حسيب شحادة - شجرة المتاعب؛ النافذة.. قصتان

كنت قد تسلّمتُ هاتين القصّتين القصيرتين بالإنجليزية إلكترونيًا من صديق لبناني وارتأيتُ نقلهما للعربية ليطلع عليهما القارىء العربي. في القصتين مجهولتي الكاتب مِسحة عطرة من الحكمة البسيطة والإنسانية العميقة نحو الآخر.



شجرة المتاعب


اكتريت نجّارًا لمساعدتي في ترميم بيت قديم في المزرعة. وبعد أنِ انتهى من يوم عمله المضني الأوّل وجد أن إطارًا مفرَّغا (منفّسا) من الهواء قد أدّى إلي تضييع ساعة عمل كما أنّ مِنشاره الكهربائي قد تعطّل وكذلك شاحنته الخفيفة والقديمة.

أرجعتُ النجّار بسيّارتي إلى بيته وكان صامتًا كالحجر. عند وصولنا إلى بيته دعاني للدخول والتعرّف على عائلته. وعندما توجّهنا نحو الباب الأمامي، توقّف النجّار برهة قصيرة من الزمن بجانب شجرة ولمس بكفّيه رؤوس الأغضان. وحال فتح الباب تحوّل النجّار بصورة مدهشة. ولّى الوجوم والعبوس من على وجهه وارتسمت ابتسامة عريضة على محيّاه وعانق ولديه الصغيرين، طبع قُبلة حارّة على وجنة زوجته. بعد ذلك رافقني إلى السيارة ومررنا بالشجرة ذاتها ولم أستطع كبت حبّ الاستطلاع، فنبق سؤال عمّا رأيته يفعل من قبلُ.

آهٍ، هذه شجرة متاعبي، أجاب. أعلم أن لا مندوحة من مواجهة المتاعب والمنغّصات في العمل إلا أنّ هنالك أمرًا واحدًا مؤكّدا، لا غبارَعليه وهو: المتاعب والمنغّصات لا دخل لها في البيت مع زوجتي وأولادي. إنّي أعلّق تلك الهموم على الشجرة كلّ مساء عند عودتي إلى البيت. وفي الصباح التقطها من جديد، ومن الطريف المضحك، أضاف النجّار مبتسمًا، عندما أخرج في الصباح لالتقط تلك الهموم والمتاعب أجدها أقلَّ عددا ممّا تركتها آخر مرة.



النافذة



مريضان يعانيان من مرض عُضال يقبعان في غرفة واحدة في المستشفى. كان يُسمح لأحدهما أن يجلس على سريره ساعة واحدة كلّ عصر ليتسنّى تفريغ السائل من رئتيه، وكان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة. أمّا الرجل الآخر فكان عليه تمضية الوقت كلّه مستلقيًا على ظهره. تحادث الرجلان طَوال ساعات وساعات من دون انقطاع، عن زوجتيهما وأسرتيهما ومنزليهما ومهنتيهما والخدمة العسكرية وأماكن الإجازة والاستجمام.

وفي كلّ يوم بعد الظهر، عند جلوس الرجل الذي بجانب النافذة كان يقضي الوقت واصفًا لجاره في الغرفة كلّ ما كان ممكنًا رؤيته خارج النافذة. في مثل هذه الفترات ذات الساعة كان المريض المستلقي يحسّ بالحياة والبهجة تدبّان في كيانه عند استماعه لما يجري من نشاط وتغيير في العالم الخارجي.

كانت النافذة مطلّة على حديقة عامّة فيها بحيرة جميلة حيث يسبح البط والإوزّ والفتية يطلقون مجسّمات القوارب على سطح الماء. عشّاق في عنفوان الشباب يتمشون متشابكي الذراعين وسط زهور ذات كل ألوان قوس القزح. أشجار ضخمة تُضفي روعة وتألقا على المنظر ومشهد جميل لأفق المدينة يتجلّى عن بعد. وعند وصف الرجل الذي بجانب النافذة كلّ هذا بتفاصيل فاتنة كان بميسور المريض المستلقي في الجانب الآخر من الحجرة أن يُغمض عينيه ليتخيّل تلك المناظر الخلابة الأخّاذة بكلّ مجامع الإحساس والشعور.

وذات عصر دافىء وصف الرجل الذي بجانب النافذة عرضًا عسكريًا مرّ من هناك. وبالرغم من أن الرجل الآخر لم يتمكّن من سماع الجوقة الموسيقية إلا أنّه كان في مقدوره أن يرى رؤية القلب كل ّما كان يسرده عليه الرجل الثاني بكلّ دقّة وتفصيل.

مضت أيام وأسابيع، وذات صباح جاءت ممرّضة لإحضار الماء للاستحمام وإذا بالرجل الذي بجانب النافذة جثّة هامدة. قضى نحبه بكل هدوء وسكينة أثناء النوم. حزنت الممرّضة عليه حزنًا شديدًا ونقلت الجثّة إلى مكان آخرَ في المستشفى. وفي أقرب فرصة سانحة طلب المريض المتبقّي أن يُنقل إلى السرير المحاذي للنافذة فقامت المريضة بتلبية تلك الرغبة بكلّ ترحاب وسرور.

ببطىء ووجع واضحين اتّكأ الرجل على كوعه ليلقي نظرته الأولى على العالَم الخارجي ليمتّعَ ناظريه. إثر جهد جهيد تمّ له إلقاء نظرة متفحّصة للخارج فارتطمت بجدار أبيضَ شاحب اللون. سأل الرجل الممرضةَ ما الذي أرغم زميله المتوفّى لوصف كلّ تلك المناظر الفاتنة الساحرة خارج الغرفة. ردّت الممرّضة: ذلك الرجل، رحمه الله، كان ضريرًا ولم ير حتّى ذلك الجدار. وأردفت قائلة: ربّما قصد أن يشجّعك ويشدَّ على يديك في معاناتك!

الخاتمة



ثمّة سعادة عظيمة في إسعاد الآخرين رغم ظروفنا الخاصّة. الحزن المشارَك فيه ينتصف، أمّا السعادة المشارَك فيها فتتضاعف. إذا نويت أن تشعر بالغنى فعُدَّ كل الأشياء التي بحوزتك والتي لا تُقتنى بمال!

Today is a gift, that’s why it is called the present

سُمّي الحاضر حاضرا لحضور هبة الله!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...