من بعيد بعيد صاح الولد: يا باااااااا"...
هرعت للشباك.
كنت أعرف.
ـ يابااااااا.....
سمعتها، وعرفت ما ينتظرني. ـ
ـ شو؟
ـ مِيِّه يابا.. مِيِّه... كلّها مِيِّه... كان قد وصل الى البئر القديمة التي تبعد حوالي 200 متر عن البيت. وكان، وحده، أول العائدين.
رأيته يركض. كانت شنطته الثقيلة ترتجّ على كتفيه وتدفعه الى الأمام. خُيِّل إليّ أنها كانت تشاركه فرحته، وتشاركه ركضه معتزّة بالشهادة المدرسية التي تختبىء فيها.
أدركت أنّ ساعة الحقيقة قد دقّت. وندمت أنني لم أحسب حساب هذه اللحظة. ولكن هيهات. تابعته عيناي من الشباك يندفع نحو البيت، وشعور من السعادة والاعتزاز يتدفّق في ضلوعي، يخالطه شعور عميق بالحزن يطغى عليه.
قبل شهرين، جاء ووقف أمامي مثل القطّ المتحفِّز للانقضاض: يابا.. بدِّي بسكليته.
نظرت إليه وابتسمت. أعرف حركاته هذه، وأحفظها عن ظهر قلب. وأحبّها. يابا..، أعاد آمرا، بدِّي بسكليته. روح إلعب. بدِّي بسكليته. روح إلعب. بدِّيش. طيب.. روح أدرُس. بدِّيش.. بدِّي بسكليته. إنتِ واحد مفطِّس.. بِكفِّيش إنَّك تيس؟! وبِدَّكْ بسكليته؟! أنا مش تيس. تيس. لأ مش تيس.. إمبلى تيس.. جبت 90 بالحساب. جبت ميِّه. بالعربي لَكان جبت 90. جبت ميِّه بالعربي، بالدين جبت 90. آه، وشو بِدَّك؟! بدِّي بسكليته. إطلع برَّا. بِدِّيش. إطلع برّا قبل ما أدبحك. إدبح.. إسّا بَقوم. قُوم. وقمت ولكنه لم يتزحزح من مكانه. ظلّ منتصبا أمامي مقهورا متنمّرا، يدقُّ، بين الفينة والأخرى، الأرض، بقدمه اليمين، ويكرّر اللازمة. بدِّي بسكليته.. بدِّي بسكليته. قررت أن أتجاهله. وضعت عينيّ في الكتاب. صمَتَ. حين قال لآخر مرّة، بدِّي بسكليته.. كل الأولاد عندهن بسكليته، كان صوته قد تغيّر. خالطه شيء من البكاء. انتبهت لتغيّر صوته. رفعت رأسي. كانت دمعتان كبيرتان قد بدأتا تنزّان من عينيه.
صمت.
نظر الى لا شيء.
كانت دموعه تملأ وجهه.
نكّس رأسه قليلا ومسح أنفه بطرف كمه.
استدار وسار نحو الباب وهو ينظر للأرض.
خرج.
وذبحني.
سمعت صوت أقدامه على درجات البيت. طقطقَ صوتها الثقيل في أذنيّ، فيما كنت أنظر الى الكتاب المفتوح. كانت دموعه ما تزال تسقط في عينيّ، وتغرغر على الحروف التي كنت أحاول أن أقرأها ولا استطيع. حين تلاشى صوت أقدامه، كان صوت بكائه ما يزال يذبحني.
******
في المساء، كان أحد الخمسة الذين التفّوا حول الطاولة المنخفضة. لملموا بعضهم حولها، فيما تناثرت الكتب والدفاتر على كل أرض الغرفة حولهم. زِيحي. زيحْ إنتِ. هذا محلّي أنا... يابا... شوف محمّد.. هذا محلّي. كان يحاول أن يجد موقعا لركبتيه في فسحة بين اثنين أصرّ أن يملأها. هاي مِش طاولتك لَحالك. فتح كتاب الصفّ الثاني وأخذ ينسخ. راقبته. كان قد نسي البسكليته مثلما نسي أشياء كثيرة لم أنس شيئا منها. توقّف عن النسخ فجأة وزاغت عيناه. نظر إليّ. ابتسم. رأيت الله في عيونه. ـ إكتِب وَلَه... إنسخ.. ـ بَنسخ.. ـ إنسخ مرّتين. ـ لاه!!.. مرتين؟! المعلّمة قالت مرّة. ـ إنسخ مرتين. ـ لاه..! بَنْسَخِش غير مرّة.
العرص. كان معدّل علاماته 97، ولم يكن يهمّه أن يعايره أحد بذلك. أنا شاطر، كان يقول دون اهتمام وبثقة مطلقة . المعلّمة بِتخاوز. وحياة الله المعلّمة بتخاوز. كان مقتنعا بذلك تماما.
كُنّا حين نتحزّر وأسألهم: "مين البطل؟" نسمع خمسة أصوات: "أنا". يتّفق الجميع وكلٌّ يدّعيها لنفسه. "مين الشاطر؟" يقول الكل: "انا". يتفق الجميع. مين الـ.. ومين الـ.... وتظلّ اللعبة تدور حتى يقول أحدهم: ـ مين التيس؟ ـ محمّاد....... يصيح الثلاثة الآخرون، بصوت واحد، ويمطّونها قدر ما يستطيعون، حتى تفعل المماحكة فعلها، فيما يقول السائل بصوت يحاول أن يجعله أعلى ما يستطيع: ـ صَحّ.... وأسارع عندها لمنع الاشتباك، الذي لا بدّ سيبدأ بعد سِدّ نيعك، وسدّ نيعك إنت.
ترك مكانه، وجاء إليّ يحمل كتابه. ـ يابا.. ـ ها؟! ـ يا ريت لو أنا محلّ هذا الولد.. يا ريت لو أنا زيُّه. ـ أيّ ولد؟! ـ هون.. في الصورة.. بِدِّي أفوت بالصورة. نظرت الى الصورة في كتاب القراءة. كان هناك بحر وقارب صغير فيه ولد. وكان ما يزال ينظر الى الصورة ونظرة حالمة تسبح في عيونه. ـ لويش بِدَّك تصير زيُّه؟! ـ عشان أسبح بالبحر. قال ببراءة، وعاد الى مكانه يزاحم. زيح. زيحي.
كنت أفكّر بالبسكليته التي نسيها، حين لمعت في خاطري فكرة عبقرية. كنت قد عوّدته: جيب مِيِّه بالامتحان وخذ عشرة شيكل. كان الآخرون يحتجّون. وكنت أقول للكبير موضحا: يابا إنتِ شاطر. بِدّي أشجّعه. ومع ذلك، ورغم كثرة المئات التي حملها للبيت، لم يأخذ عشرة شيكل إلاّ وتدبّرت طريقة لاسترجاعها. كنت أوصيه، حين أعطيه القطعة النقدية، بصرامة: إصرف شيكل كل يوم. طيب. وفي المساء، أو في اليوم التالي أسأله كم بقي؟ تسعة؟ ثمانية؟ وأستعيد المبلغ كلّه. أو تكون أمّه قد تولّت هذه المهمة. المرّة الجاي بعطيك عشرة شيكل إصرفها كلها.. بس اثنين شيكل كل يوم.
يسكت مغلوبا على أمره. طيِّب.
ـ يابا محمد... ـ شو؟ ورفع عينيه. ـ بِدِّي أشتريلك بسكليته. ـ عن جدّ؟ هتف بفرح، وتذكّر واقعة الصباح، وترك موقعه واقترب مني. ـ آه.. عن جدّ. بسّ بشرط..
واتفقنا. اذا استطاع تحصيل 100 في كل العلامات على الشهادة، فسأشتري له بسكليته. حسبتها جيدا قبل أن نتّفق، وقبل ان اعرض عليه هذه الفكرة التي اعتبرتها في حينه فكرة عبقرية لتشجيعه على الدراسة، وحلاًّ ذكيا هنأت نفسي عليه. ـ إحلف ـ وحياة ألله ـ وينتا؟ ـ بس تجيب الشهادة
******
راقبته في الأيام التالية وهو يهلك نفسه في الدراسة. كان الوحيد الذي التزم بأوامري الأبوية ونفّذها بحذافيرها، تلك التي كثيرا ما حاولت أن أفرضها عليه وعلى الجميع، ولم أستطع: أدرس أوّلاً.. بعدين روح إلعب. التزم بذلك تماما.
كنت قد حسبتها جيدا.. أنا المستفيد. لقد استطعت اقناعه ببذل جهد أكبر في الدراسة. وهذا الجهد سيأتي بنتائج طيبة بالتأكيد. وحين كنت أقف أمام السؤال "ماذا ستفعل لو جاء بشهادة كل علاماتها مائة؟". لم يكن ذلك يشغلني كثيرا. كنت واثقا ومطمئنا أن هذا لن يحدث. لا بدّ أن تكون هناك علامة أو أكثر تحت المائة بقليل. أقلّ بعلامة.. بعلامتين.. فيكون ذلك تبريرا كافيا لي للتنصّل من الاتفاق. مع هذا كان يساورني بعض القلق أحيانا. ماذا لو حدث ذلك؟
******
يوم بدأت الامتحانات ورأيته يقبل على الدراسة بحماس شديد، كنت سعيدا. كنت أيضا قلقا بعض الشيء. طمأنت نفسي: سأشتري له بسكليته، وأكون الرابح على أيّة حال. دائما يكون هناك لدينا جميعا، إحساس أن شيئا ما سيحدث. سيسقط حجر من السماء. ونظلّ نصدّق ذلك، لأننا نريد أن نصدّقه، رغم استحالته.
ويوم جاء بأوّل ورقة امتحان كنت سعيدا. ولكنّه كان أكثر سعادة. يابا، دير بالك، بسكليته. وأضحك.
ويزيد قلقي مع أوراق الامتحانات والمئات التي تتتالى. ولكنه كان قلقا لذيذا تخالطه سعادة تحقيق الانجازات ونجاح الأولاد. يسألني وشيء من القلق يخالط فرحته: يابا، بِهِمِّش علامة واحدة مش ميّه. لأ... أقول بحزم. إحنا اتفقنا. طيِّب.. يقول بتصميم. وأُطمئِن نفسي: العلامة القاضية قادمة. ويوم عاد للبيت وعينه مكسورة، فهمت ما حدث دون ان يخبرني. بكى شيء في داخلي. كان أوّل ما يفعله حين يدخل للبيت، أو أدخل إلى البيت، أن يتقدّم مسرعا وهو يحمل ورقة الامتحان. في هذه المرة لم يفعل ذلك. لم يقل إنّ معلّمة الدين "بتخاوز". راجعنا الورقة معا. كانت الغلطة واضحة. وكانت العلامة 90.
قلت مواسيا: بهِمِّش.. يمكن المعلمة تِحسِب اشتراكك بالصف. لم يطمئنّ. يسأل: بدَّك تشتري لي بسكليته؟ وأحتار كيف أجيب. أختار الحلّ الوسط الذي لا يكسر حماسه ويبقي لي منفذا للهرب: يمكن آه.. ويمكن لأ.. بعد علامة التسعين، وقبل انتهاء الفصل الدراسي بأيّام، كانت كل علاماته مائة، ما عدا تلك التسعين.
ـ بدّك تشتري لي بسكليته؟ سأل بانكسار. ـ محمّد.. إحنا زلام.. إيش اتّفقنا؟.. يصمت حزينا، وأحاول أن أواسيه، دون أن أقطع تعهّدا صارما على نفسي: ـ إذا في تسعين واحدة بسّ، بشتريلك بسكليته.. بسّ بعدين.. ـ وإذا كلّ الشهادة مِيِّه؟! ـ بشتريلك بسكليته بنفس النهار.
ويقول "إحلف". وينظر إليّ والحزن المتجمّد في عيونه يقول كلّ شيء. وتغيب عيناه في نظرة متمنِّية. كان ما يزال يأمل أن تأخذ معلمة الدين اشتراكه في الصف بعين الاعتبار، عند احتساب العلامة التي ستوضع على الشهادة.
******
وفي اليوم الأخير للفصل الدراسي كان أوّل الذاهبين وأوّل العائدين من المدرسة.
ياباااااا..... صاح من بعيد، من جانب البئر القديمة. حين سمعت صوته المتدفّق أدركت ما حدث قبل أن يزعق "يابا.. كلّها ميِّه".. بعد دقيقة كان أمامي، يدور حولي وينطنط "يابا.. كلّها ميّه.. كلّها ميّه..". أخرج الشهادة وناولني إياها. كنت أحاول ان لا تلتقي عيناي بعينيه.
ـ يابا.. ـ ها.. ـ يلاّ.. روح اشتري لي بسكليته.. ـ طيّب.. ـ يلاّ..
كانت فرحته تتنطّط في عيونه. لاحظ بعد قليل أنني لم أتزحزح من مكاني. يابا. شو؟ يلاّ. كمان شويّه. وينتا؟ كمان شويّه. لأ... إنتِ قلت اليوم. اليوم آه بس كمان شويّه.
حاولت أن أخفف وقع الحقيقة عليه. أحطته بذراعي وانا أقول له: إنتِ بطل. لم يهتم بما قلته، قال على الفور: يلاّ.
كمان جمعة.. لأ.. اليوم.. معيش.. مخصّنيش.. إنتِ قلت اليوم.. قلت لكلّ الاولاد أبوي بِدّو يشتري لي بسكليته.. بدِّي أشتريلك. إنتِ حلفت. وبحلف إسّا. بسّ كمان جمعة..
نظر في عينيّ. صمَتَ. ابتلع ريقه، وابتلع فرحته. نكّس رأسه وأخذ يحدّق في الأرض.. في اللاشيء. وطال صمته.
كنت أحاول أن أحيط عنقه بذراعي، وأنا أقول وحياة الله بِدّي أجيبلَك بسكليته، حين رفع رأسه. نظر في عينيّ صامتا مقهورا. لاحظت اختفاء البريق من عيونه. مرّت لحظات وهو صامت، ثم عاد ونكّس عينيه وصبّ نظراته على قدميه.
لم يبكِ.
استدار.
تحرّك ببطء نحو الباب، ورأسه للأسفل وعيناه مغروزتان في قدميه.
واصلت النظر اليه صامتا.
لم يقل شيئا.
خرج.
وذبحني مرّة أخرى.
* من "محمد وابو محمد وشهاب الدين"
هرعت للشباك.
كنت أعرف.
ـ يابااااااا.....
سمعتها، وعرفت ما ينتظرني. ـ
ـ شو؟
ـ مِيِّه يابا.. مِيِّه... كلّها مِيِّه... كان قد وصل الى البئر القديمة التي تبعد حوالي 200 متر عن البيت. وكان، وحده، أول العائدين.
رأيته يركض. كانت شنطته الثقيلة ترتجّ على كتفيه وتدفعه الى الأمام. خُيِّل إليّ أنها كانت تشاركه فرحته، وتشاركه ركضه معتزّة بالشهادة المدرسية التي تختبىء فيها.
أدركت أنّ ساعة الحقيقة قد دقّت. وندمت أنني لم أحسب حساب هذه اللحظة. ولكن هيهات. تابعته عيناي من الشباك يندفع نحو البيت، وشعور من السعادة والاعتزاز يتدفّق في ضلوعي، يخالطه شعور عميق بالحزن يطغى عليه.
قبل شهرين، جاء ووقف أمامي مثل القطّ المتحفِّز للانقضاض: يابا.. بدِّي بسكليته.
نظرت إليه وابتسمت. أعرف حركاته هذه، وأحفظها عن ظهر قلب. وأحبّها. يابا..، أعاد آمرا، بدِّي بسكليته. روح إلعب. بدِّي بسكليته. روح إلعب. بدِّيش. طيب.. روح أدرُس. بدِّيش.. بدِّي بسكليته. إنتِ واحد مفطِّس.. بِكفِّيش إنَّك تيس؟! وبِدَّكْ بسكليته؟! أنا مش تيس. تيس. لأ مش تيس.. إمبلى تيس.. جبت 90 بالحساب. جبت ميِّه. بالعربي لَكان جبت 90. جبت ميِّه بالعربي، بالدين جبت 90. آه، وشو بِدَّك؟! بدِّي بسكليته. إطلع برَّا. بِدِّيش. إطلع برّا قبل ما أدبحك. إدبح.. إسّا بَقوم. قُوم. وقمت ولكنه لم يتزحزح من مكانه. ظلّ منتصبا أمامي مقهورا متنمّرا، يدقُّ، بين الفينة والأخرى، الأرض، بقدمه اليمين، ويكرّر اللازمة. بدِّي بسكليته.. بدِّي بسكليته. قررت أن أتجاهله. وضعت عينيّ في الكتاب. صمَتَ. حين قال لآخر مرّة، بدِّي بسكليته.. كل الأولاد عندهن بسكليته، كان صوته قد تغيّر. خالطه شيء من البكاء. انتبهت لتغيّر صوته. رفعت رأسي. كانت دمعتان كبيرتان قد بدأتا تنزّان من عينيه.
صمت.
نظر الى لا شيء.
كانت دموعه تملأ وجهه.
نكّس رأسه قليلا ومسح أنفه بطرف كمه.
استدار وسار نحو الباب وهو ينظر للأرض.
خرج.
وذبحني.
سمعت صوت أقدامه على درجات البيت. طقطقَ صوتها الثقيل في أذنيّ، فيما كنت أنظر الى الكتاب المفتوح. كانت دموعه ما تزال تسقط في عينيّ، وتغرغر على الحروف التي كنت أحاول أن أقرأها ولا استطيع. حين تلاشى صوت أقدامه، كان صوت بكائه ما يزال يذبحني.
******
في المساء، كان أحد الخمسة الذين التفّوا حول الطاولة المنخفضة. لملموا بعضهم حولها، فيما تناثرت الكتب والدفاتر على كل أرض الغرفة حولهم. زِيحي. زيحْ إنتِ. هذا محلّي أنا... يابا... شوف محمّد.. هذا محلّي. كان يحاول أن يجد موقعا لركبتيه في فسحة بين اثنين أصرّ أن يملأها. هاي مِش طاولتك لَحالك. فتح كتاب الصفّ الثاني وأخذ ينسخ. راقبته. كان قد نسي البسكليته مثلما نسي أشياء كثيرة لم أنس شيئا منها. توقّف عن النسخ فجأة وزاغت عيناه. نظر إليّ. ابتسم. رأيت الله في عيونه. ـ إكتِب وَلَه... إنسخ.. ـ بَنسخ.. ـ إنسخ مرّتين. ـ لاه!!.. مرتين؟! المعلّمة قالت مرّة. ـ إنسخ مرتين. ـ لاه..! بَنْسَخِش غير مرّة.
العرص. كان معدّل علاماته 97، ولم يكن يهمّه أن يعايره أحد بذلك. أنا شاطر، كان يقول دون اهتمام وبثقة مطلقة . المعلّمة بِتخاوز. وحياة الله المعلّمة بتخاوز. كان مقتنعا بذلك تماما.
كُنّا حين نتحزّر وأسألهم: "مين البطل؟" نسمع خمسة أصوات: "أنا". يتّفق الجميع وكلٌّ يدّعيها لنفسه. "مين الشاطر؟" يقول الكل: "انا". يتفق الجميع. مين الـ.. ومين الـ.... وتظلّ اللعبة تدور حتى يقول أحدهم: ـ مين التيس؟ ـ محمّاد....... يصيح الثلاثة الآخرون، بصوت واحد، ويمطّونها قدر ما يستطيعون، حتى تفعل المماحكة فعلها، فيما يقول السائل بصوت يحاول أن يجعله أعلى ما يستطيع: ـ صَحّ.... وأسارع عندها لمنع الاشتباك، الذي لا بدّ سيبدأ بعد سِدّ نيعك، وسدّ نيعك إنت.
ترك مكانه، وجاء إليّ يحمل كتابه. ـ يابا.. ـ ها؟! ـ يا ريت لو أنا محلّ هذا الولد.. يا ريت لو أنا زيُّه. ـ أيّ ولد؟! ـ هون.. في الصورة.. بِدِّي أفوت بالصورة. نظرت الى الصورة في كتاب القراءة. كان هناك بحر وقارب صغير فيه ولد. وكان ما يزال ينظر الى الصورة ونظرة حالمة تسبح في عيونه. ـ لويش بِدَّك تصير زيُّه؟! ـ عشان أسبح بالبحر. قال ببراءة، وعاد الى مكانه يزاحم. زيح. زيحي.
كنت أفكّر بالبسكليته التي نسيها، حين لمعت في خاطري فكرة عبقرية. كنت قد عوّدته: جيب مِيِّه بالامتحان وخذ عشرة شيكل. كان الآخرون يحتجّون. وكنت أقول للكبير موضحا: يابا إنتِ شاطر. بِدّي أشجّعه. ومع ذلك، ورغم كثرة المئات التي حملها للبيت، لم يأخذ عشرة شيكل إلاّ وتدبّرت طريقة لاسترجاعها. كنت أوصيه، حين أعطيه القطعة النقدية، بصرامة: إصرف شيكل كل يوم. طيب. وفي المساء، أو في اليوم التالي أسأله كم بقي؟ تسعة؟ ثمانية؟ وأستعيد المبلغ كلّه. أو تكون أمّه قد تولّت هذه المهمة. المرّة الجاي بعطيك عشرة شيكل إصرفها كلها.. بس اثنين شيكل كل يوم.
يسكت مغلوبا على أمره. طيِّب.
ـ يابا محمد... ـ شو؟ ورفع عينيه. ـ بِدِّي أشتريلك بسكليته. ـ عن جدّ؟ هتف بفرح، وتذكّر واقعة الصباح، وترك موقعه واقترب مني. ـ آه.. عن جدّ. بسّ بشرط..
واتفقنا. اذا استطاع تحصيل 100 في كل العلامات على الشهادة، فسأشتري له بسكليته. حسبتها جيدا قبل أن نتّفق، وقبل ان اعرض عليه هذه الفكرة التي اعتبرتها في حينه فكرة عبقرية لتشجيعه على الدراسة، وحلاًّ ذكيا هنأت نفسي عليه. ـ إحلف ـ وحياة ألله ـ وينتا؟ ـ بس تجيب الشهادة
******
راقبته في الأيام التالية وهو يهلك نفسه في الدراسة. كان الوحيد الذي التزم بأوامري الأبوية ونفّذها بحذافيرها، تلك التي كثيرا ما حاولت أن أفرضها عليه وعلى الجميع، ولم أستطع: أدرس أوّلاً.. بعدين روح إلعب. التزم بذلك تماما.
كنت قد حسبتها جيدا.. أنا المستفيد. لقد استطعت اقناعه ببذل جهد أكبر في الدراسة. وهذا الجهد سيأتي بنتائج طيبة بالتأكيد. وحين كنت أقف أمام السؤال "ماذا ستفعل لو جاء بشهادة كل علاماتها مائة؟". لم يكن ذلك يشغلني كثيرا. كنت واثقا ومطمئنا أن هذا لن يحدث. لا بدّ أن تكون هناك علامة أو أكثر تحت المائة بقليل. أقلّ بعلامة.. بعلامتين.. فيكون ذلك تبريرا كافيا لي للتنصّل من الاتفاق. مع هذا كان يساورني بعض القلق أحيانا. ماذا لو حدث ذلك؟
******
يوم بدأت الامتحانات ورأيته يقبل على الدراسة بحماس شديد، كنت سعيدا. كنت أيضا قلقا بعض الشيء. طمأنت نفسي: سأشتري له بسكليته، وأكون الرابح على أيّة حال. دائما يكون هناك لدينا جميعا، إحساس أن شيئا ما سيحدث. سيسقط حجر من السماء. ونظلّ نصدّق ذلك، لأننا نريد أن نصدّقه، رغم استحالته.
ويوم جاء بأوّل ورقة امتحان كنت سعيدا. ولكنّه كان أكثر سعادة. يابا، دير بالك، بسكليته. وأضحك.
ويزيد قلقي مع أوراق الامتحانات والمئات التي تتتالى. ولكنه كان قلقا لذيذا تخالطه سعادة تحقيق الانجازات ونجاح الأولاد. يسألني وشيء من القلق يخالط فرحته: يابا، بِهِمِّش علامة واحدة مش ميّه. لأ... أقول بحزم. إحنا اتفقنا. طيِّب.. يقول بتصميم. وأُطمئِن نفسي: العلامة القاضية قادمة. ويوم عاد للبيت وعينه مكسورة، فهمت ما حدث دون ان يخبرني. بكى شيء في داخلي. كان أوّل ما يفعله حين يدخل للبيت، أو أدخل إلى البيت، أن يتقدّم مسرعا وهو يحمل ورقة الامتحان. في هذه المرة لم يفعل ذلك. لم يقل إنّ معلّمة الدين "بتخاوز". راجعنا الورقة معا. كانت الغلطة واضحة. وكانت العلامة 90.
قلت مواسيا: بهِمِّش.. يمكن المعلمة تِحسِب اشتراكك بالصف. لم يطمئنّ. يسأل: بدَّك تشتري لي بسكليته؟ وأحتار كيف أجيب. أختار الحلّ الوسط الذي لا يكسر حماسه ويبقي لي منفذا للهرب: يمكن آه.. ويمكن لأ.. بعد علامة التسعين، وقبل انتهاء الفصل الدراسي بأيّام، كانت كل علاماته مائة، ما عدا تلك التسعين.
ـ بدّك تشتري لي بسكليته؟ سأل بانكسار. ـ محمّد.. إحنا زلام.. إيش اتّفقنا؟.. يصمت حزينا، وأحاول أن أواسيه، دون أن أقطع تعهّدا صارما على نفسي: ـ إذا في تسعين واحدة بسّ، بشتريلك بسكليته.. بسّ بعدين.. ـ وإذا كلّ الشهادة مِيِّه؟! ـ بشتريلك بسكليته بنفس النهار.
ويقول "إحلف". وينظر إليّ والحزن المتجمّد في عيونه يقول كلّ شيء. وتغيب عيناه في نظرة متمنِّية. كان ما يزال يأمل أن تأخذ معلمة الدين اشتراكه في الصف بعين الاعتبار، عند احتساب العلامة التي ستوضع على الشهادة.
******
وفي اليوم الأخير للفصل الدراسي كان أوّل الذاهبين وأوّل العائدين من المدرسة.
ياباااااا..... صاح من بعيد، من جانب البئر القديمة. حين سمعت صوته المتدفّق أدركت ما حدث قبل أن يزعق "يابا.. كلّها ميِّه".. بعد دقيقة كان أمامي، يدور حولي وينطنط "يابا.. كلّها ميّه.. كلّها ميّه..". أخرج الشهادة وناولني إياها. كنت أحاول ان لا تلتقي عيناي بعينيه.
ـ يابا.. ـ ها.. ـ يلاّ.. روح اشتري لي بسكليته.. ـ طيّب.. ـ يلاّ..
كانت فرحته تتنطّط في عيونه. لاحظ بعد قليل أنني لم أتزحزح من مكاني. يابا. شو؟ يلاّ. كمان شويّه. وينتا؟ كمان شويّه. لأ... إنتِ قلت اليوم. اليوم آه بس كمان شويّه.
حاولت أن أخفف وقع الحقيقة عليه. أحطته بذراعي وانا أقول له: إنتِ بطل. لم يهتم بما قلته، قال على الفور: يلاّ.
كمان جمعة.. لأ.. اليوم.. معيش.. مخصّنيش.. إنتِ قلت اليوم.. قلت لكلّ الاولاد أبوي بِدّو يشتري لي بسكليته.. بدِّي أشتريلك. إنتِ حلفت. وبحلف إسّا. بسّ كمان جمعة..
نظر في عينيّ. صمَتَ. ابتلع ريقه، وابتلع فرحته. نكّس رأسه وأخذ يحدّق في الأرض.. في اللاشيء. وطال صمته.
كنت أحاول أن أحيط عنقه بذراعي، وأنا أقول وحياة الله بِدّي أجيبلَك بسكليته، حين رفع رأسه. نظر في عينيّ صامتا مقهورا. لاحظت اختفاء البريق من عيونه. مرّت لحظات وهو صامت، ثم عاد ونكّس عينيه وصبّ نظراته على قدميه.
لم يبكِ.
استدار.
تحرّك ببطء نحو الباب، ورأسه للأسفل وعيناه مغروزتان في قدميه.
واصلت النظر اليه صامتا.
لم يقل شيئا.
خرج.
وذبحني مرّة أخرى.
* من "محمد وابو محمد وشهاب الدين"