كان سردابًا عتيقًا ذلك الذي دلفنا إليه، ونحن عائدين أنا وصديقي أنس، زميل مقعد الدراسة وجاري. كنّا ضجرين من الدروس التي لا تنتهي، فذهبنا إلى الجبل القريب من المنزل، أنس يحمل كتابًا في يديه، كان يخربش فيه طوال الدوام مدّعيًا أنّه يدوّن ملاحظات الأستاذ التي ستأتي بلا شكٍّ في الامتحان النهائي.
خلعنا حقيبتينا الممتلئتين بالحجارة ورميناهما على الأرض. قفزنا على الصخور حيث تحفر نباتات، وحيث وجدنا آثار ماشيّةٍ. كنّا نحاول التوازن إذ نتأرجح على الحافّة، نقع فيخزنا الشّوك، ثمّ نعاود التأرجح من جديد. حتى وجد أنس حين وقع للمرّة الثالثة درج سردابٍ عتيق، كان أنس شجاعًا للغاية، لم يكن يخشى أيّ نوعٍ من الحيوانات، ولا التحدّث أمام الأساتذة بكلّ جرأة، فاقترح عليّ النزول.
أرعبتني الفكرة، لكنّي لم أشأ أن أبدو جبانًا، وأردت أن أُثبِت لأنس أنّه ليس وحده الرجل هنا!
مشينا في السرداب، وحين ابتعدنا عن الباب خفّ ضوء الشّمس النّازل درجات السلّم، وحين كادت الرؤيا أن تنطفئ نهائيًا، شاهدنا قبسًا يأتي من عمق الطريق فتبعناه.
كنت أتعكّز على أنس، إذ أنّ الخفاش الذي هبّ كنار الغاز في وجهينا طيّر معه بقايا الشجاعة التي كنت أدّعيها... وحين وصلنا مصدر الضوء، شاهدناها محفورةً في الجدار، كانت مكتبةً هائلةً بدا كأنّ كلّ كتب العالم قد حُشرت بها، كانت تشبه من بعيدٍ صورةً فضائيةً للأرض، ما أن تقترب منها حتى تتسع فتشاهد رفوفّا لم تنتبه لها.
كانت المكتبة مضيئةً، ورغم أننا شاهدنا مصباحًا مضاءً على مكتبٍ قديمٍ قرب المكتبة، ورغم أنّه كان مصدر الإنارة الوحيد، إلا أنّ الغرفة كانت تشعّ كأن لها شمسها الخاصة. كان خوفي قد ازداد، كأنّ كلّ نقطة ضوءٍ في طريقنا استعارت داخلي وجه طفلةً تحت القصف.
قلت لأنس: "انظر إلى المكتب، يبدو أنّ أحدهم كان هنا قبل دقائق وعلينا الهرب قبل أن يعود". لكنّ أنس لم يأبه لحديثي، كان مشدوهًا بالمكتبة، فلقد كان دودة كتبٍ كما تصفه أمي، وكم كانا يحاولان جعلي أشبهه، لكنّي لم أكن أحب قراءة الكتب، إذ أنّها كلما كبرنا ازدادت كلماتها وقلّت صورها.
أردت الهروب وحدي وترك أنس، لكنّي كنت خائفًا من العودة وحدي في الطريق المظلمة، قلت في نفسي لا بد أنّ الخفاش عاد ومعه كلّ أفراد أسرته كي ينتقم من ضرب أنس له بالكتاب، لذلك لم يتبق لي سوى الإلحاح علّه يُخرج أنس من سكرته!
كان هناك سلّمٌ يصل أعلى المكتبة، التي بدت أعلى من عمارتنا ذات الأربعة طوابق. تسلّق أنس السلّم غير آبه بتحذيراتي، وبينما كان يتصفح كتابًا، اختفى فجأةً وبدا كأنّ الكتاب ابتلعه!
لم أصدّق عينيّ، ظننت أنني لا بدّ أحلم، فقد اعتدت في الفترة الأخيرة كوابيس مشابهةً، وبينما كنت أحاول إيقاظ نفسي بقرصها أو بضربها، اصطدمت يداي بكتاب كان على الطاولة، أوقعته أرضًا وأخذت أُسلّي نفسي به لعلّ الكابوس ينتهي أسرع، وفي لحظةٍ وكأنما عبرت بوابةً ضوئيةً وجدتني في بيونس أيرس.
لم أكن أعرفها من قبل، ولم أسمع بالأرجنتين كلّها إلّا حين شبّهني معلم الرياضة عندما شاهد مهاراتي الكروية بمارادونا، لكنّ البلد بدا مألوفًا جدًا. تجولت في الأحياء القديمة، كانت السّيارات لا تشبه سيارات الطرقات في بلدي، كانت قديمة، وكان النّاس يرتدون معاطف سوداء، يعتمرون قبعاتٍ كبيرةٍ ويتعكزون عصيًّا. وقفت أمام باب عمارةٍ كأنني أزوره دائمًا إذ دخلت شقةً من الشقق الكثيرة.
كان بورخيس يجلس على مكتبه، كانت أمّه تُحضّر الشّاي. لم ينتبها لوجودي وتحيتي لهم، فأيقنت أنني شبحٌ عليه أن يستغلّ مزايا الشبح، فلا يستطيع المرء كلّ يومٍ أنّ يكون شبحًا!
كنت وقتها أعرف بورخيس جيدًا، كان يكتب على ورقةٍ مميزة اللون قصّة "الألف". أمامه على الطاولة يُلقي المصباح بعض النور على موسوعة لأعلام العرب، وحين مسكت الكتاب وقع نظري على مقتطفٍ لابن عربي، وكما حدث في المرة الأولى، ابتلعتني بوابةٌ نجميةٌ.
وجدتني في دمشق القديمة، كانت المكتبات في كلّ مكان، كانت مئذنة الجامع الأمويّ تطاردني فأراها أينما ذهبت، كانت السيوف الدمشقية تبارز الكمال فلا تُبقي منه شيئًا إلّا وتسرقه.
دخلت بيتًا قديمًا جرّني إليه حبلٌ سحري في رقبتي، حتى شاهدت الشيخ الأكبر، كان ابن عربي قد بلغ من الكبر عتيّا، لكن لحيته واهتزاز عينيه في ضوء المصباح كزورقين تهزّهما أشعة المنارة ذكّروني بالكتب التي تركتها ورائي في المكتبة الكبيرة. كان يكتب عن لقائه بابن رشد، حين سأله قاضي قرطبة عن مطابقة الفيض للنظر، فأجاب الفتى ابن عربي: "نعم" ثم أتبعها بـ"لا".
وهكذا انتقلت إلى قرطبة، كان ابن رشد قد استلم قرار الحاكم بالنفي، كان الصباح الذي سيطلع بعد قليل آخر صباحٍ لديه في بيت كتبه. رأيته يشرح كتابًا لأرسطو، كان يعلم أنّ الزيت سيقلّ من الآن فصاعدًا، لذلك ساوت كلّ لحظة نورٍ ألف دينارٍ ذهبي.
وحين جاء الحرّاس، لم أكن قادرًا- أنا الذي شاركته الليلة الأخيرة وكتابة الشّرح- على رؤية الحزن في عيني معلمي. واسيته في سرّي "الجميع سيتذكر اسمك أيّها المعلم، ولولا اسمك المذهّب لما تذكر أحدٌ اسم الحاكم".
لذلك كان عليّ أن أهرب إلى أثينا، وهكذا كنت أعبر بوابةً إلى أُخرى، مررت بأشخاص كهرقليطس وفيثاغورس، زرت بلدانًا كبابل ومصر القديمة، حتى وصلت أقدم الأزمنة: كانت ساحة الحرب مشتعلةً بين الإنسان الذي نحن من سلالته، وابن عمنا المنقرض إنسان النياندرتال. كنت قد شاهدت رسومًا على الحائط في أحد الكهوف فألقت بي البوابة إلى هذه المعركة.
أجاد الإنسان العاقل صنع الأسلحة كما يليق بحامل السّر، أشبهت أسلحته الدّبابات أمام حجارة النياندرتال. سمعت قائدنا يحثُّ جنوده على القتال متحججًا أنّ موارد الأرض لا تكفي الاثنين، وعلينا أن لا نكون الجنس الذي سيموت من الجوع.
لم أستطع أن أشاهد بشاعة المجازر، هربت في الجبال حتى عثرت على كهفٍ فاختبأت من حيوانٍ كبيرٍ به، ثمّ سمعت أصواتًا لأشخاص عائدين. كانوا عائلةً من النياندرتال،
عادوا بصيدٍ لا يزيد عن حاجاتهم. خفت انتباههم إلى وجودي (وكان الخوف قد أنساني أنني شبحٌ) خفت أنّهم سيظنونني مقاتلًا في جند العرق المنتصر. لم أدر ماذا أفعل، ظننت نفسي عاريًا من شدّة الخوف، فالتقطت ورقة شجرٍ على الأرض كي أحتمي خلفها... أغمضت عينيّ وحين فتحتهما بعد مدةٍ، كنت هناك، في مكتبة السّرداب تحت الأرض. بدا أنّ قرونًا قد مضت، شعرت بأنّي شيخٌ عجوزٌ، لكنّي فوجئت حين نظرت إلى مرآةٍ معلقةٍ على الحائط أنني لا أزال فتًى.
حين عدت إلى المنزل رويت لهم القصة كاملةً، لم يصدقني أحدٌ، ظلّ الجميع يسألني عن القصة الحقيقية وعن اختفاء أنس، كانت أمّه تصرخ بي" أين ذهبت بطفلي؟". عرضتني الشّرطة على طبيبٍ نفسيٍّ كي يتأكّدوا أنني لم أرتكب أيّة جريمة، فأخبرهم الطبيب ببراءتي وبأنّ قصة المكتبة تكونت لديّ من حبّي لصديقي أنس، فلا بد أنّ حادثًا أليمًا وقع معنا، وأنّ ذاكرتي محت كلّ الذكريات وربطت آخر ذكرى لي عن أنس قبل الحادثة وهي ذكرى الكتاب.
منعتني أمي من قراءة الكتب، كان تواجد أيّ كتاب في البيت جريمةً لا تغتفر تشبه جريمة تهريب مجلات إباحيّةٍ، كانت دروسي تُطبع على أوراق منفصلةٍ، وظلّت أمّي حتى وفاتها في صفّي العاشر تدرّسني دروسي.
كان عليّ أن أعود إلى الكتب، رغم الهالة السّوداء التي أحاطت بالكتاب في داخلي. عدت أقرأ الكتب التي شاهدتها في رحلتي في المكتبة، وعادت ذكرياتي إليّ بعد أن كذّبتها ومحتها جلسات العلاج النفسيّ.
صرت أفكر بالأمر كلّ يومٍ كأنّه حصل قبل قليلٍ، كان أنس يزورني كلّ ليلةٍ في منامي، وأراه كل مرةٍ في بلدٍ جديدٍ.
كان عليّ كي أشفى من ألمي، أن أُعيد كتابة كلّ شيءٍ، كان عليّ أن أُواجه الماضي، أن أفرشه كسجادةٍ أمامي أتفحص كلّ خيطٍ بها. وهكذا واظبت لأشهرٍ على كتابة رحلتنا إلى المكتبة أنا وأنس، ورحلتي الشخصيّة.
وحين أنتهيت من كتابة الكتاب، وفي اللحظة التي وضعت القلم بها على الطاولة، خرج من الكتاب صديقي أنس. كان في مثل عمره حين شاهدته آخر مرة، عرفته فورًا، إذ كان طيفه يزورني دائمًا في منامي، كان يمسك الكتاب الذي خربش به وقت المدرسة، مدّه إليّ... قرأناه معًا كأننا نستعيد كنزًا سُرق منّا.
وهكذا في لحظة انخطافٍ عدنا إلى الطريق الجبلي بحقيبتيّ الحجارة على أكتافنا، حيث وجدنا سرداب المكتبة السّريّة.
* شاعر وقاص من القدس المحتلّة. طالب في جامعة بيرزيت.
خلعنا حقيبتينا الممتلئتين بالحجارة ورميناهما على الأرض. قفزنا على الصخور حيث تحفر نباتات، وحيث وجدنا آثار ماشيّةٍ. كنّا نحاول التوازن إذ نتأرجح على الحافّة، نقع فيخزنا الشّوك، ثمّ نعاود التأرجح من جديد. حتى وجد أنس حين وقع للمرّة الثالثة درج سردابٍ عتيق، كان أنس شجاعًا للغاية، لم يكن يخشى أيّ نوعٍ من الحيوانات، ولا التحدّث أمام الأساتذة بكلّ جرأة، فاقترح عليّ النزول.
أرعبتني الفكرة، لكنّي لم أشأ أن أبدو جبانًا، وأردت أن أُثبِت لأنس أنّه ليس وحده الرجل هنا!
مشينا في السرداب، وحين ابتعدنا عن الباب خفّ ضوء الشّمس النّازل درجات السلّم، وحين كادت الرؤيا أن تنطفئ نهائيًا، شاهدنا قبسًا يأتي من عمق الطريق فتبعناه.
كنت أتعكّز على أنس، إذ أنّ الخفاش الذي هبّ كنار الغاز في وجهينا طيّر معه بقايا الشجاعة التي كنت أدّعيها... وحين وصلنا مصدر الضوء، شاهدناها محفورةً في الجدار، كانت مكتبةً هائلةً بدا كأنّ كلّ كتب العالم قد حُشرت بها، كانت تشبه من بعيدٍ صورةً فضائيةً للأرض، ما أن تقترب منها حتى تتسع فتشاهد رفوفّا لم تنتبه لها.
كانت المكتبة مضيئةً، ورغم أننا شاهدنا مصباحًا مضاءً على مكتبٍ قديمٍ قرب المكتبة، ورغم أنّه كان مصدر الإنارة الوحيد، إلا أنّ الغرفة كانت تشعّ كأن لها شمسها الخاصة. كان خوفي قد ازداد، كأنّ كلّ نقطة ضوءٍ في طريقنا استعارت داخلي وجه طفلةً تحت القصف.
قلت لأنس: "انظر إلى المكتب، يبدو أنّ أحدهم كان هنا قبل دقائق وعلينا الهرب قبل أن يعود". لكنّ أنس لم يأبه لحديثي، كان مشدوهًا بالمكتبة، فلقد كان دودة كتبٍ كما تصفه أمي، وكم كانا يحاولان جعلي أشبهه، لكنّي لم أكن أحب قراءة الكتب، إذ أنّها كلما كبرنا ازدادت كلماتها وقلّت صورها.
أردت الهروب وحدي وترك أنس، لكنّي كنت خائفًا من العودة وحدي في الطريق المظلمة، قلت في نفسي لا بد أنّ الخفاش عاد ومعه كلّ أفراد أسرته كي ينتقم من ضرب أنس له بالكتاب، لذلك لم يتبق لي سوى الإلحاح علّه يُخرج أنس من سكرته!
كان هناك سلّمٌ يصل أعلى المكتبة، التي بدت أعلى من عمارتنا ذات الأربعة طوابق. تسلّق أنس السلّم غير آبه بتحذيراتي، وبينما كان يتصفح كتابًا، اختفى فجأةً وبدا كأنّ الكتاب ابتلعه!
لم أصدّق عينيّ، ظننت أنني لا بدّ أحلم، فقد اعتدت في الفترة الأخيرة كوابيس مشابهةً، وبينما كنت أحاول إيقاظ نفسي بقرصها أو بضربها، اصطدمت يداي بكتاب كان على الطاولة، أوقعته أرضًا وأخذت أُسلّي نفسي به لعلّ الكابوس ينتهي أسرع، وفي لحظةٍ وكأنما عبرت بوابةً ضوئيةً وجدتني في بيونس أيرس.
لم أكن أعرفها من قبل، ولم أسمع بالأرجنتين كلّها إلّا حين شبّهني معلم الرياضة عندما شاهد مهاراتي الكروية بمارادونا، لكنّ البلد بدا مألوفًا جدًا. تجولت في الأحياء القديمة، كانت السّيارات لا تشبه سيارات الطرقات في بلدي، كانت قديمة، وكان النّاس يرتدون معاطف سوداء، يعتمرون قبعاتٍ كبيرةٍ ويتعكزون عصيًّا. وقفت أمام باب عمارةٍ كأنني أزوره دائمًا إذ دخلت شقةً من الشقق الكثيرة.
كان بورخيس يجلس على مكتبه، كانت أمّه تُحضّر الشّاي. لم ينتبها لوجودي وتحيتي لهم، فأيقنت أنني شبحٌ عليه أن يستغلّ مزايا الشبح، فلا يستطيع المرء كلّ يومٍ أنّ يكون شبحًا!
كنت وقتها أعرف بورخيس جيدًا، كان يكتب على ورقةٍ مميزة اللون قصّة "الألف". أمامه على الطاولة يُلقي المصباح بعض النور على موسوعة لأعلام العرب، وحين مسكت الكتاب وقع نظري على مقتطفٍ لابن عربي، وكما حدث في المرة الأولى، ابتلعتني بوابةٌ نجميةٌ.
وجدتني في دمشق القديمة، كانت المكتبات في كلّ مكان، كانت مئذنة الجامع الأمويّ تطاردني فأراها أينما ذهبت، كانت السيوف الدمشقية تبارز الكمال فلا تُبقي منه شيئًا إلّا وتسرقه.
دخلت بيتًا قديمًا جرّني إليه حبلٌ سحري في رقبتي، حتى شاهدت الشيخ الأكبر، كان ابن عربي قد بلغ من الكبر عتيّا، لكن لحيته واهتزاز عينيه في ضوء المصباح كزورقين تهزّهما أشعة المنارة ذكّروني بالكتب التي تركتها ورائي في المكتبة الكبيرة. كان يكتب عن لقائه بابن رشد، حين سأله قاضي قرطبة عن مطابقة الفيض للنظر، فأجاب الفتى ابن عربي: "نعم" ثم أتبعها بـ"لا".
وهكذا انتقلت إلى قرطبة، كان ابن رشد قد استلم قرار الحاكم بالنفي، كان الصباح الذي سيطلع بعد قليل آخر صباحٍ لديه في بيت كتبه. رأيته يشرح كتابًا لأرسطو، كان يعلم أنّ الزيت سيقلّ من الآن فصاعدًا، لذلك ساوت كلّ لحظة نورٍ ألف دينارٍ ذهبي.
وحين جاء الحرّاس، لم أكن قادرًا- أنا الذي شاركته الليلة الأخيرة وكتابة الشّرح- على رؤية الحزن في عيني معلمي. واسيته في سرّي "الجميع سيتذكر اسمك أيّها المعلم، ولولا اسمك المذهّب لما تذكر أحدٌ اسم الحاكم".
لذلك كان عليّ أن أهرب إلى أثينا، وهكذا كنت أعبر بوابةً إلى أُخرى، مررت بأشخاص كهرقليطس وفيثاغورس، زرت بلدانًا كبابل ومصر القديمة، حتى وصلت أقدم الأزمنة: كانت ساحة الحرب مشتعلةً بين الإنسان الذي نحن من سلالته، وابن عمنا المنقرض إنسان النياندرتال. كنت قد شاهدت رسومًا على الحائط في أحد الكهوف فألقت بي البوابة إلى هذه المعركة.
أجاد الإنسان العاقل صنع الأسلحة كما يليق بحامل السّر، أشبهت أسلحته الدّبابات أمام حجارة النياندرتال. سمعت قائدنا يحثُّ جنوده على القتال متحججًا أنّ موارد الأرض لا تكفي الاثنين، وعلينا أن لا نكون الجنس الذي سيموت من الجوع.
لم أستطع أن أشاهد بشاعة المجازر، هربت في الجبال حتى عثرت على كهفٍ فاختبأت من حيوانٍ كبيرٍ به، ثمّ سمعت أصواتًا لأشخاص عائدين. كانوا عائلةً من النياندرتال،
عادوا بصيدٍ لا يزيد عن حاجاتهم. خفت انتباههم إلى وجودي (وكان الخوف قد أنساني أنني شبحٌ) خفت أنّهم سيظنونني مقاتلًا في جند العرق المنتصر. لم أدر ماذا أفعل، ظننت نفسي عاريًا من شدّة الخوف، فالتقطت ورقة شجرٍ على الأرض كي أحتمي خلفها... أغمضت عينيّ وحين فتحتهما بعد مدةٍ، كنت هناك، في مكتبة السّرداب تحت الأرض. بدا أنّ قرونًا قد مضت، شعرت بأنّي شيخٌ عجوزٌ، لكنّي فوجئت حين نظرت إلى مرآةٍ معلقةٍ على الحائط أنني لا أزال فتًى.
حين عدت إلى المنزل رويت لهم القصة كاملةً، لم يصدقني أحدٌ، ظلّ الجميع يسألني عن القصة الحقيقية وعن اختفاء أنس، كانت أمّه تصرخ بي" أين ذهبت بطفلي؟". عرضتني الشّرطة على طبيبٍ نفسيٍّ كي يتأكّدوا أنني لم أرتكب أيّة جريمة، فأخبرهم الطبيب ببراءتي وبأنّ قصة المكتبة تكونت لديّ من حبّي لصديقي أنس، فلا بد أنّ حادثًا أليمًا وقع معنا، وأنّ ذاكرتي محت كلّ الذكريات وربطت آخر ذكرى لي عن أنس قبل الحادثة وهي ذكرى الكتاب.
منعتني أمي من قراءة الكتب، كان تواجد أيّ كتاب في البيت جريمةً لا تغتفر تشبه جريمة تهريب مجلات إباحيّةٍ، كانت دروسي تُطبع على أوراق منفصلةٍ، وظلّت أمّي حتى وفاتها في صفّي العاشر تدرّسني دروسي.
كان عليّ أن أعود إلى الكتب، رغم الهالة السّوداء التي أحاطت بالكتاب في داخلي. عدت أقرأ الكتب التي شاهدتها في رحلتي في المكتبة، وعادت ذكرياتي إليّ بعد أن كذّبتها ومحتها جلسات العلاج النفسيّ.
صرت أفكر بالأمر كلّ يومٍ كأنّه حصل قبل قليلٍ، كان أنس يزورني كلّ ليلةٍ في منامي، وأراه كل مرةٍ في بلدٍ جديدٍ.
كان عليّ كي أشفى من ألمي، أن أُعيد كتابة كلّ شيءٍ، كان عليّ أن أُواجه الماضي، أن أفرشه كسجادةٍ أمامي أتفحص كلّ خيطٍ بها. وهكذا واظبت لأشهرٍ على كتابة رحلتنا إلى المكتبة أنا وأنس، ورحلتي الشخصيّة.
وحين أنتهيت من كتابة الكتاب، وفي اللحظة التي وضعت القلم بها على الطاولة، خرج من الكتاب صديقي أنس. كان في مثل عمره حين شاهدته آخر مرة، عرفته فورًا، إذ كان طيفه يزورني دائمًا في منامي، كان يمسك الكتاب الذي خربش به وقت المدرسة، مدّه إليّ... قرأناه معًا كأننا نستعيد كنزًا سُرق منّا.
وهكذا في لحظة انخطافٍ عدنا إلى الطريق الجبلي بحقيبتيّ الحجارة على أكتافنا، حيث وجدنا سرداب المكتبة السّريّة.
* شاعر وقاص من القدس المحتلّة. طالب في جامعة بيرزيت.