أنهى طاهر أغنيته في الحمام, و طفق يصغي لخرير الماء. نظر للماء وهو ينزلق بقطرات مسرعة على ذراعيه النحيفتين. رائحة الصابون تهبط من شعره. هواء مضبب يحوم حول رأس الرجل العجوز. الماء كان يعانق طاهرا. حينما ألقى المنشفة على عاتقيه شعر أن شيئا من شيخوخته ألتصق بتلك المنشفة الطويلة الحمراء, و أن روماتيزم أقدامه لم يعد مؤلمه. دس وجهه في المنشفة و وقف عند باب الحمام إلى أن جزع من البرد. وقف أمام مرآة الغرفة. رأى فيها أنه قد شاخ فعلاًَ. في المرآة, كان هناك جانب من مائدة الفطور و منظر جانبي لوجه مليحة. و السماور كان يغلي بغرغرة في الغرفة, و بلا غرغرة في المرآة, و بهذه كلها, كان طاهر و وجهه الملصق على المرآة يشعران سوية بالدفء.
قالت مليحة: إن كان الشباك مفتوحاًَ فسوف تستبرد.
الجمعة كان خلف النافذة… بشبهه المذهل لكل جمع الشتاء. أحد أسلاك الكهرباء أنتفخ تحت سواد الطيور. ستائر الغرفة واقفة,ومدفئة الحطب تتأجج بصوت العصافير.
قعد طاهر قرب المائدة و شغّل المذياع (… بإحدى عشرة درجة أشد مناطق البلاد برداًَ)
رفع فنجان الشاي. أشاحت مليحة بوجهها نحوالنافذة:(اسمع, يبدو أن شيئا حدث في الخارج)
للغرفة شرفة تطل على الشارع المعبّد الوحيد في القرية. شرفة تروي لهم مرتين في الأسبوع أهازيج قطار مسرع. أغنية تمر عبر النافذة و تموت عند كسر الجص في سقف الغرفة.
حينما لا يكون لطاهر رغبة في قراءة الصحف القديمة, و روائح الأوراق البالية تصيبه بالغثيان, و مليحة لا يستفزها شيء لأن تسرح من بين أسنانها الصناعية ترنيمة منسية لـلمغنية (قمر) كانا يقصدان الشرفة ليسمعا صوت قطار لا يرى أبدا.
– ألستُ معك؟ أنظر ما الذي حدث في الخارج.
أعاد الفنجان إلى المائدة و قام إلى الشرفة بفم ملؤه الخبز والجبن. جماعة من الناس يتراكضون إلى نهاية الشارع.
قالت مليحة: ماذا هناك؟
في الستين من عمرها. نحيفة. على شفتيها انحناءة من اختنق بعبرته. ما عادت تستطيع استذكار آخر مرة حفّت زغب وجهها.
قال طاهر: لا أدري.
قالت مليحة: لعله جسد آخر!… لابد أنهم عثروا على جسد آخر.
حتى لو لم تقل مليحة (جسد آخر…) كانا سيتناولان فطور هما باستضافة ذكرى يوم صيفي لزج, و يتجادلان على اختيار هذا الاسم أو ذاك. يوم تخطت الشمس تخوم خراسان, و توقفت هنيئة عند كنبد قابوس, و انطلقت من هناك إلى القرية لتنشر صباحا حليبي اللون على حبل الغسيل مليحة…
استيقظ طاهر في فراشٍ مترع بشمس الأحد على موسيقى يومية تعزفها مشية مليحة. كاد الباب الخشبي يفتح بأيدي مليحة, و قد فُتح. قالت مليحة قبل أن تضع الخبز على المائدة:انهض يا طاهر, انهض
قال طاهر: ماذا هناك؟
قالت مليحة: قالوا في المخبز أن هناك جثةً تحت الجسر.
قال طاهر: ماذا تحت الجسر؟
قالت مليحة: ميت… الكل يذهبون للتفرج عليه, هيا انهض.
سارا نحو الجسر بلهفة لم تستطع تسريع خطاهما العجوزة. البعض وقفوا فوق الجسر يتفرجون إلى الأسفل. همهمة الناس أدنى من حشدهم. نسائم تلقيح التوت تتهادى نحو أشجار التوت. عدد من الشباب اليافعين جلسوا على حافة الجسر و علقوا أرجلهم المتذبذبة فوق الماء المتدفق. الجندرمة تحلّقوا حول سيارة الجيب. قبل أن يصل العجوزان إلى الجسر كان الجندرمة قد وضعوا الجثة في السيارة وانطلقوا.
سألت مليحة فتاة شابة: من كان يا ابنتي؟
قالت الفتاة: لم أعرف.
مليحة: هل كان شاباًَ؟
الفتاة: لم أعرف.
مليحة: ألم تري شيئاًَ؟
ابتعدت الشابة عن العجوزة.. أجاب رجل توكأ على سياج الجسر: أنا رأيته. كان منتفخاًَ كان مسودّ الجلد, كان طفلاَ يا أمّاه, كان صغيراً.
أمسك طاهر بعضد مليحة استدار الجسر والرجل والنهر وغابوا سوية عن أحداق مليحة. ولم يبق من سيارة الجيب في البعيد سوى شبح غامض.
ذلك الرجل قال لي يا أماه, هل سمعت يا طاهر؟ قال لي ….
انحدرت الشمس, رسم العرق مثلثاًَ صغيراً على قفا قميص طاهر. قالت مليحة: أين سيذهبون بذلك الطفل الآن؟ هل قتلوه؟ و ربما ذهب للعب بالماء و إذا به…
عادت نسائم تلقيح التوت دون أن تجد لها شجرة توت, وها هي الآن تذبذب الملاءة على صدر مليحة.
قالت مليحة: لم أعرف كم عمره! امسك يدي يا طاهر.
قال طاهر : هل تريدين أن نقعد للحظة؟
ليت إحدى الأشجار كانت ابناَ لطاهر(تخطّرت مليحة)
قالت: اسأل أحدا أين ذهبوا به؟
قال طاهر: إلى المخفر طبعا, أو المستوصف.
-ليتني أستطيع أن أراه (قالت مليحة)
قال طاهر: ماذا ترين؟ انه طفل فقط.
قالت مليحة: نعم, و أنا أقصد الطفل.
قال طاهر: هل نذهب عند ياوري؟
باب المستوصف كان مفتوحا. عدة شتلات صنوبر وصفت حتى ممر البناية. كانت يابسة لا يُرى الصيف حولها. صافح الدكتور ياوري طاهراً و سأل مليحة: هل تتناولين أقراصك بانتظام؟
قالت مليحة: نعم.
سأل الدكتور طاهرا: هل تنامُ لياليها جيدا؟
قالت مليحة: دكتور, عثروا على طفل هل سمعت به؟
قال الدكتور: نعم.
قالت مليحة: أين هو الآن؟
قال الدكتور: وضعوه في المخزن.
قالت مليحة: في المخزن؟ الطفل؟ وضعوه في المخزن؟
قال الدكتور: إننا لا نمتلك براد جثث هنا.
قالت مليحة: ثم ماذا يفعلون به؟
قال الدكتور: ينتظرون حتى الغد. إن لم يأت أحد وراءه دفنوه.
قالت مليحة: إن لم يأتوا, إن لم يأت أحد وراءه هل تعطونه لنا؟
قال الدكتور: ماذا؟
قال طاهر: يعطوننا الطفل؟ ولماذا يعطوننا الطفل؟
قالت مليحة: لندفنه ندفنه بأنفسنا . ثم قد نستطيع أن نحبه. بل الآن أيضا, يبدو, يبدو أنني أحبه…
دست نفسها في ملاءتها, و تحررت الدموع التي حبستها من الجسر إلى المركز الطبي. اهتزت الملاءة على أكتافها و تبلل الجزء الذي يغطي وجهها.
ملأ طاهر قدحاً من الماء. مدد الدكتور مليحة على سرير خشبي. أبرة دقيقة غُرزت تحت جلد يدها. سقطت قطعة قطن عليها بعض الدم في سلّة صغيرة تحت السرير, و لم تفتح مليحة عينيها حتى غروب ذلك اليوم, إلى ما بعد عدم مجيء القطار, و لم تتفوه حتى بكلمة واحدة.
إنها الجمعة. ستائر الغرفة, و المدفئة تتوهج بصوت العصافير. شتاء أبيض خلف النافذة يزجي بردَهُ المشاغب.
قالت مليحة: كل هذه الأسماء, و لا من نتيجة .
قال طاهر: سنجد له أسماً في النهاية.
قالت مليحة: إن لم نستطع في نفس اليوم, فلن نستطيع أبداً, أي يوم كان يا طاهر؟
قال طاهر: يوم ذهبنا إلى الجسر؟
قالت مليحة: كلا اليوم الذي بعده, ذهبنا إلى المستوصف…
في اليوم التالي, لم يأت أحد وراء الجسد, يوم الاثنين لفوه في قماش خام وأخذوه بزنبيل من المستوصف إلى المقبرة. خارج فناء المستوصف وقف طاهر ومليحة من دون أن يرتديا السواد. تحت سماء لا تطلق سراح الشمس من وراء الغيوم, ولا يبعث رسل الأمطار إلى البشر. الزنبيل يستبدله من يد إلى يد أحياناً, ويضعه على الأرض أحياناً, ويركزه على جذع شجرة مقطوعة أحياناً أخرى. استداروا حول ساحة القرية الصغيرة و دخلوا الشارع الوحيد فيها. أمام المقهى وضع الرجل الزنبيل لصق عمود كهربائي وقف بطول شجرة فارعة من دون أن يكون له أدنى شبه بالشجرة. سكب صاحب المقهى الماء من الدلو. غسل الرجل يديه ثم وقف وشرب قدحاً من الحليب الساخن. أشاحت مليحة بوجهها ومرت بالقرب من الزنبيل… شعرت أن شيئاً يرشح من جلد صدرها إلى ثوبها خفف طاهر وقع خطواته. وقفا أمام منزلهما حتى يصل الرجل ويتقدمهما فيصونا بذلك حرمة التشييع الصامت. بل أنهما وقفا ورمقا شرفة البيت. ما زالت نافذتها مشرعة بانتظار صوت القطار, و فيها مليحة شابة انحنت لتسقي المزهرية. حينما رفعت رأسها كانت مليحة عجوزاً تنضد مزهريات خاوية على بعضها. أزاحت الستار فبانت بقوام بضّ و شعر كث تراخت خصلاته السوداء على كتفيها. مشت مليحة خلف المطر بوجه ممتقع صغير وشعر مخضوب هطل المطر بزخات عدة ودخل الرجل المقبرة يحمل الزنبيل. طاهر و زوجته يمشيان فوق العشب بين الأحجار من مغسل الأموات. مراسم الدفن بدت رمادية متربة, و قد طالت حتى تهالك العجوزان على العشب البليل. حينما غادر حفار القبور, كان صوت المسحاة لا يزال يوافي الآذان.
قال طاهر: انهضي لنذهب, هيا… قالت مليحة: ساعدني لأنهض.
التصقا ببعضهما. لا يدري من يراهما أيهما ساعد الآخر. ما إن نهضا حتى قالت مليحة: إنه لنا منذ هذه اللحظة, أليس كذلك؟ الآن لدينا طفل مي…. حفت بهما شاهدات احتضنت أسماءً و تواريخ ولادة و…
قالت مليحة : علينا أن نصنع له شاهدة.
قال طاهر لا بأس.
قالت مليحة: علينا أن نختار له أسماً.
قال طاهر…
قالت مليحة…
كان يوم الجمعة. مدفئة الحطب تشتعل بصوت العصافير, و من الشرفة يوافي صوت همهمة الناس و هم يعودون من آخر الشارع. ضجيجهم حرم طاهراً و مليحة من سماع أهازيج القطار تقتربُ و تنأى.
(شيرازيات)
* منقول عن المجلة الثقافية الجزائرية
قالت مليحة: إن كان الشباك مفتوحاًَ فسوف تستبرد.
الجمعة كان خلف النافذة… بشبهه المذهل لكل جمع الشتاء. أحد أسلاك الكهرباء أنتفخ تحت سواد الطيور. ستائر الغرفة واقفة,ومدفئة الحطب تتأجج بصوت العصافير.
قعد طاهر قرب المائدة و شغّل المذياع (… بإحدى عشرة درجة أشد مناطق البلاد برداًَ)
رفع فنجان الشاي. أشاحت مليحة بوجهها نحوالنافذة:(اسمع, يبدو أن شيئا حدث في الخارج)
للغرفة شرفة تطل على الشارع المعبّد الوحيد في القرية. شرفة تروي لهم مرتين في الأسبوع أهازيج قطار مسرع. أغنية تمر عبر النافذة و تموت عند كسر الجص في سقف الغرفة.
حينما لا يكون لطاهر رغبة في قراءة الصحف القديمة, و روائح الأوراق البالية تصيبه بالغثيان, و مليحة لا يستفزها شيء لأن تسرح من بين أسنانها الصناعية ترنيمة منسية لـلمغنية (قمر) كانا يقصدان الشرفة ليسمعا صوت قطار لا يرى أبدا.
– ألستُ معك؟ أنظر ما الذي حدث في الخارج.
أعاد الفنجان إلى المائدة و قام إلى الشرفة بفم ملؤه الخبز والجبن. جماعة من الناس يتراكضون إلى نهاية الشارع.
قالت مليحة: ماذا هناك؟
في الستين من عمرها. نحيفة. على شفتيها انحناءة من اختنق بعبرته. ما عادت تستطيع استذكار آخر مرة حفّت زغب وجهها.
قال طاهر: لا أدري.
قالت مليحة: لعله جسد آخر!… لابد أنهم عثروا على جسد آخر.
حتى لو لم تقل مليحة (جسد آخر…) كانا سيتناولان فطور هما باستضافة ذكرى يوم صيفي لزج, و يتجادلان على اختيار هذا الاسم أو ذاك. يوم تخطت الشمس تخوم خراسان, و توقفت هنيئة عند كنبد قابوس, و انطلقت من هناك إلى القرية لتنشر صباحا حليبي اللون على حبل الغسيل مليحة…
استيقظ طاهر في فراشٍ مترع بشمس الأحد على موسيقى يومية تعزفها مشية مليحة. كاد الباب الخشبي يفتح بأيدي مليحة, و قد فُتح. قالت مليحة قبل أن تضع الخبز على المائدة:انهض يا طاهر, انهض
قال طاهر: ماذا هناك؟
قالت مليحة: قالوا في المخبز أن هناك جثةً تحت الجسر.
قال طاهر: ماذا تحت الجسر؟
قالت مليحة: ميت… الكل يذهبون للتفرج عليه, هيا انهض.
سارا نحو الجسر بلهفة لم تستطع تسريع خطاهما العجوزة. البعض وقفوا فوق الجسر يتفرجون إلى الأسفل. همهمة الناس أدنى من حشدهم. نسائم تلقيح التوت تتهادى نحو أشجار التوت. عدد من الشباب اليافعين جلسوا على حافة الجسر و علقوا أرجلهم المتذبذبة فوق الماء المتدفق. الجندرمة تحلّقوا حول سيارة الجيب. قبل أن يصل العجوزان إلى الجسر كان الجندرمة قد وضعوا الجثة في السيارة وانطلقوا.
سألت مليحة فتاة شابة: من كان يا ابنتي؟
قالت الفتاة: لم أعرف.
مليحة: هل كان شاباًَ؟
الفتاة: لم أعرف.
مليحة: ألم تري شيئاًَ؟
ابتعدت الشابة عن العجوزة.. أجاب رجل توكأ على سياج الجسر: أنا رأيته. كان منتفخاًَ كان مسودّ الجلد, كان طفلاَ يا أمّاه, كان صغيراً.
أمسك طاهر بعضد مليحة استدار الجسر والرجل والنهر وغابوا سوية عن أحداق مليحة. ولم يبق من سيارة الجيب في البعيد سوى شبح غامض.
ذلك الرجل قال لي يا أماه, هل سمعت يا طاهر؟ قال لي ….
انحدرت الشمس, رسم العرق مثلثاًَ صغيراً على قفا قميص طاهر. قالت مليحة: أين سيذهبون بذلك الطفل الآن؟ هل قتلوه؟ و ربما ذهب للعب بالماء و إذا به…
عادت نسائم تلقيح التوت دون أن تجد لها شجرة توت, وها هي الآن تذبذب الملاءة على صدر مليحة.
قالت مليحة: لم أعرف كم عمره! امسك يدي يا طاهر.
قال طاهر : هل تريدين أن نقعد للحظة؟
ليت إحدى الأشجار كانت ابناَ لطاهر(تخطّرت مليحة)
قالت: اسأل أحدا أين ذهبوا به؟
قال طاهر: إلى المخفر طبعا, أو المستوصف.
-ليتني أستطيع أن أراه (قالت مليحة)
قال طاهر: ماذا ترين؟ انه طفل فقط.
قالت مليحة: نعم, و أنا أقصد الطفل.
قال طاهر: هل نذهب عند ياوري؟
باب المستوصف كان مفتوحا. عدة شتلات صنوبر وصفت حتى ممر البناية. كانت يابسة لا يُرى الصيف حولها. صافح الدكتور ياوري طاهراً و سأل مليحة: هل تتناولين أقراصك بانتظام؟
قالت مليحة: نعم.
سأل الدكتور طاهرا: هل تنامُ لياليها جيدا؟
قالت مليحة: دكتور, عثروا على طفل هل سمعت به؟
قال الدكتور: نعم.
قالت مليحة: أين هو الآن؟
قال الدكتور: وضعوه في المخزن.
قالت مليحة: في المخزن؟ الطفل؟ وضعوه في المخزن؟
قال الدكتور: إننا لا نمتلك براد جثث هنا.
قالت مليحة: ثم ماذا يفعلون به؟
قال الدكتور: ينتظرون حتى الغد. إن لم يأت أحد وراءه دفنوه.
قالت مليحة: إن لم يأتوا, إن لم يأت أحد وراءه هل تعطونه لنا؟
قال الدكتور: ماذا؟
قال طاهر: يعطوننا الطفل؟ ولماذا يعطوننا الطفل؟
قالت مليحة: لندفنه ندفنه بأنفسنا . ثم قد نستطيع أن نحبه. بل الآن أيضا, يبدو, يبدو أنني أحبه…
دست نفسها في ملاءتها, و تحررت الدموع التي حبستها من الجسر إلى المركز الطبي. اهتزت الملاءة على أكتافها و تبلل الجزء الذي يغطي وجهها.
ملأ طاهر قدحاً من الماء. مدد الدكتور مليحة على سرير خشبي. أبرة دقيقة غُرزت تحت جلد يدها. سقطت قطعة قطن عليها بعض الدم في سلّة صغيرة تحت السرير, و لم تفتح مليحة عينيها حتى غروب ذلك اليوم, إلى ما بعد عدم مجيء القطار, و لم تتفوه حتى بكلمة واحدة.
إنها الجمعة. ستائر الغرفة, و المدفئة تتوهج بصوت العصافير. شتاء أبيض خلف النافذة يزجي بردَهُ المشاغب.
قالت مليحة: كل هذه الأسماء, و لا من نتيجة .
قال طاهر: سنجد له أسماً في النهاية.
قالت مليحة: إن لم نستطع في نفس اليوم, فلن نستطيع أبداً, أي يوم كان يا طاهر؟
قال طاهر: يوم ذهبنا إلى الجسر؟
قالت مليحة: كلا اليوم الذي بعده, ذهبنا إلى المستوصف…
في اليوم التالي, لم يأت أحد وراء الجسد, يوم الاثنين لفوه في قماش خام وأخذوه بزنبيل من المستوصف إلى المقبرة. خارج فناء المستوصف وقف طاهر ومليحة من دون أن يرتديا السواد. تحت سماء لا تطلق سراح الشمس من وراء الغيوم, ولا يبعث رسل الأمطار إلى البشر. الزنبيل يستبدله من يد إلى يد أحياناً, ويضعه على الأرض أحياناً, ويركزه على جذع شجرة مقطوعة أحياناً أخرى. استداروا حول ساحة القرية الصغيرة و دخلوا الشارع الوحيد فيها. أمام المقهى وضع الرجل الزنبيل لصق عمود كهربائي وقف بطول شجرة فارعة من دون أن يكون له أدنى شبه بالشجرة. سكب صاحب المقهى الماء من الدلو. غسل الرجل يديه ثم وقف وشرب قدحاً من الحليب الساخن. أشاحت مليحة بوجهها ومرت بالقرب من الزنبيل… شعرت أن شيئاً يرشح من جلد صدرها إلى ثوبها خفف طاهر وقع خطواته. وقفا أمام منزلهما حتى يصل الرجل ويتقدمهما فيصونا بذلك حرمة التشييع الصامت. بل أنهما وقفا ورمقا شرفة البيت. ما زالت نافذتها مشرعة بانتظار صوت القطار, و فيها مليحة شابة انحنت لتسقي المزهرية. حينما رفعت رأسها كانت مليحة عجوزاً تنضد مزهريات خاوية على بعضها. أزاحت الستار فبانت بقوام بضّ و شعر كث تراخت خصلاته السوداء على كتفيها. مشت مليحة خلف المطر بوجه ممتقع صغير وشعر مخضوب هطل المطر بزخات عدة ودخل الرجل المقبرة يحمل الزنبيل. طاهر و زوجته يمشيان فوق العشب بين الأحجار من مغسل الأموات. مراسم الدفن بدت رمادية متربة, و قد طالت حتى تهالك العجوزان على العشب البليل. حينما غادر حفار القبور, كان صوت المسحاة لا يزال يوافي الآذان.
قال طاهر: انهضي لنذهب, هيا… قالت مليحة: ساعدني لأنهض.
التصقا ببعضهما. لا يدري من يراهما أيهما ساعد الآخر. ما إن نهضا حتى قالت مليحة: إنه لنا منذ هذه اللحظة, أليس كذلك؟ الآن لدينا طفل مي…. حفت بهما شاهدات احتضنت أسماءً و تواريخ ولادة و…
قالت مليحة : علينا أن نصنع له شاهدة.
قال طاهر لا بأس.
قالت مليحة: علينا أن نختار له أسماً.
قال طاهر…
قالت مليحة…
كان يوم الجمعة. مدفئة الحطب تشتعل بصوت العصافير, و من الشرفة يوافي صوت همهمة الناس و هم يعودون من آخر الشارع. ضجيجهم حرم طاهراً و مليحة من سماع أهازيج القطار تقتربُ و تنأى.
(شيرازيات)
* منقول عن المجلة الثقافية الجزائرية