د. بشير إبرير - بلاغة الصورة وفاعلية التأثير في الخطاب الإشهاري.. (نظرة سيميائية تداولية)

ملخص:

تهدف هذه الدراسة إلى محاولة البحث عن جملة العناصر التي تجعل من الإشهار خطاباً سيميائياً تداولياً بالنظر إلى صوره الثابتة والمتحركة بما تحمله من كفاءة وقوة على التبليغ والتواصل وما يكمن فيها من عناصر جمالية وفنية وطاقة وفعالية في التأثير على المتلقين وذلك بالتركيز على أنواع الإشهار وعناصره ووظائفه والمقاربات المنهجية الخاصة بتحليله مع محاولة تقديم نموذج تطبيقي.

1ـ مقدمة:

يعد الخطاب الإشهاري في عصرنا هذا صناعة إعلامية وثقافية بأتم معنى الكلمة، ولذلك فهو يحظى باهتمام كبير في مختلف المجتمعات وخصوصاً المتطورة منها، لما يتميز به من قدرة عالية على بلورة الرأي وتشكيل الوعي وفي التأثير على الثقافة وتوجيهها في أبعادها المختلفة الأخلاقية والفلسفية.

وبالرغم من هذا فإن هذا النوع من الخطابات ما يزال يحبو ويكاد يكون مجهولا في كتاباتنا ومناهج تدريسنا ودراستنا باللغة العربية (1) وبخاصة في اللغة والأدب التي لا بد أن تتغير وتتطور وتواكب عصرها، إذ لا شك في أن الخطاب الإشهاري يعد من الخطابات التي تندرج في إطار الممارسة الثقافية كالخطاب الأدبي أو السينمائي أو البصري... فهو يؤثث فضاءات اليومي ويُستهلك إلى جانب الخطابات الأخرى، كما يكتسي طابعاً ثقافياً يتمثل في مكوناته اللغوية والسيميائية والتداولية، بالإضافة إلى بعده الاقتصادي والاجتماعي المرتبط بالدعاية التجارية(2).

تهدف هذه الدراسة إلى محاولة البحث عن جملة العناصر التي تجعل من الإشهار خطاباً سيميائياً وتداولياً بالنظر إلى صوره الثابتة والمتحركة بما تحمله من كفاءة وقوة على التبليغ والتواصل وما يكمن فيها من عناصر جمالية وفنية وطاقة وفاعلية في التأثير على المتلقي، وذلك أن الإشهار فن إعلامي يستند على مؤشرات مرئية مثل العناوين في كتابتها ومضامينها وأنواع الطباعة والصورة... من خلاله يمكن تأسيس تعارف وعلاقة بين المخاطب والمتلقي أو بين المنتج والمستهلك. فهدفه ـ أولاً وقبل كل شيء ـ هو تبليغ خطاب، ولذلك يتوخى أن تكون أفكاره واصفة وهادفة ويستعمل وسائل تبليغ متنوعة ومتناسقة يسخرها كلها في سبيل تحقيق الهدف المحدد.

وهكذا فإن الإشهار متنوع الأشكال والأهداف، فقد يتم توجيهه إلى فرد أو جماعة أو حزب أو أمة... وقد يكون علمياً أو ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً، وقد يكون مسموعاً أو مكتوباً أو سمعياً ـ بصرياً. إنه كما يقال: "فن مركب يضع العالم بين يديك"(3).

2ـ أنواع الإشهار:

أـ الإشهار المسموع: ويتم من خلال الكلمة المسموعة في الإذاعات والمحاضرات والندوات والخطب... وتعد الكلمة المسموعة أقدم وسيلة استعملها الإنسان في الإشهار، وأهم ما يميزها هو طريقة أدائها، إذ يلعب الصوت دوراً بالغ الأهمية في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس، وتصحب الكلمة المسموعة أحياناً الموسيقى فتزيدها طاقة كبرى على الإيحاء والوهم والتخيل، وعملاً على استثارة الحلم وإيقاظ الراقد في الأعماق.

ب ـ الإشهار المكتوب: ويتخذ وسيلة له الصحف والمجلات والكتب والنشرات والتقارير والملصقات على جدران المدن أو في ساحاتها العامة حيث يكثر الناس(4) وذلك ما نلاحظه من صور لزجاجات العطر أو أنواع الصابون أو الساعات...الخ.

والأمر نفسه لما نلاحظه من إشهار على اللوحات الإعلانية الثابتة أو المتحركة في ملاعب كرة القدم مثلاً، لأنَّ ذلك يجعلها تشيع ويتسع مداها وتصل إلى أكبر قدر ممكن من المتلقين...

جـ ـ الإشهار المسموع والمكتوب (السمعي ـ البصري): وسيلته الأساسية التلفزة، ويتم بالصورة واللون والموسيقى وطريقة الأداء والحركة والموضوع، فهو، إن صح التعبير، عبارة عن "ميكروفيلم" يتعاون على إنتاجه وإنجازه فريق عمل متخصص في: الإخراج والديكور ووضع الأثاث، والحلاقة والتجميل، والإضاءة والتسجيل وضبط الصوت والتركيب والتمثيل...الخ.

وهذا يبين ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أهمية الإشهار كخطاب سار في المجتمع له خصوصياته وأبعاده، وأهمية الدور الذي تلعبه التلفزة كوسيلة إعلامية في المجتمع...

ويمكن ـ أيضاً ـ أن نقسم الإشهار إلى:

أ ـ إشهار تجاري: ويرتبط بالاستثمار والمنافسة، ولذلك فإن استراتيجيات التسويق واستراتيجيات الإشهار مرتبطان ببعضها.

ب ـ إشهار سياسي: ويرتبط بالتعبير عن الآراء المختلفة ومحاولة التأثير على الرأي العام بتقديم الإشهار في شكل يبرز أهمية الرأي بأنه هو الأحسن وهو الأفضل من بين كل الآراء الأخرى المتواجدة في الساحة، كما هو الحال في الدعاية للحملات الانتخابية.

جـ ـ إشهار اجتماعي: ويهدف إلى تقديم خدمة أو منفعة عامة للمجتمع، مثلاً: الإعلان عن مواعيد تلقيح الأطفال أو إسداء نصائح للفلاحين، أو الدعوة إلى الوقاية والحذر من أمراض معينة. ولذلك نلاحظ هذا النوع من الإشهار غالبا ما يأتي تحت عنوان: "حملة ذات منفعة عامة" كما هو الحال في التلفزيون الجزائري.

3ـ عناصر الخطاب الإشهاري ووظائفه:

يتأسس الخطاب الإشهاري على جملة من العناصر المترابطة ببعضها باعتباره نسيجاً لغوياً وغير لغوي تتشابك فيه مجموعة من الوسائل والعلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية(5) وتتمثل هذه العناصر في:

أ ـ المرسل: وهو الذي يُحدث الخطاب ويعمل على شحنه بما يحتاجه من مادة إشهارية لازمة بالنظر إلى الموضوع الذي يدور حوله الإشهار، ثمَّ يقوم بإرساله نحو المتلقي الذي يتحدد بناء على نوعية المنتوج: فالروائح والعطور والورود... ترسل إلى النساء والحليب والجبن وأنواع الحلوى واللُّعب ترسل إلى الأطفال... والحقائب البراقة والمكاتب الفاخرة والسيارات اللّماعة غالباً ما يتم إرسالها إلى رجال الأعمال... وهكذا يعمل المرسل (الإشهاري le pubiciste ) على تحقيق الوظيفة التعبيرية La fonction expressive في الخطاب الإشهاري، فيضمنه ما يثير ذوق المرسل إليه أو المتلقي ويسيل لعابه نحو المنتوج، ولذلك يكيف صيغه حسب الأحوال والمقامات التي يقتضيها.

ب ـ المرسل إليه (المتلقي):

وهو العنصر الثاني المهم في العملية الإشهارية وهو المقصود بالإشهار ولا تتم العملية الإشهارية إلا به ومن خلاله تتحقق الوظيفة الإفهامية أو الطلبية La fonction conative ou appellative إذ يعمل المرسل على إفهام المرسل إليه بجدوى المنتوج وأهميته بأي طريقة، فيقدم على استهلاكه ويحقق الهدف الأساسي الذي يريده المرسل.

ب ـ الخطاب أو الرسالة الإشهارية:

ويفترض وجود مرسل أو متكلم يُحدث أقوالا ومتلقيا يستقبل هذه الأقوال ويعمل على فهم أنساقها الدلالية المختلفة واللسانية والسيميائية (الأيقونة البصرية) وتحليلها وتأويلها بعد ذلك. وهنا تتحقق الوظيفة الشعرية La fonction poètique ، وهي تعد الوظيفة السيدة في الخطاب بعامة وفي الإشهار بخاصة وبقية الوظائف خدم لها إن جاز القول.

جـ ـ المقام La situarion :

إن العلاقة بين المرسل والمرسل إليه أو بين المخاطِب والمتلقي لا تتم بشكل اعتباطي أو خبط عشواء، وإنما تتم بحسب ما يقتضيه المقام وأحوال الخطاب وظروفه المختلفة المحيطة بإحداثه وإنتاجه وإرساله واستقباله، وما يتطلب ذلك من خصائص لغوية وغير لغوية يمكن أن نطلق عليها "قرائن الخطاب أو الحديث"(6) وهو كما يرى الدكتور عصام نور الدين "الإطار أو الموضوع الذي يقع تحته الحديث ـ سواء أكان فكاهة أم رواية أم خطبة أم شعراً أم أي مرسلة أخرى ـ ولكل إطار سمات تميزه عن بقية الأطر وتؤثر لغوياً في الموضوع وفي اختيار الكلمات وضروب الاستعمال وطول التراكيب اللغوية أو قصرها..."(7).

ومن خلال عنصر المقام تتحقق الوظيفة المرجعية Le fonction rèfèrentielle بالنسبة لمرسله ولمتلقيه بما يحملان من خصوصيات لغوية وغير لغوية وثقافية وإيديولوجية واجتماعية ونفسية...

هـ ـ الوضع المشترك بين المتخاطبين: ويتمثل في أن ينطلق طرفا الخطاب من الأوضاع نفسها، فهناك علاقات وثيقة بينهما ويمكن أن تراعى في تحليل الخطب الإشهاري واتخاذها سمات علامات تجمع بين مرسل الخطاب ومتلقيه وهي:

ـ وحدة اللغة: فالإشهاري يستثمر في خطابه الكلمات والجمل التي يعبر بها مجتمعه عن أغراضه المختلفة.

ـ وحدة الثقافة: أي التراث الثقافي المشترك والعقيدة الفكرية العامة المشتركة

ـ وحدة البداهة: أي مجموع الأفكار والمعتقدات وأحكام القيمة التي يفرزها الوسط فيتقبلها كأمور بديهية لا تحتمل التبرير أو الاستدلال(8) وعن هذا العنصر تتولد الوظيفة ما وراء لسانية La fonction mètalinguistique .

و ـ قناة التبليغ:

وهي الوسيلة المستعملة في إيصال الحديث سواء أكانت صوتية أو وسيلة أخرى، وفي الخطاب الإشهاري، إما أن تكون وسائل مكتوبة مثل الجرائد والمطبوعات والملصقات... أو تكون سمعية بواسطة الراديو مثلا... أو بواسطة التلفاز... الخ. أو بوسائل وعلامات أخرى بحسب ما تقتضي الظروف وتستدعي الضرورة، وهنا تتحقق الوظيفة الانتباهية La fonction fatique ؛ وذلك أن الإشهار يعمل على أن يثير ردود أفعال الملتقي وانتباهه نحو الموضوع.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه العناصر والوظائف الناتجة عنها مترابطة ببعضها وما التفريق بهذه الطريقة إلا تسهيل الإدراك والفهم.

4ـ المقاربات المنهجية في تحليل الخطاب الإشهاري:

توجد عدة مقاربات approaches منهجية لتحليل الخطاب الإشهاري، وهي متداخلة ببعضها ولا يخلو منها أي خطاب إشهاري فيما أرى وهي:

أ ـ المقاربة اللسانية:

وهي البوابة التي ندخل من خلالها عالم الإشهار، إذ لا يوجد إشهار من دون لغة منطوقة أو مكتوبة بحسب ما تقتضيه الصورة الإشهارية في ثباتها وسكونها أو في حركاتها ونموها وتغيرها. وتكتسي هذه المقاربة المنهجية الانطلاق من النظام أو النسق اللساني فيبحث في مستوياته الصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية والدلالات الناتجة عن هذه المستويات كلها.

"إلا أن أهمية النسق اللساني تبقى رغم ذلك قاصرة أمام بلاغة الصورة وأوليتها المتفاعلة المؤثرة؛ فهي ذات التأثير في نفس المتلقي، كما تستوقف المشاهد لتثير فيه الرغبة والاستجابة."(9)

ب ـ المقاربة النفسية:

وتكتسب أهميتها القصوى في كون الخطاب الإشهاري يركز أكثر ما يركز على المتلقي فيعمل على إغوائه واستدراجه بأن يتسلط على الحساسية المتأثرة لديه ويهيمن على أفق انتظاره فيجعله لا يرى شيئا غيره، فهو المناسب وهو الأجمل والأحلى والأبهى وهو الجديد الذي لم يصنع من قبل بل صنع لأجل المتلقي دون غيره...

جـ ـ المقاربة التداولية:

وتتمثل في كون الخطاب الإشهاري يهدف إلى تحقيق منفعة أو ربح أو فائدة ولا يكتفي بتبليغ الخطاب فقط وإنما يحرص على أن يلبس خطابه أجمل حلة ويتزيّا بأحلى الأزياء ويتأنق ويتألق من أجل تحقيق المبتغى. ويبرز ذلك في لغته المكثفة وجمله المختصرة وكلماته المشعة البراقة التي تتوجه نحو المستقبل فهو الذي يعنيها أكثر من غيره ولا تتوجه نحو الماضي إلا بما يخدم مصلحة الإشهاري ويتعلق بمستقبل المتلقي.

د ـ المقاربة الاجتماعية ـ الثقافية:

تحمل رؤى المجتمع المختلفة وثقافته، إذ يعد الإشهار إنتاجا لغوياً اجتماعياً يبرز العلاقات الاجتماعية المختلفة (سياسية ـ ثقافية ـ اقتصادية ـ واجتماعية) وتعد العلامات والسمات المختلفة التي تميز الإشهار مرآة تعكس ما يجري في المجتمع من أحداث وتفاعلات سلباً أو إيجاباً يحاول الإشهاري تأكيدها أو الإقناع بها أو تعريتها وكشفها أمام الجماهير، فتزعم أن الإشهار يُمكننا من معرفة "بنية الوعي الاجتماعي، إلى جانب شرح العناصر المكونة له وتحليل الروابط المتبادلة ودراسة قوانين تطوره"(10).

فعندما نتأمل الخطاب الإشهاري الجزائري مثلاً، في سنوات السبعينات والثمانينات نجده خطاباً فقيراً ضحلاً لا يثير انتباه المتلقي بقدر ما يثير تقززه ونفوره، ثمَّ إنه لا يخرج عن كونه خطاباً بليداً أحادي النظرة يتعلق بالإيديولوجيا السائدة آنذاك، وهو باختصار خطاب لا يثير الانتباه.

أمَّا الناظر إليه في المنتصف الثاني من التسعينات إلى 2004 فيجده قد تحسن كثيراً جداً من حيث لغته وأسلوبه ووسائل إنتاجه وطرائق تعبيره وموضوعاته؛ لأنَّ بنية الوعي الاجتماعي وأشكاله في الجزائر قد تغيرت هي الأخرى وهو مرآتها العاكسة في زمانها ومكانها.

هـ ـ المقاربة السيميائية:

وهي أهم المقاربات وأنسبها لتحليل الخطاب الإشهاري إلى جانب المقاربة التداولية، لأنها تجمع بين الصوت والصورة والموسيقى والحركة والأداء واللون والإشارة والأيقونة والرمز واللغة والديكور. الشيء الذي يجعلنا نقول إن الخطاب الإشهاري، وخصوصاً السمعي ـ البصري، عبارة عن ميكروفيلم كما سبقت الإشارة، أي فيلم قصير جداً يقوم بإنجازه وتأثيثه أعوان كثيرون من مهندسين في اختصاصات مختلفة. ثمَّ إننا نزعم أن المقاربة السيميائية تشمل كل المقاربات السابقة وخصوصاً التداولية منها.

تتفرع السيمياء إلى فرعين كبيرين هما: سيمياء التبليغ وسيمياء الدلالة ولها اتجاهات كثيرة منها: الاتجاه الإيطالي الذي يتزعمه "أمبرتو إيكو Umberto Eco " و"روسي لاندي" والاتجاه الروسي الذي يشمل الشكلانية الروسية ومدرسة تارتو والاتجاه الفرنسي بمختلف تفرعاته، والاتجاه الأمريكي بزعامة" بيرس (شارل سندرس) C.S. Peirce " وهو المؤسس الحقيقي للفكر السيميائي الغربي الحديث في نظر بعض الدارسين(11).

تتأسس النظرية السيميائية على عدة عناصر عند بيرس، وهي التطورية الواقعية والبراغماتية وانسجاماً مع هذه العناصر يؤسس بيرس فلسفته على الظاهراتية phanèroscopie التي تعنى بدراسة ما يظهر(12)، وهو بهذا يوسع من نطاق العلامة لتشمل اللغة وغيرها من الأنظمة التبليغية غير اللغوية، فكل ما في الكون بالنسبة لبيرس علامة قابلة للدراسة وهي بذلك تندرج ضمن السيميوتيقا Sèmiotique وتعد جزءاً من علم المنطق خلافاً لسوسير الذي ركز اهتمامه على العلامة اللغوية وهي تندرج في إطار السيميولوجيا Sèmiologie .

ولهذا يعد منظور بيرس الأنسب والأصلح لدراسة الخطابات البصرية ومنها الإشهار؛ فلقد عملت الثورة التقنية في مجال تمثيل reprèsentaion وإعادة إنتاج الواقع على قلب تاريخ التمثيل البصري التقليدي... فمن جانب سوف تحتكر الصورة الفوتوغرافية مجموعة مجالات التعبير التي كانت من نصيب الفنون التشكيلية من مثل رسم الطبيعة والصور الشخصية Portraits إلى غير ذلك، ومن جانب آخر ستعمل السينما والتلفزيون على تطوير استعمال الطرائق الفوتوغرافية وبخاصة فيما يتعلق بتمثيل الوقائع والمشاهد المتحركة موسعة بذلك من مفهوم الفرجة العرض spectacle الذي كان مقتصرا على المسرح(13).

لن نطيل الحديث عن السيمياء واتجاهاتها وفروعها وروادها؛ وإنما سنحاول التطبيق مستثمرين أيضاً باقي المقاربات وخصوصاً التداولية والاجتماعية ـ الثقافية وذلك انطلاقاً من النص التراثي العربي الآتي:

"يروى أن تاجرا عراقياً قدم إلى مدينة الرسول الله (ص)، بعدْل من الخُمُر، فباعها كلها إلا السود، فلم يجد لها طالبا، فكسدت عليه وضاق صدره فقيل لـه: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالظرف والخلاعة، فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه وقص عليه القصة. فقال له: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال؟. فقال له التاجر: أنا رجل غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرّع إليه. فقال له الدارمي: "ما تجعل لي على أن أحتال لك حيلة قد تبيعها كلها على حكمك؟" فأجابه التاجر العراقي: "ما شئتَ". فخرج الدارمي من المسجد، وعمد إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وأعاد لباسه الأول، وقال شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنيين، فغنى به وكان الشعر:

قل للمليحة في الخمار الأسود = ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شّمر للصلاة ثيابه = حتّى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه = لا تقتليه بحق دين محمد

فشاع هذا الغناء في المدينة، وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق مليحة بالمدينة إلا واشترت خماراً أسوداً، وباع التاجر ما كان معه، فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي، فيقولون له: ماذا صنعت؟. فيقول: ستعلمون بنبأه بعد حين. فملا أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه"(14)

نحاول قراءة هذا النص بتقسيمه كما يلي:

1ـ مقام النص: ويبدأ من "يروى أن تاجراً عراقياً... إلى فغنى به"
2ـ بؤرة النص: وتتمثل في الأبيات الشعرية الثلاث.
3ـ فائدة النص: وتتمثل في نتيجته المحققة ويبدأ من "فشاع هذا الغناء في المدينة.. إلى آخر النص"

1ـ مقام النص: ويمثل جملة الظروف والأحوال المحيطة بإنتاج هذا النص/ الخطاب، فيحكي لنا التاجر العراقي الذي قصد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدْل من الخمر فباعها كلها إلا السود فلم يجد لها طالبا فكسدت عليه، وقد أدى هذا الكساد إلى تأثر التاجر العراقي وتأزمه نفسياً، وذلك ما تلخصه عبارة: "وضاق صدره" فخاف من الخسارة، شأنه شأن أي تاجر، وخصوصاً أنه قطع رحلة طويلة من العراق إلى المدينة، وكان عليه أن يجد وسيلة لبيع سلعته الكاسدة "الخمر السود"، فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي".

إن المرسل ـ هنا ـ غير محدد بشخص معين شأنه شأن بداية النص بـ "يروى"؛ فكلاهما مبني للمجهول أو لمن يسمّى فاعله؛ إن المرسل ـ هنا ـ قد يكون واحداً أو جماعة ممَّا يؤكد على أن هناك اتفاقاً من الجماعة على قدرة مسكين الدارمي في جعل التاجر العراقي يبيع سلعته المتمثلة في خمره السود.

ولذلك تمَّ استعمال الفعل "ينفّقها لك" على وزن "يُفًعّلها" دلالة على الكثرة مسبوقاً بنفي "ما" ومتبوعاً بأداة الحصر "إلا" تأكيداً على دور مسكين الدارمي وشهرته في مثل هذه الأشياء وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالنساء، ومسكين مشهور بالظرف والخلاعة والسلعة التي أتى بها التاجر العراقي إلى المدينة سلعة موجهة إلى النساء.

"فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد".

تمثل هذه العبارة عقدة الخبر، فالتاجر العراقي قصد مسكيناً بسرعة فوجده في حالة مختلفة عن الحالة المنتظرة؛ فمن الظرف والخلاعة إلى التزهد والانقطاع للعبادة في المسجد ممَّا يمثل خيبة انتظاره، ولكن مع ذلك أتاه وقص عليه القصة، ممَّا أثار تعجب مسكين فقال له: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال؟.

يمثل هذا السؤال من مسكين الدارمي بداية التمهيد لإبرام عقد تواصلي بينه وبين التاجر العراقي والتوقيع على بنوده. وقد أدى هذا بالتاجر العراقي لأنَّ يترجاه وتضرع إليه وهو يمثل علامة دالة على ضعفه؛ إذ لا يتضرع إلا من يوجد في موقف ضعف، ويدل من جانب آخر، على أن الشاعر مسكين الدارمي صاحب خبرة ومراس ودراية بما يفعل بالرغم من تزهده وهو ما نلمسه ونلاحظه في عبارته:

"ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة قد تبيعها كلها على حكمك"

إن هذه العبارة مشحونة بعناية إغراء وإغواء تسلط بها الدارمي على الحساسية المتأثرة عند التاجر العراقي، وجعلها تنطق برغباته وما يريد، ممَّا يبين أنها عبارة إشهارية بامتياز تعبر عن ثقة التاجر العراقي بما طلبه الدارمي فقال: "ما شئتَ". وكأنه يوقع صكا على بياض يسجل فيه الرقم الذي يريد مقابل بيع خمره السود، ممَّا يدل على أنها خمر غالية وثمينة.

إن عبارة "ما شئتَ" هي الأخرى إغرائية أسالت لعاب الدارمي، فقبل العرض بالرغم من انقطاعه في المسجد للعبادة، ولعل هذا يعود إلى كون العرض مغرياً، فكلمة "ما شئتَ" مفتوحة والإنسان مهما يكن يحب المال، ولذلك خرج الدارمي من المسجد ونزع ثياب النسك عنه ليناسب المقام الجديد ويؤدي الوظيفة بإتقان ويحقق الفائدة له وللتاجر العراقي، وتلك غاية الإشهار.

لقد انتهت مهمة التاجر العراقي وبدأت مهمة الشاعر مسكين الدارمي الذي عاوده الحنين إلى ماضيه فلبس لباسه الأول الذي كان يرتديه أيام الظرف والخلاعة قبل أن يتزهد. وهذا ما نجده في الإشهار في وقتنا، إذ أن "الإشهاري" يرتدي اللباس الذي يناسب محتوى موضوع الإشهار وبما يتعلق به من إثارة وإبهار، هي عبارة عن نظام من العلامات ذات علاقة بالثقافة التي يحملها الجمهور المشاهد للإشهار تمكنه من قراءتها ومتابعتها.


2ـ بؤرة النص:

وتتمثل في الأبيات الثلاثة التي أنشدها الدارمي وهي:

قل للمليحة في الخمار الأسود = ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شّمر للصلاة ثيابه = حتّى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه = لا تقتليه بحق دين محمد

تعد هذه الأبيات القلب النابض للنص، وهي من الناحية الشكلية تتوسطه؛ تسبقها مقدمة النص أو مقامه كما رأينا، وتتلوها خاتمته، وهذا لا يعني أن ما قبل الأبيات الشعرية وما بعدها "حشو يمكن الاستغناء عنه، وإنما يجب أن نجعله سبباً ونتيجة، وليس لنا من مقياس علمي لضبطها وإنما هي موكولة إلى حس القارئ وذوقه..."(15).

تظهر هذه الأبيات:

أـ الشاعر مسكين الدارمي وقد حدد هدفاً له: وهو بيع الخمر السود التي كسدت على التاجر العراقي ولم يستطع بيعها.

ب ـ حدد نوعية المتلقي الذي سيوجه إليه الخطاب ويتمثل في فتيات المدينة جميعها ولذلك كيّف صيغ خطابه ليلائمهن فاستعمل عبارة: "قل للمليحة في الخمار الأسود"

إن المليحة ـ هنا ـ هي التي ترتدي الخمار الأسود ولكن من لا ترتدي خماراً أسود فهي ليست مليحة. ويمكن أن يكون هذا هو عنوان النص بلا منازع: "الملحية في الخمار الأسود"(16).

إن عنواناً كهذا "يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا: إنه يقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه؛ إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه"(17).

ويمثل صورة نابضة بالحياة ناطقة بالرغبة، تمارس الإغراء على المتلقي وتعمل على استدراجه وإدخاله إلى ملكوتها، وقد مارست سحرها وفاعليتها في التأثير على الزاهد المتعبد فأخرجته من المسجد، وهو أمر قد تجاوز العادي إلى اللاعادي؛ لأنها لو مارست مفعولها على شخص عادي من المشهورين بالتلهف على النساء لما كان في ذلك غرابة.

والغرابة دليل على أدلة الإشهار.

فلو نتخيل أن هذه المليحة في الخمار الأسود قد تم تصويرها فعلاً في صورة فوتوغرافية أو رسمها فنان تشكيلي في لوحة متناسقة الألوان وتم تعليقها على واجهة محل لبيع الملابس النسوية (الخمارات مثلاً...) مع قليل من الموسيقى أو مع أغنية ناظم الغزالي أو صباح فخري اللذين غنيا الأبيات المذكورة سابقاً... أو أن هذه الصورة ركبت وتمّ إخراجها في إشهار تلفزي فإن ما يثيرنا هو بلاغة الصورة في ثباتها وسكونها وما تحمله من تعابير ومعان وما تتأسس عليه من خلفيات معرفية واجتماعية، فكما يذهب "رولان بارت Roland Barthes ": "لا تقف البلاغة عند حدود النص المكتوب، بل إن الصورة أيضاً تتضمن أحداثاً بلاغية على عكس ما هو سائد عند البعض من أن البلاغة حكر على اللغة، وأن الصورة هي نسق جد بدائي قياساً إلى اللغة، ويرى البعض الآخر أن الدلالة تستنفذ ثراء الصورة الذي لا يمكن وصفه"(18).

ثمَّ إن الخمار الأسود يعد العلامة الأساسية في هذا النص، لأنها ـ في رأيي ـ تلبس لباس الأمة ومكسوة بطابعها وتمثل قيمة عربية إسلامية مهمة لها فضائلها وخصوصياتها ومرجعياتها الدينية والاجتماعية التي ترتبط في وجدان من يتلقاها أو يستهلكها "بعوالم ثقافية ودوائر قيمية يتحول المفتوح (الخمار) من خلالها وفيها إلى مثير نفسي يحتكم إليه السلوك الفردي والجماعي"(19).

جـ ـ حوّل مسكين الدارمي السلعة الكاسدة وهي الخمر السود المرغوب عنها علامة مسجلة في سوق السلع النفسية، أو بتعبير آخر "ماركة" مرغوباً فيها "وذلك بمخاطبة المليحة في الخمار الأسود ورجائها أن ترد عليه صلاته وصيامه وهو الناسك المتعبد المنقطع في المسجد"(20). وهكذا إذا كانت الألوان قد اكتسبت على مر العصور معاني ودلالات في حياة الأمم ما لبثت أن استقرت في ألفاظها وعباراتها وأصبحت رموزاً وايحاءات فكرية، فإن اللون الأسود في الثقافة العربية الإسلامية يدل غالباً على الظلم والعبودية والظلام واليأس على العكس من اللون الأبيض الذي يرمز إلى النقاء والطهر والأمل والسلام.

ولقد حوّل مسكين الدارمي اللون الأسود لوناً ساحراً أخاذاً تلبسه المليحات؛ ممَّا يظهر براعته الفنية وعمق قريحته الشعرية الأصيلة وحسه المرهف، وحسن درايته وخبرته بالمليحات وما تحلم به الأنثى. وبهذا فإن الخمار الأسود باعتباره "ماركة" قد تحول إليها "ميثاق اجتماعي وثقافي واقتصادي يحيل على قيم مثل الثقة والتزكية والارتباط والأمانة"(21) وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعد الإشهار خطاباً حيوياً سعيداً خالياً من الهموم مملوءاً بالآمال الوردية، يعمل على تأسيس الألفة وبناء الثقة بينه وبين المتلقي، فمن هذه الزاوية ليس الإشهار "سوى صيغة أخرى من الصيغ "التطهيرية" التي تمكن الذات من الانتشاء بنفسها عبر المزيد من الانغماس في الوهم. ويتم هذا التطهير عبر السوق وفعل الشراء" (22)، وبخاصة عندما يركز الإشهاري الانتباه على الزوايا والمثيرات التي قد لا يلاحظها المتلقي.

ولقد عرّف مصممو الإشهار العناصر والألوان التي تلفت الأنظار وتؤثر في الاستجابات العاطفية لمشاهدي الإشهار فاستعملوا الألوان الدافئة المفرحة التي تنبض بالحركة والحيوية لدفع الناس إلى الإقبال على شراء السلع وبخاصة إذا تكاملت في سحرها وتناغمها مع الصورة في تأثيرها وتناسق ألوانها.

لا ننس حنكة الدارمي الذي استعان بصديق له يجيد الغناء فغنى الأبيات الشعرية في أرجاء المدينة فشاعت بين النساء، ويمثل المغني هنا وسيلة التبليغ التي نقلت الخطاب من المرسل إلى المرسل إليه بعد أن تمَّ شحنه لكي يكون أكثر فاعلية في التأثير على المتلقي المتمثل في فتيات المدينة. وتجب الإشارة إلى أن المغني الذي تغنى بأبيات الدارمي الشعرية، لم يغنها مرة واحدة وفي مكان واحد فقط، وإنما كرر التغني بها في مختلف أرجاء المدينة لتشيع بين الفتيات بل ليست الفتيات فقط؛ وإنما كل من يشتري خماراً أسود حتّى من الرجال؛ فمنهم من يشتري للمليحة خماراً أسود ليؤكد لها ولعه وحبه. نلاحظ هذا في حياتنا الاجتماعية المعاصرة ممثلاً في الاستعانة بالممثلين أو الرياضيين أو المغنيين أو غيرهم... بحسب ما يقتضيه موضوع الإشهار.

يكمن مفعول الأغنية في الوصلة الإشهارية في كون "اللحن يحمي الكلمات من كل حكم ومن الرقابة؛ فالغناء يضمد الجسم الاجتماعي مثلما تفعل الأناشيد والتراتيل الكنائسية..."
(23)، ويجعل المتلقي يعيش الحلم، حلم اليقظة ويحلق مع ما تنطق به رغباته ومخياله.

3ـ خاتمة النص:

وتبدأ من "فشاع هذا الغناء في المدينة... إلى: فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه". وأهم ما يميز هذه الخاتمة أنها:

أـ أثارت حيرة الناس فقالوا: "قد رجع الدرامي وتعشق صاحبة الخمار الأسود" وتؤكد هذه العبارة معرفة الناس بالدارمي وبسلوكه القديم الذي كان يتميز بالظرف والخلاعة، وبشعبيته عند الفتيات وتعلقهن به "أو بمن يشبهه من الشباب أو بما يمثله الدارمي من شباب ونزق وحركة وحياة ورجولة وشاعرية ومركز اجتماعي... وطمع كل واحدة منهن بأن تكون صاحبة الخمار الأسود التي تتصدى للناسك المتعبد، فترده عن صلاته وصيامه وتجعله يخلع ثياب الزهد والتعبد والوقار من أجل جمالها والظفر بحبها ووصلها"(24)، وهو ما يؤكد أنها مليحة خارقة تجاوزت العادي المألوف، وهذا ما نلاحظه أيضاً في وقتنا، فكثيراً ما تتعلق الفتيات بمغنين أو بممثلين... فهذا التعلق يلامس الفتيات من الداخل ويدغدغ عواطفهن ويعمل على إيقاظ الإنسان الذي يرقد في أعماقهن جميعاً، حتّى إن كان ذلك مستوراً خفياً ومقيداً بعادات اجتماعية وقيم أخلاقية تحد منه أو تكتمه أحياناً، وقد يظهر في اللحظة المناسبة التي تكسر القيود وتفجر المكبوت.

ب ـ أثارت استغراب النساك إخوان الدارمي فجعلوا يقولون له: "... ماذا صنعت؟"؛ فقد ظنوا أنه ارتد وحاد عن طريق الحق وجادة الصواب، ولكنه كان واثقاً من نفسه عارفاً بالوظيفة التي يؤديها ولذلك كان يقول لهم: "ستعلمون نبأه بعد حين"

ج ـ حققت الفائدة المرجوة التي ينشدها التاجر العراقي ومسكين الدارمي؛ فالأول يريد تسويق خمره السود، والثاني يريد أن يقبض الثمن المناسب للحيلة التي احتالها لكي تشتري مليحات المدينة الخمارات السوداء. فكلاهما حقق منفعة. ونحن نعلم أن الخطاب الإشهاري في حقيقة أمره مؤسس على المنفعة وهي غايته القصوى وهدفه النهائي الذي يعمل على تحقيقه بجميع الوسائل.

5ـ لغة النص:

تتميز لغة الإشهار بصفة عامة بجمل بسيطة قصيرة موجزة مكثفة من حيث الدلالة، تحمل فكرة رئيسية واحدة، غالبا ما تود تبليغها إلى المتلقي في أحسن الظروف والأحوال. إن ما يهم الإشهاري من اللغة هو أن يبلغ خطابه ويحقق الهدف منه مهما يكن المستوى اللغوي المستعمل، فقد يكون فصيحاً أو تتداخل فيه الفصحى بالعامية، أو يكون خليطاً بين الفصحى والعامية وكلمات أجنبية...

والمتأمل لهذا النص يجد لغة فصحى تترجم الوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه وتوضح طبقاته المختلفة؛ فمن التجار إلى النساك والزهاد المنقطعين للعبادة في المساجد إلى المغنيين والشعراء المشهورين بالظرف والخلاعة إلى الفتيات المليحات... وهذه طبيعة الحياة المبنية على التناقض الذي هو أساس انسجامها وديمومتها واستمرارها. كما أن هذه اللغة ذات مستوى دلالي بين الجماعة المتحدثة بها وتظهر تداوليتها على مستويات عديدة منها:

أ ـ مستوى العناصر الرابطة:

التي تؤدي وظيفة التأليف بين أوصال النص وتساهم في تحقيق انسجامه، فمن ذلك الربط بالفاء الذي مارس حضوره في النص بتواتره حوالي سبع عشرة مرة منها: "...ف باعها كلها إلا السود فلم يجد لها طالباً ف كسدت عليه...، ف قيل له ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي...ف قصده ف وجده..."

إن الدور الذي تؤديه الفاء هنا يتعدى وظيفة العطف إلى غرض أبعد منه يتناسب مع نفسية التاجر العراقي لما كسدت سلعته فصار متلهفاً على إيجاد مخرج لمأزقه بأن يبيع كل خمره السود بسرعة تناسب سرعة الفاء في العطف أكثر من الواو وثم... ويتناسب من جهة أخرى مع ما يقتضيه الإشهار من سرعة في تداوله وأداء وظيفته بين الجمهور.

ب ـ على مستوى بعض الأساليب:
وظفت في النص أيضاً أساليب لغوية تداولية أخرى منها:
ـ الطلب: "قل للمليحة في الخمار الأسود"
ـ الاستفهام: "ماذا فعلت بزاهد متعبد؟"
ـ الخبر: "قد كان شمر للصلاة ثيابه = حتّى وفقت له بباب المسجد"
ـ التأكيد: "قد كان شمر للصلاة ثيابه"
ـ مخاطبة المليحة ورجاؤها وتضرعه لها "ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه..."
ـ القسم: "لا تقتليه بحق دين محمد"
ـ الالتفات: ويتمثل في الانتقال من المخاطب إلى الغائب إلى المخاطبة(25).

تتماشى كل هذه الأساليب مع ما يقتضيه الخطاب الإشهاري الذي كثيراً ما يوظف أساليب الطلب والنداء والتوكيد... في التعبير عن نفسه والتقرب من المتلقي شيئاً فشيئاً واستدراجه لتقبل الرسالة بسهولة ولذة ومتعة، ذلك أن "اللقطة الإشهارية لا تتضمن الإكراه بل تتركنا أحراراً لقول لا، فنحن في نظرها لسنا مستسلمين بل شركاء مسترخين ولاعبين وأطراف متورطة معها بإصرار مسبق"(26).

إن اللقطة الإشهارية تغرينا، لأنها ـ إن جاز القول ـ باسمة ومسكنة وغالباً ما تستقبلنا وتحتوينا ولا نستطيع إلا أن نقول لها: "نعم لبيك وسعديك وسمعا وطاعة".

ولا بد من الإشارة إلى أنه بالرغم من كون الدارمي قد أنشأ أبياتاً غزلية ما تزال تمارس حضورها في الذاكرة العربية وهي أجمل ما جاءت به قريحة الشاعر العربي، فإن النص قد هيمنت عليه الألفاظ الدينية؛ لأنَّ السياق الثقافي ـ الاجتماعي السائد الذي أنتج فيه النص يتمثل في الثقافة العربية الإسلامية التي تتسع للتعبد والصلاة والصيام والزهد... وتتسع للغزل والغناء والتعبير عن الحب والشوق...

6ـ خلاصة الحديث:

إن نصاً كهذا يجمع بين النثر والشعر يعد من عيون العربية ويظهر بوضوح قريحة الكاتب العربي القديم الوقادة، وقدرته على طرق الموضوعات الطريفة ونقل الأخبار والقصص اللطيفة وما أكثرها في تراثنا العربي. ونحن في حاجة مسيسة إلى استثمارها في ما تقتضيه الحياة العصرية من خطابات للتعبير عن نفسها ومنها التعبير بالإشهار كما في هذا الخطاب الذي يعد إشهارياً بامتياز، نظراً للسمات والعناصر الإشهارية التي كونته.

الإحالات والهوامش:
7ـ المراجع والهوامش:

1ـ مقارنة بما يوجد في الدراسات الغربية، وقد حدث أن أسندت إليَّ مسؤولية تدريس مقياس تحليل الخطاب بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة عنابة، فاطلعت على المنهاج المقرر الخاص بالمقياس، فلم أجد فيه إلا الخطاب الأدبي سرداً وشعراً وبمنظور تقليدي يفتقر إلى استيعاب المفاهيم ومناهج التحليل الرصينة فقررت يومها أن أعدل ذلك المنهاج بأن أحذف منه وأضيف إليه بعض ما رأيته مفيداً لطلابنا، فأضفت الخطاب العلمي والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي الذي يتمثل في الصحافة والإشهار ويستند على مؤشرات مرئية مثل العناوين في كتابتها ومضامينها وأنواع الطباعة...

وكل هذه الأنواع لم تكن مقررة على الطلبة، وقد تناولنا الإشهار آنذاك باختصار ثمَّ قدمنا أعمالاً أخرى حاولنا فيها تعميق الرؤيا مع الطلبة في سنوات 95/ 96/ 97/ و 1998 ووجهنا أنظار الطلبة إلى الاهتمام بهذا النوع من الخطابات وتعاونا معهم فأنجزوا بعض الأعمال وقدموا بعض العروض عن الإشهار، ويومها لاحظوا أن الإشهار خطاب له خصوصياته التي تميزه عن غيره من الخطابات واكتشفوا أهميته. وأعترف أن بعضهم قد فاجأني بأن قدم لي أعمالاً جيدة تذكر فتشكر.

2ـ انظر، عبد المجيد نوسي، الخطاب الإشهاري: مكوناته وآليات استقباله، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 84 ـ 85، مركز الإنماء القومي، ص: 87. وانظر أيضاً، عمراني المصطفى، الخطاب الإشهاري بين التقرير والإنشاء، مجلة فكر ونقد، العدد 34، سنة 2000، الرباط، المغرب، ص: 27.
3ـ انظر، عصام نور الدين، الإعلان وتأثيره في اللغة العربية، مجلة الفكر العربي، العدد 92، 1998، ص: 23.
4ـ انظر، المرجع نفسه، صك 24.
5ـ انظر، عمراني المصطفى، الخطاب الإشهاري بين التقرير والإيحاء، مجلة فكر ونقد، عدد 34، 2000، ص: 27.
6ـ انظر، عصام نور الدين، الإعلان وتأثيره في اللغة العربية، الرجع المذكور سابقاً، ص:22.
7ـ انظر، المرجع نفسه، ص: 22.
8ـ انظر، رشيد بن حدو، قراءة في القراءة، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 48ـ 49، سنة 1988، صك 15
9ـ عمراني المصطفى، مرجع مذكور سابقا، ص: 28.
10ـ سراج أحمد، دور الصحافة في تشكيل الوعي الاجتماعي، مجلة دراسات عربية، عدد7، مايو 1985، ص: 44.
11ـ لم يشتهر بيرس (1839ـ 1914) مثلما اشتهر سوسير، لأنَّه كان يكتب بالإنجليزية التي لم تكن مشهورة مثل الفرنسية آنذاك وبالإضافة إلى ذلك فإن بيرس لم يكتب في اللسانيات وإنما تناول في كتابته الأولى قضايا السحر وغيرها...
12ـ انظر، مراد عبد الرحمن مبروك، أثر التقنيات المعلوماتية في لسانيات النص الأدبي (النص النقدي خاصة)، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد6، إبريل، 1997، ص: 62.
13ـ انظر، المرجع نفسه، ص: 62.
14ـ انظر، عصام نور الدين، المرجع المذكور سابقا، ص: 19. وانظر أيضاً، ابن عبد ربه (أبو عمر أحمد بن محمد)، العقد الفريد، شرحه وطبعه وصححه وعنون موضوعاته ورتب فهارسه أحمد أمين وآخرون، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر (1368هـ ـ 1949م)ن صك 6/ 18 ـ 19.
انظر كذلك كتاب ابن خلكان، وفيات الأعيان وأبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، بيروت، دار الثقافة (د.ت)، ص: 4/ 261
15ـ محمد مفتاح، دينامية النص، (تنظير وإنجاز)ن المركز الثقافي العربي بيروت، ط(2)، 1990، ص: 73
16ـ انظر، عصام نور الدين، المرجع المذكور سابقا، ص: 28 وما بعدها،
17ـ محمد مفتاح، المرجع المذكور سابقا، ص: 72.
18ـ محسن بوعزيزي، سيميولوجيا الأشكال الاجتماعية عند رولان بارت مجلة الفكرة العربي المعاصر، عدد 112/ 113، 2000، ص: 64
19ـ سعيد بن كراد، الصورة الإشهارية، المرجعية والجمالية والمدلول الاجتماعي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 112/ 113، 2000، ص:102
20ـ عصام نور الدين، مرجع مذكور سابقاً، ص: 29.
21ـ سعيد بن كراد، مرجع مذكور سابقاً، ص: 102.
22ـ المرجع نفسه، ص: 102.
23ـ نصر الدين العياضي، وسائل الاتصال الجماهيري والمجتمع، آراء ورؤى، سلسلة معالم، دار القصبة للنشر، الجزائر، ص: 46
24ـ عصام نور الدين، مرجع مذكور سابقاً، ص: 20.
25ـ المرجع نفسه، ص: 28.
26- نصر الدين العياضي، مرجع مذكور سابقاً، ص: 45.


د. بشير إبرير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...