ ستحرقُ حياً، أمام الملأ. قبل أن يقتادوك، سوف يدقون مسماراً طويلاً، ينفذ من أسفل فكك حتى الحنك، و ستصبحَ عاجزاً عن الصراخ. أنا هنا حمامةُ سلامٍ، بكلمة مني سوف تتجنب كل هذا. و سأقولها بصراحة: لولا أنك لم تكن من أخوية الرهبان الدومينيك لما وجدتني هنا."
"ما الذي تريده مني؟"
"أن تتنكّر للمسائل السبعة التي نوقشت أثناء محكامتك. لا، لا يلزم السبعة، فقط تنكّر لإحدى هذه الثلاث: بشرية المسيح، قولك بأنّ الله سيعفو عن الشياطين في النهاية، قولك بأنّ الكون بلا نهاية، أنّ الأرض التي نسكن فيها ليست مكانَ الحياة الوحيد."
"أتنكّر لإحداها! هي كلها ذات جدلية واحدة، و تقدم تصورا واحداً لله. كيف تريدني أن أحقّر من الله، فأجعله يمشي بيننا، و يموتُ من أجلنا، على الصليب؟ هل هذا هو الرب غير نهائي القدرة الذي صنع هذا الكون اللا نهائي و البديع، و من ثمّ نصلبه بكل بساطة على الصليب؟ ثمّ تريدني أن أقلل من رحمته و من قدرته، فأقول أن رحمته نهائية، و أن كونه محدود! لك أن تؤمن بأن الحياة على هذه الأرض هي الحياة الوحيدة، لك أن تظن أنها كل شيء، أنكَ مركز الكون، و لكنك لن تجبرني على تغيير تصوري لله، و الذي لا يصلح أن يكون الكون الذي خلقه إلا مرآةً لقدرته غير المتناهية."
"المسألة ليست هرطقات ميتافيزيقية. المسألة بكل بساطة: هل تريدُ أن تُحرقَ حياً في الغد أم لا تريد."
"المسألة هي أنكَ تستطيع أن ترعبني، تستطيعُ أن تُحرَقني، أن تحرقَ كتبي، تحرقَ الورق. و لكن الفكرة أطلقت و انتشرت و لن تستطيع أن تحرقها أو أن تتخلص منها طالما هناك نَفَس حيّ. حتى لو تنكّرتُ للفكرة- أنا نفسي –مؤلُفها- لن يضيرها ذلك شيئاً. لذا تبقى المسألة شخصية، مسألة كرامة ذاتية. هل أريد أن أُحرقَ حياً؟ لا بالطبع! و لكني لا أستطيع أن أتنكّر لتصوري الجمالي لإلهي، لا أستطيع أن أحيا تحت سماء و كون لا يعكسان تصوري لله."
يستديرُ الكاردينال بيلارمينو راجعاً على أعقابه. كان يعلمُ في قرارة نفسه أنه من المستحيل استدراج هذا الرجل العنيد. لقد كان صادقا حينما أخبره أن أخوته الدومينيكية كانت سبب مجيئه، و لكنه لم يأتِ من أجل ما تقتضيه هذه الأخوة من رباط روحي، بل لأن انشقاق راهب دومينيكي على كنيسته –و في وقت عصيب مثل هذا- أشد إيلاما و طعنا في حق الكنيسة الكاثوليكية.
بعد أن يُغلق الباب، ينطوي جيردانو على نفسه داخلياً.
أُحرقُ حياً! يا لها من فكرة مُرعبة! هل سأحسُ بالألم؟ هل سيملأ الفزعُ روحي حتى أتقيأ؟ كم سيستغرق الأمر حتى تفيضَ روحي و ترحل؟ و كيف سأبدو؟ و كيف سأصبر؟ ربما يكونُ دقّ المسمار في سقف حلقي نعمةً لا نقمة! فلولاه لربما استصرخت و بكيتُ و لعنتُ من أمامي و لعنتُ القدر. و لكنهم سيرون ذلك في عضلاتي المشدودة، في عيوني المرعوبة، في انقباضات وجهي المتوسلة. كيف سأبدو؟ و هل سأتقيأ؟ و الألم و الفزع! الألم و الفزع!..
3
عندما يدخل الجلادون الزنزانة، يجدون جيردانو نائماً. يسحبونه على قدميه، فيتبّه فزعاً. جسدهُ نحيلٌ و خفيف، و كأنهُ بالكاد يحتفظ بروحه. يتطلّعُ جيردانو في جدران السجن التي بقي محبوساً بينها لسبع سنوات كاملة. اليوم سأخرج منها!
يلبسونهُ قباءً جلدياً بنيّ اللون. عندما يحضرون المسمار و المطرقة لا يجزعُ كثيراً، كان فقط ينتظر الانتهاء منه. يرفعونَ ذقنه للأعلى، و يدفعون المسمار عامودياً حتى يُنشبَ باللسان و يشقَّ الحنك. يمتلئ فمَهُ بدمٍ غزير يبتلعه بلا مبالاة. كان الأمر سريعاً، و هينّاً، و كأنه حاجزٌ يؤخّر عنه الخطوة الأخيرة الأكثر فزعاً. الآن، و بعد أن ثبتوا المسمار، لم يبق أمامه غير الترقب الطويل و المفزع للمرحلة الأكثر إيلاماً.
يضعونهُ في عربةٍ خشبية تستخدم في نقل القشّ، و يجلسون متحلقين حولَه. كان بعضهم يرمقه بهدوء، أما البعض الآخر فلقد كان يتجاذب أطرافَ الحديث اليومي. يتطلّع جيردانو في البيوت المصطفة على طول الشارع، فيحسُ بغصةٍ مريرة. يا لهذه الحياة العزيزة! كم كان بوده لو يبقى الآن في أحد هذه البيوت، و أمامه نار صغيرة قد اشتعلت لتدفئَه، لا لتحرقه. عندما اقتربوا من مسرح بومبي، استطاع جيردانو أن يرى العمود الخشبي الطويل الذي نُصبَ له وسط ميدان الورود. خشبٌ سوف يحترق كما يحترقُ جسدهُ تماماً، و لربما أصبحا رماداً واحداً!
يربطُ الجلادون جيردانو إلى الصارية الخشبية. كانت عقدُ الحبل غليظة و كبيرة. يستطيعُ أن يحررَ رسغيه لو أنه دفعهما بإصرار عبر فتحتي يديه الصغيرتين، و لكن أين الفرار و قد أحاطَ بهِ كل هؤلاء الجنود و هؤلاء القتلة؟ يبدأ العامة بالتحلقِ حول مكان الحرق، بينما الجنود منهمكون في إلقاءِ الحطب تحتَ قدميه. يتعالى صوتُ أحد القساوسة و هو يقرأ نصاً ما، بينما جيردانو يقلّب عينيه الزائغتين في الجماهير الملتفة حوله. أسفل قدميه كانت أمٌ تحمل طفلها الصغير، و تلقنه شيئاً و هي تشير نحوَه. كانت بعض الوجوه تنظر إليه بكرهٍ، و كانت وجوه أخرى تنظر إليه في توجع.
تطلّع جيردانو المربوط إلى صاريته نحو أطراف الساحة البعيدة، وراءَ الجموع، حيثُ السوق. هناك على المدى البعيد، كان الناس يصطفون أمام محلٍ لبيع الخبز. في زاوية مقابلة، كان شاب يغازل شابة، و يسرًّ في أذنها ما يضكحها و يخجلها معا. صبي صغير كان يقفز فوق ما يشبه الحصان الخشبيّ. ياللفزع و ياللرعب! ها أنا أموتُ هنا محترقاً، بينما الحياة تستمر بشكلها الطبيعي! لماذا يعتقدون إذن أنهم مركز الكون؟ لماذا يحرقوني لمجرد أن قلتُ أنهم لا يمثلون إلا ذرةً بسيطة في هذا الكون الكبير الشاسع؟ و لماذا أموت؟ أمن أجلهم؟ أمن أجل كتبٍ كنت أبغي من خلالها أن أوصلَ أفكاري إليهم؟ و ها أنا أحترق، أصبحُ رماداً و عدماً، بينما الحياة تستمر، مثلها مثل أيّ يوم عادي!
كان أكثر ما أفزع جيردانو أنه يموتُ الآنَ وحيداً. يسري الفزعُ في كيانه، و يحسّ بالغثيانِ يملأ معدته، و يحسّ بمرارة في حلقه تختلط بطعم خثرات الدم المجتمعةِ فيه.
ينتهى القسيس من تلاوة ما يقرأ، و عندها يدني أحدُ الرهبان صليباً نحو جيردانو، فيزيح الأخيرُ وجههُ في امتعاض. حتى المسيح الذي يؤمنون به، مات و بجانبه سارقان يصلبان معه، أما أنا فأموتُ وحيداً.
تشتعلُ النارُ في كومة الحطب أسفل جيردانو، و يحسّ بلذعها يسري في قدميه. سأموتُ وحيداً! سوف يسري الألمُ في أعضائي، و سيكون قاسياً، و بطيئاً.
تكادُ روحهُ تتهاوى، و الألم لمّا يزلْ بعدُ في بداياته، لولا أن فكرةً قصيّة انبعثت فجأة وسطَ عقله لتملأ روحَه و كيانه..
هل أنا فعلاً أحترقُ وحيداً؟
إذا كانت فكرة اللانهاية التي أؤمن بها صحيحة، فمن المؤكد أنّ ذلك غيرُ صحيح.
الأرض ما هي إلا كوكبٌ من الكواكب، و الشمس ما هي إلا نجمة من النجمات، و المجرة واحدة من ملايين الملايين من المجرات. و ليست الحياة مقصورة فقط على كوكبنا، بل إنها في ملايين الملايين من الكواكب التي تتظافر فيها شروط الحياة، كل ذلك انعكاس لقدرة الله اللا نهائية.
إذن فلا بدّ أنَّ هناك رجلٌ ما يُحرق الآن لمثل فعلتي، رجلٌ يحرقُ لأنه نادى بلانهائية الكون. ليس رجلاً واحداً، بل إثنان، و ليس إثنان بل ثلاثة، و هكذا.. حتى يصبحَ العددُ أيضا لا نهائي بما يتناسب مع قدرة الله المطلقة.
تبدّلَ المنظرُ المنبسط أمام عيني جيردانو برونو، بينما أنشبت النار في قبائه الجلدي. لم يعدْ يرى قساوسة متجهمين، و لا جنوداً صارمين، و لا أناساً متحلقين. ساحة الإعدام لم تعد ساحة الورود، و إنما أصحبت الكونَ بمجراته و نجومه و كواكبه؛ ملايين الملايين من الكرات الدائرية التي تحلقُ في فضاءٍ أسودَ رحب، و فوق هذه الكرات صوارٍ خشبية كمثل هذه التي يُربطُ إليها، ترتفع عالياً و قد شُدَّ نحوَها أشخاص ينادون بمثل ما نادى، و ها هم الآن يحترقون، معَه، و هم يرفعون نجواهم نحو ربٍ غيرِ نهائيّ القدرة.
"أنا –بكل تأكيد- لا أموتُ وحيداً"
كانت هذه هي الفكرة الأخيرة التي دارت في رأس الفيلسوف النولاني جيردانو برونو قبل أن يلفظ أنفاسَه.
عدي الحربش
Dec 16/ 09
لطالما تساءلتُ و أنا أقرأ في ملاحمِ المنكوبين و المصلوبين و المُعذّبين، كيف أمكنهم أن يصمدوا حتى لحظةِ لفظِ نفسِهم الأخير؟ كيف أمكنهم أن يجتازوا مراحل التعذيب المختلفة، الواحدةَ تلوَ الأخرى، دون أن تحدثَ -و لو لمرةٍ واحدة- تلك الفضيحة الهائلة؛ حينما يصرخُ الواحدُ منهم بأعلى الصوت: "بحقِ الله أطلقوني، لم أعد أحتمل! أكفرُ بما تشاءون، و أقولُ ما تشاءون، و لكن أوقفوا الألم، أوقفوا الألم."
أفكر في الموضوع ثانية، فأتمتم ما بيني و نفسي: "لا بدّ أنّ هناكَ شيئاً ما يشغلهم! شيئاً ما يفصلهم عن العالم الخارجي، ربما هيَ فكرةٌ بالغة الجمال تملأهم، ربما هي نفس الفكرةِ التي يموتون من أجلِها!"
الأفكار! الأفكار! كم أعلينا من شأنها! إلى درجة أن عُزيت ماهية الجنس البشري إلى هذه الخاصية العقلية. إن لحظة مثل هذه (لحظة الإعدام) جديرةٌ باختبار جدوى هذه المَلكة العقلية، باختبار هذا التراث البشري الطويل من المعارف و الفنون و الأفكار- ما جدواه إذا نحنُ لم نبقَ؟ بعدَ دقائق سوف يموت الفرد! يموتُ و يختفي و يصبحُ عدماً، جمجمةً ينخرُها الدودُ، و لا تمتلئ بالأفكار بل بالهواء و العفن. أيّ نوعٍ من الأفكار سوف يدورُ في رأسٍ رجلٍ ينتظر لحظته الأخيرة؟ ذكريات سابقة! صورٌ قديمةَ! وجهٌ حبيب! طلبُ مغفرة! فزعٌ هائل! ظلمة أبدية! العقلُ أم الروح؟ الدنيا أم ما بعدَها؟ و لكن، و أثناء هذه اللحظات العصيبة، و بينما يحضّرُ المحكوم عليه بالإعدام نفسَه كي يغادرَ هذا العالم، هناك الألم! هذا المسمار الهائل الفظيع، الذي يربطه بتراب الأرض، إنه النار أو الصليب أو الخازوق، و في كل لحظةٍ تحاول فيها روحهُ التحليقَ و النجاءَ من هذه الأرض، يسري الألمُ مزمجراً على طول أعصابِه، ليطردَ أيّ فكرةٍ من شأنها أن تعزّيه أو أن تشغلَه عن الفزع.
دارت كل هذه الأفكار في خاطري و أنا أقرأ عن اللحظات الأخيرة للفيلسوف النولاني المنكوب جيوردانو برونو. هذا الراهب الدومينيكي الذي خلعه الفاتيكان، و من ثمّ قامت محاكم التفتيش بحرقه حياً. للأسف، ليس هناك إلا وثائق معدودة تطفحُ منها نبرةُ التعصب الديني و التشفّي الهائج. إحداها رسالة سطّرها نكرةٌ ألماني يُدعى جاسبار شوب، لا يمكنُ الاعتمادُ عليها، خصوصاً أن صاحبها المتذبذب ما بين البروتيستانية و الكاثوليكية عُرفَ بخداعه و تزويره. أينَ أجدُ الحقيقة إذن؟ كيف أستطيع النفاذ إلى أفكار جيردانو برونو في لحظاته الأخيرة، كيفَ لي أن أتطلعَ في وجهه؟
عندما أدركت أن المواردَ التاريخية شحيحة و لا تملك مصداقية، عندها عمدتُ إلى طريقة منهجية أخرى: الاعتماد على أفكار و كتب برونو. لا بدّ أنّ فكرته الأخيرة التي تعلق بها قبل الموت هي نفسها إحدى تلك الأفكار التي كانت هاجساً لهُ أثناء حياته و ملأت كتبه: السُعار البطولي، عشاءُ رماد الأربعاء، طرد الوحش المنتصر، حامل الشمعة. عندما اعتمدتُ هذه الطريقة، انزاحَ الغبارُ فجأة، و إذا بي أتطلعُ في وجهِ جيوردانو، مباشرة. يُقالُ أنّ للجمال سطوةً تعادلُ سطوةَ الحقيقة، و سواء أكان هذا القولُ صحيحاً أما لا، صرتُ أؤمن بأن الأحداث لم تجرِ (و لم يكن يمكنُ لها أن تجري) إلا بهذه الطريقة..
2
في ظلام إحدى زنانِ برجِ نونا الرطبة يقبعُ جيوردانو برونو. لم يكن ليأبه لرطوبة الزنزانة و لا لبرودتها، لم يكن ليأبه لوعورتها و لا لظلمتها، و هو الذي قضى فيها ما يقاربُ سبع سنوات، و لم تبقَ لهُ سوى ليلة واحدة. كان يتمنى شيئاً واحداً فقط، شيئاً واحداً كان من شأنه أن يعزّيه في ظلمته و في خوفه: لو أنّ سقف هذه الزنزانة مرصعٌ بالنجوم.
يتذكرُ أولَ ليلةٍ لهُ في العراء، عندما ترك خلفَه قرية نولا، و غادرها قاصداً نابولي كي يصبحَ راهباً دومينيكياً. عندما أظلّه الليل، استلقى على ظهره، و أخذ يتأمل في قبة الفلكِ الواسعة. فوقه، كانت ملايين النجمات تتألقُ في السماء. تمتمَ في نفسه: "لو أنّ للجمال صورةً مطلقة لكانت هذه! لا بدّ أنَّ وجهَ الله يطلُ عليها، و لا بدّ أن النورَ الذي تعكسهُ هو نورُه." مضتْ على تلك الليلة خمسة و ثلاثون سنة، و ها هو الآن محبوسٌ في زنزانة مظلمة في روما، ينتظرُ أن يُحرقَ حيّاً أمام الملأ، و السببُ النجوم.
يسمعُ جيوردانو صرير مِفتاحٍ يدور في قفلٍ حديدي، و عندما يُدفع الباب، يتسلل إلى الزنزانة ضياء بسيط. لم يرفع جيوردانو رأسه، فلقد كان يتوقع حضورَ ضيفه الأخير و يرتقبه. يرفعُ الكاردينال بيلارمينو طرف ثوبه، و يجترئُ بضعَ خطواتٍ تسمحُ لنور مصباحهِ أن يضئ جبهة الراهب الهرطيق. يتنحنحُ بيلارمينو:
"غداً سوف يأتي الجلادون، و يقتادونك إلى ساحة الورود، حيثُ ستحرقُ حياً، أمام الملأ. قبل أن يقتادوك، سوف يدقون مسماراً طويلاً، ينفذ من أسفل فكك حتى الحنك، و ستصبحَ عاجزاً عن الصراخ. أنا هنا حمامةُ سلامٍ، بكلمة مني سوف تتجنب كل هذا. و سأقولها بصراحة: لولا أنك لم تكن من أخوية الرهبان الدومينيك لما وجدتني هنا."
"ما الذي تريده مني؟"
"أن تتنكّر للمسائل السبعة التي نوقشت أثناء محكامتك. لا، لا يلزم السبعة، فقط تنكّر لإحدى هذه الثلاث: بشرية المسيح، قولك بأنّ الله سيعفو عن الشياطين في النهاية، قولك بأنّ الكون بلا نهاية، أنّ الأرض التي نسكن فيها ليست مكانَ الحياة الوحيد."
"أتنكّر لإحداها! هي كلها ذات جدلية واحدة، و تقدم تصورا واحداً لله. كيف تريدني أن أحقّر من الله، فأجعله يمشي بيننا، و يموتُ من أجلنا، على الصليب؟ هل هذا هو الرب غير نهائي القدرة الذي صنع هذا الكون اللا نهائي و البديع، و من ثمّ نصلبه بكل بساطة على الصليب؟ ثمّ تريدني أن أقلل من رحمته و من قدرته، فأقول أن رحمته نهائية، و أن كونه محدود! لك أن تؤمن بأن الحياة على هذه الأرض هي الحياة الوحيدة، لك أن تظن أنها كل شيء، أنكَ مركز الكون، و لكنك لن تجبرني على تغيير تصوري لله، و الذي لا يصلح أن يكون الكون الذي خلقه إلا مرآةً لقدرته غير المتناهية."
"المسألة ليست هرطقات ميتافيزيقية. المسألة بكل بساطة: هل تريدُ أن تُحرقَ حياً في الغد أم لا تريد."
"المسألة هي أنكَ تستطيع أن ترعبني، تستطيعُ أن تُحرَقني، أن تحرقَ كتبي، تحرقَ الورق. و لكن الفكرة أطلقت و انتشرت و لن تستطيع أن تحرقها أو أن تتخلص منها طالما هناك نَفَس حيّ. حتى لو تنكّرتُ للفكرة- أنا نفسي –مؤلُفها- لن يضيرها ذلك شيئاً. لذا تبقى المسألة شخصية، مسألة كرامة ذاتية. هل أريد أن أُحرقَ حياً؟ لا بالطبع! و لكني لا أستطيع أن أتنكّر لتصوري الجمالي لإلهي، لا أستطيع أن أحيا تحت سماء و كون لا يعكسان تصوري لله."
يستديرُ الكاردينال بيلارمينو راجعاً على أعقابه. كان يعلمُ في قرارة نفسه أنه من المستحيل استدراج هذا الرجل العنيد. لقد كان صادقا حينما أخبره أن أخوته الدومينيكية كانت سبب مجيئه، و لكنه لم يأتِ من أجل ما تقتضيه هذه الأخوة من رباط روحي، بل لأن انشقاق راهب دومينيكي على كنيسته –و في وقت عصيب مثل هذا- أشد إيلاما و طعنا في حق الكنيسة الكاثوليكية.
بعد أن يُغلق الباب، ينطوي جيردانو على نفسه داخلياً.
أُحرقُ حياً! يا لها من فكرة مُرعبة! هل سأحسُ بالألم؟ هل سيملأ الفزعُ روحي حتى أتقيأ؟ كم سيستغرق الأمر حتى تفيضَ روحي و ترحل؟ و كيف سأبدو؟ و كيف سأصبر؟ ربما يكونُ دقّ المسمار في سقف حلقي نعمةً لا نقمة! فلولاه لربما استصرخت و بكيتُ و لعنتُ من أمامي و لعنتُ القدر. و لكنهم سيرون ذلك في عضلاتي المشدودة، في عيوني المرعوبة، في انقباضات وجهي المتوسلة. كيف سأبدو؟ و هل سأتقيأ؟ و الألم و الفزع! الألم و الفزع!..
3
عندما يدخل الجلادون الزنزانة، يجدون جيردانو نائماً. يسحبونه على قدميه، فيتبّه فزعاً. جسدهُ نحيلٌ و خفيف، و كأنهُ بالكاد يحتفظ بروحه. يتطلّعُ جيردانو في جدران السجن التي بقي محبوساً بينها لسبع سنوات كاملة. اليوم سأخرج منها!
يلبسونهُ قباءً جلدياً بنيّ اللون. عندما يحضرون المسمار و المطرقة لا يجزعُ كثيراً، كان فقط ينتظر الانتهاء منه. يرفعونَ ذقنه للأعلى، و يدفعون المسمار عامودياً حتى يُنشبَ باللسان و يشقَّ الحنك. يمتلئ فمَهُ بدمٍ غزير يبتلعه بلا مبالاة. كان الأمر سريعاً، و هينّاً، و كأنه حاجزٌ يؤخّر عنه الخطوة الأخيرة الأكثر فزعاً. الآن، و بعد أن ثبتوا المسمار، لم يبق أمامه غير الترقب الطويل و المفزع للمرحلة الأكثر إيلاماً.
يضعونهُ في عربةٍ خشبية تستخدم في نقل القشّ، و يجلسون متحلقين حولَه. كان بعضهم يرمقه بهدوء، أما البعض الآخر فلقد كان يتجاذب أطرافَ الحديث اليومي. يتطلّع جيردانو في البيوت المصطفة على طول الشارع، فيحسُ بغصةٍ مريرة. يا لهذه الحياة العزيزة! كم كان بوده لو يبقى الآن في أحد هذه البيوت، و أمامه نار صغيرة قد اشتعلت لتدفئَه، لا لتحرقه. عندما اقتربوا من مسرح بومبي، استطاع جيردانو أن يرى العمود الخشبي الطويل الذي نُصبَ له وسط ميدان الورود. خشبٌ سوف يحترق كما يحترقُ جسدهُ تماماً، و لربما أصبحا رماداً واحداً!
يربطُ الجلادون جيردانو إلى الصارية الخشبية. كانت عقدُ الحبل غليظة و كبيرة. يستطيعُ أن يحررَ رسغيه لو أنه دفعهما بإصرار عبر فتحتي يديه الصغيرتين، و لكن أين الفرار و قد أحاطَ بهِ كل هؤلاء الجنود و هؤلاء القتلة؟ يبدأ العامة بالتحلقِ حول مكان الحرق، بينما الجنود منهمكون في إلقاءِ الحطب تحتَ قدميه. يتعالى صوتُ أحد القساوسة و هو يقرأ نصاً ما، بينما جيردانو يقلّب عينيه الزائغتين في الجماهير الملتفة حوله. أسفل قدميه كانت أمٌ تحمل طفلها الصغير، و تلقنه شيئاً و هي تشير نحوَه. كانت بعض الوجوه تنظر إليه بكرهٍ، و كانت وجوه أخرى تنظر إليه في توجع.
تطلّع جيردانو المربوط إلى صاريته نحو أطراف الساحة البعيدة، وراءَ الجموع، حيثُ السوق. هناك على المدى البعيد، كان الناس يصطفون أمام محلٍ لبيع الخبز. في زاوية مقابلة، كان شاب يغازل شابة، و يسرًّ في أذنها ما يضكحها و يخجلها معا. صبي صغير كان يقفز فوق ما يشبه الحصان الخشبيّ. ياللفزع و ياللرعب! ها أنا أموتُ هنا محترقاً، بينما الحياة تستمر بشكلها الطبيعي! لماذا يعتقدون إذن أنهم مركز الكون؟ لماذا يحرقوني لمجرد أن قلتُ أنهم لا يمثلون إلا ذرةً بسيطة في هذا الكون الكبير الشاسع؟ و لماذا أموت؟ أمن أجلهم؟ أمن أجل كتبٍ كنت أبغي من خلالها أن أوصلَ أفكاري إليهم؟ و ها أنا أحترق، أصبحُ رماداً و عدماً، بينما الحياة تستمر، مثلها مثل أيّ يوم عادي!
كان أكثر ما أفزع جيردانو أنه يموتُ الآنَ وحيداً. يسري الفزعُ في كيانه، و يحسّ بالغثيانِ يملأ معدته، و يحسّ بمرارة في حلقه تختلط بطعم خثرات الدم المجتمعةِ فيه.
ينتهى القسيس من تلاوة ما يقرأ، و عندها يدني أحدُ الرهبان صليباً نحو جيردانو، فيزيح الأخيرُ وجههُ في امتعاض. حتى المسيح الذي يؤمنون به، مات و بجانبه سارقان يصلبان معه، أما أنا فأموتُ وحيداً.
تشتعلُ النارُ في كومة الحطب أسفل جيردانو، و يحسّ بلذعها يسري في قدميه. سأموتُ وحيداً! سوف يسري الألمُ في أعضائي، و سيكون قاسياً، و بطيئاً.
تكادُ روحهُ تتهاوى، و الألم لمّا يزلْ بعدُ في بداياته، لولا أن فكرةً قصيّة انبعثت فجأة وسطَ عقله لتملأ روحَه و كيانه..
هل أنا فعلاً أحترقُ وحيداً؟
إذا كانت فكرة اللانهاية التي أؤمن بها صحيحة، فمن المؤكد أنّ ذلك غيرُ صحيح.
الأرض ما هي إلا كوكبٌ من الكواكب، و الشمس ما هي إلا نجمة من النجمات، و المجرة واحدة من ملايين الملايين من المجرات. و ليست الحياة مقصورة فقط على كوكبنا، بل إنها في ملايين الملايين من الكواكب التي تتظافر فيها شروط الحياة، كل ذلك انعكاس لقدرة الله اللا نهائية.
إذن فلا بدّ أنَّ هناك رجلٌ ما يُحرق الآن لمثل فعلتي، رجلٌ يحرقُ لأنه نادى بلانهائية الكون. ليس رجلاً واحداً، بل إثنان، و ليس إثنان بل ثلاثة، و هكذا.. حتى يصبحَ العددُ أيضا لا نهائي بما يتناسب مع قدرة الله المطلقة.
تبدّلَ المنظرُ المنبسط أمام عيني جيردانو برونو، بينما أنشبت النار في قبائه الجلدي. لم يعدْ يرى قساوسة متجهمين، و لا جنوداً صارمين، و لا أناساً متحلقين. ساحة الإعدام لم تعد ساحة الورود، و إنما أصحبت الكونَ بمجراته و نجومه و كواكبه؛ ملايين الملايين من الكرات الدائرية التي تحلقُ في فضاءٍ أسودَ رحب، و فوق هذه الكرات صوارٍ خشبية كمثل هذه التي يُربطُ إليها، ترتفع عالياً و قد شُدَّ نحوَها أشخاص ينادون بمثل ما نادى، و ها هم الآن يحترقون، معَه، و هم يرفعون نجواهم نحو ربٍ غيرِ نهائيّ القدرة.
"أنا –بكل تأكيد- لا أموتُ وحيداً"
كانت هذه هي الفكرة الأخيرة التي دارت في رأس الفيلسوف النولاني جيردانو برونو قبل أن يلفظ أنفاسَه.
عدي الحربش
Dec 16/ 09