اقول: لا تعجب اذا قلنا ان السرقات الأدبية قديمة في تاريخ الفكر الانساني وأدب الشعوب، فهي قديمة بقدم الانسان واذا رجعنا الى تعريف السرقة سوف نجدها تعني اخذ الانسان ما ليس له " فهو مرّة يعمد الى الشيء المستتر في حرز فيأخذه فهو السرقة، وان اخذه من صاحب يد قهراً فهو المغتصب.
ومن هذا الاخير تأتي السرقة الشعرية والتي تعني أخذ شاعر من آخر أو إغارته على بعض شعره ونِسبَته لنفسه.
هناك اسماء اخرى اطلقت على السرقة، منها: الانتحال، النقل، المسخ، الإغارة، الاحتذاء، الاجتلاب..
أقول: لقد ذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة ستة عشر اسماً للسرقة فراجع (1).
وربما ادرج البعض في مفهوم السرقة كل من التضمين والاقتباس والمحاكاة والتحوير وعكس النظير والى غير ذلك.
غير ان ابن طباطبا في كتابه (عيار الشعر) عبّر عن السرقات بـ(المعاني المشتركة) لذا اباح للشاعر المحدث ان يستلهم اشعار المتقدّمين (2).
ثم ان سرقات القدماء هي اكثر من سرقات المتأخّرين وذلك بسبب خمول البعض منهم أو ضياع شعر طائفة من الشعراء الاوائل مما يتيح للآخرين سرقة الأبيات أو القصائد وانتحالها لأنفسهم دون رادع يردعهم، أو رقيب يتابع سطوهم.
قيل ان زهير بن ابي سلمى- من اصحاب المعلّقات- كان يأخذ شعر قُراد بن حنشِ من شعراء غطفان وكان جيد الشعر.
وهذا طرفة بن العبد وأوس بن حَجَر والمسيّب وزيد الخيل وابن ابي سلمى قد أخذوا من شعر امرئ القيس.
بل هناك من شعراء الجاهلية كان شأنهم السطو وانتحال اشعار غيرهم لأنفسهم.
فزهير بن ابي سلمى اخذ من اوسن حَجَر ومن قُراد بن حنش.
والمثقّبُ العبدي وعدي بن زيد اخذوا من النابغة.
وعمرو بن قميئة اخذ من المرقش الاكبر.
وسلامة بن جندل اخذ من الاعشى.
وعدي بن زيد ولبيد بن ربيعة اخذا من طرفة بن العبد.
وطرفة بن العبد أخذ من امرئ القيس.
والنابغة اخذ من أوسن بن حَجر.
قال طرفة بن العبد:
وقوفاً بها صَحْبِي على مَطِيَّهمْ = يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلَّدِ
انه مأخوذ من قول امرئ القيس حيث قال:
وقوفاً بها صحبي على مَطِيَّهمْ = يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
فاللفظ والمعنى كلاهما لإمرئ القيس وقد اخذه طرفة وصاغ منه بيته حذو النعل بالنعل، ولولا القافية التي اعتمدها طرفة- الدال- لما غيّر من قافية امرئ القيس شيئاً.
والأدهى من ذلك ان طرفة بن العبد يذمّ هذا الفعل القبيح بقوله:
ولا أغير على الاشعار أسْرِقها = عنها غَنيتُ وشرّ الناسِ مَن سَرَقا
ولو انتقلنا الى العهد الاسلامي فسوف نرى جملة من الشعراء قد تطاولوا في الاخذ ممن سبقوهم.
فالنابغة الجعدي قد اخذ من:
امرئ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن ابي سلمى، وكعب بن زهير والاعشى وأمية بن الصلت.
والحطيئة قد اخذ من:
النابغة وأبي داوود الأيادي.
وابن مقبل قد اخذ من:
الحطيئة وعديّ بن زيد العبادي والنابغة الجعدي.
والشماخ قد اخذ من:
امرئ القيس والمسيّب بن عَلَس.
وعبد اللّه بن الزبعري قد اخذ من طرفة بن العبد.
وربيعة بن مقرم الضبيّ قد اخذ من النابغة.
وكعب بن زهير قد اخذ من امرئ القيس.
امّا السرقات في العهد الاموي فلا يبرؤ منها أحد بل حتى الفحول منهم، فجرير الذي يعدّ من الطبقة الاولى في هذا العصر ومن فحول الشعراء ومع ذلك فقد اخذ من حاتم الطائي والسعدي وطفيل الغنوي...
أما الاخطل فهو كذلك قد غرف بالسرقة حتى روي عنه قوله: (نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة).
واما الفرزدق فقد قيل انه اذا ما استحسن قول الشاعر صرخ به: (أنا أحق بهذا البيت منك...).
وهو في ذلك قد اخذ من النابغة والمخبَّل والعبدي والراعي والمتلمس وجميل وذي الرُّمّةِ والشمردل اليربوعي.
روى المرزباني فيما يحكيه عن أبي حاتم قوله: سمعت الاصمعي يقول تسعة اعشار شعر الفرزدق سرقة، وكان يكابر، وأمّا جرير فما علمته سرق إلاّ نصف بيت.(3)
اقول: لقد عرف الاصمعي بنصبه لأهل البيت ومن هم في ركابهم. ولا يخفى ان الفرزدق كان معروفاً بولائه لأهل البيت (ع). لذا كان دافع البغض والحسد من الاصمعي مما طعن في شعر الفرزدق كما نقلته لك قبل قليل. وفي هذا يقف المرزباني فيدافع عن شاعرنا الفرزدق فيقول: وهذا تحامل من الاصمعي وتقوّل على الفرزدق لهجائه باهله. ولسنا نشك أن الفرزدق قد أغار على بعض الشعراء في أبيات معروفة فأما أن نطلق أن تسعة أعشار شعره سرقة فهذا محال (4).
ونجد من بين شعراء العصر الاموي آخرين قد التمس النقاد والرواة سقطاتهم وسرقاتهم. فقد قال ابن قتيبة انّ ذا الرّمة كان كثير الاخذ من غيره، فقد اخذ من ظالم بن البراء الفقيمي وامرئ القيس وكعب بن زهير ومن غيرهم.
وروى ان الكميت أخذ من الاخطل وامرئ القيس.
وان القطامي أخذ من المرقش الاصغر والأخطل.
وان يزيد بن مفرّغ الحميري أخذ من مالك بن الريب.
وان الطرماح أخذ من الاخطل.
وان البَعيث أخذ من الفرزدق.
وان كُثَيّر عزّة أخذ من جميل بثينة والحطيئة، وفي ذلك يقول الحموي في معجم الادباء عندما يترجم للزبير بن بكار فيقول: وله تصانيف كثيرة منها كتاب اغارة كُثيّر على الشعراء.(5)
اقول: ان المنافسة التي أوجدها الحكّام الامويين بين القبائل وما أثاره
من الضغائن والاحقاد والعصبيّة الجاهلية وما فيها من ذم وهجاء، كل ذلك استدعى الى المفاخرة وظهور النقائض بين جرير والفرزدق وبين جرير والاخطل وهكذا بين شعراء آخرين الذين دخلوا الصراع السياسي والقبلي وكل واحد منهم كان بحاجة الى استقراء نتاج غيره واستحيائه مما ادّى الى اقتباس الجيّد منه أو تضمين بعض المعاني والابيات منه، وهذا لا يخفى ادّى- بقصد أو من غير قصد- الى تسرّب بعض المعاني الشعرية السابقة الى نتاج المتأخرين، فالذي اخذه عن عمد وقصد فهو السرقة، ومن جاء في شعره دون ادنى التفات فهو الذي نسمّيه بتداعي الخواطر وهو كثير أيضاً.
اذا ما انتقلنا الى العصر العباسي فسنرى هناك تيارات ادبية وثقافات جديدة قد نشطت، واساليب لم تكن من قبل قد ابتكرت مما خلّف كل ذلك اثره الكبير على نتاج الشعراء في هذا العصر، ومنه ظهور السرقات الادبية بشكل اوسع واكثر تنوّعاً مما سبق، بل نكاد ان نقول إن اغلب الشعراء هذه الفترة هم متّهمون بالسرقة الادبية، وعلى رأس هؤلاء: ابو نواس وابو تمام والبحتري والمتنبي.
ففي ابي نواس يقول ابو الفرج الاصفهاني:
(وللوليد في ذكر الخمر وصفتها أشعار كثيرة قد اخذها الشعراء فأدخلوها في أشعارهم، سلخوا معانيها، وابو نواس خاصة فإنه سلخ معانيَه كلَّها وجعلها في شعره فكرّرها في عدة مواضع منه. ولولا كراهة التطويل لذكرتها ههنا..)(6).
وليس من المبالغة اذا ما قلنا إن أبا نؤاس اصبح المحور الاول للدراسات النقدية، وقد صنّف البعض كتاباً اسماه: (سرقات أبي نؤاس) لمهلهل بن يموت من شعراء القرن الرابع الهجري.
ومن شعراء العصر العباسي ابو تمام الذي اتهمه معاصروه بالسرقة وقد نشطت الحركة النقدية حول شعره فهذا دعبل الخزاعي يُعدّ من أشد خصوم أبي تمام ولمّا سئل عنه قال:
(ثلث شعره سرقة، وثلثه غَثٌ ، وثلثه صالح).
وقد تناول النقاد والادباء شعر أبي تمام واهتموا به وشرحوه واظهروا سرقاته الادبية ومساوئ شعره وكان من بين اولئك النقاد:
المرزباني وابن رشيق القيرواني وابو علي السجستاني، ومن بين الشعراء الذين اتهموا بالسرقة: دعبل الخزاعي كما تقدم وكثيّر عزّة وابو نؤاس ومسلم بن الوليد والبَعيث(7).
ومن بين الشعراء العباسيين الذين عرفوا بالسرقة ايضاً البحتري، غير أنّ شهرته وتفوّقه على اقرانه من معاصريه أوجد من يدافع عنه وينتصر له، لكن مع كل ذلك فإن خصوم الشاعر حاول أن يعرّيه من كل حسن وجمال، فهذا ابن أبي طاهر قد أخرج للبحتري ستمائة بيت مسروق، وان مائة بيت منها قد أخذه من أبي تمام(8).
ويقول ابن الاثير: (وقد افتضح البحتري في هذه المآخذ عليه غاية الافتضاح هذا على بساطة باعه في الشعر وغناه عن مثلها)(9).
واذا تابعنا تطوّر النقد الادبي في القرن الرابع الهجري سنرى هناك اهتماماً كبيراً من قبل الادباء النقاد وبشعر المتنبّي، بل ان شعر ابي الطيب قد أوجد نشاطاً ادبياً ونقدياً قلّ نظيره، فالنقّاد ما بين منتصر له أو متعصّب ضدّه أو محايد منصف.
ولا يخفى على البصير الّلبيب ان المكانة الادبية والعلمية التي احتلها المتنبّي سبّبت له المتاعب واوجدت له حسّاداً ومبغضين ممّا كثر نقّاده وتعددت الشبه والتهم التي أثاروها حوله وحول نتاجه الادبي.
فمن ابرز خصماء المتنبي محمد بن الحسين الحاتمي الكاتب ت 388هـ، اذ تصدّى لنقد شعر ابي الطيب فوضع رسالتين مهمّتين الاولى: (الرسالة الحاتمية) والثانية (الرسالة الموضّحة).
كانت الرسالة الثانية من أهم الرسائل التي صنّفت في سرقات المتنبّي وسقطات شعره.
ثم جاء الصاحب بن عبّاد ت 385هـ ليكتب رسالة مفصّلة في نقد شعر المتنبي سمّاها: (الكشف عن مساوئ المتنبّي).
وكتاب آخر صنّفه ابو الحسن الجرجاني ت 362هـ أو 366هـ سمّاه: (الوساطة بين المتنبي وخصومه).
اما الثعالبي فقد افرد باباً في كتابه (يتيمة الدهر) خصّ فيه سرقات المتنبّي وسرقات الآخرين منه.
ثم يطالعنا كتاب آخر في نقد شعر المتنبي هو لأبي سعيد العميدي ت 433هـ سمّاه: (الابانة عن سرقات، المتنبّي).
كما قلت ان شهرة الشاعر وعلو كعبه وما ناله من حظوة عند سيف الدولة الحمداني وسفره الى مصر واتصاله بكافور الاخشيدي ثم رجوعه الى حلب الى بلاط الحمدانيين كل ذلك أثار حول شاعرنا جملة من الشكوك والاوهام، فما خلص الرجل من سبّ وشتم معاصريه وانتقاص النقّاد له، وهذا لا يعني ان المتنبي كان أبيّاً عما كان عند قرنائه من السطو على معاني الاقدمين وانتحال الجيّد لهم؟ فشأن المتنبي شأن سائر الشعراء. وان المعاني ليست هي ملك فرد أو أديب ما، كما أن اللفظ هو كذلك وقد عبّر الجاحظ عن هذا فقال ان الالفاظ مطروحة للجميع...
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العمدة 2/ 266.
(2) عيار الشعر ص 18.
(3) الموشح ص 167.
(4) الموشح ص 168.
(5) معجم الادباء11/ 164.
(6) الاغاني 6/ 225.
(7) انظر كتاب الموازنة ص123و 273 واخبار أبي تمام للصولي ص63 و 244.
(8) الموازنة ص 273.
(9) المثل السائر ص 317.
* د. عبد الرسول الغفاري - تاريخ السرقات الادبية
الكتاب أو المصدر : النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق
الجزء والصفحة : ص:169-177
ومن هذا الاخير تأتي السرقة الشعرية والتي تعني أخذ شاعر من آخر أو إغارته على بعض شعره ونِسبَته لنفسه.
هناك اسماء اخرى اطلقت على السرقة، منها: الانتحال، النقل، المسخ، الإغارة، الاحتذاء، الاجتلاب..
أقول: لقد ذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة ستة عشر اسماً للسرقة فراجع (1).
وربما ادرج البعض في مفهوم السرقة كل من التضمين والاقتباس والمحاكاة والتحوير وعكس النظير والى غير ذلك.
غير ان ابن طباطبا في كتابه (عيار الشعر) عبّر عن السرقات بـ(المعاني المشتركة) لذا اباح للشاعر المحدث ان يستلهم اشعار المتقدّمين (2).
ثم ان سرقات القدماء هي اكثر من سرقات المتأخّرين وذلك بسبب خمول البعض منهم أو ضياع شعر طائفة من الشعراء الاوائل مما يتيح للآخرين سرقة الأبيات أو القصائد وانتحالها لأنفسهم دون رادع يردعهم، أو رقيب يتابع سطوهم.
قيل ان زهير بن ابي سلمى- من اصحاب المعلّقات- كان يأخذ شعر قُراد بن حنشِ من شعراء غطفان وكان جيد الشعر.
وهذا طرفة بن العبد وأوس بن حَجَر والمسيّب وزيد الخيل وابن ابي سلمى قد أخذوا من شعر امرئ القيس.
بل هناك من شعراء الجاهلية كان شأنهم السطو وانتحال اشعار غيرهم لأنفسهم.
فزهير بن ابي سلمى اخذ من اوسن حَجَر ومن قُراد بن حنش.
والمثقّبُ العبدي وعدي بن زيد اخذوا من النابغة.
وعمرو بن قميئة اخذ من المرقش الاكبر.
وسلامة بن جندل اخذ من الاعشى.
وعدي بن زيد ولبيد بن ربيعة اخذا من طرفة بن العبد.
وطرفة بن العبد أخذ من امرئ القيس.
والنابغة اخذ من أوسن بن حَجر.
قال طرفة بن العبد:
وقوفاً بها صَحْبِي على مَطِيَّهمْ = يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلَّدِ
انه مأخوذ من قول امرئ القيس حيث قال:
وقوفاً بها صحبي على مَطِيَّهمْ = يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
فاللفظ والمعنى كلاهما لإمرئ القيس وقد اخذه طرفة وصاغ منه بيته حذو النعل بالنعل، ولولا القافية التي اعتمدها طرفة- الدال- لما غيّر من قافية امرئ القيس شيئاً.
والأدهى من ذلك ان طرفة بن العبد يذمّ هذا الفعل القبيح بقوله:
ولا أغير على الاشعار أسْرِقها = عنها غَنيتُ وشرّ الناسِ مَن سَرَقا
ولو انتقلنا الى العهد الاسلامي فسوف نرى جملة من الشعراء قد تطاولوا في الاخذ ممن سبقوهم.
فالنابغة الجعدي قد اخذ من:
امرئ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن ابي سلمى، وكعب بن زهير والاعشى وأمية بن الصلت.
والحطيئة قد اخذ من:
النابغة وأبي داوود الأيادي.
وابن مقبل قد اخذ من:
الحطيئة وعديّ بن زيد العبادي والنابغة الجعدي.
والشماخ قد اخذ من:
امرئ القيس والمسيّب بن عَلَس.
وعبد اللّه بن الزبعري قد اخذ من طرفة بن العبد.
وربيعة بن مقرم الضبيّ قد اخذ من النابغة.
وكعب بن زهير قد اخذ من امرئ القيس.
امّا السرقات في العهد الاموي فلا يبرؤ منها أحد بل حتى الفحول منهم، فجرير الذي يعدّ من الطبقة الاولى في هذا العصر ومن فحول الشعراء ومع ذلك فقد اخذ من حاتم الطائي والسعدي وطفيل الغنوي...
أما الاخطل فهو كذلك قد غرف بالسرقة حتى روي عنه قوله: (نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة).
واما الفرزدق فقد قيل انه اذا ما استحسن قول الشاعر صرخ به: (أنا أحق بهذا البيت منك...).
وهو في ذلك قد اخذ من النابغة والمخبَّل والعبدي والراعي والمتلمس وجميل وذي الرُّمّةِ والشمردل اليربوعي.
روى المرزباني فيما يحكيه عن أبي حاتم قوله: سمعت الاصمعي يقول تسعة اعشار شعر الفرزدق سرقة، وكان يكابر، وأمّا جرير فما علمته سرق إلاّ نصف بيت.(3)
اقول: لقد عرف الاصمعي بنصبه لأهل البيت ومن هم في ركابهم. ولا يخفى ان الفرزدق كان معروفاً بولائه لأهل البيت (ع). لذا كان دافع البغض والحسد من الاصمعي مما طعن في شعر الفرزدق كما نقلته لك قبل قليل. وفي هذا يقف المرزباني فيدافع عن شاعرنا الفرزدق فيقول: وهذا تحامل من الاصمعي وتقوّل على الفرزدق لهجائه باهله. ولسنا نشك أن الفرزدق قد أغار على بعض الشعراء في أبيات معروفة فأما أن نطلق أن تسعة أعشار شعره سرقة فهذا محال (4).
ونجد من بين شعراء العصر الاموي آخرين قد التمس النقاد والرواة سقطاتهم وسرقاتهم. فقد قال ابن قتيبة انّ ذا الرّمة كان كثير الاخذ من غيره، فقد اخذ من ظالم بن البراء الفقيمي وامرئ القيس وكعب بن زهير ومن غيرهم.
وروى ان الكميت أخذ من الاخطل وامرئ القيس.
وان القطامي أخذ من المرقش الاصغر والأخطل.
وان يزيد بن مفرّغ الحميري أخذ من مالك بن الريب.
وان الطرماح أخذ من الاخطل.
وان البَعيث أخذ من الفرزدق.
وان كُثَيّر عزّة أخذ من جميل بثينة والحطيئة، وفي ذلك يقول الحموي في معجم الادباء عندما يترجم للزبير بن بكار فيقول: وله تصانيف كثيرة منها كتاب اغارة كُثيّر على الشعراء.(5)
اقول: ان المنافسة التي أوجدها الحكّام الامويين بين القبائل وما أثاره
من الضغائن والاحقاد والعصبيّة الجاهلية وما فيها من ذم وهجاء، كل ذلك استدعى الى المفاخرة وظهور النقائض بين جرير والفرزدق وبين جرير والاخطل وهكذا بين شعراء آخرين الذين دخلوا الصراع السياسي والقبلي وكل واحد منهم كان بحاجة الى استقراء نتاج غيره واستحيائه مما ادّى الى اقتباس الجيّد منه أو تضمين بعض المعاني والابيات منه، وهذا لا يخفى ادّى- بقصد أو من غير قصد- الى تسرّب بعض المعاني الشعرية السابقة الى نتاج المتأخرين، فالذي اخذه عن عمد وقصد فهو السرقة، ومن جاء في شعره دون ادنى التفات فهو الذي نسمّيه بتداعي الخواطر وهو كثير أيضاً.
اذا ما انتقلنا الى العصر العباسي فسنرى هناك تيارات ادبية وثقافات جديدة قد نشطت، واساليب لم تكن من قبل قد ابتكرت مما خلّف كل ذلك اثره الكبير على نتاج الشعراء في هذا العصر، ومنه ظهور السرقات الادبية بشكل اوسع واكثر تنوّعاً مما سبق، بل نكاد ان نقول إن اغلب الشعراء هذه الفترة هم متّهمون بالسرقة الادبية، وعلى رأس هؤلاء: ابو نواس وابو تمام والبحتري والمتنبي.
ففي ابي نواس يقول ابو الفرج الاصفهاني:
(وللوليد في ذكر الخمر وصفتها أشعار كثيرة قد اخذها الشعراء فأدخلوها في أشعارهم، سلخوا معانيها، وابو نواس خاصة فإنه سلخ معانيَه كلَّها وجعلها في شعره فكرّرها في عدة مواضع منه. ولولا كراهة التطويل لذكرتها ههنا..)(6).
وليس من المبالغة اذا ما قلنا إن أبا نؤاس اصبح المحور الاول للدراسات النقدية، وقد صنّف البعض كتاباً اسماه: (سرقات أبي نؤاس) لمهلهل بن يموت من شعراء القرن الرابع الهجري.
ومن شعراء العصر العباسي ابو تمام الذي اتهمه معاصروه بالسرقة وقد نشطت الحركة النقدية حول شعره فهذا دعبل الخزاعي يُعدّ من أشد خصوم أبي تمام ولمّا سئل عنه قال:
(ثلث شعره سرقة، وثلثه غَثٌ ، وثلثه صالح).
وقد تناول النقاد والادباء شعر أبي تمام واهتموا به وشرحوه واظهروا سرقاته الادبية ومساوئ شعره وكان من بين اولئك النقاد:
المرزباني وابن رشيق القيرواني وابو علي السجستاني، ومن بين الشعراء الذين اتهموا بالسرقة: دعبل الخزاعي كما تقدم وكثيّر عزّة وابو نؤاس ومسلم بن الوليد والبَعيث(7).
ومن بين الشعراء العباسيين الذين عرفوا بالسرقة ايضاً البحتري، غير أنّ شهرته وتفوّقه على اقرانه من معاصريه أوجد من يدافع عنه وينتصر له، لكن مع كل ذلك فإن خصوم الشاعر حاول أن يعرّيه من كل حسن وجمال، فهذا ابن أبي طاهر قد أخرج للبحتري ستمائة بيت مسروق، وان مائة بيت منها قد أخذه من أبي تمام(8).
ويقول ابن الاثير: (وقد افتضح البحتري في هذه المآخذ عليه غاية الافتضاح هذا على بساطة باعه في الشعر وغناه عن مثلها)(9).
واذا تابعنا تطوّر النقد الادبي في القرن الرابع الهجري سنرى هناك اهتماماً كبيراً من قبل الادباء النقاد وبشعر المتنبّي، بل ان شعر ابي الطيب قد أوجد نشاطاً ادبياً ونقدياً قلّ نظيره، فالنقّاد ما بين منتصر له أو متعصّب ضدّه أو محايد منصف.
ولا يخفى على البصير الّلبيب ان المكانة الادبية والعلمية التي احتلها المتنبّي سبّبت له المتاعب واوجدت له حسّاداً ومبغضين ممّا كثر نقّاده وتعددت الشبه والتهم التي أثاروها حوله وحول نتاجه الادبي.
فمن ابرز خصماء المتنبي محمد بن الحسين الحاتمي الكاتب ت 388هـ، اذ تصدّى لنقد شعر ابي الطيب فوضع رسالتين مهمّتين الاولى: (الرسالة الحاتمية) والثانية (الرسالة الموضّحة).
كانت الرسالة الثانية من أهم الرسائل التي صنّفت في سرقات المتنبّي وسقطات شعره.
ثم جاء الصاحب بن عبّاد ت 385هـ ليكتب رسالة مفصّلة في نقد شعر المتنبي سمّاها: (الكشف عن مساوئ المتنبّي).
وكتاب آخر صنّفه ابو الحسن الجرجاني ت 362هـ أو 366هـ سمّاه: (الوساطة بين المتنبي وخصومه).
اما الثعالبي فقد افرد باباً في كتابه (يتيمة الدهر) خصّ فيه سرقات المتنبّي وسرقات الآخرين منه.
ثم يطالعنا كتاب آخر في نقد شعر المتنبي هو لأبي سعيد العميدي ت 433هـ سمّاه: (الابانة عن سرقات، المتنبّي).
كما قلت ان شهرة الشاعر وعلو كعبه وما ناله من حظوة عند سيف الدولة الحمداني وسفره الى مصر واتصاله بكافور الاخشيدي ثم رجوعه الى حلب الى بلاط الحمدانيين كل ذلك أثار حول شاعرنا جملة من الشكوك والاوهام، فما خلص الرجل من سبّ وشتم معاصريه وانتقاص النقّاد له، وهذا لا يعني ان المتنبي كان أبيّاً عما كان عند قرنائه من السطو على معاني الاقدمين وانتحال الجيّد لهم؟ فشأن المتنبي شأن سائر الشعراء. وان المعاني ليست هي ملك فرد أو أديب ما، كما أن اللفظ هو كذلك وقد عبّر الجاحظ عن هذا فقال ان الالفاظ مطروحة للجميع...
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العمدة 2/ 266.
(2) عيار الشعر ص 18.
(3) الموشح ص 167.
(4) الموشح ص 168.
(5) معجم الادباء11/ 164.
(6) الاغاني 6/ 225.
(7) انظر كتاب الموازنة ص123و 273 واخبار أبي تمام للصولي ص63 و 244.
(8) الموازنة ص 273.
(9) المثل السائر ص 317.
* د. عبد الرسول الغفاري - تاريخ السرقات الادبية
الكتاب أو المصدر : النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق
الجزء والصفحة : ص:169-177