المقريزي نسبة إلى مقريز وهي حارة في بعلبك بداخل لبنان عاش فيها أسلافه منذ زمن بعيد إلى أن تحول عنها علي والده ورحل إلى القاهرة، وفيها وفي بيت بحارة برجوان بالجمالية ولد له احمد تقي الدين سنة ست وستين وسبعمائة(1364م) ولم يكن والده من سعة الحال فكفل نشأته وتعليمه على المذهب الحنفي جده لامه شمس الدين بن الصائغ، وكان من كبار فقهاء المذهب ومحدثيه. ولم يقنع المقريزي بما أخذ عن جده وما درس بالأزهر من علوم دينية ولسانية فعكف على قراءة كتب الأدب والتاريخ والتقاويم يلخص ما تحويه بطونها من حوادث وأخبار يساعده ذهن وقاد وفكر شغوف بالبحث والاطلاع وكان لابد، وقد بلغ مرتبة في العلم عالية، أن تطلبه مصالح الحكومة، وكان لابد له كذلك أن يعمل للارتزاق، فالتحق موقعا(1) بديوان الإنشاء بالقلعة، فنائبا من نواب(2) الحكم عند قاضي قضاة الشافعية وكان قد غير مذهبه الذي نشأ عليه ليتحمس للمذهب الجدي، ثم عين إماما لجامع الحاكم، فمدرسا بعد ذلك للحديث بالمدرسة المؤدية.
ولاحظ السلطان ما فيه من الخلق والأمانة وحسن الإدارة، فعينه محتسبا بالقاهرة والوجه البحري، يختلط بالتجار والصناع وأرباب الحرف، وفي أثناء مزاولته لهذه الوظيفة تزوج وأنجب بنتا لم تتجاوز سن السادة حتى أودى بها الطاعون الذي اجتاح البلاد سنة أربع وثمانمائة، ولكنه لم يلبث أن ضاق بهذه المهمة وما تفرضه من أعباء ومسؤوليات، خاصة وقد صرفته عن العلم، فطلقها وعاد إليه مدرسا للحديث بالمدرستين الاقبالية والاشرفية في دمشق ومشرفا في نفس الوقت على أوقاف مارستانها النووي، ومن عاصمة الشام التي أمضى بها عشر سنين، ورجع إلى القاهرة ليعد الرحلة إلى ارض الحجاز، ويقيم مجاورا بمكة خمسة أعوام قضاها كلها في التدريس والتأليف، وأخيرا وكأنه سئم حياة الرحلة والتنقل عاد إلى القاهرة والى حي الجمالية ليعيش بقية أيامه في حارة برجوان، ويجعل من بيته المتواضع ناديا يجمع تلاميذه ومريديه، إلى أن كانت سنة خمس وأربعين وثمانمائة (1442م) فانطفأ سراجه وقد خلد اسمه مقرنا بأعظم مؤرخي مصر منذ العصور الوسطى، وبقيت مؤلفاته نفائس بيد كتب التاريخ المصري.
ولعل من أهم ما يميز المكتبة المقريزي تنوع مؤلفاتها وعدم سير صاحبها على نمط واحد في التأليف، فهي إما كتب طويلة تكاد تكون موسوعات وإما رسائل لا يتعدى موضوعها فكرة أو حادثة.
وأما الأولى ويظهر انه شرع في كتابتها بعد استقالته من وظيفة الحسبة وإقامته للتدريس في دمشق في القاهرة بعد ذلكن فمنها« أمتاع الأسماع بما لرسول من الأبناء والحفدة والإخوان والأتباع»(3)
في السيرة وتاريخها، و«المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»(4)ويعرف بخطط المقريزي، وقد درس فيه خطط القاهرة وآثارها إلى جانب أخبار المدن المصرية الأخرى وأنظمتها ومشاهير رجالها، وقد كتب بعد استقراره النهائي في القاهرة، وبعده ألف سلسلة كتب تاريخية لعل أراد أن يجعلها ذيلا لخططه أولها«البيان والأعراب فيمن دخل مصر من الأعراب»(5)ثانيها«عقد جواهر الاسفاط في أخبار مدينة الفسطاط»ثالثها«اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء»(6) في تاريخ الدولة الفاطمية، رابعها« السلوك بمعرفة دول الملوك»(7)في تاريخ الدولتين الأيوبية والمملوكية، ومنها كذلك بعض كتب في التراجم والطبقات ساعدته كثرة دراسته للتاريخ أن يعد مادة تأليفها أهمها:«المقفى»(8) في تراجم أمراء مصر ومشاهيرها منذ أقدم العصور غالى ما قبل عصره، و«درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة»(9) ترجم فيه لمعاصريه، و«الخبر عن البشر»(10) في التاريخ القديم ضمنه قبائل العرب ونسب الرسول.
وأما الثانية، وهي أشبه بالمقالة الصحفية الطويلة، فمنها ما كتبه في أول عهده بالتأليف مثل«إغاثة الأمة بكشف الغمة»وهو موضوع حديثنا، و«شذور العقود في ذكر النقود»(11)بحث فيه تاريخ النقود العربية، و«المكاييل والموازين الشعرية»درس فيه الاكيال والأوزان بالنظر إلى الشرع(12)ويظهر أن ضيقه بوظيفة الحسبة وأعبائها كان دافعا له إلى تأليف هذين الرسالتين، ومنها مجموعة خاصة ببلاد العرب وأخبارها كتبها أيام كان مجاورا بمكة وهي« الكلام ببناء الكعبة بيت الله الحرام»و«ضوء الساري في معرفة تميم الداري»و«التبر المسبوك في ذكر من حجمن الخلفاء والملوك »و وصف حضرموت العجيبة» و« الإلمام بمن في ارض الحبشة من ملوك الإسلام» وغير هذه من المؤلفات الكثيرة التي كتبها في موضوعات مختلفة ومتنوعة.
والكتاب الذي نريد أن نتحدث عنه هو«إغاثة الأمة بكشف الغمة» تقع طبعته الثانية في ست وثمانين صفحة من القطع الكبير، وقد نشره لأول مرة سنة أربعين وتسعمائة وألف الدكتوران محمد مصطفى زيادة وجمال الدين الشيال معتمدين على ثلاث نسخ مخطوطة: الأولى بمكتبة في استانبول، والثانية بدار الكتب المصرية، والثالثة بمكتبة جامعة كمبردج بانجلترا،والى جانب تصدير الطبعة الأولى الذي أعيد نشره في أول الطبعة الثانية كذلك والذي أعطى فيه الناشر أن لمحة قصيرة جدا عن الكتاب وأهميته، توجد مقدمة عليمة كتبها الدكتور حسين فهمي ذهب فيها إلى أن النظريات الاقتصادية وليدة بيئة لصاحبها وان الفكر الاقتصادي العربي بلغ ذروته في القرن الخامس عشر الميلادي بظهور ابن خلدون وابن الدلجي والمقرزي، واستخلص من قراءته للكتاب أن المؤلف عرض فيه لنظريتين من النظريات الاقتصادية الحديثة احدهما تتصل بالأزمات الدورية أو الموسمية وما زالت إلى الآن وخاصة في الولايات المتحدة أساس لدراسات اقتصادية، والثانية خاصة بتثبيت النقد وسلامته، وهي أن النقد الرديء يطرد النقد الجيد والفلوس النحاسية نقد رديء بالنسبة لدرهم والدينار فطردتهما من السوق، ولاحظ الدكتور فهمي أن هذه القاعدة الاقتصادية وتعرف بقانون جريشام قد سبق المقرزي إلى توضيحها في رسالته هذه قبل مائة سنة تقريبا من مولد جريشام، واعترض الدكتور شافعي في كتاب له عن النقود والبنوك أن يكون جريشام هو صاحب هذا القانون ولكنه لم يعز للمقريزي فضل السبق إليه وإنما رده إلى أصوله الأولى فقال:
«على أن جريشام لم يكن أول من فطن إلى القانون المذكور فقد سبقه إلى ذلك ارستوفان في القرن الخامس قبل الميلاد كما صاغ اوريزم القانون صياغة دقيقة في كتاب له عن النقود سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف للميلاد».
ومن يدري لعل المقريزي وقف على هذه النظرية خلال مطالعاته ودراساته فطبقها على أزمة النقد في بلاده، ولعله كذلك وصل إليها بتفكيره العلمي العميق.
وفي مقدمة الكتاب أوضح المقريزي طريقته في معالجة الموضوع بعد ان صرح بان ما نزل بالناس من محن وأزمات يرجع إلى سوء تدبير الزعماء والحكام وبين في فصل صغير يليها كيف أن الإنسان يستخف الحوادث السابقة ويستسهلها مهما كانت صعبة على الذين عاشوها، لمجرد انه لم يشاهدها، ولان ملالة الحالة الحاضرة تزين له في وهمه حالة الماضي وبالتالي فان المحن التي نزلت في أيام المؤلف كانت مسبوقة بأزمات اشد وأصعب.
وتحت عنوان«فصل في إيراد ما حل بمصر من الغلوات وحكايات يسيرة من أنباء تلك السنوات»ذكر ما حل بمصر بأزمات الغلاء منذ قديم الزمان، فنقل عن إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب«أخبار مصر قبل الإسلام» أن أول محنة نزلت بمصر كانت في زمن الملك السابع عشر منم ملوك مصر قبل الطوفان واسمه افروس بن مناوش، بسبب انقطاع الأمطار وقصر ماء النيل فهلك الناس، ثم وقع بعدها وقبل الطوفان كذلك غلاء في زمن الملك التاسع عشر المسمى فرعان بسبب الظلم والجور، أما بعد الطوفان وفي أيام تريب بن مصريم الملك الثالث عشر فقد توقف جريان ماء النيل مدة طويلة فهلك الناس ومشى الملك وقد أضعفه الجوع فكتب إلى هود عليه السلام يلتمس منه الدعاء فتوسل النبي إلى ربه فاستجاب وأجرى النيل، ثم كانت الأزمة التي دبر أمر البلاد فيها يوسف عليه السلام، وكانت زمن ثالث ملوك الفراعنة تبعها غلاء هو الذي يقول فيه تعالى:« ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون» والذي يقول فيه كذلك:«ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات لعلهم يذكرون». ثم انتقل بعد ذلك لما تعرضت له مصر بعد الإسلام من محن الغلاء، فذكر انه سنة سبع وثمانين حدثت أول أزمة وأمير مصر يومئذ عبد الله بن عبد الملك بن مروان فتشاءم الناس، ثم تلتها أخرى أيام أبي القاسم أو نوجور الإخشيدي فشارت الرعية، وقصر ماء النيل بعد ذلك فتظاهر الناس وكسروا منبر الجامع، وتوالت المحن أيام علي وكافور الاخشدي، منذ سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة بسبب قصر ماء النيل فكثر النهب وانتشرت الفتنة وعم الاضطراب واشتد الوباء وفشت الأمراض وكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم فكان منهلك يطرح في النيل، واستمرت الأزمات تسع سنين لتنتهي بمسير القرامطة إلى مصر ودخول جوهر الصقلي قائد جيوش الإمام المعز لدين الله واتخذت الإجراءات فانحل السعر وأخصبت الأرض عاد الرخاء، وكثرت المجاعات في أيام الحاكم بأمر الله بسبب هبوط النيل فانتشرت المسغبة وهلك الناس وفي أيام المستنصر كذلك أحسن القائمون تدبيرها فحلت كلها وعاد الرخاء، ووقع غلاء مرة في عهده بسبب ضعف السلطة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة فتعطلت الأراضي، وانتشر الخوف وعم الوباء واكل الناس القطط والكلاب بل تزايد الحال فأكل الناس بعضهم بعضا« وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها وعهم سلب وحبال فيا كلاليب فإذا مر بهم احد القوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه واكلوه»وباع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وسلاح وغيره وصار يجلس على حصير» و«جاء الوزير يوما على بغلته فأكلها العامة فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم»ثم أعقبتها أزمات أيام الحافظ لدين الله وفي عهد الفائز وفي سلطة العادل أبي بكر الأيوبي سنة ست وتسعين وخمسمائة بسبب توقف النيل عن الزيادة« فأكل الناس صغار بني آدم من الجوع فكان الأب يأكل ابنه مشويا ومطبوخا والمرأة تأكل ولدها»وكان يدخل الرجل دار جاره«فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ فإذا هي لحم طفل» لدرجة لما«أغاث الله الخلق بالنيل لم يوجد احد يحرث أو يزرع»، وقصر النيل أيام السلطان العادل كتبغا التركي وهبت ريح مهلكة فجمع الفقراء والمحتاجين وفرقهم على الأمراء لإطعامهم، كما حدثت مجاعة أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وفي أيام الاشرف شعبان سنة ست سبعين وسبعمائة وقع آخر غلاء وقد أدركه المؤلف، ولاحظ الناشران انه قبل هذه المحنة الأخيرة نزل وباء شنيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة دام سنتين عمت آثاره أمم الشرق والغرب، وهو لمعروف في تاريخ الشرق باسم الفناء الكبير وفي التاريخ الأوربي باسم الموت الأسود،وكان سبب انتشار بعض الأمراض الوبائية، ولعل المقريزي لم يشر إليه لأنه قصر كتابه على أخبار المحن الناجمة عن الغلاء وسوء الحكم في مصر.
وانتقل المقريزي بعد هذا الغرض الذي استغرق منه ما يقرب من نصف صفحات الكتاب ليتحدث في فصل خاص عن أسباب هذه المحن التي تعرضت لها البلاد فردها إلى ثلاثة أسباب:أولها توصل الجهلاء والظالمين بالرشوة إلى تقلد أعلى مراتب الحكم في الدولة كالمناصب الدينية وولاية الخطط السلطانية من وزارة وقضاء ونيابة وغيرها واضطرارهم لتسديد ما وعدوا به السلطان من أموال إلى تعجلها من أعضاء حاشيتهم وأعوانهم فيقرروا عليهم ضرائب تدفعهم أن يمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا الذين يضطرون إلى الاستدانة وبيع ما يملكون من أثاث وحيوان. ثانيها ارتفاع إيجار الأطيان، وغلاء نفقات الحرث والبذر والحصاد، وارتفاع ثمن المحصولات مما نتج عنه خراب كثير من القرى وتعطيل الأراضي الزراعية ونقص فيما تخرجه الأرض من غلال لموت كثير من الفلاحين والزراع وتشردهم في البلاد وقد هلكت دوابهم ولعجز آخرين ممن يملكون الأراضي عن ازدراعها لارتفاع سعر البذر ونقص اليد العالمة. ثالثها رواج الفلوس النحاسية التي أصبحت النقد الغالب، واحتفاء الدراهم والدنانير من التعامل لعدم ضربهما ولسبك ما بأيدي الناس منهما لاتخذاه حليا، وقد تفنن الأمراء والأتباع والأعوان في الترف والتأنق وتباهوا بفاخر الزي وجليل الحلي، فكان أن دهى الناس وذهب المال وقلت الأقوات وتعذر وجود المطالب، والملاحظ أن المقرزي لا يرى النقد سليما إلا إذا قام الذهب والفضة، واستطرد من شرحه لهذا السبب إلى إعطاء نبذة غير قصيرة عن العملة وتاريخها في الجاهلية والإسلام، فذهب إلى أن العرب الجاهليين كانوا يتعاملون بالمثقال المسكوك من الذهب والفضة، دينارا كان أو درهما، ثم بعث النبي(ص) فاقر أهل مكة على ما كانوا يتعاملون به، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، غير أنهم زادوا نفوس بعض الكتابات مثل«الحمد لله»و «لا الاه إلا الله وحده» كما ضرب الخلفاء الأمويون دراهم ودنانير نقشوا عليها كتابات وآيات مع اختلاف في الوزن والشكل، وانفرد معاوية من بين كل الخلفاء بسك دنانير عليها تمثاله متقلدا سيفه، وسار العباسيون بعدهم على ما وجدوا إلا أنهم نقصوا في الوزن، ثم تحدث عن تاريخ العملة في مصر وإنها كانت دنانير من الذهب وان الفضة كانت تتخذ للحلي والأواني وقد يضرب منها للمعاملات التي يحتاج إليها كل يوم لنفقات البيوت إلى أن كان عهد الحاكم بأمر اله الفاطمي فسلك الدراهم من الفضة مخلوطة أحيانا مع النحاس، وبقيت العملة على هذا النمط حتى دولة الأيوبيين، فراجت الدراهم الكاملة وهي مزيج من الفضة والنحاس، واستمر التعامل بها حتى في أيام مواليهم الأتراك، أما الفلوس النحاسية فقد أخذ يزداد انتشارها منذ ضربها الكامل الأيوبي إلى أن طغت على الدراهم والدينار فاختفيا وكانت الأزمة.
ثم تحدث بعد هذا عن طبقات الناس وبيان الحالة المادية لكل منها فجعلها سبعا:الأولى أهل الدولة ويبدو لهم أن الأموال كثرت بأيديهم بالنسبة لما كانت عليه قبل المحن باعتبار غلاء سعر الذهب وما يتحصل لهم من خراج الأراضي وقد ارتفع ثمنها،في حين أنهم لو تدبروا الأمر لوجدوا انه لم ينلهم في الواقع ربح. الثانية مياسير التجار وأولوا النعمة والترف ويظنون أنهم بزيادة الدخل يكسبون وهم في الحقيقة يخسرون بسبب كثرة النفقات واختلاف النقود. الثالثة أصحاب البز وأرباب المعايش ويقتاتون مما يتحصل لهم من الربح حسب الواحد منهم إلا يستدين.
الرابعة أصحاب الفلاحة والحرث، وفيهم من اثرى، وهم الذين ارتوت أراضيهم أثناء المحن، وفيهم منهلك لتوالي الأزمات وقلة ري الأراضي وهم الأغلبية الخامسة الفقراء، وهم أكثر الفقهاء وطلاب العلم ومن يلحق بهم، صغار الموظفين وصغار الملاك، وهم لسوء ما حل بهم ما بين ميت أو مشتهي الموت.
السادسة أرباب المهن والإجراء والخدم والسواس والحاكة والبناة وأمثالهم من العمال، وقد ما أكثرهم ولم يبق منهم غير القليل مما ضاعف أجورهم. السابعة أهل الخصاصة والمسكنة، وقد فنى معظمهم جوعا وبرادا ولم يبق منهم إلا اقل من القليل.
واتبع هذا الفصل الخاص بالطبقات بآخر عن أسعار المبيعات في القاهرة والإسكندرية، وخاصة مواد الغذاء من حبوب ولحوم وخضر وفواكه واستشهد بالأرقام على هذا ثمنها بسبب كثرة انتشار الفلوس واستخدامها عملة رئيسية، والعودة إلى التعامل بنقود الذهب والفضة، وبالعودة إليه، وهو وحده المعتبر طبيعة وشرعا،وترجع أحوال الناس إلى ما كانت عليه، ويبقى ما بأيديهم من ذهب يتحلون به أو نقود يتعاملون بها يعود الرخص والرفه إلى ما مكانا عليه، ومرة أخرى يؤكد في آخر الكتاب أن السبب في فساد الأمور إنما هو سوء التدبير لاغلاء الأسعار.
والذي يتضح لنا من بين فصول الكتاب أن المقريزي تأثر بيئته اشد التأثير وبما كان يدور حولها من حوادث وأحداث، وهو غفي هذا تلميذ لابن خلدون، وكان يحضر دروسه في الأزهر أيام إقامته بالقاهرة، (13)فابن خلدون عاش في المغرب والأندلس ولاحظ عن قرب ما تتخبط فيه العدوتان من فوضى وفساد مرجعهما إلى القائمين بشؤون الحكم فدفعه ذلك لكتابة مقدمته التي عالج فيها ظواهر الاجتماع ودرسها ليكشف عن القوانين التي تخضع لها هذه الظواهر سواء في نشأتها وتطورها وانحلالها، غير مخل بمشاكل الاقتصاد وما يتعلق بالإنتاج والتجارة، شارحا أسباب سقوط الدلو واثر الظلم في خراب العمران، وذلك فعل المقرزي، فقد لاحظ سياسة المماليك المنحزبة والتطاحن الذي كان بين الأتراك الجراكسة وبين المماليك المقيمين وما قاساه المصريون من ألوان الظلم والطغيان،وما سببه احتقارهم للعشب واستهتارهم بمصالحه من فتن وثورات طواعين ومجاعات، فكتب رسالته موجها عنايته للناحية الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، ثم أسرة المقريزي حديثة العهد بالحياة المصرية، فهي تلاحظ خصائصها وتقارنها بالحياة القديمة التي عاشتها بلبنان، وطفل يعيش وسط أسرة هذه حالها لابد أن تتولد فيه روح البحث والاستطلاع، هذا إلى أن هناك أسبابا كانت دافعا لتأليف الكتاب، لعل أهمها وفاة ابنته في الطاعون ولمتكن قد تجاوزت سن السادسة، وتجاربه الخاصة أثناء مزاولته للحسبة حيث كان يختلط برواد الأسواق من تجار وصناع وأرباب الحرف والمهن ويبحث حالة الأسعار والنقود ويضبط الموازين والمكاييل ويراقب صغار التجار والباعة المتجولين ويفصل في شكاوي الأسواق ويوقع العقوبات ويصدر الأوامر والقوانين وغير هذه من المهمات التي تدخل حاليا في نطاق وزارات التموين والاقتصاد والداخلية والشؤون الاجتماعية، هذا إلى أن الجماعة التي حدثت في زمنه(14) أحفزته أن يبين:« إن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا انه كما مر من الغلوات وانقض من السنوات المهلكات» ولم يقتصر تأثر المقريزي بابن خلدون على موضوع البحث فحسب بل تعداه إلى الشكل الذي يخرج عليه، فهو كإسناده يوجز الأسلوب ويكثر من الاستشهادات التاريخية، وهو مثله يفتح الفصول مخاطبا القارئ وداعيا له، ثم هو أخيرا يختمها بآية أو آيتين من القرآن.
ولم يمنع كل هذا التشابه من وجود فرق بين العالمين الكبيرين، فالمؤرخ المغربي شملت ملاحظاته ظواهر الاجتماع في كل الشعوب التي عاش فيها واحتك بأهلها مركزا في معالجته للمشاكل على الناحية التاريخية والاجتماعية، في حين أن زميله خص موضوعاته بمصر يعالجها علاجا تحليليا.
ولا نريد أن ننهي هذا التحليل العجالي دون أن نلاحظ أن المقريزي في رسالته هذه وفي غيرها من الكتب الصغيرة يدلي بآرائه معللا ومحللا وشاحرا في غير كثير من التقيد والتحفظ مما يلقي ضوءا على شخصيته يندر أن نعثر عليه في كتبه الطويلة التي يجرفه فيها سبيل أخبار الخلفاء والأمراء والحروب وما إليها من الحوادث الطويلة الذيول.
دعوة الحق
ع/52
www.habous.gov.ma
ولاحظ السلطان ما فيه من الخلق والأمانة وحسن الإدارة، فعينه محتسبا بالقاهرة والوجه البحري، يختلط بالتجار والصناع وأرباب الحرف، وفي أثناء مزاولته لهذه الوظيفة تزوج وأنجب بنتا لم تتجاوز سن السادة حتى أودى بها الطاعون الذي اجتاح البلاد سنة أربع وثمانمائة، ولكنه لم يلبث أن ضاق بهذه المهمة وما تفرضه من أعباء ومسؤوليات، خاصة وقد صرفته عن العلم، فطلقها وعاد إليه مدرسا للحديث بالمدرستين الاقبالية والاشرفية في دمشق ومشرفا في نفس الوقت على أوقاف مارستانها النووي، ومن عاصمة الشام التي أمضى بها عشر سنين، ورجع إلى القاهرة ليعد الرحلة إلى ارض الحجاز، ويقيم مجاورا بمكة خمسة أعوام قضاها كلها في التدريس والتأليف، وأخيرا وكأنه سئم حياة الرحلة والتنقل عاد إلى القاهرة والى حي الجمالية ليعيش بقية أيامه في حارة برجوان، ويجعل من بيته المتواضع ناديا يجمع تلاميذه ومريديه، إلى أن كانت سنة خمس وأربعين وثمانمائة (1442م) فانطفأ سراجه وقد خلد اسمه مقرنا بأعظم مؤرخي مصر منذ العصور الوسطى، وبقيت مؤلفاته نفائس بيد كتب التاريخ المصري.
ولعل من أهم ما يميز المكتبة المقريزي تنوع مؤلفاتها وعدم سير صاحبها على نمط واحد في التأليف، فهي إما كتب طويلة تكاد تكون موسوعات وإما رسائل لا يتعدى موضوعها فكرة أو حادثة.
وأما الأولى ويظهر انه شرع في كتابتها بعد استقالته من وظيفة الحسبة وإقامته للتدريس في دمشق في القاهرة بعد ذلكن فمنها« أمتاع الأسماع بما لرسول من الأبناء والحفدة والإخوان والأتباع»(3)
في السيرة وتاريخها، و«المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»(4)ويعرف بخطط المقريزي، وقد درس فيه خطط القاهرة وآثارها إلى جانب أخبار المدن المصرية الأخرى وأنظمتها ومشاهير رجالها، وقد كتب بعد استقراره النهائي في القاهرة، وبعده ألف سلسلة كتب تاريخية لعل أراد أن يجعلها ذيلا لخططه أولها«البيان والأعراب فيمن دخل مصر من الأعراب»(5)ثانيها«عقد جواهر الاسفاط في أخبار مدينة الفسطاط»ثالثها«اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء»(6) في تاريخ الدولة الفاطمية، رابعها« السلوك بمعرفة دول الملوك»(7)في تاريخ الدولتين الأيوبية والمملوكية، ومنها كذلك بعض كتب في التراجم والطبقات ساعدته كثرة دراسته للتاريخ أن يعد مادة تأليفها أهمها:«المقفى»(8) في تراجم أمراء مصر ومشاهيرها منذ أقدم العصور غالى ما قبل عصره، و«درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة»(9) ترجم فيه لمعاصريه، و«الخبر عن البشر»(10) في التاريخ القديم ضمنه قبائل العرب ونسب الرسول.
وأما الثانية، وهي أشبه بالمقالة الصحفية الطويلة، فمنها ما كتبه في أول عهده بالتأليف مثل«إغاثة الأمة بكشف الغمة»وهو موضوع حديثنا، و«شذور العقود في ذكر النقود»(11)بحث فيه تاريخ النقود العربية، و«المكاييل والموازين الشعرية»درس فيه الاكيال والأوزان بالنظر إلى الشرع(12)ويظهر أن ضيقه بوظيفة الحسبة وأعبائها كان دافعا له إلى تأليف هذين الرسالتين، ومنها مجموعة خاصة ببلاد العرب وأخبارها كتبها أيام كان مجاورا بمكة وهي« الكلام ببناء الكعبة بيت الله الحرام»و«ضوء الساري في معرفة تميم الداري»و«التبر المسبوك في ذكر من حجمن الخلفاء والملوك »و وصف حضرموت العجيبة» و« الإلمام بمن في ارض الحبشة من ملوك الإسلام» وغير هذه من المؤلفات الكثيرة التي كتبها في موضوعات مختلفة ومتنوعة.
والكتاب الذي نريد أن نتحدث عنه هو«إغاثة الأمة بكشف الغمة» تقع طبعته الثانية في ست وثمانين صفحة من القطع الكبير، وقد نشره لأول مرة سنة أربعين وتسعمائة وألف الدكتوران محمد مصطفى زيادة وجمال الدين الشيال معتمدين على ثلاث نسخ مخطوطة: الأولى بمكتبة في استانبول، والثانية بدار الكتب المصرية، والثالثة بمكتبة جامعة كمبردج بانجلترا،والى جانب تصدير الطبعة الأولى الذي أعيد نشره في أول الطبعة الثانية كذلك والذي أعطى فيه الناشر أن لمحة قصيرة جدا عن الكتاب وأهميته، توجد مقدمة عليمة كتبها الدكتور حسين فهمي ذهب فيها إلى أن النظريات الاقتصادية وليدة بيئة لصاحبها وان الفكر الاقتصادي العربي بلغ ذروته في القرن الخامس عشر الميلادي بظهور ابن خلدون وابن الدلجي والمقرزي، واستخلص من قراءته للكتاب أن المؤلف عرض فيه لنظريتين من النظريات الاقتصادية الحديثة احدهما تتصل بالأزمات الدورية أو الموسمية وما زالت إلى الآن وخاصة في الولايات المتحدة أساس لدراسات اقتصادية، والثانية خاصة بتثبيت النقد وسلامته، وهي أن النقد الرديء يطرد النقد الجيد والفلوس النحاسية نقد رديء بالنسبة لدرهم والدينار فطردتهما من السوق، ولاحظ الدكتور فهمي أن هذه القاعدة الاقتصادية وتعرف بقانون جريشام قد سبق المقرزي إلى توضيحها في رسالته هذه قبل مائة سنة تقريبا من مولد جريشام، واعترض الدكتور شافعي في كتاب له عن النقود والبنوك أن يكون جريشام هو صاحب هذا القانون ولكنه لم يعز للمقريزي فضل السبق إليه وإنما رده إلى أصوله الأولى فقال:
«على أن جريشام لم يكن أول من فطن إلى القانون المذكور فقد سبقه إلى ذلك ارستوفان في القرن الخامس قبل الميلاد كما صاغ اوريزم القانون صياغة دقيقة في كتاب له عن النقود سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف للميلاد».
ومن يدري لعل المقريزي وقف على هذه النظرية خلال مطالعاته ودراساته فطبقها على أزمة النقد في بلاده، ولعله كذلك وصل إليها بتفكيره العلمي العميق.
وفي مقدمة الكتاب أوضح المقريزي طريقته في معالجة الموضوع بعد ان صرح بان ما نزل بالناس من محن وأزمات يرجع إلى سوء تدبير الزعماء والحكام وبين في فصل صغير يليها كيف أن الإنسان يستخف الحوادث السابقة ويستسهلها مهما كانت صعبة على الذين عاشوها، لمجرد انه لم يشاهدها، ولان ملالة الحالة الحاضرة تزين له في وهمه حالة الماضي وبالتالي فان المحن التي نزلت في أيام المؤلف كانت مسبوقة بأزمات اشد وأصعب.
وتحت عنوان«فصل في إيراد ما حل بمصر من الغلوات وحكايات يسيرة من أنباء تلك السنوات»ذكر ما حل بمصر بأزمات الغلاء منذ قديم الزمان، فنقل عن إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب«أخبار مصر قبل الإسلام» أن أول محنة نزلت بمصر كانت في زمن الملك السابع عشر منم ملوك مصر قبل الطوفان واسمه افروس بن مناوش، بسبب انقطاع الأمطار وقصر ماء النيل فهلك الناس، ثم وقع بعدها وقبل الطوفان كذلك غلاء في زمن الملك التاسع عشر المسمى فرعان بسبب الظلم والجور، أما بعد الطوفان وفي أيام تريب بن مصريم الملك الثالث عشر فقد توقف جريان ماء النيل مدة طويلة فهلك الناس ومشى الملك وقد أضعفه الجوع فكتب إلى هود عليه السلام يلتمس منه الدعاء فتوسل النبي إلى ربه فاستجاب وأجرى النيل، ثم كانت الأزمة التي دبر أمر البلاد فيها يوسف عليه السلام، وكانت زمن ثالث ملوك الفراعنة تبعها غلاء هو الذي يقول فيه تعالى:« ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون» والذي يقول فيه كذلك:«ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات لعلهم يذكرون». ثم انتقل بعد ذلك لما تعرضت له مصر بعد الإسلام من محن الغلاء، فذكر انه سنة سبع وثمانين حدثت أول أزمة وأمير مصر يومئذ عبد الله بن عبد الملك بن مروان فتشاءم الناس، ثم تلتها أخرى أيام أبي القاسم أو نوجور الإخشيدي فشارت الرعية، وقصر ماء النيل بعد ذلك فتظاهر الناس وكسروا منبر الجامع، وتوالت المحن أيام علي وكافور الاخشدي، منذ سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة بسبب قصر ماء النيل فكثر النهب وانتشرت الفتنة وعم الاضطراب واشتد الوباء وفشت الأمراض وكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم فكان منهلك يطرح في النيل، واستمرت الأزمات تسع سنين لتنتهي بمسير القرامطة إلى مصر ودخول جوهر الصقلي قائد جيوش الإمام المعز لدين الله واتخذت الإجراءات فانحل السعر وأخصبت الأرض عاد الرخاء، وكثرت المجاعات في أيام الحاكم بأمر الله بسبب هبوط النيل فانتشرت المسغبة وهلك الناس وفي أيام المستنصر كذلك أحسن القائمون تدبيرها فحلت كلها وعاد الرخاء، ووقع غلاء مرة في عهده بسبب ضعف السلطة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة فتعطلت الأراضي، وانتشر الخوف وعم الوباء واكل الناس القطط والكلاب بل تزايد الحال فأكل الناس بعضهم بعضا« وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها وعهم سلب وحبال فيا كلاليب فإذا مر بهم احد القوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه واكلوه»وباع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وسلاح وغيره وصار يجلس على حصير» و«جاء الوزير يوما على بغلته فأكلها العامة فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم»ثم أعقبتها أزمات أيام الحافظ لدين الله وفي عهد الفائز وفي سلطة العادل أبي بكر الأيوبي سنة ست وتسعين وخمسمائة بسبب توقف النيل عن الزيادة« فأكل الناس صغار بني آدم من الجوع فكان الأب يأكل ابنه مشويا ومطبوخا والمرأة تأكل ولدها»وكان يدخل الرجل دار جاره«فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ فإذا هي لحم طفل» لدرجة لما«أغاث الله الخلق بالنيل لم يوجد احد يحرث أو يزرع»، وقصر النيل أيام السلطان العادل كتبغا التركي وهبت ريح مهلكة فجمع الفقراء والمحتاجين وفرقهم على الأمراء لإطعامهم، كما حدثت مجاعة أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وفي أيام الاشرف شعبان سنة ست سبعين وسبعمائة وقع آخر غلاء وقد أدركه المؤلف، ولاحظ الناشران انه قبل هذه المحنة الأخيرة نزل وباء شنيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة دام سنتين عمت آثاره أمم الشرق والغرب، وهو لمعروف في تاريخ الشرق باسم الفناء الكبير وفي التاريخ الأوربي باسم الموت الأسود،وكان سبب انتشار بعض الأمراض الوبائية، ولعل المقريزي لم يشر إليه لأنه قصر كتابه على أخبار المحن الناجمة عن الغلاء وسوء الحكم في مصر.
وانتقل المقريزي بعد هذا الغرض الذي استغرق منه ما يقرب من نصف صفحات الكتاب ليتحدث في فصل خاص عن أسباب هذه المحن التي تعرضت لها البلاد فردها إلى ثلاثة أسباب:أولها توصل الجهلاء والظالمين بالرشوة إلى تقلد أعلى مراتب الحكم في الدولة كالمناصب الدينية وولاية الخطط السلطانية من وزارة وقضاء ونيابة وغيرها واضطرارهم لتسديد ما وعدوا به السلطان من أموال إلى تعجلها من أعضاء حاشيتهم وأعوانهم فيقرروا عليهم ضرائب تدفعهم أن يمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا الذين يضطرون إلى الاستدانة وبيع ما يملكون من أثاث وحيوان. ثانيها ارتفاع إيجار الأطيان، وغلاء نفقات الحرث والبذر والحصاد، وارتفاع ثمن المحصولات مما نتج عنه خراب كثير من القرى وتعطيل الأراضي الزراعية ونقص فيما تخرجه الأرض من غلال لموت كثير من الفلاحين والزراع وتشردهم في البلاد وقد هلكت دوابهم ولعجز آخرين ممن يملكون الأراضي عن ازدراعها لارتفاع سعر البذر ونقص اليد العالمة. ثالثها رواج الفلوس النحاسية التي أصبحت النقد الغالب، واحتفاء الدراهم والدنانير من التعامل لعدم ضربهما ولسبك ما بأيدي الناس منهما لاتخذاه حليا، وقد تفنن الأمراء والأتباع والأعوان في الترف والتأنق وتباهوا بفاخر الزي وجليل الحلي، فكان أن دهى الناس وذهب المال وقلت الأقوات وتعذر وجود المطالب، والملاحظ أن المقرزي لا يرى النقد سليما إلا إذا قام الذهب والفضة، واستطرد من شرحه لهذا السبب إلى إعطاء نبذة غير قصيرة عن العملة وتاريخها في الجاهلية والإسلام، فذهب إلى أن العرب الجاهليين كانوا يتعاملون بالمثقال المسكوك من الذهب والفضة، دينارا كان أو درهما، ثم بعث النبي(ص) فاقر أهل مكة على ما كانوا يتعاملون به، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، غير أنهم زادوا نفوس بعض الكتابات مثل«الحمد لله»و «لا الاه إلا الله وحده» كما ضرب الخلفاء الأمويون دراهم ودنانير نقشوا عليها كتابات وآيات مع اختلاف في الوزن والشكل، وانفرد معاوية من بين كل الخلفاء بسك دنانير عليها تمثاله متقلدا سيفه، وسار العباسيون بعدهم على ما وجدوا إلا أنهم نقصوا في الوزن، ثم تحدث عن تاريخ العملة في مصر وإنها كانت دنانير من الذهب وان الفضة كانت تتخذ للحلي والأواني وقد يضرب منها للمعاملات التي يحتاج إليها كل يوم لنفقات البيوت إلى أن كان عهد الحاكم بأمر اله الفاطمي فسلك الدراهم من الفضة مخلوطة أحيانا مع النحاس، وبقيت العملة على هذا النمط حتى دولة الأيوبيين، فراجت الدراهم الكاملة وهي مزيج من الفضة والنحاس، واستمر التعامل بها حتى في أيام مواليهم الأتراك، أما الفلوس النحاسية فقد أخذ يزداد انتشارها منذ ضربها الكامل الأيوبي إلى أن طغت على الدراهم والدينار فاختفيا وكانت الأزمة.
ثم تحدث بعد هذا عن طبقات الناس وبيان الحالة المادية لكل منها فجعلها سبعا:الأولى أهل الدولة ويبدو لهم أن الأموال كثرت بأيديهم بالنسبة لما كانت عليه قبل المحن باعتبار غلاء سعر الذهب وما يتحصل لهم من خراج الأراضي وقد ارتفع ثمنها،في حين أنهم لو تدبروا الأمر لوجدوا انه لم ينلهم في الواقع ربح. الثانية مياسير التجار وأولوا النعمة والترف ويظنون أنهم بزيادة الدخل يكسبون وهم في الحقيقة يخسرون بسبب كثرة النفقات واختلاف النقود. الثالثة أصحاب البز وأرباب المعايش ويقتاتون مما يتحصل لهم من الربح حسب الواحد منهم إلا يستدين.
الرابعة أصحاب الفلاحة والحرث، وفيهم من اثرى، وهم الذين ارتوت أراضيهم أثناء المحن، وفيهم منهلك لتوالي الأزمات وقلة ري الأراضي وهم الأغلبية الخامسة الفقراء، وهم أكثر الفقهاء وطلاب العلم ومن يلحق بهم، صغار الموظفين وصغار الملاك، وهم لسوء ما حل بهم ما بين ميت أو مشتهي الموت.
السادسة أرباب المهن والإجراء والخدم والسواس والحاكة والبناة وأمثالهم من العمال، وقد ما أكثرهم ولم يبق منهم غير القليل مما ضاعف أجورهم. السابعة أهل الخصاصة والمسكنة، وقد فنى معظمهم جوعا وبرادا ولم يبق منهم إلا اقل من القليل.
واتبع هذا الفصل الخاص بالطبقات بآخر عن أسعار المبيعات في القاهرة والإسكندرية، وخاصة مواد الغذاء من حبوب ولحوم وخضر وفواكه واستشهد بالأرقام على هذا ثمنها بسبب كثرة انتشار الفلوس واستخدامها عملة رئيسية، والعودة إلى التعامل بنقود الذهب والفضة، وبالعودة إليه، وهو وحده المعتبر طبيعة وشرعا،وترجع أحوال الناس إلى ما كانت عليه، ويبقى ما بأيديهم من ذهب يتحلون به أو نقود يتعاملون بها يعود الرخص والرفه إلى ما مكانا عليه، ومرة أخرى يؤكد في آخر الكتاب أن السبب في فساد الأمور إنما هو سوء التدبير لاغلاء الأسعار.
والذي يتضح لنا من بين فصول الكتاب أن المقريزي تأثر بيئته اشد التأثير وبما كان يدور حولها من حوادث وأحداث، وهو غفي هذا تلميذ لابن خلدون، وكان يحضر دروسه في الأزهر أيام إقامته بالقاهرة، (13)فابن خلدون عاش في المغرب والأندلس ولاحظ عن قرب ما تتخبط فيه العدوتان من فوضى وفساد مرجعهما إلى القائمين بشؤون الحكم فدفعه ذلك لكتابة مقدمته التي عالج فيها ظواهر الاجتماع ودرسها ليكشف عن القوانين التي تخضع لها هذه الظواهر سواء في نشأتها وتطورها وانحلالها، غير مخل بمشاكل الاقتصاد وما يتعلق بالإنتاج والتجارة، شارحا أسباب سقوط الدلو واثر الظلم في خراب العمران، وذلك فعل المقرزي، فقد لاحظ سياسة المماليك المنحزبة والتطاحن الذي كان بين الأتراك الجراكسة وبين المماليك المقيمين وما قاساه المصريون من ألوان الظلم والطغيان،وما سببه احتقارهم للعشب واستهتارهم بمصالحه من فتن وثورات طواعين ومجاعات، فكتب رسالته موجها عنايته للناحية الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، ثم أسرة المقريزي حديثة العهد بالحياة المصرية، فهي تلاحظ خصائصها وتقارنها بالحياة القديمة التي عاشتها بلبنان، وطفل يعيش وسط أسرة هذه حالها لابد أن تتولد فيه روح البحث والاستطلاع، هذا إلى أن هناك أسبابا كانت دافعا لتأليف الكتاب، لعل أهمها وفاة ابنته في الطاعون ولمتكن قد تجاوزت سن السادسة، وتجاربه الخاصة أثناء مزاولته للحسبة حيث كان يختلط برواد الأسواق من تجار وصناع وأرباب الحرف والمهن ويبحث حالة الأسعار والنقود ويضبط الموازين والمكاييل ويراقب صغار التجار والباعة المتجولين ويفصل في شكاوي الأسواق ويوقع العقوبات ويصدر الأوامر والقوانين وغير هذه من المهمات التي تدخل حاليا في نطاق وزارات التموين والاقتصاد والداخلية والشؤون الاجتماعية، هذا إلى أن الجماعة التي حدثت في زمنه(14) أحفزته أن يبين:« إن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا انه كما مر من الغلوات وانقض من السنوات المهلكات» ولم يقتصر تأثر المقريزي بابن خلدون على موضوع البحث فحسب بل تعداه إلى الشكل الذي يخرج عليه، فهو كإسناده يوجز الأسلوب ويكثر من الاستشهادات التاريخية، وهو مثله يفتح الفصول مخاطبا القارئ وداعيا له، ثم هو أخيرا يختمها بآية أو آيتين من القرآن.
ولم يمنع كل هذا التشابه من وجود فرق بين العالمين الكبيرين، فالمؤرخ المغربي شملت ملاحظاته ظواهر الاجتماع في كل الشعوب التي عاش فيها واحتك بأهلها مركزا في معالجته للمشاكل على الناحية التاريخية والاجتماعية، في حين أن زميله خص موضوعاته بمصر يعالجها علاجا تحليليا.
ولا نريد أن ننهي هذا التحليل العجالي دون أن نلاحظ أن المقريزي في رسالته هذه وفي غيرها من الكتب الصغيرة يدلي بآرائه معللا ومحللا وشاحرا في غير كثير من التقيد والتحفظ مما يلقي ضوءا على شخصيته يندر أن نعثر عليه في كتبه الطويلة التي يجرفه فيها سبيل أخبار الخلفاء والأمراء والحروب وما إليها من الحوادث الطويلة الذيول.
(1) أي كاتبا، وديوان الإنشاء هذا كان أشبه بوزارة الشؤون الخارجية اليوم
(2) أي قاضيا
(3) برقوق وذلك سنة 1398.
(4) طبع مرتين الأولى في مجلدين والثانية في أربعة.
(5) مطبوع ومترجم إلى الألمانية.
(6) مطبوع في ثلاثة أجزاء غير مطبوعة.
(7) في ستة أجزاء أربعة أجزاء.
(8) في ستة أجزاء غير مطبوعة.
(9) طبع وترجم إلى الايطالية والفرنسية.
(10) مطبوع ومترجم إلى الايطالية
(11) مطبوع ومترجم إلى الفرنسية.
(12) نسبة إلى الاقتصادي الانجليزي المعروف توماس جريشام(1519/1579)
(13) امتدت إقامة ابن خلدون بمصر من سنة 784 إلى سنة 808(1382/1406)
(14) من سنة 796 إلى سنة 808.
(2) أي قاضيا
(3) برقوق وذلك سنة 1398.
(4) طبع مرتين الأولى في مجلدين والثانية في أربعة.
(5) مطبوع ومترجم إلى الألمانية.
(6) مطبوع في ثلاثة أجزاء غير مطبوعة.
(7) في ستة أجزاء أربعة أجزاء.
(8) في ستة أجزاء غير مطبوعة.
(9) طبع وترجم إلى الايطالية والفرنسية.
(10) مطبوع ومترجم إلى الايطالية
(11) مطبوع ومترجم إلى الفرنسية.
(12) نسبة إلى الاقتصادي الانجليزي المعروف توماس جريشام(1519/1579)
(13) امتدت إقامة ابن خلدون بمصر من سنة 784 إلى سنة 808(1382/1406)
(14) من سنة 796 إلى سنة 808.
دعوة الحق
ع/52
دعوة الحق - المقريزي ورسالته إغاثة الأمة بكشف الغمة
المقريزي نسبة إلى مقريز وهي حارة في بعلبك بداخل لبنان عاش فيها أسلافه منذ زمن بعيد إلى أن تحول عنها علي والده ورحل إلى القاهرة، وفيها وفي بيت بحارة ب...