دعته اليد الدافئة لزيارتها في البيت.
استحمّ، وحلق ذقنه، ولبس ملابس أنيقة. وقف أمام المرآة يعقد ربطة عنقه، ولاحظ خطوط الشيب في شعره، فابتسم. كان الشيب يعطي لمظهره رزانة. حدّث نفسه: شابت نواصي الليالي فانحنت، لكنني لم ولن أنحني.
في طريقه إليها، توقف عند بائع الزهور، وانتقي باقة من الزنبق وعُرف الديك.
نقله المصعد إلي الطابق الخامس، وضغط علي زر الجرس، ففتحت الباب بابتسامة أضاءت وجهها.
قدّم لها باقة الورد، فتناولتها، وانحنت نحوه، وقبّلته من خديه عرفاناً وودّاً.
قال لنفسه: عليك من الآن فصاعداً أن تتعلم إتيكيت الأرستقراط الاجتماعي.
قادته إلي الصالة، ووضعت الباقة علي طاولة الوسط أمام الكنبة، ورحبت به بصوت مثل رنين الذهب.
شكرها وعبّر عن محبته لها، واعتزازه بها.
دخل شقيقها خليل وسلّم عليه بالأحضان، وكان يرتدي ثياب الخروج، وبيده مفاتيح السيّارة. سلّم واعتذر وقال إنّه ذاهب مشواراً قصيراً، ولن يتأخر.
خرج خليل، وبقيا وحدهما. كانت تلبس فستاناً بلون أزرق، مثل فساتين السهرة، قصير الكمّ ومعه شال شفّاف، وتتدلي من جيدها سلسلة ذهبية، ومن أذنيها قرطان بلون الفستان، فكأنّها ذاهبة إلي سهرة.
ياه، كم هي مبهجة!
بحث عن كلمات يقولها للثناء علي لباسها، وعندما التقت الأعين، أتته الجرأة، فرفع إبهام يده، ورسم ابتسامة، وقال: كم أنت ساحرة!
ارتبكت للحظة، وقالت بخفر ودلال: عيونك الحلوين.
ثمّ استأذنته، وخرجت من الصالون بهدوء.
خرجت فتأمّل هذا الصالون الذي يتسم بفخامة وبساطة معاً، وانتبه إلي أن هناك في الزاوية مدفأة حطب، فوقها صور للعائلة تمثل مناسبات ما، وعلي الحائط صورة لوالدها في إطار باللونين الأبيض والأسود يبدو فيها رزيناً وحكيماً وقد غزا الشيب شعره، وإلي جانبه إطار آخر لصورة والدتها في شبابها، وتبدو في الصورة مفعمة بالجمال.
عادت نرمين إلي الصالون تحمل صينية عليها كوبان من العصير، فتقدمت منه وانحنت تضيّفه. كانت قريبة منه، شمّ عطرها، ودّ لو مدت له يدها الدافئة ليحتضنها، كان بحاجة ليد دافئة.
تناول الكوب، فوضعت الصينية الصغيرة التي تشبه تحفة فنية علي الطاولة، عندها مد إليها يده فالتقطت يده وضغطت عليها ضغطة واحدة، ثمّ سحبتها، وعادت سريعاً إلي مقعدها.
احمرّ وجهها، وبدا عليها الارتباك.
حاولت أن تجرّ الحديث إلي نحو آخر، فسألته عن أخباره، وأخبار الأرض التي يملكها في وادي الباذان، وعمّا قيل عن أن مرافقه السابق رأي فيها ما رأي. كانت -كما يبدو- تريد أن تملأ الوقت ريثما يعود خليل. فقد سبق لها أن سألته هذا السؤال في لقاء سابق.
وسألها بدوره عن الشعنونة هياتارو، تلك الصبية اليابانية المشاغبة والظريفة، فاسترسلت في الحديث الطريف عنها، واندماجها مع الشبيبة الذين ينظمون التظاهرات، ويشتبكون مع حواجز الاحتلال، والذين رافقوها إلي مقابر الأرقام في الجليل الشرقي، فصوّرت، ووصفت تلك المقابر التي تتعرض للانجراف من الأمطار والسيول، وتطيح بلوحات الأرقام، وتكشف عن عظام الشهداء وتجعلها نهباً للذئاب والكلاب المسعورة. كتبت عن هول ما رأته، وأرسلته إلي الصحيفة اليابانية التي تراسلها. وقالت إنها صارت تغيب عن البيت كثيراً بسبب ذلك، لكنّها ستعود الليلة مع خليل.
رنّ جرس الباب، قامت برشاقة كما لو أنّها تعرف من القادم.
انفتح الباب ودخل الدكتور نادر يحمل بدوره باقة ورود، ورحّبت به بحرارة، وقادته إلي الصالون.
صافح أحمد صاحبه الطبيب بحرارة، وأضفي حضوره جوّاً من المؤانسة، واغتنمت نرمين الفرصة ووضعت الورود في المزهريات، وقدّمت لهما القهوة.
رنّ جرس الباب من جديد.
كان القادم الخال أبو مجدي وزوجته، المُسنّان اللذان ما زالا يحتفظان ببنية قويّة. دخلا يحملان هديّة ملفوفة بورق الهدايا.
عرّفتهم بعضهم علي بعض، ومنذ الدقائق الأولي، أبدي الخال الذي يلبس حذاءً رياضيّاً وبدلة رياضة، ويضع علي رأسه قبعة، أبدي ظُرفاً وأطلق طرفة عن رجل عجوز مثله تغلّب علي إبليس، ليؤكد أن العجائز يمتلكون المهارة، فضحك الجميع.
وأضاف أنّ زوجته التي جلست بثوب جميل يمنحها أبّهة تقول إنّه يشبه (سبنسر تراسي) بطل فيلم الشيخ والبحر المأخوذ عن رواية همنجواي، فأنا مثله صيّاد ماهر؛ بدليل أنني اصطدتها بصنّارتي عندما التقينا لأول مرة علي شاطئ حيفا، وكانت عيناي صنّارة، وجسدها المنحوت هو السمكة.
نشر الخال جوّاً حميماً، ورفع الكلفة معهم، وظلّ واقفاً، فجذبته زوجته العجوز التي لا يخلو وجهها من ملاحة، جذبته، وقالت: اقعد يا رجل. اقعد وخليك رزين. بدأ الخرف يصيبك.
جلس، ووضع رجلاً فوق أخري، وقال: سأدعو أسماك القرش لتأكلك وتصلي إلي الشاطئ هيكلاً عظميّاً إذا وصفتني مرة ثانية بالرجل الخرف.
ضجّ الجميع بالضحك، في حين توقف الخال عن الكلام.
وأخذ الحديث الدكتور نادر، وأعاد الجو إلي ما كان عليه، فقالت نرمين إنّ الخال يتسم بخفة الدم، ولا يتحرّج من رفع الكلفة؛ لأنّه يعتبر أن كل بني البشر أصدقاؤه.
رنّ جرس الباب، وقبل أن تقوم نرمين لتفتحه، كان خليل قد فتحه، فدخلت أولاً الصبية اليابانية هياتارو، دخلت يسبقها ضجيجها وصخبها وهي تغني أغنية ما، ربما أغنية يابانية. دخلا يحملان أكياساً وعلباً كرتونية، مشتريات دخلا بها إلي المطبخ والتحقت بهما نرمين.
ما الذي يجري؟ سأل أحمد صاحبه الدكتور. أهي دعوة عشاء؟ خيّل إليه أنه سيمضي السهرة بالمجاملات.
قال نادر: لا أعرف. أنا دعيت مثلك.
وكان الخال الذي أثار المرح، قد أسند ظهره إلي الكنبة وأغمض عينيه في غفوة.
وعندما عادت نرمين، نظرت إلي الخال، وابتسمت: إنّه يكون علي هذه الحال عندما يشرب النبيذ.
قالت زوجة الخال: غفوته قصيرة علي كل حال.
دخل خليل، وجلس وقد بدا عليه فرح ونشوة. أجري حديثاً ومجاملةً مع ضيوفه، جامل أحمد والدكتور نادر، وجامل زوجة الخال، وترك نرمين تجامل من تشاء. وحان الوقت لتدخل الصبية التي ستقود مجريات السهرة.
دخلت هياتارو باللباس التقليدي الياباني، دخلت بالكومينو المزركش بألوانه الزاهية، كأنّ كمشة ورد قد نُثرت عليه، كومينو بأكمام واسعة طويلة، وسطه زنّار مربوط من الخلف، ومن الأمام وضعت تحت الحزام ما سوف تستعين به عندما تؤدي الرقصة، كما كانت تلبس في قدميها حذاءً خفيفاً من القماش أبيض اللون، وعلي وجهها مساحيق، وشعرها مرفوع إلي الخلف ووسطه مشبك.
وقفت، وانحنت، وأدت لهم تحية المساء، فتعلَّقت بها العيون.
صفّقت نرمين بحماس، وتبعها الآخرون، وفتح الخال عينيه، ورأي المشهد، وصفّق بدوره، ووضع إصبعيه في فمه وأطلق صفيراً.
قالت هياتارو: أرحّب بالجميع بمناسبة عزيزة علي قلوب العائلة، مناسبة عيد ميلاد أم عائلتنا نرمين، نرمين الشقيقة الكبري. ونفتتح هذا الحفل الذي أنا أُديره برقصة تقليدية من بلدي اليابان، عنوانها: عندما يزهر الكرز، رقصة تقليدية من نوع (نيهون بويو).
فوجئ أحمد، لم يكن يتوقّع أن تكون الدعوة دعوة مناسبة، وأن تكون مناسبة عيد ميلاد اليد الدافئة!
قام خليل بتوسيع المساحة، فأبعد الطاولات الصغيرة، والكراسي غير الضرورية، لتتمكن هياتارو من أداء رقصتها دون عائق.
عند ذلك، أشارت الصبية بيدها إلي نرمين، كانت نرمين علي أتم الاستعداد، فشغّلت قرص الموسيقي.
>>>
سالت موسيقي اليابان التقليدية في فضاء الصالون، وفاضت حتي غمرت كل فسح البيت.
بدأت هياتارو برقص يشبه صلاة، تحرّكت علي رؤوس أصابعها، وبدا خف القطن في قدميها ينسج سجادة فرح تأتلف مع نغمات آلة الكوتو الوترية.
تمشي ثمّ تعتدل، وتستدير محرّكةً أردان الكومينو المزدان برسوم الزهور، ثمّ، ومع موسيقي آلة الشامسن، تُخرج يديها من أردانها وتؤدي ما يشبه الطقوس البوذية بتحريك رقبتها ذات اليمين وذات الشمال، وملامسة خديها وهي تتحّرك بخطوات ذات مغزي.
وبعد خطوات في مديح الربيع ونوّار الكرز، تستلّ من حزامها مظلة حمراء بلون الكرز، وتفردها، وتؤدي ما يشبه
صلاة شكر للخصب، وتدير المظلة وتجعلها تدور كأن رياح الربيع الناعمة تلاعبها. ثم تتناول من حزامها ما يشبه غصناً تتفتح علي جوانبه الزهور، وتقوم بحركات علي امتداد المكان تأتلف مع موسيقي ناي (الشاكوهاتسي) التي تعلو حتي ذُري مرتفعات جبل (فوجي).
أنهت عرضها الجميل بالرقص بمصاحبة المروحة التي تبترد بها نساء الحصاد بعد أن يملأن الجرار بالجعة، أو تبترد بها واحدة من نساء (الغيشا) بداخلها صفصافة. وأنهت رقصها بانحناءة طويلة، فصفقوا لها بحرارة، ثمّ انسلّت إلي الداخل.
أثنوا علي أدائها، وصار الحديث أيضاً عن عظمة الموسيقي وآلات العزف الوترية، وآلات النفخ الساحرة، وشرحت نرمين عن دلالات الرقصة ومعانيها السامية. وعلي الرغم من أنّ هذا النوع من الموسيقي جديد عليه، فإن أحمد أعلن عن استمتاعه. أما الخال، فقد وضع إصبعيه في فمه وأطلق صفيراً، وكرر ذلك عدة مرات.
عادت هياتارو إلي الصالون وقد استبدلت ثيابها التقليدية، ولبست ملابسها العصرية من قماش الجينز. ووقفت مثلما يقف عريف الحفل وقالت: شكراً لكم، وأرجو أن تكون الموسيقي والرقص قد نالا إعجابكم. لقد حرصنا علي أن تكون هذه الحفلة مفاجأة، لكي لا تشتروا للشقيقة الكبري هدايا وتدفعوا ثمنها من جيوبكم، مطلوب منكم أن تحضروا لها هدايا الأسبوع المقبل في مثل هذا اليوم. وللهدايا شروط، وأنا صاحبة الفكرة. يتعين عليكم أن تسرقوا الهدية من متجر أو مقهي أو فندق أو مطعم، أو أي مكان يروق لكم، تسرقوا، علي سبيل المثال، منشفة حمّام من فندق خمس نجوم، أو منفضة سجائر عليها (لوجو) مقهي معروف، أو أي هدية مسروقة عليها إشارة ودمغة.
قهقه الخال، وضحك أحمد، وقال الدكتور نادر: هذا أمر سهل بالنسبة إليّ.
قاطعته هياتارو مشاكسة: أنت بالذات لن نقبل منك هدية لها علاقة بمستشفي الهلال، نريد منك هديّة مسروقة من شركة الاتصالات؛ موبايل مثلاً.
ضحكوا، وكان أحمد مندهشاً، ومستمتعاً بهذا المرح.
وعادت هياتارو إلي كلامها: وفي مثل هذا اليوم من الأسبوع المقبل، نقوم بفرز المسروقات، ويصوّت أفراد العائلة الذين يقيمون في هذا البيت علي أشطر حرامي، وتمنحه الشقيقة الكبري جائزة، والجائزة تذكرتا سفر إلي منتجع شرم الشيخ علي الدرجة السياحية.
وبدأت التعليقات، والممازحات، فقال الخال ضاحكاً: تذكرة لمن يفوز، وتذكرة لخليلته.
حدجته زوجته بنظرة لا تخلو من التأنيب، فقهقه قائلاً: حد بيروح علي شرم الشيخ وبياخد سندويشته معه يا هبلة؟
أنقذه من غضبها تعليق مرح من الدكتور نادر: كلنا عندنا ساندويشات ما عدا مالك الحزين هذا.
وأشار إلي أحمد، فضحك أحمد، وردّ قائلاً: اطمئن. حظي سيئ؛ فلم أربح جائزة في حياتي.
وواصل الخال ظرفه: إذا فاز مالك الحزين، أشتري منه التذكرتين بثلاث زجاجات نبيذ فرنسي مستورد.
ردّ عليه خليل: لكنّ السيد أحمد لا يشرب الكحول.
فأجاب الخال: إذاً أشتريها بكرتونة بيرة خالية من الكحول.
كان الجو وديّاً، وكانوا مثل أطفال يلعبون في الهواء الطلق.
لم تعقّب هياتارو علي تعليقاتهم، وواصلت الكلام: والآن، وقبل أن نضع الكعكة ونقطعها، هناك حديث لأحد أفراد العائلة في مديح الشقيقة الكبري، وهذه النمرة لا تعرف بها نرمين.
اعتدل خليل في جلسته، رمق نرمين بنظرة حنونة وهيّأ نفسه. تنحنح، وبدأ الكلام:
الحديث عن شقيقتي الكبري لا يمكن اختصاره أو الإحاطة به في مثل الوقت القصير الذي حدّدته لي حبيبتي هياتارو. نرمين هي أمّي الثانية. هي التي كانت تحمّمني عندما كانت أمي علي قيد الحياة، وهي التي ربتني بعد وفاة أمّي. ولعلني أذكر مثَليْن فقط لا يغيبان عن ذاكرتي الطفولية: الأول يتعلق بالبطاطا؛ فقد كنت أحب البطاطا المشوية، وكانت والدتي تمنع عني كل طعام فيه نشويات، لأنني كنت سميناً ولا تريدني أن أكون كذلك، فكانت نرمين عندما تغيب أمّي عن البيت تستغل الفرصة وتشوي لي ما أشاء من البطاطا، وكانت الوالدة في حيرة من أمرها دائماً، وتستغرب كيف لا تفلح محاولاتها في تخفيف وزني.
استحسن الخال ذلك، وصفّق له قائلاً: برافو. وأنا كنت وما زلت أعشق البطاطا المشوية، الولد طالع لخاله.
ضحكت نرمين، فيما واصل خليل الكلام: المثل الثاني الذي ما زال عالقاً في ذاكرتي، والذي يفصح عن مدي حبّها لي، عندما اشتري لها والدي فردتيْ حلق من ذهب بمناسبة عيد ميلادها وهي في الثامنة من عمرها، فرحت كثيراً بالهديّة، ولشدة حبّها لي، وضعت فردة حلق في أذنها اليسري، ووضعت الفردة الثانية في أُذني اليمني بعد أن خرمت شحمة الأذن.
وتوقف لحظة، وأشار إلي أُذنه اليمني، وقال: انظروا إلي شحمة أذني هذه، فهي لا تزال مخرومة حتي الآن.
واو. هتفت هياتارو، وعلّقت قائلة: لم ألاحظ ذلك من قبل. إنّها المرة الأولي التي أعرف ذلك.
ثمّ التفتت إلي خليل، وقالت: بقي من وقتك سبع دقائق. أكمل.
عبرت مسحة حزن علي وجهه، فابتلع ريقه، وقال: لا يكفي الوقت لأحدثكم عن لحظات عاطفية غمرتني بها نرمين، شقيقتي الكبري الجميلة، وحجم التضحيات التي قدمتها للعائلة، خصوصاً بعد رحيل الوالدين، ونظراً لقصر الوقت المخصص لي، فيكفي أن أذكر لكم كيف أنقذتني من موت محقق.
لقد عانيت منذ الصغر من متاعب في الكلي، ومع مرور السنين تفاقم الوضع، ودخلت في مرحلة غسيل الكلي، وكنت في المرحلة الثانوية.
تركت وظيفتها، وكرّست كل وقتها لي، رعتني باهتمام، وسهرت علي راحتي، وكانت ترافقني في جلسات الغسيل، كنت بعد كل جلسة أعاني من فشل عام، وعندما أصحو من نومي، أجدها تجلس بجانبي وهي تذرف الدموع. وتفاقم الوضع، فقرر الأطباء ضرورة استئصال الكليتين، وزرع كلية جديدة، ولا بدّ من متبرع.
أبلغت الأطباء أنّها هي المتبرّعة.
حدث ذلك أثناء الانتفاضة الثانية، وتفاقمت الحالة أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمدن وقري ومخيّمات الضفّة، وفرض منع التجوال.
وأثناء تطوّر الأحداث والهجوم علي مبني المقاطعة بالدبابات، ومحاصرة أبو عمّار، أصبح الوضع صعباً، وغصّ المستشفي الحكومي في رام الله بالمصابين، وثلاّجته بالجثث، ولم تعد هناك إمكانية لإجراء الفحوص اللازمة، فضلاً عن عدم وجود طبيب مختص، فاقترح عليها الأطباء تحويلي إلي مستشفي (شعاري تصيدق) في القدس الغربية، لكنها رفضت اللجوء إلي مستشفي إسرائيلي، فكان البديل السفر إلي عمّان وإجراء العملية هناك. وكان وضعي يسوء، وأمضت أسبوعاً مضنياً وهي تحاول الحصول علي سيّارة إسعاف تنقلنا إلي الحدود الأردنية.
عند ذلك، احتقن وجهه، وبدت عليه ما تشي بنوبة بكاء، لكنّه تماسك، وواصل الكلام: لن أطيل عليكم. أخذتني في سيارة نقل في طرق التفافية لتجاوز الحواجز، وكانت حينها رام الله تحت سقف النار.
وصلنا الحدود الأردنية بشق الأنفس، ومن هناك، طلبت نرمين سيارة إسعاف مع طاقم طبي للإنعاش، ونقلوني فوراً إلي غرفة الإنعاش، وأجروا الفحوصات اللازمة لنا، وبعد أيام قليلة، أُجريت لي عملية زرع كلية انتزعت من أحشاء شقيقتي.
واحتقن من جديد، وبدت في صدره غصّة، وفجأة انهار بالبكاء، فنهضت نرمين فزعة وحضنته وهي تبكي.
حدث في الصالون وجوم، وسارعت هياتارو واحتضنت الاثنين.
ووقف الخال، واكتسي وجهه بالصرامة، ورفع صوته عالياً:
كفي. لا تحولوا الفرح إلي مأتم. كفكف دموعك يا ابن أختي، ولنعد الحفلة إلي ما كانت عليه. هياّ يا نرمين، هيّا أيتها العفريتة اليابانية.
ثمّ انتقل إلي أحمد وصديقه الطبيب: وأنتما، لماذا تعبسان ولا تقولان كلمة طيبة؟
وأدار وجهه إلي زوجته: وأنت يا ست بدور، هيّا. افعلي شيئاً.
مسح خليل دموعه، وانسلّ من بين يدي نرمين، وأبعد بيده هياتارو، ووقف، وقدم للجميع اعتذاراً، ثمّ قرّب نرمين منه، وقبّل رأسها وضمها إليه. ثمّ فتح ذراعيه وقال: ما كنت أرغب في هذا الإزعاج، اعذروني. هل يتطوع أحد منكم ليساعدني في حمل قالب الكيك وإحضار العصائر والأطباق؟
حدثت انفراجة، وخفّ الجميع لمساعدته، وفي غضون دقائق، تحلّقوا حول الطاولة، وأحضرت هياتارو الكاميرا، واستعادت نرمين، بفستانها الأزرق، رونقها، وصارت محط أنظار الجميع، فتورّد وجهها.
كانت الكعكة كبيرة، مغطاة بالشوكولاتة، وكتب عليها اسمها، وفي الوسط شمعة. أشعل خليل الشمعة، ومثل المايسترو أعطي الإيعاز، فاقترب الجميع بعضهم من بعض، وأحاطوا نرمين من كل جانب، بينما هياتارو تلتقط الصور.
انحنت نرمين لتطفئ الشمعة، وانطلقت الأصوات بالغناء والتهاني وأطيب التمنيات. أطفأت الشمعة برقّة وأناقة، وعلت الأصوات بمزيد من الغناء والتصفيق.
وقُطعت الكعكة، وتوزعت علي الجميع، وتألقت الأجواء، وتلقت نرمين التهاني بالأحضان، وظل أحمد يراقب نرمين، يراقب الفرح الذي يقفز من عينيها، ويحوّلها إلي حمامة زاجلة.
استحمّ، وحلق ذقنه، ولبس ملابس أنيقة. وقف أمام المرآة يعقد ربطة عنقه، ولاحظ خطوط الشيب في شعره، فابتسم. كان الشيب يعطي لمظهره رزانة. حدّث نفسه: شابت نواصي الليالي فانحنت، لكنني لم ولن أنحني.
في طريقه إليها، توقف عند بائع الزهور، وانتقي باقة من الزنبق وعُرف الديك.
نقله المصعد إلي الطابق الخامس، وضغط علي زر الجرس، ففتحت الباب بابتسامة أضاءت وجهها.
قدّم لها باقة الورد، فتناولتها، وانحنت نحوه، وقبّلته من خديه عرفاناً وودّاً.
قال لنفسه: عليك من الآن فصاعداً أن تتعلم إتيكيت الأرستقراط الاجتماعي.
قادته إلي الصالة، ووضعت الباقة علي طاولة الوسط أمام الكنبة، ورحبت به بصوت مثل رنين الذهب.
شكرها وعبّر عن محبته لها، واعتزازه بها.
دخل شقيقها خليل وسلّم عليه بالأحضان، وكان يرتدي ثياب الخروج، وبيده مفاتيح السيّارة. سلّم واعتذر وقال إنّه ذاهب مشواراً قصيراً، ولن يتأخر.
خرج خليل، وبقيا وحدهما. كانت تلبس فستاناً بلون أزرق، مثل فساتين السهرة، قصير الكمّ ومعه شال شفّاف، وتتدلي من جيدها سلسلة ذهبية، ومن أذنيها قرطان بلون الفستان، فكأنّها ذاهبة إلي سهرة.
ياه، كم هي مبهجة!
بحث عن كلمات يقولها للثناء علي لباسها، وعندما التقت الأعين، أتته الجرأة، فرفع إبهام يده، ورسم ابتسامة، وقال: كم أنت ساحرة!
ارتبكت للحظة، وقالت بخفر ودلال: عيونك الحلوين.
ثمّ استأذنته، وخرجت من الصالون بهدوء.
خرجت فتأمّل هذا الصالون الذي يتسم بفخامة وبساطة معاً، وانتبه إلي أن هناك في الزاوية مدفأة حطب، فوقها صور للعائلة تمثل مناسبات ما، وعلي الحائط صورة لوالدها في إطار باللونين الأبيض والأسود يبدو فيها رزيناً وحكيماً وقد غزا الشيب شعره، وإلي جانبه إطار آخر لصورة والدتها في شبابها، وتبدو في الصورة مفعمة بالجمال.
عادت نرمين إلي الصالون تحمل صينية عليها كوبان من العصير، فتقدمت منه وانحنت تضيّفه. كانت قريبة منه، شمّ عطرها، ودّ لو مدت له يدها الدافئة ليحتضنها، كان بحاجة ليد دافئة.
تناول الكوب، فوضعت الصينية الصغيرة التي تشبه تحفة فنية علي الطاولة، عندها مد إليها يده فالتقطت يده وضغطت عليها ضغطة واحدة، ثمّ سحبتها، وعادت سريعاً إلي مقعدها.
احمرّ وجهها، وبدا عليها الارتباك.
حاولت أن تجرّ الحديث إلي نحو آخر، فسألته عن أخباره، وأخبار الأرض التي يملكها في وادي الباذان، وعمّا قيل عن أن مرافقه السابق رأي فيها ما رأي. كانت -كما يبدو- تريد أن تملأ الوقت ريثما يعود خليل. فقد سبق لها أن سألته هذا السؤال في لقاء سابق.
وسألها بدوره عن الشعنونة هياتارو، تلك الصبية اليابانية المشاغبة والظريفة، فاسترسلت في الحديث الطريف عنها، واندماجها مع الشبيبة الذين ينظمون التظاهرات، ويشتبكون مع حواجز الاحتلال، والذين رافقوها إلي مقابر الأرقام في الجليل الشرقي، فصوّرت، ووصفت تلك المقابر التي تتعرض للانجراف من الأمطار والسيول، وتطيح بلوحات الأرقام، وتكشف عن عظام الشهداء وتجعلها نهباً للذئاب والكلاب المسعورة. كتبت عن هول ما رأته، وأرسلته إلي الصحيفة اليابانية التي تراسلها. وقالت إنها صارت تغيب عن البيت كثيراً بسبب ذلك، لكنّها ستعود الليلة مع خليل.
رنّ جرس الباب، قامت برشاقة كما لو أنّها تعرف من القادم.
انفتح الباب ودخل الدكتور نادر يحمل بدوره باقة ورود، ورحّبت به بحرارة، وقادته إلي الصالون.
صافح أحمد صاحبه الطبيب بحرارة، وأضفي حضوره جوّاً من المؤانسة، واغتنمت نرمين الفرصة ووضعت الورود في المزهريات، وقدّمت لهما القهوة.
رنّ جرس الباب من جديد.
كان القادم الخال أبو مجدي وزوجته، المُسنّان اللذان ما زالا يحتفظان ببنية قويّة. دخلا يحملان هديّة ملفوفة بورق الهدايا.
عرّفتهم بعضهم علي بعض، ومنذ الدقائق الأولي، أبدي الخال الذي يلبس حذاءً رياضيّاً وبدلة رياضة، ويضع علي رأسه قبعة، أبدي ظُرفاً وأطلق طرفة عن رجل عجوز مثله تغلّب علي إبليس، ليؤكد أن العجائز يمتلكون المهارة، فضحك الجميع.
وأضاف أنّ زوجته التي جلست بثوب جميل يمنحها أبّهة تقول إنّه يشبه (سبنسر تراسي) بطل فيلم الشيخ والبحر المأخوذ عن رواية همنجواي، فأنا مثله صيّاد ماهر؛ بدليل أنني اصطدتها بصنّارتي عندما التقينا لأول مرة علي شاطئ حيفا، وكانت عيناي صنّارة، وجسدها المنحوت هو السمكة.
نشر الخال جوّاً حميماً، ورفع الكلفة معهم، وظلّ واقفاً، فجذبته زوجته العجوز التي لا يخلو وجهها من ملاحة، جذبته، وقالت: اقعد يا رجل. اقعد وخليك رزين. بدأ الخرف يصيبك.
جلس، ووضع رجلاً فوق أخري، وقال: سأدعو أسماك القرش لتأكلك وتصلي إلي الشاطئ هيكلاً عظميّاً إذا وصفتني مرة ثانية بالرجل الخرف.
ضجّ الجميع بالضحك، في حين توقف الخال عن الكلام.
وأخذ الحديث الدكتور نادر، وأعاد الجو إلي ما كان عليه، فقالت نرمين إنّ الخال يتسم بخفة الدم، ولا يتحرّج من رفع الكلفة؛ لأنّه يعتبر أن كل بني البشر أصدقاؤه.
رنّ جرس الباب، وقبل أن تقوم نرمين لتفتحه، كان خليل قد فتحه، فدخلت أولاً الصبية اليابانية هياتارو، دخلت يسبقها ضجيجها وصخبها وهي تغني أغنية ما، ربما أغنية يابانية. دخلا يحملان أكياساً وعلباً كرتونية، مشتريات دخلا بها إلي المطبخ والتحقت بهما نرمين.
ما الذي يجري؟ سأل أحمد صاحبه الدكتور. أهي دعوة عشاء؟ خيّل إليه أنه سيمضي السهرة بالمجاملات.
قال نادر: لا أعرف. أنا دعيت مثلك.
وكان الخال الذي أثار المرح، قد أسند ظهره إلي الكنبة وأغمض عينيه في غفوة.
وعندما عادت نرمين، نظرت إلي الخال، وابتسمت: إنّه يكون علي هذه الحال عندما يشرب النبيذ.
قالت زوجة الخال: غفوته قصيرة علي كل حال.
دخل خليل، وجلس وقد بدا عليه فرح ونشوة. أجري حديثاً ومجاملةً مع ضيوفه، جامل أحمد والدكتور نادر، وجامل زوجة الخال، وترك نرمين تجامل من تشاء. وحان الوقت لتدخل الصبية التي ستقود مجريات السهرة.
دخلت هياتارو باللباس التقليدي الياباني، دخلت بالكومينو المزركش بألوانه الزاهية، كأنّ كمشة ورد قد نُثرت عليه، كومينو بأكمام واسعة طويلة، وسطه زنّار مربوط من الخلف، ومن الأمام وضعت تحت الحزام ما سوف تستعين به عندما تؤدي الرقصة، كما كانت تلبس في قدميها حذاءً خفيفاً من القماش أبيض اللون، وعلي وجهها مساحيق، وشعرها مرفوع إلي الخلف ووسطه مشبك.
وقفت، وانحنت، وأدت لهم تحية المساء، فتعلَّقت بها العيون.
صفّقت نرمين بحماس، وتبعها الآخرون، وفتح الخال عينيه، ورأي المشهد، وصفّق بدوره، ووضع إصبعيه في فمه وأطلق صفيراً.
قالت هياتارو: أرحّب بالجميع بمناسبة عزيزة علي قلوب العائلة، مناسبة عيد ميلاد أم عائلتنا نرمين، نرمين الشقيقة الكبري. ونفتتح هذا الحفل الذي أنا أُديره برقصة تقليدية من بلدي اليابان، عنوانها: عندما يزهر الكرز، رقصة تقليدية من نوع (نيهون بويو).
فوجئ أحمد، لم يكن يتوقّع أن تكون الدعوة دعوة مناسبة، وأن تكون مناسبة عيد ميلاد اليد الدافئة!
قام خليل بتوسيع المساحة، فأبعد الطاولات الصغيرة، والكراسي غير الضرورية، لتتمكن هياتارو من أداء رقصتها دون عائق.
عند ذلك، أشارت الصبية بيدها إلي نرمين، كانت نرمين علي أتم الاستعداد، فشغّلت قرص الموسيقي.
>>>
سالت موسيقي اليابان التقليدية في فضاء الصالون، وفاضت حتي غمرت كل فسح البيت.
بدأت هياتارو برقص يشبه صلاة، تحرّكت علي رؤوس أصابعها، وبدا خف القطن في قدميها ينسج سجادة فرح تأتلف مع نغمات آلة الكوتو الوترية.
تمشي ثمّ تعتدل، وتستدير محرّكةً أردان الكومينو المزدان برسوم الزهور، ثمّ، ومع موسيقي آلة الشامسن، تُخرج يديها من أردانها وتؤدي ما يشبه الطقوس البوذية بتحريك رقبتها ذات اليمين وذات الشمال، وملامسة خديها وهي تتحّرك بخطوات ذات مغزي.
وبعد خطوات في مديح الربيع ونوّار الكرز، تستلّ من حزامها مظلة حمراء بلون الكرز، وتفردها، وتؤدي ما يشبه
صلاة شكر للخصب، وتدير المظلة وتجعلها تدور كأن رياح الربيع الناعمة تلاعبها. ثم تتناول من حزامها ما يشبه غصناً تتفتح علي جوانبه الزهور، وتقوم بحركات علي امتداد المكان تأتلف مع موسيقي ناي (الشاكوهاتسي) التي تعلو حتي ذُري مرتفعات جبل (فوجي).
أنهت عرضها الجميل بالرقص بمصاحبة المروحة التي تبترد بها نساء الحصاد بعد أن يملأن الجرار بالجعة، أو تبترد بها واحدة من نساء (الغيشا) بداخلها صفصافة. وأنهت رقصها بانحناءة طويلة، فصفقوا لها بحرارة، ثمّ انسلّت إلي الداخل.
أثنوا علي أدائها، وصار الحديث أيضاً عن عظمة الموسيقي وآلات العزف الوترية، وآلات النفخ الساحرة، وشرحت نرمين عن دلالات الرقصة ومعانيها السامية. وعلي الرغم من أنّ هذا النوع من الموسيقي جديد عليه، فإن أحمد أعلن عن استمتاعه. أما الخال، فقد وضع إصبعيه في فمه وأطلق صفيراً، وكرر ذلك عدة مرات.
عادت هياتارو إلي الصالون وقد استبدلت ثيابها التقليدية، ولبست ملابسها العصرية من قماش الجينز. ووقفت مثلما يقف عريف الحفل وقالت: شكراً لكم، وأرجو أن تكون الموسيقي والرقص قد نالا إعجابكم. لقد حرصنا علي أن تكون هذه الحفلة مفاجأة، لكي لا تشتروا للشقيقة الكبري هدايا وتدفعوا ثمنها من جيوبكم، مطلوب منكم أن تحضروا لها هدايا الأسبوع المقبل في مثل هذا اليوم. وللهدايا شروط، وأنا صاحبة الفكرة. يتعين عليكم أن تسرقوا الهدية من متجر أو مقهي أو فندق أو مطعم، أو أي مكان يروق لكم، تسرقوا، علي سبيل المثال، منشفة حمّام من فندق خمس نجوم، أو منفضة سجائر عليها (لوجو) مقهي معروف، أو أي هدية مسروقة عليها إشارة ودمغة.
قهقه الخال، وضحك أحمد، وقال الدكتور نادر: هذا أمر سهل بالنسبة إليّ.
قاطعته هياتارو مشاكسة: أنت بالذات لن نقبل منك هدية لها علاقة بمستشفي الهلال، نريد منك هديّة مسروقة من شركة الاتصالات؛ موبايل مثلاً.
ضحكوا، وكان أحمد مندهشاً، ومستمتعاً بهذا المرح.
وعادت هياتارو إلي كلامها: وفي مثل هذا اليوم من الأسبوع المقبل، نقوم بفرز المسروقات، ويصوّت أفراد العائلة الذين يقيمون في هذا البيت علي أشطر حرامي، وتمنحه الشقيقة الكبري جائزة، والجائزة تذكرتا سفر إلي منتجع شرم الشيخ علي الدرجة السياحية.
وبدأت التعليقات، والممازحات، فقال الخال ضاحكاً: تذكرة لمن يفوز، وتذكرة لخليلته.
حدجته زوجته بنظرة لا تخلو من التأنيب، فقهقه قائلاً: حد بيروح علي شرم الشيخ وبياخد سندويشته معه يا هبلة؟
أنقذه من غضبها تعليق مرح من الدكتور نادر: كلنا عندنا ساندويشات ما عدا مالك الحزين هذا.
وأشار إلي أحمد، فضحك أحمد، وردّ قائلاً: اطمئن. حظي سيئ؛ فلم أربح جائزة في حياتي.
وواصل الخال ظرفه: إذا فاز مالك الحزين، أشتري منه التذكرتين بثلاث زجاجات نبيذ فرنسي مستورد.
ردّ عليه خليل: لكنّ السيد أحمد لا يشرب الكحول.
فأجاب الخال: إذاً أشتريها بكرتونة بيرة خالية من الكحول.
كان الجو وديّاً، وكانوا مثل أطفال يلعبون في الهواء الطلق.
لم تعقّب هياتارو علي تعليقاتهم، وواصلت الكلام: والآن، وقبل أن نضع الكعكة ونقطعها، هناك حديث لأحد أفراد العائلة في مديح الشقيقة الكبري، وهذه النمرة لا تعرف بها نرمين.
اعتدل خليل في جلسته، رمق نرمين بنظرة حنونة وهيّأ نفسه. تنحنح، وبدأ الكلام:
الحديث عن شقيقتي الكبري لا يمكن اختصاره أو الإحاطة به في مثل الوقت القصير الذي حدّدته لي حبيبتي هياتارو. نرمين هي أمّي الثانية. هي التي كانت تحمّمني عندما كانت أمي علي قيد الحياة، وهي التي ربتني بعد وفاة أمّي. ولعلني أذكر مثَليْن فقط لا يغيبان عن ذاكرتي الطفولية: الأول يتعلق بالبطاطا؛ فقد كنت أحب البطاطا المشوية، وكانت والدتي تمنع عني كل طعام فيه نشويات، لأنني كنت سميناً ولا تريدني أن أكون كذلك، فكانت نرمين عندما تغيب أمّي عن البيت تستغل الفرصة وتشوي لي ما أشاء من البطاطا، وكانت الوالدة في حيرة من أمرها دائماً، وتستغرب كيف لا تفلح محاولاتها في تخفيف وزني.
استحسن الخال ذلك، وصفّق له قائلاً: برافو. وأنا كنت وما زلت أعشق البطاطا المشوية، الولد طالع لخاله.
ضحكت نرمين، فيما واصل خليل الكلام: المثل الثاني الذي ما زال عالقاً في ذاكرتي، والذي يفصح عن مدي حبّها لي، عندما اشتري لها والدي فردتيْ حلق من ذهب بمناسبة عيد ميلادها وهي في الثامنة من عمرها، فرحت كثيراً بالهديّة، ولشدة حبّها لي، وضعت فردة حلق في أذنها اليسري، ووضعت الفردة الثانية في أُذني اليمني بعد أن خرمت شحمة الأذن.
وتوقف لحظة، وأشار إلي أُذنه اليمني، وقال: انظروا إلي شحمة أذني هذه، فهي لا تزال مخرومة حتي الآن.
واو. هتفت هياتارو، وعلّقت قائلة: لم ألاحظ ذلك من قبل. إنّها المرة الأولي التي أعرف ذلك.
ثمّ التفتت إلي خليل، وقالت: بقي من وقتك سبع دقائق. أكمل.
عبرت مسحة حزن علي وجهه، فابتلع ريقه، وقال: لا يكفي الوقت لأحدثكم عن لحظات عاطفية غمرتني بها نرمين، شقيقتي الكبري الجميلة، وحجم التضحيات التي قدمتها للعائلة، خصوصاً بعد رحيل الوالدين، ونظراً لقصر الوقت المخصص لي، فيكفي أن أذكر لكم كيف أنقذتني من موت محقق.
لقد عانيت منذ الصغر من متاعب في الكلي، ومع مرور السنين تفاقم الوضع، ودخلت في مرحلة غسيل الكلي، وكنت في المرحلة الثانوية.
تركت وظيفتها، وكرّست كل وقتها لي، رعتني باهتمام، وسهرت علي راحتي، وكانت ترافقني في جلسات الغسيل، كنت بعد كل جلسة أعاني من فشل عام، وعندما أصحو من نومي، أجدها تجلس بجانبي وهي تذرف الدموع. وتفاقم الوضع، فقرر الأطباء ضرورة استئصال الكليتين، وزرع كلية جديدة، ولا بدّ من متبرع.
أبلغت الأطباء أنّها هي المتبرّعة.
حدث ذلك أثناء الانتفاضة الثانية، وتفاقمت الحالة أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمدن وقري ومخيّمات الضفّة، وفرض منع التجوال.
وأثناء تطوّر الأحداث والهجوم علي مبني المقاطعة بالدبابات، ومحاصرة أبو عمّار، أصبح الوضع صعباً، وغصّ المستشفي الحكومي في رام الله بالمصابين، وثلاّجته بالجثث، ولم تعد هناك إمكانية لإجراء الفحوص اللازمة، فضلاً عن عدم وجود طبيب مختص، فاقترح عليها الأطباء تحويلي إلي مستشفي (شعاري تصيدق) في القدس الغربية، لكنها رفضت اللجوء إلي مستشفي إسرائيلي، فكان البديل السفر إلي عمّان وإجراء العملية هناك. وكان وضعي يسوء، وأمضت أسبوعاً مضنياً وهي تحاول الحصول علي سيّارة إسعاف تنقلنا إلي الحدود الأردنية.
عند ذلك، احتقن وجهه، وبدت عليه ما تشي بنوبة بكاء، لكنّه تماسك، وواصل الكلام: لن أطيل عليكم. أخذتني في سيارة نقل في طرق التفافية لتجاوز الحواجز، وكانت حينها رام الله تحت سقف النار.
وصلنا الحدود الأردنية بشق الأنفس، ومن هناك، طلبت نرمين سيارة إسعاف مع طاقم طبي للإنعاش، ونقلوني فوراً إلي غرفة الإنعاش، وأجروا الفحوصات اللازمة لنا، وبعد أيام قليلة، أُجريت لي عملية زرع كلية انتزعت من أحشاء شقيقتي.
واحتقن من جديد، وبدت في صدره غصّة، وفجأة انهار بالبكاء، فنهضت نرمين فزعة وحضنته وهي تبكي.
حدث في الصالون وجوم، وسارعت هياتارو واحتضنت الاثنين.
ووقف الخال، واكتسي وجهه بالصرامة، ورفع صوته عالياً:
كفي. لا تحولوا الفرح إلي مأتم. كفكف دموعك يا ابن أختي، ولنعد الحفلة إلي ما كانت عليه. هياّ يا نرمين، هيّا أيتها العفريتة اليابانية.
ثمّ انتقل إلي أحمد وصديقه الطبيب: وأنتما، لماذا تعبسان ولا تقولان كلمة طيبة؟
وأدار وجهه إلي زوجته: وأنت يا ست بدور، هيّا. افعلي شيئاً.
مسح خليل دموعه، وانسلّ من بين يدي نرمين، وأبعد بيده هياتارو، ووقف، وقدم للجميع اعتذاراً، ثمّ قرّب نرمين منه، وقبّل رأسها وضمها إليه. ثمّ فتح ذراعيه وقال: ما كنت أرغب في هذا الإزعاج، اعذروني. هل يتطوع أحد منكم ليساعدني في حمل قالب الكيك وإحضار العصائر والأطباق؟
حدثت انفراجة، وخفّ الجميع لمساعدته، وفي غضون دقائق، تحلّقوا حول الطاولة، وأحضرت هياتارو الكاميرا، واستعادت نرمين، بفستانها الأزرق، رونقها، وصارت محط أنظار الجميع، فتورّد وجهها.
كانت الكعكة كبيرة، مغطاة بالشوكولاتة، وكتب عليها اسمها، وفي الوسط شمعة. أشعل خليل الشمعة، ومثل المايسترو أعطي الإيعاز، فاقترب الجميع بعضهم من بعض، وأحاطوا نرمين من كل جانب، بينما هياتارو تلتقط الصور.
انحنت نرمين لتطفئ الشمعة، وانطلقت الأصوات بالغناء والتهاني وأطيب التمنيات. أطفأت الشمعة برقّة وأناقة، وعلت الأصوات بمزيد من الغناء والتصفيق.
وقُطعت الكعكة، وتوزعت علي الجميع، وتألقت الأجواء، وتلقت نرمين التهاني بالأحضان، وظل أحمد يراقب نرمين، يراقب الفرح الذي يقفز من عينيها، ويحوّلها إلي حمامة زاجلة.