ورأيت في منامي أنّي في بابل، في مسابقةٍ للسحر.
كنّا في ميدانٍ كبيرٍ تُطوّقه جماهير حاشدةٌ متعطّشةٌ للسّحر، كأنها تشاهد مصارعةً رومانيةً تسيل بها الدماء كالعرق. على المنصة وقف ثلاثة سحرةٍ حديثي السنّ، ربما كان العرض امتحان تخرّجهم بلقب ساحرٍ. كان المعلم رجلاً عاش ألف عامٍ، بدا وكأنّ الزمن زاده ألقاً كأنّه شجرةٌ والزمن ماء. لحيته تشبه سحابةً تظلّل عابداً، وقد أعلن للجماهير وجود ساحرٍ واحدٍ حقيقيٍّ بشّرت به آخر الكتب التي تبقت من مكتبة برج بابل بعد الغزو الأجنبيّ.
ثمّ بعد الترحّم على أرواح الذين قضوا دفاعاً عن البرج، والتنبّؤ بأنّ أقواماً بعد قرونٍ سيظنون البرج سلّماً بُنِي للوصول إلى الله، دون أن يعوا أنّ البرج مكتبةٌ كان على من يصعد طابقها العلويّ أن يلهث دماً ودمعاً، وبعد أن ذكر كم من رجلٍ وامرأةٍ فارقوا الحياة قبل أن يبلغوه، وكيف أنّ الحكماء السبعة أيضاً لم يصلوا. بدأت المسابقة السحرية.
كان كلّ طالبٍ يصدّق بكلّ قلبه أنّه السّاحر الأوحد. ترواحت المعجزات بين الطيران في السّماء، إلى جعل المطر يهطل في الصّيف. توالت المعجزات وتكاثرت الصرخات، لكن لم تهزّ معجزةٌ شعرةً واحدةً في وجه المعلم.
حتى قام أحدهم بما لم يقم به أحدٌ من قبل، لقد بعث البرج المدمر من مقبرة التاريخ. خيّم الصمت في وجوه الجميع، حكّ المعلم رأسه، كانت أخبار البرج مسرحاً للأساطير. قرونٌ مضت وقتَ كان ينطح السّماء وها هو الآن حيٌّ يُعيد بابل إلى ذهبها. سرعان ما اندلع الصمت ناراً تصرخ وتهلل للسّاحر الكبير.
لكنّ الحاكم أعلن أن المسابقة لم تنته بعد، كان البرج خالياً، كان خارج بابل لا داخلها، كان الذّهب لا العنق التي تحمل الذهب... فأعاد السّاحر الثّاني المكتبة، لم يبد الأمر سهلاً أبداً، بدا وكأنّ رمال الكتب كُتبت من جديد وعادت الآن ساخنةً كحبٍّ ترعرع في الصّحراء. كانت الكتب مكدّسةً في كل مكان، يسقط بعضها من النّوافذ ويحدث صوت ارتطامه بالأرض هدوءاً يعلو ضجيج الجماهير. بالطّبع هلل الجميع للأمر فشعب أرض العراق القديمة يحبّ الكتاب حبّه لـ"البابليّ المُعتًّق".
عدّل المعلم جلسته، أشار بيده كي تستمر المنافسة، ما الذي تبقّى للسّاحر الأخير؟
لم تبق معجزةٌ سوى تلك، كان عليه أن يعيد الطّابق السحريّ، ونعم...لقد أعاده!
أطلّ من النّافذة الأخيرة، ماسكاً كتاباً واحداً فقط، فابتلع الكتابُ البرجَ وجميع الكتب.
قام المعلم عن كرسيّه، أمر بحبس السّاحرين المخادعين. كان ضجيج أهل بابل يبني سلالم إلى الكواكب، وكان اسم السّاحر على الألسنة كصلوات المطر. وبحركة من يد المعلم كان السّاحر على منصّة الذّهب، فهمس المعلم بأذنه:
"ألم تنس شيئاً"؟
فهم السّاحر الأمر، فتح الكتاب تحت سحابةٍ فحبلت بالكتاب السحريّ وأمطرت ضجيج المتفرّجين. سقطت ورقةٌ من شجرةٍ كانت تراقب العرض منذ البداية فسمعنا صوتها. تفرّق الجميع وعيونهم تُقلّب الكتاب بين أصابعهم. خلع المعلم لحيته وألصقها في وجه التّلميذ. كان وجه المعلم شابّاً كغزالٍ يشرب من النّبع. ارتدى المعلم كفنه وغادر إلى القبر.
مسكت الكتاب بيديّ، كنت أعلم أنني أحلم. كان عليّ أن أشدّ على الكتاب كي لا أفقده في الممر السحري بين النّوم واليقظة. وحين فتحت عينيّ صباحاً، كان الكتاب ملتصقاً بيديّ كأصابعي التي أوجعتني عظامها. سمعت صوت زوجتي ينادي: "الشّاي جاهزٌ يا شاعري الجميل".
حين أردت أن أُخفيه تحت السّرير كان الكتاب قد اختفى!
* كاتب فلسطيني/ القدس المحتلة
* عن العربي الجديد
كنّا في ميدانٍ كبيرٍ تُطوّقه جماهير حاشدةٌ متعطّشةٌ للسّحر، كأنها تشاهد مصارعةً رومانيةً تسيل بها الدماء كالعرق. على المنصة وقف ثلاثة سحرةٍ حديثي السنّ، ربما كان العرض امتحان تخرّجهم بلقب ساحرٍ. كان المعلم رجلاً عاش ألف عامٍ، بدا وكأنّ الزمن زاده ألقاً كأنّه شجرةٌ والزمن ماء. لحيته تشبه سحابةً تظلّل عابداً، وقد أعلن للجماهير وجود ساحرٍ واحدٍ حقيقيٍّ بشّرت به آخر الكتب التي تبقت من مكتبة برج بابل بعد الغزو الأجنبيّ.
ثمّ بعد الترحّم على أرواح الذين قضوا دفاعاً عن البرج، والتنبّؤ بأنّ أقواماً بعد قرونٍ سيظنون البرج سلّماً بُنِي للوصول إلى الله، دون أن يعوا أنّ البرج مكتبةٌ كان على من يصعد طابقها العلويّ أن يلهث دماً ودمعاً، وبعد أن ذكر كم من رجلٍ وامرأةٍ فارقوا الحياة قبل أن يبلغوه، وكيف أنّ الحكماء السبعة أيضاً لم يصلوا. بدأت المسابقة السحرية.
كان كلّ طالبٍ يصدّق بكلّ قلبه أنّه السّاحر الأوحد. ترواحت المعجزات بين الطيران في السّماء، إلى جعل المطر يهطل في الصّيف. توالت المعجزات وتكاثرت الصرخات، لكن لم تهزّ معجزةٌ شعرةً واحدةً في وجه المعلم.
حتى قام أحدهم بما لم يقم به أحدٌ من قبل، لقد بعث البرج المدمر من مقبرة التاريخ. خيّم الصمت في وجوه الجميع، حكّ المعلم رأسه، كانت أخبار البرج مسرحاً للأساطير. قرونٌ مضت وقتَ كان ينطح السّماء وها هو الآن حيٌّ يُعيد بابل إلى ذهبها. سرعان ما اندلع الصمت ناراً تصرخ وتهلل للسّاحر الكبير.
لكنّ الحاكم أعلن أن المسابقة لم تنته بعد، كان البرج خالياً، كان خارج بابل لا داخلها، كان الذّهب لا العنق التي تحمل الذهب... فأعاد السّاحر الثّاني المكتبة، لم يبد الأمر سهلاً أبداً، بدا وكأنّ رمال الكتب كُتبت من جديد وعادت الآن ساخنةً كحبٍّ ترعرع في الصّحراء. كانت الكتب مكدّسةً في كل مكان، يسقط بعضها من النّوافذ ويحدث صوت ارتطامه بالأرض هدوءاً يعلو ضجيج الجماهير. بالطّبع هلل الجميع للأمر فشعب أرض العراق القديمة يحبّ الكتاب حبّه لـ"البابليّ المُعتًّق".
عدّل المعلم جلسته، أشار بيده كي تستمر المنافسة، ما الذي تبقّى للسّاحر الأخير؟
لم تبق معجزةٌ سوى تلك، كان عليه أن يعيد الطّابق السحريّ، ونعم...لقد أعاده!
أطلّ من النّافذة الأخيرة، ماسكاً كتاباً واحداً فقط، فابتلع الكتابُ البرجَ وجميع الكتب.
قام المعلم عن كرسيّه، أمر بحبس السّاحرين المخادعين. كان ضجيج أهل بابل يبني سلالم إلى الكواكب، وكان اسم السّاحر على الألسنة كصلوات المطر. وبحركة من يد المعلم كان السّاحر على منصّة الذّهب، فهمس المعلم بأذنه:
"ألم تنس شيئاً"؟
فهم السّاحر الأمر، فتح الكتاب تحت سحابةٍ فحبلت بالكتاب السحريّ وأمطرت ضجيج المتفرّجين. سقطت ورقةٌ من شجرةٍ كانت تراقب العرض منذ البداية فسمعنا صوتها. تفرّق الجميع وعيونهم تُقلّب الكتاب بين أصابعهم. خلع المعلم لحيته وألصقها في وجه التّلميذ. كان وجه المعلم شابّاً كغزالٍ يشرب من النّبع. ارتدى المعلم كفنه وغادر إلى القبر.
مسكت الكتاب بيديّ، كنت أعلم أنني أحلم. كان عليّ أن أشدّ على الكتاب كي لا أفقده في الممر السحري بين النّوم واليقظة. وحين فتحت عينيّ صباحاً، كان الكتاب ملتصقاً بيديّ كأصابعي التي أوجعتني عظامها. سمعت صوت زوجتي ينادي: "الشّاي جاهزٌ يا شاعري الجميل".
حين أردت أن أُخفيه تحت السّرير كان الكتاب قد اختفى!
* كاتب فلسطيني/ القدس المحتلة
* عن العربي الجديد