عدي الحربش - الزُوكانة


بالأمس، كنتُ في منزلِ جدتي الجوهرة، بصحبةِ أختي و ولدها الصغير. كانَ الوقتُ عِشاءً، و كنتُ أصبُّ القهوةَ الساخنةَ في فنجالها المقعّر، بينما أباعدُ عنها طبقي البرحي و الروثان كي لا يفسدا معدل السكر في دمها قبل النوم. استلقت أختي على ظهرها، و وضعت ولدها فوقَ ساقيها، و أخذت تأرجحهُ بحنانٍ و هي تغني بصوتٍ صافٍ:
"الزُوكانة، يا ام الديك. عيّى رجلك، لا يبيك. شرالك فستان، و قعطتيه. هذي الحمارة ما تسوى شئ."
ترقرتْ دمعةٌ نافرة من عينِ أمي الجوهرة، فتشاغلتُ عنها بصبِّ القهوة كي لا تفطنَ أني انتبهتُ لها، و لكنها هتفتْ تخاطبني:
"كانت الزُوكانة رفيقة صباي، حينما كنتُ صغيرة."
وضعتْ دلّةَ القهوة على الصينية المعدنية و هتفتُ باستغراب:
"الزُوكانة! التي بالأغنية؟"
هزّت أمي الجوهرة رأسها، و أفرغت فنجال القهوة في جوفها.
"لم أكن أعرفْ أن الزُوكانة اسمٌ لامرأة حقيقة!"
"اسمها حصة، و لكنا كنا نعيّرها بالزُوكانة."
"حدثيني عنها."
حدّقت أمي الجوهرة في قعر فنجال القهوة الذي كانت تُمسكه، بينما أخذت أصابعُها تديرهُ ببطء. بدأتْ قصتَها:
"كانت حصة أجمل بناتِ عصرِها على الإطلاق، و لو سألتَ أيَّ عجوزٍ تسكنُ في "سدير" عن أجمل فتيات المجمعة، ستذكرُ لك اسمين فقط: حصة و الجوهرة. كان كل شابٍ في المجمعة يحلم بالزواج بإحدانا. كانت تقولُ لي: من تتزوجُ أولاً يا الجوهرة، ستكونُ عمةً للثانية. مرّت السنين، و تقدم جدكَ عبدالله في طلب يدي، أما حصة، فلقد تزوجها ابن قاضي المجمعة، منصور.
كان منصور من عائلةٍ ميسورة. كان قادراً على أن يُسكنها في بيتٍ كبيرٍ نسبياً، يقع بجوار المسجد. كانوا يملكون في حوش دارهم أربعة أغنامٍ و خمس دجاجاتٍ و ديك. بعدَّ مضي ثلاثة أشهر من زواج حصة، عقد منصور عزمهُ على السفر إلى الأحساء كي يبتاع بعض ما يتجّرُ به، و وعدها بإحضار إحدى الجلابيات المطرزّة التي اشتهر أهلُ الأحساء بصنعِها. سافرَ منصور في بداية رمضان إلى الأحساء، و ترك زوجته وحيدةً دونَ أن يدري أنها حامل في شهرها الثالث.
سرعان ما دريَ جميع أهل المجمعة بحمل حصة، و أشفقوا على هذه المسكينة التي ذاقت من أعراض الحمل ما لم تذقه امرأة قبلها. كانت في شهرها الثالث لا تستطيعُ أن تضع شيئاً في فمها. كانت تتقئُ بمجرد أن تشمِّ رائحة الطعام، أو تُذكر لها سيرته. كانت أجساد النساء تنتفخُ و تتكور مع الحمل، بينما أخذ جسدُ حصة يهزلُ و يضعف حتى بانت ضلوعها. كان كل ما تستطيع صنعه هو شرب الماء، كي لا تهلك من الجفافِ و العطش.
في الشهر الخامس من الحمل، بدأ بطنُ حصة ينتفخ بطريقةٍ سريعة و مرعبة. كانت المسكينة لا تقوى على حملِ نفسها، و كانت لا تجدُ ثوباً يصلحُ لها كي تلبسَه. كانت الثياب الفضفاضة تبدو مضحكةً على جسدها الهزيل، بينما كانت عاجزةً عن لبس الثياب الضيقة بسبب بطنها المنتفخ. عزفت جميع الفتيات عن زيارة حصة آنذاك، و السببُ مزاجُها السوداوي و طبيعتها العاطفية التي كانت تنتقلُ بها من الصراخ الحاد إلى البكاء، دون إنذار.
في الشهر السادس، رجعَ منصورُ من الأحساء. كان محمّلاً بمختلف البضائع الغريبة و الجديدة، وكان يحملُ في يده جلابية حصة المطرزّة. لم تكن الفرحة تسعه عندما علم بحمل حصة، و لقد قام بتقبيلِ رأسها، بعد أن قدم الجلابية -التي وعدها- هديةً لها. سارعتْ حصة إلى غرفة النوم، و أدخلت عنقها في جيب الجلابية الجديدة، و أذرعها عبرَ أكمامِها، و لكنَّ بطنها المنتفخ كان عائقاً يمنعُ أن تنزل جلابيتها لتغطي ما تحته. مزّقت حصة الجلابية في ثورة غضب، و أقفلت الباب وراءها، و أخذت تبكي دون انقطاع لمدة أسبوع كامل.
في الشهر السابع، دهمت آلام المخاض حصةَ دون إنذار. أسرعَ منصورُ يعدو وسط الليل إلى إحدى عجائز عائلته، و أحضرها كي تساعد حصة في ولادتها المُبكرة. كان جسد حصة يشتعلُ ناراً، و لقد جرى منصور ثلاث مرات إلى "القليب" كي يملأ الدلاء بالماء. كان قمرُ مُحرم يكتمل بدراً. وضعت العجوز يدها فوق ركبتيّ حصة المرتعشتين، و أمرتها بأن تدفع، أن تدفع و تدفع و تدفع كلما أحست بنوبات الآلام تجتاحها. في الأخير، تمكنت حصة من أن تضع مولودها، و لكنها لم تسمع صوت بكائه بعد الوضع. كانت العجوز منكبةً على الجنين المولود، و هي تنظر نحوَه بفزع. صرخت حصة: أريني طفلي. هزّت العجوز رأسها: عظّم الله أجرك. صرخت حصة ثانية: أريني طفلي. هزّت العجوز رأسها بإصرار: لا فائدة، إنه ميت. صرخت حصة بهستيرية: أريني طفلي.
رفعت العجوز الطفل الميت بيدين مرتعشتين، و أخذت حصة تحدّق برعبٍ في مولودها. كانت كفّه اليمنى مشقوقة إلى نصفين، بينما تشابكت أصابع يده اليسرى بشكل بشع. كانت أمعائه تتدلى من فتحةٍ صغيرةٍ في بطنه، و كانت شفته العليا مشقوقة من منتصفها، أما أنفه المائل فلقد كان مغروزاً في جبهته. أحست حصة بالفزع و الرعب و الاشمئزاز، و لكنَّ أكثرَ ما أصابها بالرعب كان ذاك النتوء الأحمر البشع الذي يعلو رأسَ وليدها كعُرفِ الدِيك.
اشتدت الحمى بحصة تلك الليلة، و دخلت في إغمائة طويلة. عندما أفاقت، كان الظلام يملأ غرفتَها، و كانت العجوز تنام مجهدة على حشيةٍ بجانبها. هرعت حصة نحو حوش دارهم، و سحبت إزميلاً كان يستخدمه زوجها منصور في حرث الأرض. أخذت حصة تعدو بين المنازل و هي عارية الرأس حتى انتهت إلى المقبرة. هناك، قامت حصة بحرث التربة التي تحوي جثةَ وليدها، و عندما وجدته، قامت بتمزيق جثته البشعة إلى أشلاء بواسطة الإزميل الحديديّ.
قضت حصة مدةَ النُفاس في بيتِ أهلها، و عندما انقضت الأربعين عادت إلى دار زوجها. قام منصور بتطييب خاطرها، و أخذ يتحاشى ذكر حملها أو جنينهما الميت. نامت حصة بجانب منصور في أول ليلةٍ لها بعد رجوعها، في نفس تلك الغرفة التي وضعت فيها.
عندما انتصفَ الليل، سمعت حصة أصواتاً غريبة أيقضتها من النوم. حدّقت حصة جيداً في الظلام، و عندما تبيّنت الشئ الذي يقف بين ساقيها، صرخت في فزعٍ بأعلى صوتها. كان الديك الذي يحتفظون به في حوشِ دارهم يقفُ بجرأةٍ بين ساقيها و قد أمال رقبتَه، و كأنه يحدّقُ في رَحمِها. استيقظ منصور مفزوعاً من نومه، و عندما تبيّن سبب فزعها أخذ يهدئها و يطيّبُ خاطرها. صرخت حصة في وجهه: لا بدَّ أن تذبحَ الديك. و لكن منصور استطاع أن يداريها و أن يصرف انتباهها عن هذه النية الغريبة، حتى أعادها إلى النوم.
في الليلة الثانية، دخل الديكُ مجدداً غرفة حصة. كان منصور يغطّ بالنوم بجانبها، بينما لم تستطع هي أن تنام، و كأنها كانت تنتظر هذه الزيارة المرعبة. اقتربَ الديك متمايلاً حتى وصل إلى مرقدها، و عندها همسَ في أذنها: "أنتي قاتلة."
صرخت حصة بأعلى صوتها حتى أفاق منصور من نومه، و رأى الديك يهربُ فَزِعاً من باب غرفة النوم. كانت حصة ترتجفُ بفزعٍ في مرقدها و هي تبكي بهستيرية. لم يجد منصور حلاً أمامهُ إلا أن يذبحَ الديك.
في الليلة الثالثة، دخل الديكُ مجدداً غرفة حصة. هذه المرة كان شكله مختلفاً. كان على هيئة جنينها الصغير، و قد وقفَ على قدميه الضعيفتين، و أخذ يتقدمُ نحوها متمايلاً، و أمعائه تتدلى من بطنه. لم تكن قادرةً على أن تحددَ ما إذا كان هو جنينها أم الديك أم الشيطان! اقتربَ هذا الكائن البشعُ من مرقدها حتى أحسّت بأنفاسه العطنة تلفح خدها. همس قائلاً: الرجل النائم بجانبك هو من دنّس أحشائك، الرجل النائم بجانبك هو الذي وهبكِ الشيطان. عندما صرخت حصة بأعلى صوتها، هرب الكائن البشعُ بسرعةٍ و صفق الباب خلفَه.
أصبح الكائن البشع يزورها يومياً، و أصبحت كلماته المهينة تزدادُ جرأةً و قذارة كلَّ ليلة. لم يعد بإمكان منصور أن يحتملَ نوبات الفزع التي تصيب زوجتهُ و تفسد نومه، فهجر مضجعها، و أصبح ينام وحيداً في غرفةٍ أخرى. كانت حصة تقفل باب غرفتها كل ليلة كي تمنع هذا المخلوق البشع من الدخول، و لكنّ ذلك لم يكن يمنعه من زيارتها يومياً في نصف الليل. كانت كلماته بشعةً و غريبة و مؤذية، و كان يزعمُ أنَّ زوجها منصور دفعَ أموالاً طائلة لإحدى المشعوذات في الأحساء كي تحوّل جنينها إلى ديك. لم تعد حصة تكتفي بالصراخ، بل صارت تشتمهُ و تنهره و تحاول أن تطرده دون فائدة. حاولت مرةً أن تضربهُ بواسطة عصا خشبية خبأتها تحت مرقدها، و لكنه انتزعها من يدها، و انهال عليها ضرباً بين فخذيها.
و في ليلةٍ مظلمة، بعد أن خرج الكائن البشع من غرفة حصة و تركها نهبةً للأفكار و الأحزان، قامت حصة بدفع باب غرفتها، و سارت بقدميها الحافيتين إلى الحوش. استطاعت أن تجد الإزميل الحديدي الذي خبأه زوجها خلف حظيرة الدجاج. اقتحمت حصة غرفة زوجها منصور، و عندما فتحَ عينيه مفزوعاً، رأى الإزميل الحديدي يهوي باتجاهه في سرعة، ثم أسلم الروح.
تسامعَ أهل المجمعة بهذه الجريمة المُنكرة، و قاموا برمي حصة في غرفةٍ مقفولة تقعُ وراء المسجد. طاشَ عقل القاضي عندما رأى جمجمة ولده المهشمة، و كان الناس يحاولون أن يصرفوه عن البتّ بأمر حصة حتى يصلي على إبنه و يدفنه تحت التراب. بعدَ أن سلّمَ الإمام من صلاة الفجر، سمع الناسُ أصواتاً عنيفة تصدرُ من الغرفة الواقعة وراء المسجد. اندفع الناسُ نحو الغرفة -و كان فيهم جدكَ عبدالله- و عندما فتحوا الباب، وجدوا حصة ميتةً على الأرض، و بجوارها كائن بشعٌ منحورٌ من رقبته، كانت يده اليمنى تمسك بخنجرٍ مُدبب، و على رأسهِ نتوءٌ أحمر غريب، كان يلمع وسط الغرفة كعُرفِ الديك."
علي الزيبق
January 20 / 07

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...