1-
الساعة لما تبلغ الرابعة صباحاً بعد، استيقظت قبل الموعد بعشرين دقيقة. لماذا لا أقول إنني لم أذق طعم النوم ليلتئذ ؟ تجربة العمل التي تنتظرني في الغد مثيرة ، وقفت طويلاً قبل أن أنام أمام البذلتين اللتين أملكهما .. كان عليّ أن أختار واحدة.. آثرت الرمادية فقالت لي أمي " لقد لبستها حين قابلت المدير.. فالبس الأخرى".. عجيب كيف تستطيع النساء تذكر هذه التفاصيل. لقد نسيت أنا أيها كنت لابساَ. وربطت الساعة الصغيرة لتطلق رنينها في الرابعة صباحاً فاستيقظ. وخشيت أن تخذلني فجربتها ثلاث مرات ، و أوصيت أمي بأن توقظني فتطوعت عمتي و أختي و أبي جميعاً .. والواقع إنني لم أنم في تلك الليلة ، و حين انبعث الرنين المجلجل من الساعة قفزت من فراشي ،و قفزت أمي و عمتي و أختي ،وحدة لتسخن لي ماءاً للحلاقة ،و عمتي لتعد لي مائدة لم أعرف مثل سخائها من قبل أن أصبح موظفاً..أما أختي فشغلت بحذائي تلمعه ، كنت أقف في الحمام أفرش وجهي برغوة صابون الحلاقة و أغطي اضطرابي بلحن أصفره حين سمعنا قرعاً متئداً على باب الدار.. فسارعت عمتي إليه ثم ترددت إذ تذكرت أن نهار الناس لم يبدأ بعد .
فسارعت أنا ولكنني حين بلغت الباب ترددت أيضاً واستجمعت نفسي لأسأل (من) .. ومن وراء الدفتين الملحمتين سمعت من يقول " هل استيقظت يا سيد فتحي"..ومددت يدي إلى أكرة الباب أعالجها ، ولما فتح الباب كان الطارق قد أعاد إدراجه فلم استطع أن أتبين من خلل السواد أكثر من خيمة تتحرك بعيداً عن الدار. وعدت أتم حلاقتي متعجباً. ولم تضع عمتي الفرصة لتذلل على ذكائها فقالت بلهجة لا ينقصها اليقين.."لا بدّ أن وظيفة فتحي (مهمة) وإلا فلماذا توقظه الحكومة..؟؟"
واستمرأ غروري أن يقبل تعليلها بلا تردد ، و خالطني إحساس بالأهمية وأنا أرتدي ثيابي وابتلع البيضتين في لقمتين ، وازجر أختي وهي تصب في أذني نصائحها ، ثم أشد نفسي بالمعطف ، وانطلق إلى الباب ودعوات عمتي تصفع ظهري من خلل الباب المشقوق فلا يغيب صوتها الا في ثنايا صوت المؤذن الذي ارتفع عميقاُ منطلقاُ على مداه في تموجات خالطها شيء من بياض الفجر فوقع في آذان السارين ندياُ مأنوساُ باعثاُ على انبساط الملامح المتقلصة من لسعات الريح .
الصلاة خير من النوم .
ولـكـن مدينتي كانت نائمة . ولأول مرة شعرت بضوضاء حذائي على الأرضية المبلطة وأنا استحث قدمي لا لحق بصبي فران اختفت رأسه حتى الأذنين في
لبدة عجيبة ..
كانت محطة القطار .. أو ( السكة ) كما نسميها تقع في ظاهر البلدة .. كان قيامها حدثا تمرد على أسوارها التاريخية العريقة . وتمركز على بعد حوالي الكيلومترين من البوابة الجنوبية للمدينة . وعلينا قبل أن نبلغ البوابة أن نمر بخان اثري هو في النهار مركز ناشط لتجارة الحبوب ومال القبان. وأهله خليط من التجار والسماسرة والدواب .. كان الحمار يمد فمه إلى أي كيس حبوب مفتوح على مدخل دكان وهو ينتظر أن تنتهي المساومة بين صاحبه والتاجر على وجه من الوجوه …
ولكنه كان حين اجتزته في ذلك الفجر ساكتاُ خالياُ من السابلة ، وقد داخلتني وحشة
فحاولت أن اركض ولكنني تذكرت أنني غدوت موظفا فاتأدت . واجتزت الخان ونفذت من البوابة وقطعت المسافة بين البوابة والسكة نشطا، ثم ولجت إحدى عربات القطار وأبرزت للمرة الأولى البطاقة المجانية التي زودتني بها الإدارة..
ولعل البطاقة قد لفتت نظر شابين جلسا في المقعد المقابل إلا أنهما لم يحاولا استيضاحي ، ولم أجد في نفسي الجرأة على أن أتقحم فشغلت بـتأمل المسافات التي تنطوي أمامي بسرعة وقد بدأ الفجر يوشحها بألق الصباح .
إن يوم العمل الأول تجربة غير يسيرة .. فهناك النظرات المتفحصة أو المتسائلة .. أو المستنكرة أو المستخفة .. هناك ملفات كلها غموض.. أرقام لا أول لها ولا آخر.. رموز يتعين علي أن أعربها . لقد تقلص غروري .. لم اعد أكثر من نكرة في دائرة جبارة محشودة .. لو رأتني عمتي لراجعت نفسها واستكثرت علي أن آكل بيضتين مرة واحدة ... لقد افترضت – وقد جاء من يوقظني - ان أكون مهما ولكنني في يومي الأول لست أكثر من هر خائف أمام كلب شرس . لقد أكلت البيضتين في فجر اليوم التالي حين جاء الصوت يوقظني ، وقد أشعرني نداؤه بالأهمية حتى إنني لم أبال بفتح الباب لأتمتم بأي كلمة شكر تخطر لي ..
نحن في أحيان كثيرة نستمرئ تعليلاتنا فلا نناقشها مرتين ..وقد أفلحت عمتي في جعلي أؤمن بذكائها شهراً كاملاً كان الطارق خلاله يوافيني كل فجر دون محاولة مني حتى لفتح الباب لأستقبل صوته بشيء من حفاوة ...
و كانت أكثر من مفاجأة لي حين سمعت زميلاً من زملائي _ بعد أن أفلحت عشرة أشهر في إذابة كتلة الثلج التي يقيمها القدامى إزاء الزملاء الجدد _يقول بأن طرقات أبي فؤاد أكثر انضباطاً من ساعة ، وإلا لتكلف أن يركب يومياً سيارة توصله إلى مركز العمل في حيفا إذ يفوته القطار ...
ولأول مرة شعرت أن طارق الفجر يمكن أل يكون له اسم و شخصية و ظروف و ملامح... لم يكن حتى الساعة بالنسبة لي أكثر من صوت يردد في كل فجر عبارة واحدة لا ختلف. ولكني أكتشف اليوم بالصدفة أن له اسماً ،و افترض ضرورة أن يكون له وجهٌ أيضاً ...
و حين طرق بابنا في اليوم التالي كنت أسرع من رجليه ففتحت الباب ، إذ رآني رد على تحيتي بلا حماسة ثم قال : "أنت فتحي ؟"
كان رجلاً في منتصف عمره ، يختفي تحت معطف أسود و طربوش تركي قاتم، وفي هيئة ما يوحي بأنه أكثر من يد تمتد لتطرق الأبواب في موعد معين لا يتأخر أو يتقدم ...
ووجدت نفسي مسوقا إلى أن أقول " تفضل " فاعتذر .. قال أن عليه أن يوقظ غسان وعبد الله ، ويوسف . وتركني واستدار فابتلعته عتمة الطريق ..
ولكني وأنا في القطار في الطريق إلى العمل حاولت في حديثي مع عبد الله ، الذي صار صديقا لي ، ان أشخصه فوجدت نفسي أمام قصة عجيبة ومؤثرة حقا ، لم تكن جديدة علي ..
إن بلدتنا صغيرة ، وقصصها مشاع لكل أهلها ، وهم طيبون بحيث يحزنون ، وقد حزنا جميعا أمي وعمتي وأختي وأنا وجيراننا الذين سهروا عندنا عشية تلقفت البلدة قصة ملفوفة بكل ظروف المأساة ، قصة فؤاد موظف سكة الحديد الذي بلغ المحطة متأخرا ، وكان القطار قد اخذ بالتحرك . فتعلق بباب العربة محاولا الصعود, ولكن يده خذلته فافلت الحاجز وسقط تحت العجلات ، وغدا الشاب الغض كتلة مختلطة المعالم تحت عجلات ليس لها قلب .
وحين حزنت البلدة وعاشت أسبوعا تلوك دراما اللحم والحديد عرفنا أن أبا القتيل تاجر خيوط ، له دكان صغيرة في سوق القماش ، عدتها ضفائر معلقة من خيوط ملونة وميزان لفت نظري حجمه الصغير حين كلفتني عمتي أن اشتري لها قدر درهمين من الخيوط الحريرية الصفراء تعلقها بطرف منديل ( الاويه ) الذي تتغاوى بلبسه .
وتاريخ القصة يعود إلى ما قبل عامين ، وحين عاودتني بكل التفاصيل التي كنت قد سمعتها نسيت أن اسأل صاحبي عن علاقة هذا كله بالمهمة التي يقوم بها الأب في إيقاظ الموظفين . ولكني لم استطع ان اخنق فضولي حتى المساء فتركت مكتبي وقصدت عبد الله لأعود من لدنه بحزن يفوق الحزن الذي اذكر أنني حزنته عشية سمعنا بموت الفتى على تلك الصورة البشعة ، فالأب الذي فقد ولده الوحيد آلى على نفسه ان ينهض قبل كل فجر ويطوف على زملاء ابنه يوقظهم واحدا واحدا . فلا يتأخروا عن القطار ، ولا يتكتلوا لحماً ودماً تحت عجلاته ..
وحملت قصتي لأهلي ونحن على مائدة العشاء ، وارتضيت أن تنحسر أهميتي من عيونهم وأنا اكشف سر الطارق .. ولقد بكت أمي .. وزورت عمتي ما بين عينيها وانفعلت بلا دموع ولكنها لم تكف عن المضغ قط . إلا أنها اجتهدت في أن تبدو متعاطفة في صباح اليوم التالي فنهضت ــ وكانت قد كفت عن النهوض لتحضير إفطاري بعد انقضاء أسبوع على عملي ــ وما أن طرق الباب حتى أسرعت تفتحه بعد أن غطت أكثر وجهها بنقابها الأبيض وحملت له قهوة وفنجانا وأقسمت إلا أن يشرب الرجل قهوتنا ولو واقفا على الباب ..
كان ذلك قبل أسبوع واحد من ذلك الفجر الشتائي القارس الذي تدفقت فيه مياه المزاريب تغسل الأزقة المبلطة وتتجمع في الأخاديد التي حفرها الزمن بين البلاطة والأخرى .. ولم أكن قد ربطت ساعتي .. بل الواقع أنني كففت عن ذلك منذ تأكدت أن الطارق لا يقل انضباطها عنها .. ولقد كنت مستمتعاً بالدفء تحت لحاقي كقطة تتكوم أمام مدفأة مؤجلا قيامي حتى اسمع الطرقة على الباب .. وحين بلغتني نفضت عني اللحاف ولكنني لم احفل بالنظر إلى ساعتي ، وارتديت ثيابي والتهمت إفطاري وفتحت الباب لأفاجأ بالرجل واقفا يحاول أن يتقي الرذاذ الخفيف والقطرات المتساقطة على حفافي الأسطح بوقوفه تحت ظلة الباب .
قلت له وأنا امرق من الباب مسرعاُ " صباح مطير أليس كذلك ؟ " فقال وكأنه يعتذر عن وقوفه " لم أقف بسبب المطر ... الواقع أني تأخرت قليلاً عليك . لقد اخذتني غفوة ... وقد يكون هذا المطر أخرني أيضا ... لقد بدأت اليوم باخوانك وانتهيت بك . اركض يا بني فليس لديك لتبلغ المحطة سوى عشرة دقائق... "
وتحت المصباح المجلل بالرطوبة اتأدت قليلاً لا تأكد من الوقت ، كان هناك تسع دقائق تكاد لا تكفي لا بلغ البوابة . وجمعت قوتي ودفعت بها إلى قدمي اذرع الطريق بمشية مهرولة ضاعفت من سرعتها حين انتهيت من الازقة المبلطة ومن الخان المسقوف .. وكلما حاولت أن أقف لالتقط أنفاسي تبدت لعيني كتلة مختلطة من الدم واللحم كانت قبل أن يهرسها القطار إنسانا له مثلي قدمان سويتان يسعى بها إلى وظيفة في دائرة سكة الحديد ، فاشعر أن لفمي طعم مأساة .. و أن لقدمي قوة غريبة..
وبلغت القطار وهو واقف لم يتحرك، واستطعت أن أصعد و أن آخذ مكاني لاهث الأنفاس، وكان خليقاً بالقطار أن يمشي بعد أن وصلت، بالمهم ألا أتعلق به، وألا أسقط تحت العجلات. ولكن القطار لم يسر . وفهمنا أن خللاً بسيطاً طارئاً يحتاج إصلاحه إلى دقائق قد منع القطار عن التحرك كالعادة حين ينتهي عقرب الساعة الكبير من دورته التي لا يتعب منها أبداً..
ومن خلال نافذة القطار المفتوحة .. كانت الحقول تشرب المطر فتتكسر أعناق الأعشاب تحت وطأة قطراته المثقلة، وكانت المحطة التي لا تنام تغص بالحمالين الذين انتهوا من نقل الأمتعة أو البضائع فجلسوا على الإفريز يرشفون أكواب الشاي ويفتلون.. و كنت أركز عيني على الباب، أتأمل بائع الكعك و البيض حين رأيت الرجل الطارق يبدو لي من خلال الباب وهو يمسح وجهه وينفض طربوشه المبلل ويلتقط أنفاسه بصعوبة..
ما الذي أتى به إلى المحطة ؟ أهو مسافر اليوم ؟ أم إنه خشي أن يفوتني القطار فعداً خلفي ليطمئن على وصولي ؟ و لم أستطع أن أقطع بشيء إذ علا الصفير الأجش يشق جو الفجر الرمادي الضبابي، وصرّت العجلات على الخط وعلا ضجيج دورانها وابتعدت عن المحطة، وأوغلت في الابتعاد فلم تبد تلك أمام عيني سوى نقطة سوداء تمحي معها تفاصيل كثيرة.
وبلغت القطار وهو واقف لم يتحرك، واستطعت أن أصعد و أن آخذ مكاني لاهث الأنفاس، وكان خليقاً بالقطار أن يمشي بعد أن وصلت، بالمهم ألا أتعلق به، وألا أسقط تحت العجلات. ولكن القطار لم يسر . وفهمنا أن خللاً بسيطاً طارئاً يحتاج إصلاحه إلى دقائق قد منع القطار عن التحرك كالعادة حين ينتهي عقرب الساعة الكبير من دورته التي لا يتعب منها أبداً..
ومن خلال نافذة القطار المفتوحة .. كانت الحقول تشرب المطر فتتكسر أعناق الأعشاب تحت وطأة قطراته المثقلة، وكانت المحطة التي لا تنام تغص بالحمالين الذين انتهوا من نقل الأمتعة أو البضائع فجلسوا على الإفريز يرشفون أكواب الشاي ويفتلون.. و كنت أركز عيني على الباب، أتأمل بائع الكعك و البيض حين رأيت الرجل الطارق يبدو لي من خلال الباب وهو يمسح وجهه وينفض طربوشه المبلل ويلتقط أنفاسه بصعوبة..
ما الذي أتى به إلى المحطة ؟ أهو مسافر اليوم ؟ أم إنه خشي أن يفوتني القطار فعداً خلفي ليطمئن على وصولي ؟ و لم أستطع أن أقطع بشيء إذ علا الصفير الأجش يشق جو الفجر الرمادي الضبابي، وصرّت العجلات على الخط وعلا ضجيج دورانها وابتعدت عن المحطة، وأوغلت في الابتعاد فلم تبد تلك أمام عيني سوى نقطة سوداء تمحي معها تفاصيل كثيرة. حين سمعت الطرق على بابنا في فجر اليوم التالي خطرت لي كل تفاصيل الأمس ، و شعرت بالارتياح لأن الرجل لم يؤذه ركضه وهو يلحق بي للمحطة تحت سماء مطيرة .
ولذا لم أربط بين عنائه ذاك وبين عدم طرقه بابي بعد يومين، لقد اعتقد أن طرقاته قد تلاشت مع لغط البريموس في مطبخنا القديم. ولكنني تأكدت من عدم حضوره حين سمعت عبد الله في القطار يتساءل عن السبب... ولم يحضر في اليوم الثاني ولا الثالث . و كان استغرابنا وتساؤلنا هو الذي حملنا طيلة طريق العودة عصراً، و الذي انتهى بتكليفي في أن أسأل عنه في دكانه الصغيرة بسوق القماش. و لقد قصدت السوق قبل أن أمر بالبيت واضطررت أن أسأل مرتين عن موقع دكانه بالضبط، ولما بلغتها كانت مغلقة، والعارضة الحديدية في مكانها، و سألت جاره فقال "مسافر أو مريض. هو قليل الكلام ونحن لا نسأل. إذا كنت تبغي شيئاً من بضاعته فلدي مثلها أو أحسن..."
وحملت الخبر لعبد الله و اتفقنا على أن نبحث عن بيته في الغد فقد افتقدناه حقاً. و كنت أكثر الجميع انزعاجاً فقد خشيت أن أكون سبباً في وعكة ألمت به. ولما رحنا في الغد نفتش عن بيته بعد أن سألنا جيرانه عن موقعه التقريبي انتهى الأمر بنا عند باب خشبي فهمنا أنه يوصل إلى باحة تقع بعدها الغرفتان اللتان يسكنهما الرجل . ولقد سألنا ولدين التفا حولنا عما إذا كان الرجل قد مرّ في الشارع اليوم فأنكرا ذلك . وهم عبد الله بالرجوع ، لقد آثر أن يرجع سفره ولكنني لم أقتنع ،لم يكن بوسعي أن أُبرر عدم إقناعي بشيء ، مجرد إحساس قوي دفعني إلى أن أعالج الباب الخارجي فانفتح، وكانت هناك ساحة مبلطة في وسطها بركة صغيرة وقد قامت على طرف غير مبلط شجرات فتنة عاريات من الأوراق ، وأمامي انتصب باب آخر لم يثبت بالعارضة الحديدية المتدلية من طرف أحد الدفتين .وطرقت الباب فرد علي الصمت . و قرعت ثانية واشترك عبد الله معي . و أثار الصوت امرأة تدلت من إحدى نوافذ بيت مجاور أعلى من بيته يشرف على الباحة فوقفت ترقبنا بفضول . وعدنا نقرع . و قال عبد الله وهو يتحسس قبضته "أفضل لنا أن نعود". و لكنني رفضت. لقد ثار في الهاجس الخفي ، لقد أوجعني ذلك الإيلام في ضميري ، فمددت يدي أعالج الأكره فلم ينفتح . فاتكأت إلى الباب و بكل القوة التي يحملها ظهري رحت أدفعه ، و كنت موشكاً على السقوط من أثر دفعة قوية فعرفت أن الباب قد فتح ..
ومن خلال نافذة القطار المفتوحة .. كانت الحقول تشرب المطر فتتكسر أعناق الأعشاب تحت وطأة قطراته المثقلة، وكانت المحطة التي لا تنام تغص بالحمالين الذين انتهوا من نقل الأمتعة أو البضائع فجلسوا على الإفريز يرشفون أكواب الشاي ويفتلون.. و كنت أركز عيني على الباب، أتأمل بائع الكعك و البيض حين رأيت الرجل الطارق يبدو لي من خلال الباب وهو يمسح وجهه وينفض طربوشه المبلل ويلتقط أنفاسه بصعوبة..
ما الذي أتى به إلى المحطة ؟ أهو مسافر اليوم ؟ أم إنه خشي أن يفوتني القطار فعداً خلفي ليطمئن على وصولي ؟ و لم أستطع أن أقطع بشيء إذ علا الصفير الأجش يشق جو الفجر الرمادي الضبابي، وصرّت العجلات على الخط وعلا ضجيج دورانها وابتعدت عن المحطة، وأوغلت في الابتعاد فلم تبد تلك أمام عيني سوى نقطة سوداء تمحي معها تفاصيل كثيرة.
ودخلت بعد أن رفض عبد الله الدخول ووقف ينتظرني عند الباب الخارجي ليدلل على أنه لا شان له بكل هذا التقحم .. كانت هناك غرفة في وسطها مائدة عليها كسرات من الخبر و بقايا من طبق طعام تقضي إلى غرفة أخرى داخلية فيها سريران من الحديد الأسود واحد منسق مفروش ببطانية رمادية. و لقد خمنت أن يكون للفتى الميت. أما الآخر فقد كانت أغطيته متكومة فوق جسم ما ... استجمعت شجاعتي لأبلغه فخانتني حين طالعني وجه فاغر الفم و عينان زجاجيتان...
كان الرجل ميتاً... ككل شيء آخر في الغرفة ... الخزانة الصغيرة القاتمة.. والديوان المفروش ببساط مخطط ...و المرآة المفروشة ببقع صفراء كأنها كلف على وجه بشع... لم ي
كن هناك شيء حي ... بلى كانت هناك ساعة حائط تقوم في الجدار... رقاصها يميل ، و صوتها يقول تك تك تك...