«نَبولُ دماً ونستحمُّ بالأسيد/ ويريدوننا أن نهدأ! يا لهم من كلابْ!».
*من تصدير «عويل الحواس». ريبورتاجات شعريّة (1985).
«... أعيشُ مع امرأةٍ باهظةْ!/ أبيع حوائجها الداخلية سراً وأحيا!/ لماذا بعثتَ ببعضٍ من التركة السابقةْ
جراحي وخوفَ المخافر/ وشاشَ الهموم وقمصاني المُستعارةْ/ نعمْ .. تضيعُ الرسائلُ والشِعرُ والحبُّ بين البريد وبين المباحث/ أجيءُ أنا..؟ (أأنتَ انهبلتْ !)/ أنا أفقد البعضَ مني/ تعلمتُ كيفَ أُكذِّبُ صوتَ المغني وصوتَ الزعيمِ/ بمعهد علمِ الظنونِ الخبيثةْ».
*من مجموعة «رجل يستحمُّ بامرأة». قصائد تشكيلية (1982).
أهذه مداخل، أم «عتبات»، كما يُحِبُّ النقد الحداثي التابع أن يوصف العنونة؟ مفاتيح صغيرة لفتح الرّتاجات الكبيرة المغلقة في مدن الخبز اليابس؟ ليكن.. عليَّ، إذن، أن أستعيدَ خمسين عاماً، في مبتسرٍ ضيقٍ، كالضائقة التي تعيشها، صنعاء، حيث أعيش الآن، وأن أكتب أنا السوري – بالصفة هذه لا سواها – عن الشعر. وعليَّ أن أعود لأصُفَّ الوقائع والأسماء والأماكن في طابور الذاكرة، وأتوقف معها قليلاً مع كتابي الشعري الأول، بل مع كتابيَّ الأوليين: («أجزاء إبراهيم الجرادي المُبعثرة» (1981) و«رجلٌ يستحمُّ بامرأة" (1982). لأنهما في الأصل، سياميان – كتابٌ واحد – فصلت ما بينهما أعباء الطباعة، الشخصية، إذ أن المهابة الشعرية، (وربما الأخلاقية !)، في المؤسسات الوطنية الرسمية لا تحتمل كلماتٍ وجملاً مثل: «العادة السريّة»، «قمرُ السرّة انشق عن نجمةٍ ضيّعت ولفها»، «الوطن المهزوم»، أو «فخذان يرتفعانِ، هناك، تماماً، كما العلم الوطنيّ» أو «أيها الوطن المُرتخي مثل أعضائهم !» أو «نبول دماً ونستحمُّ بالأسيد ! ويريدوننا أن نهدأ! يا لهم من كلاب !» أو «هل هو وطنٌ أم ملجأ؟ مشفى أو مبغى؟ حشدٌ أم شعب؟». تباً! لقد كان كُلّ شيء، يشير بلا لبس، إلى ما ستؤول إليه الأمور، وإلى ما ستصل إليه في هذا البلد الطيّب، الذي نحبه كما يحب عيال الله ذويهم وبلدانهم، فلماذا امتدَّ السبات، حتى أيقظ النائمين الدم؟ يا إلهي!
«أجزاء إبراهيم الجرادي المُبعثرة» و«رجلٌ يستحمُّ بامرأة "، هما في الأصل، سياميان – كتابٌ واحد – فصلت ما بينهما أعباء الطباعة الشخصية، والمهابة "الأخلاقية"
لقد قلتُ، سابقاً، أنني ولدتُ في بيئةٍ لا تقرأ (قرية بندر خان)، والذين يقرأون فيها – ونادراً ما يفعلون – يقرأون، على ما أذكر، أرسين لوبين، أجاثا كريستي، وإحسان عبد القدوس، وكتب المذكرات والأسرار أو الفضائح السياسية...
لقد كان كل أبناء بيئتي يتصفون بهذه السمة، ما عدا شخص واحد: شابٌ وسيمٌ، طويل القامة، كان يجلس في ظِلِّ البيت الطيني، تنتثر حوله كتب عديدة، أغلبها في الشعر، ومنها في النثر، كما أذكر، «شجرة اللبلاب» لمحمد عبد الحليم عبد الله، و«الأجنحة المُتكسرة» لجبران خليل جبران، وغيرها... وكان ينقل إلى دفتر ذي غلافٍ كرتوني مُطرز بخطوط خضراء، بخطه الجميل ذي الخصوصيّة «مختارات» مما أمامه من كتب الشعر تحديداً، وكنتُ مشدوداً لخطه الجميل، الذي قادني تقليده المُتكرر، لحفظ أشعار للخنساء وامرئ القيس، وجرير، وطرفة بن العبد، والحطيئة، ومن المُعاصرين، عمر أبو ريشة، ونزار قباني وغيرهم. من هُناك، بدأ الدرب إلى «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» و«رجل يستحمُّ بامرأة».
الرقة 1968
وعلى أثر مأساةٍ عائلية، ألقت بظلها عليَّ وعلى أهلي وناسي كانت «الهجرة الأولى»، إلى قرية المشلب قرب الرّقة، حيث الناس، أو بعضهم، يقرأون الكتب والمجلات بانتظام، ولدى الكثيرين منهم مكتبات. هناك قرأت نزار قباني كاملاً، وهارولد لاسكي، وبدأت تتسلل إليَّ من جاري الخلوق، ذي النزعة اليسارية، مؤلفات شوقي بغدادي (أكثر من قلب واحد)، وسعيد حورانية (سنتان وتحترق الغابة وشتاء قاس آخر)، وفي ثناياها جريدة «نضال الشعب»؛ وفي الرقة المدينة، التي انتقلتُ إليها سكناً، كانت جماعة «ثورة الحرف»، التي لم يكن يقبل أعضاؤها بأقل من "تحطيم العالم القديم"، جملة الشاعر الروسي الكسندر بلوك التي تسللت إلينا من مقال مُترجم في إحدى الدوريات، أو على الأقل «اغتصاب العالم بالكلمات» جملة دورينمات المشهورة، و"ترييف الأدب ونقل الأدب إلى الأرياف" و«تهديد الأمن اللغوي!»، إلى ذلك من شعارات توافقت عليها ثلة من الشباب المميزين والنافرين: عبد الله أبو هيف، إبراهيم الخليل، وفيق خنسة، صالح قراطي، فيصل حقي، خليل جاسم الحميدي، إبراهيم الجرادي، عبد الإله حمزاوي، فاروق ياسين، ولم يكن بعيداً عنا نبيل سليمان، الروائي والباحث المعروف جداً في ما بعد؛ من هؤلاء تشكلت جماعة «ثورة الحرف». وما أن انتظمت اجتماعاتنا وقراءاتنا المنفتحة على تجارب مماثلة في العراق ومصر (غاليري 1968)، (جماعة كركوك)، (مجلة شعر)، (مجلة مواقف)، وغيرها مما كنا نحصل عليه بصعوبةٍ بالغة، حتى استُدعي اثنان من الجماعة، ونالا ما نالاه! الأمر الذي جعلنا نُفكِّرُ جميعاً، في أمر «اصلاح العالم»!! وإثارة الحرائق في حشائش الأعراف، والنظام واللغة! لقد كنا قراءً فوق العادة، نمتلك مكتبات لا تشي بسر أحوالنا المادية، فيها كل متفرد أنّى صدر، هل أبالغ؟ أبداً؛ كان الأمر كذلك، للمشغولين بالخروج على السائد، لغةً، ومحمولاً، وطرائق تعبير.
دمشق 1969 – 1970
كانت دمشق تغلي كالحصى في مرجل مضغوط. وكانت رائحة حزيران الزنخة تستبد بالمكان، إلا أن ريحاً قادمة من رغبةٍ غامضة، كانت تُسرِّب شرارات التململ، وكان الشعر أحد أشكال هذه التجليات. وقد استمالت الريح الجديدة فرسان الساحة الشعريّة آنذاك، إذ نفر ممدوح عدوان ممن يألفون، وذهب علي الجندي إلى وحشته وسوء ظنه، وسخّر علي كنعان قوله على مطالب الإنسان في الحرية والعيش الكريم، وظلَّ محمد عمران في المنطقة العازلة. كان هناك في المسرح سعد الله ونوس، وفواز الساجر. وهبت على الفن التشكيلي روح شمالية مع بشار العيسى، ويوسف عبدلكي، وغيرهما؛ لقد كانت كثرة الشعراء باختلاف أساليبهم وبواعثهم، تُبَشِّر بروافد جديدة، وكان ثلاثة منهم، أصحاب «الصفير الخاص»، يحفرون مساربهم الخاصة في الشعر السوري: سليم بركات، ونزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد؛ (وبشكل أو بآخر رياض الصالح الحسين، ومنذر المصري، ودعد حداد، وعادل محمود، وغيرهم جاؤوا في ما بعد بقليل). وكنتُ شخصياً قد قدمت قصيدتي «الدخول في لغة التكوين»، وهي نصٌ يتداخل فيه المقطع التفعيلي مع النثري، مع الشعبي، مع النثر العادي، إلى جريدة «الثورة»، التي كان يرأس تحريرها المبدع الجميل محمود السيد، وقد طلب مني، أن أكتب شهادة، نعم شهادة، حول هذه القصيدة، التي حددت مسار كتابتي.
محطتان: لبنان – 1971 ، موسكو – 1978
هناك محطتان مهمتان للغاية، لا يستوفي المكان شروط الكتابة عنهما، ولا يعطيهما حقهما في توسيع دائرة الخروج على البعيد والمأمول: في لبنان، قضيت أقل من عام، متطوعاً مُسلحاً في «الحرس الشعبي»، بين «قبريخا» و«العرقوب»، وأتاحَ لي ذلك أن أكون قريباً من التحولات التي قادها اليسار اللبناني، في السياسة والأدب، وراقبت نهوض ثلة جديدة في الشعر: محمد علي شمس الدين، وحسن عبد الله، وإلياس لحود، وبول شاوول، وغيرهم. وفي الوقت ذاته، حصلتُ على أعداد مجلة «شعر» و «أدب» و«مواقف»، ومؤلفات أدونيس، وأنسي الحاج، وعصام محفوظ، وكتب صادق جلال العظم. أما المحطة الثانية، فكانت موسكو السبعينات، حيث كنت شاهداً على الأماسي الشعرية التي تُقامُ في الملاعب، ويحضرها أكثر من خمسين ألفاً، ليستمعوا إلى الموجة الجديدة في الشعر السوفياتي التي كان من أبرز ممثليها: أندريه فوزنيزنسكي، يفغيني يفتوشنكو، وبيلا أحمدولينا. إنها واحدة من أخصب الفترات الشعرية، تلك التي تَصَدّرَ فيها الشعر السوفياتي الجديد، حركة الشعر العالمي، كما رأى الأميركي روبرت لويل، والفرنسي أراغون.
على أرضيّة الاحتكاك بهذه البواعث وأشكالها، والتنظير لشعر آخر غير الذي «ارتاح في فِرائه الإيديولوجي»، تحركت النصوص في «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» و«رجل يستحم بامرأة»، حيث تداخلت الأشكال، واستعان النص المكتوب بالمرئي: الصورة والإعلان، والتوزيع الطباعي، لتكف اللغة عن كونها أداة النص الوحيدة، ولتتساند أشكال التعبير، في نص يستهدف العين، والأذن والحواس!!
هل قلت شيئاً عن كتابيَّ «أجزاء إبراهيم الجرادي المُبعثرة» و«رجل يستحم بامرأة»، وهما، كما قلت في الأصل، كتاب واحد؟ أظن ذلك!! إذ أن لا شيء يولد من نفسه، ولا شيء يقوم لنفسه، والكتابة في الأصل، سعيٌ، لأن يكون الوجود أقل وطأة، وربما يكون أفضل.
*من تصدير «عويل الحواس». ريبورتاجات شعريّة (1985).
«... أعيشُ مع امرأةٍ باهظةْ!/ أبيع حوائجها الداخلية سراً وأحيا!/ لماذا بعثتَ ببعضٍ من التركة السابقةْ
جراحي وخوفَ المخافر/ وشاشَ الهموم وقمصاني المُستعارةْ/ نعمْ .. تضيعُ الرسائلُ والشِعرُ والحبُّ بين البريد وبين المباحث/ أجيءُ أنا..؟ (أأنتَ انهبلتْ !)/ أنا أفقد البعضَ مني/ تعلمتُ كيفَ أُكذِّبُ صوتَ المغني وصوتَ الزعيمِ/ بمعهد علمِ الظنونِ الخبيثةْ».
*من مجموعة «رجل يستحمُّ بامرأة». قصائد تشكيلية (1982).
أهذه مداخل، أم «عتبات»، كما يُحِبُّ النقد الحداثي التابع أن يوصف العنونة؟ مفاتيح صغيرة لفتح الرّتاجات الكبيرة المغلقة في مدن الخبز اليابس؟ ليكن.. عليَّ، إذن، أن أستعيدَ خمسين عاماً، في مبتسرٍ ضيقٍ، كالضائقة التي تعيشها، صنعاء، حيث أعيش الآن، وأن أكتب أنا السوري – بالصفة هذه لا سواها – عن الشعر. وعليَّ أن أعود لأصُفَّ الوقائع والأسماء والأماكن في طابور الذاكرة، وأتوقف معها قليلاً مع كتابي الشعري الأول، بل مع كتابيَّ الأوليين: («أجزاء إبراهيم الجرادي المُبعثرة» (1981) و«رجلٌ يستحمُّ بامرأة" (1982). لأنهما في الأصل، سياميان – كتابٌ واحد – فصلت ما بينهما أعباء الطباعة، الشخصية، إذ أن المهابة الشعرية، (وربما الأخلاقية !)، في المؤسسات الوطنية الرسمية لا تحتمل كلماتٍ وجملاً مثل: «العادة السريّة»، «قمرُ السرّة انشق عن نجمةٍ ضيّعت ولفها»، «الوطن المهزوم»، أو «فخذان يرتفعانِ، هناك، تماماً، كما العلم الوطنيّ» أو «أيها الوطن المُرتخي مثل أعضائهم !» أو «نبول دماً ونستحمُّ بالأسيد ! ويريدوننا أن نهدأ! يا لهم من كلاب !» أو «هل هو وطنٌ أم ملجأ؟ مشفى أو مبغى؟ حشدٌ أم شعب؟». تباً! لقد كان كُلّ شيء، يشير بلا لبس، إلى ما ستؤول إليه الأمور، وإلى ما ستصل إليه في هذا البلد الطيّب، الذي نحبه كما يحب عيال الله ذويهم وبلدانهم، فلماذا امتدَّ السبات، حتى أيقظ النائمين الدم؟ يا إلهي!
«أجزاء إبراهيم الجرادي المُبعثرة» و«رجلٌ يستحمُّ بامرأة "، هما في الأصل، سياميان – كتابٌ واحد – فصلت ما بينهما أعباء الطباعة الشخصية، والمهابة "الأخلاقية"
لقد قلتُ، سابقاً، أنني ولدتُ في بيئةٍ لا تقرأ (قرية بندر خان)، والذين يقرأون فيها – ونادراً ما يفعلون – يقرأون، على ما أذكر، أرسين لوبين، أجاثا كريستي، وإحسان عبد القدوس، وكتب المذكرات والأسرار أو الفضائح السياسية...
لقد كان كل أبناء بيئتي يتصفون بهذه السمة، ما عدا شخص واحد: شابٌ وسيمٌ، طويل القامة، كان يجلس في ظِلِّ البيت الطيني، تنتثر حوله كتب عديدة، أغلبها في الشعر، ومنها في النثر، كما أذكر، «شجرة اللبلاب» لمحمد عبد الحليم عبد الله، و«الأجنحة المُتكسرة» لجبران خليل جبران، وغيرها... وكان ينقل إلى دفتر ذي غلافٍ كرتوني مُطرز بخطوط خضراء، بخطه الجميل ذي الخصوصيّة «مختارات» مما أمامه من كتب الشعر تحديداً، وكنتُ مشدوداً لخطه الجميل، الذي قادني تقليده المُتكرر، لحفظ أشعار للخنساء وامرئ القيس، وجرير، وطرفة بن العبد، والحطيئة، ومن المُعاصرين، عمر أبو ريشة، ونزار قباني وغيرهم. من هُناك، بدأ الدرب إلى «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» و«رجل يستحمُّ بامرأة».
الرقة 1968
وعلى أثر مأساةٍ عائلية، ألقت بظلها عليَّ وعلى أهلي وناسي كانت «الهجرة الأولى»، إلى قرية المشلب قرب الرّقة، حيث الناس، أو بعضهم، يقرأون الكتب والمجلات بانتظام، ولدى الكثيرين منهم مكتبات. هناك قرأت نزار قباني كاملاً، وهارولد لاسكي، وبدأت تتسلل إليَّ من جاري الخلوق، ذي النزعة اليسارية، مؤلفات شوقي بغدادي (أكثر من قلب واحد)، وسعيد حورانية (سنتان وتحترق الغابة وشتاء قاس آخر)، وفي ثناياها جريدة «نضال الشعب»؛ وفي الرقة المدينة، التي انتقلتُ إليها سكناً، كانت جماعة «ثورة الحرف»، التي لم يكن يقبل أعضاؤها بأقل من "تحطيم العالم القديم"، جملة الشاعر الروسي الكسندر بلوك التي تسللت إلينا من مقال مُترجم في إحدى الدوريات، أو على الأقل «اغتصاب العالم بالكلمات» جملة دورينمات المشهورة، و"ترييف الأدب ونقل الأدب إلى الأرياف" و«تهديد الأمن اللغوي!»، إلى ذلك من شعارات توافقت عليها ثلة من الشباب المميزين والنافرين: عبد الله أبو هيف، إبراهيم الخليل، وفيق خنسة، صالح قراطي، فيصل حقي، خليل جاسم الحميدي، إبراهيم الجرادي، عبد الإله حمزاوي، فاروق ياسين، ولم يكن بعيداً عنا نبيل سليمان، الروائي والباحث المعروف جداً في ما بعد؛ من هؤلاء تشكلت جماعة «ثورة الحرف». وما أن انتظمت اجتماعاتنا وقراءاتنا المنفتحة على تجارب مماثلة في العراق ومصر (غاليري 1968)، (جماعة كركوك)، (مجلة شعر)، (مجلة مواقف)، وغيرها مما كنا نحصل عليه بصعوبةٍ بالغة، حتى استُدعي اثنان من الجماعة، ونالا ما نالاه! الأمر الذي جعلنا نُفكِّرُ جميعاً، في أمر «اصلاح العالم»!! وإثارة الحرائق في حشائش الأعراف، والنظام واللغة! لقد كنا قراءً فوق العادة، نمتلك مكتبات لا تشي بسر أحوالنا المادية، فيها كل متفرد أنّى صدر، هل أبالغ؟ أبداً؛ كان الأمر كذلك، للمشغولين بالخروج على السائد، لغةً، ومحمولاً، وطرائق تعبير.
دمشق 1969 – 1970
كانت دمشق تغلي كالحصى في مرجل مضغوط. وكانت رائحة حزيران الزنخة تستبد بالمكان، إلا أن ريحاً قادمة من رغبةٍ غامضة، كانت تُسرِّب شرارات التململ، وكان الشعر أحد أشكال هذه التجليات. وقد استمالت الريح الجديدة فرسان الساحة الشعريّة آنذاك، إذ نفر ممدوح عدوان ممن يألفون، وذهب علي الجندي إلى وحشته وسوء ظنه، وسخّر علي كنعان قوله على مطالب الإنسان في الحرية والعيش الكريم، وظلَّ محمد عمران في المنطقة العازلة. كان هناك في المسرح سعد الله ونوس، وفواز الساجر. وهبت على الفن التشكيلي روح شمالية مع بشار العيسى، ويوسف عبدلكي، وغيرهما؛ لقد كانت كثرة الشعراء باختلاف أساليبهم وبواعثهم، تُبَشِّر بروافد جديدة، وكان ثلاثة منهم، أصحاب «الصفير الخاص»، يحفرون مساربهم الخاصة في الشعر السوري: سليم بركات، ونزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد؛ (وبشكل أو بآخر رياض الصالح الحسين، ومنذر المصري، ودعد حداد، وعادل محمود، وغيرهم جاؤوا في ما بعد بقليل). وكنتُ شخصياً قد قدمت قصيدتي «الدخول في لغة التكوين»، وهي نصٌ يتداخل فيه المقطع التفعيلي مع النثري، مع الشعبي، مع النثر العادي، إلى جريدة «الثورة»، التي كان يرأس تحريرها المبدع الجميل محمود السيد، وقد طلب مني، أن أكتب شهادة، نعم شهادة، حول هذه القصيدة، التي حددت مسار كتابتي.
محطتان: لبنان – 1971 ، موسكو – 1978
هناك محطتان مهمتان للغاية، لا يستوفي المكان شروط الكتابة عنهما، ولا يعطيهما حقهما في توسيع دائرة الخروج على البعيد والمأمول: في لبنان، قضيت أقل من عام، متطوعاً مُسلحاً في «الحرس الشعبي»، بين «قبريخا» و«العرقوب»، وأتاحَ لي ذلك أن أكون قريباً من التحولات التي قادها اليسار اللبناني، في السياسة والأدب، وراقبت نهوض ثلة جديدة في الشعر: محمد علي شمس الدين، وحسن عبد الله، وإلياس لحود، وبول شاوول، وغيرهم. وفي الوقت ذاته، حصلتُ على أعداد مجلة «شعر» و «أدب» و«مواقف»، ومؤلفات أدونيس، وأنسي الحاج، وعصام محفوظ، وكتب صادق جلال العظم. أما المحطة الثانية، فكانت موسكو السبعينات، حيث كنت شاهداً على الأماسي الشعرية التي تُقامُ في الملاعب، ويحضرها أكثر من خمسين ألفاً، ليستمعوا إلى الموجة الجديدة في الشعر السوفياتي التي كان من أبرز ممثليها: أندريه فوزنيزنسكي، يفغيني يفتوشنكو، وبيلا أحمدولينا. إنها واحدة من أخصب الفترات الشعرية، تلك التي تَصَدّرَ فيها الشعر السوفياتي الجديد، حركة الشعر العالمي، كما رأى الأميركي روبرت لويل، والفرنسي أراغون.
على أرضيّة الاحتكاك بهذه البواعث وأشكالها، والتنظير لشعر آخر غير الذي «ارتاح في فِرائه الإيديولوجي»، تحركت النصوص في «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» و«رجل يستحم بامرأة»، حيث تداخلت الأشكال، واستعان النص المكتوب بالمرئي: الصورة والإعلان، والتوزيع الطباعي، لتكف اللغة عن كونها أداة النص الوحيدة، ولتتساند أشكال التعبير، في نص يستهدف العين، والأذن والحواس!!
هل قلت شيئاً عن كتابيَّ «أجزاء إبراهيم الجرادي المُبعثرة» و«رجل يستحم بامرأة»، وهما، كما قلت في الأصل، كتاب واحد؟ أظن ذلك!! إذ أن لا شيء يولد من نفسه، ولا شيء يقوم لنفسه، والكتابة في الأصل، سعيٌ، لأن يكون الوجود أقل وطأة، وربما يكون أفضل.