هذه شهادة ودراسة عن الحجاب لكاتب ومفكر كبير تهمه قضية المرأة , وعمل من أجل تحريرها من كل أشكال الاستغلال والتلاعب , هو المفكر الجليل ( هادي العلوي ) أحببنا أن نضعها بين أيدي القراء وذلك لأهميتها بمناسبة يوم المرأة العالمي علها تضيء بعد الجوانب , وترفع الغطاء عن الأكاذيب التي افتعلها أصحاب الفكر الظلامي من أعداء المرأة وكرّاه الحياة وهي من كتاب ( من قاموس التراث ) .
(كانت المرأة في الجاهلية تستر شعرها بالخمار ( خاء مكسورة ) وتدليه على كتفيها أو ظهرها , ويبقى وجهها وصدرها مكشوفين , وكانت تتزين بالحلي من الذهب أو الفضة وغيرها . وليس لدينا ما يدل على أنها كانت تلبس ثياباً قصيرة يظهر منها أعلى الساق أو أعلى الذراع . والزي المشترك لنساء الشرق القديم يكون طويلاً وفضفاضا ً في المعتاد , لكن الأقدام وشيئاً من الساعد كانت تظهر عاطلة أو محلاة , وقد استمرت المرأة على هذا الزي بعد الإسلام حتى السنوات المبكرة من الهجرة إلى المدينة . ثم جاء الأمر بالحجاب .
والحجاب فرض بآيتين . الأولى هي الآية /31 نور : (( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها . وليضربن بخُمرهن على جيوبهن … )) .
في هذه الآية أمر بستر الصدر يؤديه قوله : وليضربن بخمرهن ( جمع خمار ) على جيوبهن . والجيب بحسب اللغة القديمة هو الزيق الذي ينكشف منه الصدر . والمقصود هو إسداد الخمار الذي يغطي الشعر على الصدر حتى يغطيه . أما الاستثناء الذي نصت عليه الآية بقولها : (( إلا ما ظهر منها )) فلم يتضمن تعييناً للأجزاء التي يسمح بكشفها . لكن الفقهاء والمفسرين حصروها في الوجه والكفين والقدمين . وهو على أي حال منطوق عام يمكن أن يشمل ما جرت العادة أو ما اقتضت الضرورات بكشفه . ويتعلق الاستثناء أيضاً بما يسمح بإظهاره من الزينة . والزينة مفهوم غير مقيد إذ يدخل في عدادها الحلى والزواقة ( المكياج ) .والحلي كانت في الغالب الأساور والقلائد . والخلاخيل والخواتم . أما الزواقة فما يزين به الوجه , والستر لا يختص بالحلى وإنما بمواضعها . ويمكن للقلادة أن تدلى فوق الثياب الساترة للصدر لكن الأساور والخلاخيل والخواتم إنما تلبس فوق الأجزاء العارية , وفي غزلية مشهورة لخالد بن يزيد في رملة بنت الزبير تحدث عن مشي النساء بخلاخيلهن وأنه تطلع إلهن عسى أن يرى حبيبته بخلخالها أو قلادتها . ولا يشمل الستر زينة الوجه. وأورد الغزالي في (( إحياء علوم الدين )) مأثورة يقول أن أحب طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه وأحب طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه .
الثانية الآية 59 / أحزاب ونصها : (( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين .. )) . ويتفق المفسرون على أنها جاءت بعد حوادث تعرضت فيها النساء الحرائر لمضايقات الفتيان في المدينة . وكان هؤلاء يلاحقون الجواري ( الإماء ) لكن عدم التمايز بين الفئتين من النساء جعلهم يتحرشون بأية امرأة فاشتكت الحرائر إلى أهاليهن فجاءت الآية تأمرهن بحجاب إضافي يميزهن عن الإماء . وهو ما تصرح به الآية (( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين )) . وكانت وسيلة القرآن إلى ذلك هي (( إدناء الجلابيب )) . وبين المفسرين كما اللغويين خلاف حول معنى الجلباب . فقد فسروه بالخمار أو الملحفة أو القناع أو الثوب الذي يستر البدن من أعلاه إلى أسفله أو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها . واختار القرطبي في (( أحكام القرآن )) أنه الثوب الذي يستر كل البدن . ولاختياره شاهد في قول المتنبي عن البدويات (( حمر الحلى والمطايا والجلابيب )) لأنه أراد الملابس وليس مجرد الخمار أو الرداء . وهذا المعنى هو المعروف اليوم في صيغة (( جلابية )) وهي ثوب فضفاض طويل تلبسه المرأة آو الرجل في شتى البلدان العربية. على أن المفسرين والفقهاء أخذوا الآية على أنها أمر بستر الوجه كعلامة تميز الحرة عن الجارية . وبهذا التفسير تكون الآية 59/ أحزاب ناسخة للآية 31 / نور , غير أن التفاسير لم تنص على ذلك . وقد تابعت أقوال المفسرين فوجدتهم عند تفسير الآية الأولى يتحدثون عن كشف الوجه وحين يتناولون الآية الثانية يتحدثون عن ستره . دون أن يلتفتون إلى التعارض بين التفسيرين . وهذه مشكلة صعبة الحل منشأها تلك العبارة العائمة في الآية الثانية (( يدنين عليهن من جلابيبهن )) . لكن في الآية شيئاً واضحاً هو التعليل الذي أعطته للأمر بإدناء الجلابيب . وسنعود إليه بعد قليل . ونود أن نشير هنا إلى أن حجاب الوجه فرض على النساء في العصر العباسي / الأندلسي بقدر ما يخص الحرائر .
أما قبل ذلك , أي في القرنين الأول والثاني , فالروايات متضاربة .وقد أشارت بعض مصادر التفسير إلى أن نساء المدينة حجبن وجوههن بعد الآية 59 / أحزاب . وعلى هذه الرواية اعتمد المتشددون من الفقهاء في حجاب الوجه . لكن مصادر الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام والأوان الأموي تفيد أن النساء كن في الغالب مكشوفات الأوجه حتى في الطواف حول الكعبة . وهو ما صّير موسم الحج موسماً للحب جعل عمر بن أبي ربيعة يقول :
ليت ذا الحج كان حتماً علينا كل شهرين حجة واعتمارا.
ولابد على أي حال أن تكون الآية 59 / أحزاب قد أمرت بحجاب أضافي للحرائر لا نعرف طريقته بالضبط . وتقول التفاسير أن الإماء كنّ . شأن الجاهليات , يكتفين بالخمار للرأس والدرع للصدر , وهو ما أمرت الآية الأولى بإسدال الخمار عليه لتغطيته . والمتفق عليه أن الجواري غير مشمولات بحكم الحجاب . وتخبرنا مصادر التفسير أن عمر كان يتشدد في منعهن من التحجب كما تردنا رواية لأبن سعد أن عمر بن عبد العزيز أمر أن لا تلبس أمةّ خماراً ولا يتشبهن بالحرائر – أنظر ترجمته في (( الطبقات )) – ويفهم من هذا أن الجواري كن يتطوعن أحياناً للتحجب تشبهاً بالحرائر ( مما يحصل عادة لدى الفئات السفلى التي تنزع لتقليد الفئات العليا بتأثير وهم التحضر ) ( * ) . والعلة في تشدد العمْرين في هذا الشأن هي ضبط سلوك الحرائر وصيانتهن لأن الجواري كن منفلتات لعدم انتسابهن إلى عوائل . لكن هذا التمييز في الحجاب له جذور في الحضارات السامية الأقدم . فقد ألزم القانون الآشوري الحرائر بحجاب يشمل الرأس عند الخروج من بيوتهن ومنع الجواري من ذلك . ولا أعرف العلة في هذا الأمر وما إذا كان قد أريد به نفس الغاية التي توخاها المشرع السامر اللاحق .
كذلك يمكن الاستنتاج من حكم الآية 59 / أحزاب أن الحجاب لم يفرض للتحرز من فتنة النساء للرجال . فمصدر هذه الفتنة هو الجواري في المقام الأول لأنهن في الغالب أجمل من الحرائر وأكثر إثارة . أن هذا ما أدى بالمفسر الاندلسي أبو حيان صاحب (( البحر المحيط )) إلى مخالفة زملائه المفسرين والقول بعموم الحجاب للحرة والأمَة . وقال أن الفتنة بالإماء أكثر . لكن تفسير أبو حيان هو بمثابة اجتهاد في موضع النص , الذي أعطى تعليلاً صريحاً للحكم يحصره في تمييز الحرائر عن الجواري . وهو متعارض أيضاً مع تطبيقات الآية في صدر الإسلام . ولا شك أن الغرض لو كان منع الفتنة لكان الأمر بالتحجب عاماً , بل ولكان المطلوب من المشرع أن يتشدد في حجب الجواري ويتساهل في الحرائر .
أن الخوف من الفتنة هو الاعتبار الذي راعته الآية 31 / نور في نهيها عن إبداء الزينة – التبرج في اصطلاح القرآن – وأمرها بستر الشعر والصدر . وهذه الآية هي في الواقع آية الحجاب الأصلية وفيها تتعين حدوده غير المقيدة بوضع أو زمن لأنها صدرت عن التحسس ضد الإغراء لدى المشرع الإسلامي .
وقد استثنيت من قيود الآية فئة من النساء ذكرت في آية لاحقة من نفس السورة برقم 6. وهذا نصها : (( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فلا جُناح عليهن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن )) .
الجناح بالضم هو الإثم والحرج , وتميل التفاسير إلى أن اصطلاح القواعد من النساء يراد به المرأة في سن اليأس وما في حكمه مما يوقف حاجة المرأة إلى الرجل ولا يجعل حالها من جهة أخرى مثيراً لشهوته .والآية تنص على إعفاء هذه الفئة من النساء من القيود التي فرضتها عليهن الآية السابقة . وهو ما عليه المفسرون في جملتهم . ويستفاد من هذا الإعفاء أن الآية الأصلية مختصة بالنساء في سن محددة هي التي يكن فيها مستعدات أو قابلات للفعل الجنسي . بينما يستدل من الآية الأخيرة جواز خروج المرأة التي تعدت هذا الدور حاسرة سافرة .
لم يلتفت الفقهاء إلى موقوتية حكم الآية 59 / أحزاب أي كونه متوقفاً على وجود الجواري . كذلك لم يطبق حكم الآية 6. / نور فيما يخص النساء القواعد فعاشت المرأة المسلمة تحت الحجاب من صباها حتى شيخوختها . ويصطدم التعامل مع الأولى بعاملين : افتراض أبدية الأحكام الشرعية استناداً إلى حديث غير موثق يقول أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة , وكونه الخطاب الإلهي قد انطلق من قرار آخر هو الوجود الأبدي للرق . غير أننا نجد في تجاوز حكم الآية الأصلية للحجاب 31/ نور والآية 6. / نور مؤثرات أبعد من مجرد الوقوف عند أبدية النصوص . ويسعني أن أتلمس من بين هذه المؤثرات وفي مقدمتها عامل الدوغما الدينية التي تعززت كخط سائد في الاستذهان الديني للمسلمين . ومن الملحوظ هنا أن المجتمعات المؤدلجة تزداد انغلاقاً مع ترسخ سلطتها السياسية القائمة على العقيدة . ومن دون أن نهمل الخروقات التي يقوم بها الهراطقة تحت مؤثرات من نمط آخر فإن فعل الدوغما غالباً ما يتضخم في مثل هذه المجتمعات على حساب النص المقدس نفسه . وقد تم تجاوز توجيه عام للنبي محمد بعدم الغلو في الدين بفعل الدوغما . ويسبب ذلك إشكالات كبرى لإصلاح الديني تجعله متعذراً دون تدمير الأسس نفسها . وهو ما يصدق على مشكلة الحجاب في وضعها الراهن ).
1 – هادي العلوي – من قاموس التراث , الصادر عن دار الأهالي بدمشق 1988 .
* عن
www.alnaked-aliraqi.net
(كانت المرأة في الجاهلية تستر شعرها بالخمار ( خاء مكسورة ) وتدليه على كتفيها أو ظهرها , ويبقى وجهها وصدرها مكشوفين , وكانت تتزين بالحلي من الذهب أو الفضة وغيرها . وليس لدينا ما يدل على أنها كانت تلبس ثياباً قصيرة يظهر منها أعلى الساق أو أعلى الذراع . والزي المشترك لنساء الشرق القديم يكون طويلاً وفضفاضا ً في المعتاد , لكن الأقدام وشيئاً من الساعد كانت تظهر عاطلة أو محلاة , وقد استمرت المرأة على هذا الزي بعد الإسلام حتى السنوات المبكرة من الهجرة إلى المدينة . ثم جاء الأمر بالحجاب .
والحجاب فرض بآيتين . الأولى هي الآية /31 نور : (( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها . وليضربن بخُمرهن على جيوبهن … )) .
في هذه الآية أمر بستر الصدر يؤديه قوله : وليضربن بخمرهن ( جمع خمار ) على جيوبهن . والجيب بحسب اللغة القديمة هو الزيق الذي ينكشف منه الصدر . والمقصود هو إسداد الخمار الذي يغطي الشعر على الصدر حتى يغطيه . أما الاستثناء الذي نصت عليه الآية بقولها : (( إلا ما ظهر منها )) فلم يتضمن تعييناً للأجزاء التي يسمح بكشفها . لكن الفقهاء والمفسرين حصروها في الوجه والكفين والقدمين . وهو على أي حال منطوق عام يمكن أن يشمل ما جرت العادة أو ما اقتضت الضرورات بكشفه . ويتعلق الاستثناء أيضاً بما يسمح بإظهاره من الزينة . والزينة مفهوم غير مقيد إذ يدخل في عدادها الحلى والزواقة ( المكياج ) .والحلي كانت في الغالب الأساور والقلائد . والخلاخيل والخواتم . أما الزواقة فما يزين به الوجه , والستر لا يختص بالحلى وإنما بمواضعها . ويمكن للقلادة أن تدلى فوق الثياب الساترة للصدر لكن الأساور والخلاخيل والخواتم إنما تلبس فوق الأجزاء العارية , وفي غزلية مشهورة لخالد بن يزيد في رملة بنت الزبير تحدث عن مشي النساء بخلاخيلهن وأنه تطلع إلهن عسى أن يرى حبيبته بخلخالها أو قلادتها . ولا يشمل الستر زينة الوجه. وأورد الغزالي في (( إحياء علوم الدين )) مأثورة يقول أن أحب طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه وأحب طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه .
الثانية الآية 59 / أحزاب ونصها : (( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين .. )) . ويتفق المفسرون على أنها جاءت بعد حوادث تعرضت فيها النساء الحرائر لمضايقات الفتيان في المدينة . وكان هؤلاء يلاحقون الجواري ( الإماء ) لكن عدم التمايز بين الفئتين من النساء جعلهم يتحرشون بأية امرأة فاشتكت الحرائر إلى أهاليهن فجاءت الآية تأمرهن بحجاب إضافي يميزهن عن الإماء . وهو ما تصرح به الآية (( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين )) . وكانت وسيلة القرآن إلى ذلك هي (( إدناء الجلابيب )) . وبين المفسرين كما اللغويين خلاف حول معنى الجلباب . فقد فسروه بالخمار أو الملحفة أو القناع أو الثوب الذي يستر البدن من أعلاه إلى أسفله أو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها . واختار القرطبي في (( أحكام القرآن )) أنه الثوب الذي يستر كل البدن . ولاختياره شاهد في قول المتنبي عن البدويات (( حمر الحلى والمطايا والجلابيب )) لأنه أراد الملابس وليس مجرد الخمار أو الرداء . وهذا المعنى هو المعروف اليوم في صيغة (( جلابية )) وهي ثوب فضفاض طويل تلبسه المرأة آو الرجل في شتى البلدان العربية. على أن المفسرين والفقهاء أخذوا الآية على أنها أمر بستر الوجه كعلامة تميز الحرة عن الجارية . وبهذا التفسير تكون الآية 59/ أحزاب ناسخة للآية 31 / نور , غير أن التفاسير لم تنص على ذلك . وقد تابعت أقوال المفسرين فوجدتهم عند تفسير الآية الأولى يتحدثون عن كشف الوجه وحين يتناولون الآية الثانية يتحدثون عن ستره . دون أن يلتفتون إلى التعارض بين التفسيرين . وهذه مشكلة صعبة الحل منشأها تلك العبارة العائمة في الآية الثانية (( يدنين عليهن من جلابيبهن )) . لكن في الآية شيئاً واضحاً هو التعليل الذي أعطته للأمر بإدناء الجلابيب . وسنعود إليه بعد قليل . ونود أن نشير هنا إلى أن حجاب الوجه فرض على النساء في العصر العباسي / الأندلسي بقدر ما يخص الحرائر .
أما قبل ذلك , أي في القرنين الأول والثاني , فالروايات متضاربة .وقد أشارت بعض مصادر التفسير إلى أن نساء المدينة حجبن وجوههن بعد الآية 59 / أحزاب . وعلى هذه الرواية اعتمد المتشددون من الفقهاء في حجاب الوجه . لكن مصادر الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام والأوان الأموي تفيد أن النساء كن في الغالب مكشوفات الأوجه حتى في الطواف حول الكعبة . وهو ما صّير موسم الحج موسماً للحب جعل عمر بن أبي ربيعة يقول :
ليت ذا الحج كان حتماً علينا كل شهرين حجة واعتمارا.
ولابد على أي حال أن تكون الآية 59 / أحزاب قد أمرت بحجاب أضافي للحرائر لا نعرف طريقته بالضبط . وتقول التفاسير أن الإماء كنّ . شأن الجاهليات , يكتفين بالخمار للرأس والدرع للصدر , وهو ما أمرت الآية الأولى بإسدال الخمار عليه لتغطيته . والمتفق عليه أن الجواري غير مشمولات بحكم الحجاب . وتخبرنا مصادر التفسير أن عمر كان يتشدد في منعهن من التحجب كما تردنا رواية لأبن سعد أن عمر بن عبد العزيز أمر أن لا تلبس أمةّ خماراً ولا يتشبهن بالحرائر – أنظر ترجمته في (( الطبقات )) – ويفهم من هذا أن الجواري كن يتطوعن أحياناً للتحجب تشبهاً بالحرائر ( مما يحصل عادة لدى الفئات السفلى التي تنزع لتقليد الفئات العليا بتأثير وهم التحضر ) ( * ) . والعلة في تشدد العمْرين في هذا الشأن هي ضبط سلوك الحرائر وصيانتهن لأن الجواري كن منفلتات لعدم انتسابهن إلى عوائل . لكن هذا التمييز في الحجاب له جذور في الحضارات السامية الأقدم . فقد ألزم القانون الآشوري الحرائر بحجاب يشمل الرأس عند الخروج من بيوتهن ومنع الجواري من ذلك . ولا أعرف العلة في هذا الأمر وما إذا كان قد أريد به نفس الغاية التي توخاها المشرع السامر اللاحق .
كذلك يمكن الاستنتاج من حكم الآية 59 / أحزاب أن الحجاب لم يفرض للتحرز من فتنة النساء للرجال . فمصدر هذه الفتنة هو الجواري في المقام الأول لأنهن في الغالب أجمل من الحرائر وأكثر إثارة . أن هذا ما أدى بالمفسر الاندلسي أبو حيان صاحب (( البحر المحيط )) إلى مخالفة زملائه المفسرين والقول بعموم الحجاب للحرة والأمَة . وقال أن الفتنة بالإماء أكثر . لكن تفسير أبو حيان هو بمثابة اجتهاد في موضع النص , الذي أعطى تعليلاً صريحاً للحكم يحصره في تمييز الحرائر عن الجواري . وهو متعارض أيضاً مع تطبيقات الآية في صدر الإسلام . ولا شك أن الغرض لو كان منع الفتنة لكان الأمر بالتحجب عاماً , بل ولكان المطلوب من المشرع أن يتشدد في حجب الجواري ويتساهل في الحرائر .
أن الخوف من الفتنة هو الاعتبار الذي راعته الآية 31 / نور في نهيها عن إبداء الزينة – التبرج في اصطلاح القرآن – وأمرها بستر الشعر والصدر . وهذه الآية هي في الواقع آية الحجاب الأصلية وفيها تتعين حدوده غير المقيدة بوضع أو زمن لأنها صدرت عن التحسس ضد الإغراء لدى المشرع الإسلامي .
وقد استثنيت من قيود الآية فئة من النساء ذكرت في آية لاحقة من نفس السورة برقم 6. وهذا نصها : (( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فلا جُناح عليهن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن )) .
الجناح بالضم هو الإثم والحرج , وتميل التفاسير إلى أن اصطلاح القواعد من النساء يراد به المرأة في سن اليأس وما في حكمه مما يوقف حاجة المرأة إلى الرجل ولا يجعل حالها من جهة أخرى مثيراً لشهوته .والآية تنص على إعفاء هذه الفئة من النساء من القيود التي فرضتها عليهن الآية السابقة . وهو ما عليه المفسرون في جملتهم . ويستفاد من هذا الإعفاء أن الآية الأصلية مختصة بالنساء في سن محددة هي التي يكن فيها مستعدات أو قابلات للفعل الجنسي . بينما يستدل من الآية الأخيرة جواز خروج المرأة التي تعدت هذا الدور حاسرة سافرة .
لم يلتفت الفقهاء إلى موقوتية حكم الآية 59 / أحزاب أي كونه متوقفاً على وجود الجواري . كذلك لم يطبق حكم الآية 6. / نور فيما يخص النساء القواعد فعاشت المرأة المسلمة تحت الحجاب من صباها حتى شيخوختها . ويصطدم التعامل مع الأولى بعاملين : افتراض أبدية الأحكام الشرعية استناداً إلى حديث غير موثق يقول أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة , وكونه الخطاب الإلهي قد انطلق من قرار آخر هو الوجود الأبدي للرق . غير أننا نجد في تجاوز حكم الآية الأصلية للحجاب 31/ نور والآية 6. / نور مؤثرات أبعد من مجرد الوقوف عند أبدية النصوص . ويسعني أن أتلمس من بين هذه المؤثرات وفي مقدمتها عامل الدوغما الدينية التي تعززت كخط سائد في الاستذهان الديني للمسلمين . ومن الملحوظ هنا أن المجتمعات المؤدلجة تزداد انغلاقاً مع ترسخ سلطتها السياسية القائمة على العقيدة . ومن دون أن نهمل الخروقات التي يقوم بها الهراطقة تحت مؤثرات من نمط آخر فإن فعل الدوغما غالباً ما يتضخم في مثل هذه المجتمعات على حساب النص المقدس نفسه . وقد تم تجاوز توجيه عام للنبي محمد بعدم الغلو في الدين بفعل الدوغما . ويسبب ذلك إشكالات كبرى لإصلاح الديني تجعله متعذراً دون تدمير الأسس نفسها . وهو ما يصدق على مشكلة الحجاب في وضعها الراهن ).
1 – هادي العلوي – من قاموس التراث , الصادر عن دار الأهالي بدمشق 1988 .
* عن
عايد سعيد السراج : المفكر هادي العلوي, عن الحجاب (ملف/2) - الناقد العراقي
إشارة : قيمة المفكر تكمن أحياناً في إشكالية أفكاره. والمفكر “هادي العلوي” من هذا الطراز. فقد جاءت أفكاره (وعبر أكثر من 20 كتاباً وثلاثة معاجم لغوية) صادمة وإشكالية عرّضته للكثير من التُهم الظالمة و “المُحقّة”. هذا الزاهد الذي كان يكرّر وصيّة الحياة الشريفة للمثقف العربي خصوصا “لا تملك شيئا ولن...