في عصر هشاشة الفرد، وانحسار مساحة الحياة الشخصية وتحوّل حياة الأشخاص إلى مسطّحات افتراضية يتداخل فيها الحقيقي بالتخييلي، والواقعي بالرقمي والمعولم بالمحلي، ثمّة ما يدعو إلى التفكير مرّة أخرى بهويّاتنا، من نكون في خضمّ هذه الشبكات المعقّدة للثورة الرقمية غير أسماء فيسبوكيّة، أو حسابات على غوغل وأنستغرام والواتساب هذه الفضاءات «الآكلة لعقول البشر»؟
لقد تجادل الفلاسفة المحدثون منذ ديكارت حول «الأنا» من تكون، جسم وروح أم جسد فحسب (سبينوزا ونيتشه)؟ ذات عارفة (كانط) أم ذات تاريخيّة (فلسفة هيجل)؟ ذات تأويلية (هيدغر وغادامير) أم شعوب تغيّر العالم (ماركس)؟ وبالرغم من اختلاف هذه المقاربات الفلسفية الحديثة في تشخيص مفهوم الذات، يمكن اختزالها في ثنائية الشخصيّ والكوني أو الفردي والثقافي، بحيث يقع التمييز بين ضربين من الهويّة: هويّة شخصية خاصّة بالفرد بما هو فرد له ملامح خاصّة وحقوق فرديّة وواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها، وهويّة ثقافيّة جماعيّة ينتمي وفقها الفرد إلى جماعة ثقافية معيّنة لها تاريخ وتراث وقيم وعقائد ومنظومة رمزيّة مشتركة، لكن هل هذا النوع من الهويّة ثابت ونهائي ومغلق؟
ريكور والهوية السردية
لقد اشتغل الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور على مسألة الهويّة في ثلاثيّته الفلسفية تحت عنوان «الزمان والسرد» (1983-1985) واخترع مفهوماً يغيّر عميقاً تصوّرنا التقليدي لهويّاتنا هو مفهوم الهويّة السردية. وهو مفهوم نحته ريكور في أفق براديغم أدبي جديد يختلف عن براديغم الفضاء الأدبي (بلانشو) والنصّ (البنيوية) والرواية (لوكاتش) والأدب بوصفه التزاماً (سارتر).
لكن ما معنى الهويّة السردية؟ يميّز ريكور بين دلالتين لمفهوم الهويّة: الهويّة في معنى الهو نفسه أي «الهو هو» التي تقال على كل موضوع يستمرّ في الزمن على شاكلة الحجر أو الشجر. والهويّة في معنى«الهو عينه» أي القدرة على التماسك أو الثبات الإرادي للذات أمام الآخر عبر النمط الذي وفقه يسلك شخص ما بحيث بوسع الغير أن يعوّل عليه. وهذا النوع من الهويّة يجسّد مفهوم الوعد الذي ألتزم به «أنا الذي يوجد» وليس فقط «ما أنا كائن بعدُ». فأنا لست مجرّد هويّة مغلقة عما كنت عليه إنّما أنا هويّة مفتوحة على وعد ألتزم بالإيفاء به. وهنا يظهر مفهوم الهوية السردية بوصفه المكوّن الثالث للهوية الشخصية أي قدرة الشخص على سرد أحداث وجوده على نحو منتظم. لكن هذا النوع من الهوية السردية غير ممكن إلاّ عبر الاشتغال على قصص التاريخ والمخيال. وهو ما جعل ريكور يقسم ثلاثيته المعروفة تحت عنوان الزمان والسرد، بحيث يقع تقسيم هذا الاشتغال التأويلي على براديغم جديد للهويّة إلى ثلاث مراحل: السرد التاريخي (الجزء 1)، السرد القصصي (الجزء 2) وأخيراً الزمان المروي (الجزء 3). وإنّ ما يحرّك مكنة التأويل هنا سؤال أساسي: هل يمكن القول بنهاية فنّ الحكي بكلّ أشكاله: الأسطورة والقصص الديني والرواية نفسها؟ وكيف بوسعنا تصوّر عالم من دون قصص؟ وماذا تبقى لنا – نحن الذين ننتمي إلى عالم فلسفات النهايات أي نهاية الذات والتاريخ والإنسان ونهاية السرديات – من أجل أن يقول كلّ منّا «أنا كائن» أو «أنا موجود»؟ إنّ ما هو مزعج هنا هو تحطيم فكرة الشكل نفسها إلى حدّ نصير فيه هيولى، كتل من الغرائز الاستهلاكية، أشبه بالسلع في عالم البضاعة المطلقة، وهو ما يهدّد بحسب ريكور فكرة «العيش معاً». ومن أجل تحصين هذا الأفق الاتيقي والسياسي معاً علينا أن نستعيد فكرة الحكي والقصص والسرد. وفي هذا المعنى يكتب ريكور: «ليس لدينا أدنى فكرة عمّ ستكونه ثقافة لا نعرف فيها ما يعنيه الحكي».
استعادة السرد
إنّه من أجل التأسيس ثانية لثقافة السرد يستعيد ريكور نظرية أرسطو في المحاكاة بوصفها «منبعاً للسرد التاريخي وللسرد القصصي معاً» وذلك في ثلاثة معانٍ:«المحاكاة 1» بوصفها فهماً مسبقاً للتجربة البشرية أي شبكة الرموز التي يجسّدها التراث والتقاليد والقيم العابرة للأجيال. و«المحاكاة 2» أي جملة الأعمال الأدبية التي تتنزّل ضمن دائرة «التفسير». و«المحاكاة 3» التي تتعلّق بإعادة التصوّر أي بفعل القراءة، وذلك باعتبار القارئ قطباً أساسيّاً ضمن حقل الوظيفة السردية التي تخرج من الرمز إلى النصّ إلى الفعل. وضمن هذا الحقل التأويلي للهوية السردية كنموذج أدبي مغاير ينشّط ريكور مفهوم الحبكة. ويدرج هذا المفهوم ضمن جدلية خاصة بين التاريخ والأحداث السردية. فإذا كان التاريخ يحدث وفق «مبدأ انتظام تتالى فيه الأحداث»، فإنّ الحدث السردي الذي يحدث بمحض المصادفة إنّما يساهم في إنجاز معقولية الحبكة نفسها. ذلك أنّه من دون أحداث سردية أي مفاجآت وطفرات يفقد التاريخ كلّ ديناميّة زمنيّة. ومن جهة أخرى، من دون نظام تاريخي تتحوّل الأحداث العرضية إلى مجرّد مصادفات من دون أيّ أمل في توحيدها. وهنا تتدخّل «الجدلية التشكيلية» القائمة بين أشكال الانسجام التاريخي وأشكال التنافر السردي، وهي جدلية تمنح هيئة للأحداث وهو معنى إنجاز الحبكة نفسها. وهنا يولد مفهوم السرد بوصفه تلك القدرة على تشكيل الأحداث بمنحها حبكة سرديّة تخلق الانسجام بين التاريخ الكلّي والأحداث التي قد تحدث فتعرّض الحبكة إلى الخطر.
لكنّ السرد القصصي لا يمنح الأحداث شكلاً فقط، إنّما هو يقترح عالماً. وهنا يقع تحرير السرد من النصّ المغلق وفتحه على عالم القراءة. إنّنا نكتب من أجل القرّاء وتبعاً لذلك فما نكتبه يخرج عن حدود الأسوار الداخلية للنصوص. إنّ السرد يؤرّخ للحياة وبما هو كذلك فهو يعيد تشكيل الذات التي تسرد نفسها أو تمنح حياتها للسرد. وهو المعنى الذي يقترحه ريكور للأدب: «إنّ الأدب هو هذه الورشة الوسيعة لتجارب الفكر، حيث يختبر السرد مصادر تنوّع الهويّة السردية».
ثمّة إذن نوع من النضال السردي الدائم من أجل تجديد الهويّة وإثرائها، وتحويلها إلى هويّة مرنة وديناميّة تقوّي من مناعة الأشخاص ضدّ التحجّر في حدود الهويات المغلقة. لكن وفق أيّ نموذج يسلك هذا النضال السرديّ؟ إنّ التعامل مع الحياة بوصفها نسيجاً من القصص المحكيّ إنّما يوقّع إمكانية تأويلية للمصالحة بين التاريخ والتخييل. فنحن نحكي من أجل أن نتعرّف إلى أنفسنا، ومن أجل أن نفهم أنفسنا، ومن أجل أن نتقاسم التجربة المعيشة مع الآخرين كما لو كانوا أنفسنا، أو كما لو كنّا نحن آخرين أيضاً. فعن السؤال الفلسفي الكبير: من أكون؟ يجيب ريكور «أنا سردية فحسب»، لكن بشرط أن أكون قادراً على إنجاز الحبكة الخاصة بي، أي على منح مبدأ انسجام لكل الأحداث العارضة التي تحدث في وجودي. أنا سرديّة نفسي بشرط أن أكون قادرا على منح المعنى لأفقر الأحداث الخاصة بي أي إلى درجة قدرتي على تحويل المصادفة إلى قدر. لكنّ الهوية السردية لا تحيل هنا إلى أيّ ضرب من الذاتوية الميتافيزيقية على طريقة ديكارت وكانط أو ظاهراتية على طريقة هوسرل، أو النرجسية الفردية على طريقة فرويد، بل هي هوية زمنيّة تاريخيّة معاً. إن الزمن نفسه هو زمان مرويّ أو لا يكون. وهذا هو عنوان الجزء الثالث من كتاب الزمان والسرد. كيف يمكن للسرد القصصي أن يخترع الزمان نفسه صلب التاريخ الكلّي؟ وهنا نجد أنفسنا أمام إحراج فلسفي عميق: من جهة لا يوجد الزمان بالنسبة إلينا الاّ بوصفه حدثاً سرديّاً يحتاج كي يكون إلى الرموز والعلامات والنصوص، ومن جهة أخرى يهزم الزمانٌ السرد نفسه بأن يبقى مستغلقاً عن اللغة. وهنا يظهر مدى «التباس الزمان» إزاء «قوّة السرد في الارتقاء به إلى اللغة». وذلك لأنّ الزمان يمكن الحديث عنه بطرق أخرى، ممّ يجعله «يظلّ مستغلقاً حتى على السرد نفسه» لأنّه يفلت من حدود التشكيل. وفي هذا السياق يظهر مفهوم الهويّة السرديّة في نوع من النتائج الأخيرة التي يرسمها ريكور لورشته الكبرى عن السرد التاريخي ثمّ عن السرد القصصي وأخيراً عن الزمان المرويّ نفسه. ويكتب ريكور في آخر فقرة من كتابه ما يلي: «والحقيقة أنّه لا شيء يلزمنا بالانتقال من فكرة الهويّة السردية إلى فكرة وحدة التاريخ، ثمّ الاعتراف بحدود السرد وهو يواجه سرّ الزمان الذي يحيط بنا». ههنا نجد أنفسنا أمام مفارقة عجيبة بين قوّة السرد في تشكيل الزمان واستغلاق الزمان نفسه، وكأنّه يخرج منتصراً برغم وقوعه أسيراً في حبكة السرد. إنّ الزمان المرويّ يضعنا إذن أمام ضرب من إخفاق السرد عن السطو على الزمان نفسه، غير أنّ «ما يخفق هنا ليس التفكير بل الدافع- أو.. الغرور الذي يحرّض فكرنا على اعتبار نفسه سيّد المعنى وسلطانه».
ادعاء
إنّ الهويّة السرديّة إذن ليست حرّة تماماً من هذا الضرب من الادعاء الملازم لها بوصفها «ذاتاً فاعلة تهيمن على المعنى كلّه»، لكنّ هذا الادعاء الذي يخفق عبره السرد في أن «يستنفد قوّة التكلّم التي تعيد تصوير الزمان» ليس أمراً مذموماً إنّما هو محرّض على مزيد من البحث من لدن الأفراد والجماعات عن «هوياتهم السردية الخاصة». يتعلّق الأمر إذن بوضعيّة تأويليّة تسمح باللقاء بين ما يسمّيه ريكور «التباسية الزمان وشعرية السرد».
هكذا يقع التجديد في مفهوم الهويّة عبر براديغم الهوية السردية الذي يفتح به ريكور أفقاً تأويلياً وإتيقياً جديداً يحرّر الهويات من الهوية الثقافية المغلقة على دين أو عرق أو قوميّة ما. فالهوية السردية تمنح الأفراد والجماعات الثقافية القدرة على تملّك سردياتها الخاصّة وعلى تجديدها على الدوام معاً، وذلك باعتبارها سرديات تحدث صلب الزمن، وهي في الوقت نفسه، تمنحه شكلاً مغايراً معاً. والزمن ههنا هو زمن القارئ الذي بوسعه إعادة تشكيل السرد وتجديد الزمن المرويّ عبر تجربة القراءة والتأويل. نحن إذن ه ويات سرديّة في معنى يمنحنا فيه السرد بأشكاله أدباً أو شعراً أو أساطير الزمن الخاص بنا في كلّ مرّة. فالزمان نفسه لا يحدث إلاّ على نحو سردي برغم كونه يهزم السرد باستغلاقه عليه والتباسه صلب استعارات القصص وطيّاته الرمزيّة. هكذا تتكوّن هوياتنا الشخصية نفسها عبر تفاعل دينامي بين السرديات الخاصة وقصص المخيال الجمعي، لكنّ الهويّة السردية ليست ثابتة ولا مغلقة حول نفسها، لأنّها زمنيّة تنسج نفسها صلب نسيج الحكايات التي تندمج ضمنها على نحو متجدد على الدوام. وفي هذا المعنى يتجدّد الزمان نفسه ويتحوّل من الزمن النفسي والزمن الكسمولوجي إلى الزمن السردي. وفي هذا السياق يكتب ريكور ما يلي: «إنّ محاولة اشتقاق زمن العالم من زمن النفس أو العكس تبدو محاولة يائسة ومحكومة بالفشل».
ماذا يحدث في حالة الإعلان عن نهاية فنّ القصص؟ وكيف يمكن تصوّر عالم بلا قصص؟ ربّما نتحوّل يومئذ إلى مسوخ تعبر السوق الكبيرة للعالم، مسوخ لا تتقن غير الاستهلاك والقتل، لكن حذار من السرديات المغلقة لأنّها لا تنتج سوى كائنات فقدت علاقتها بالزمن، وتحوّلت إلى مسوخ تراثية لا تتقن غير التحديق بالظلام.
اقرأ أيضا
هانس أندرسن.. «وأصبح الخيال حقيقة»
حور القاسمي: «لقاء مارس» منصة للحوار حول قضايا الفن المعاصر
برنامج حافل في شهر القراءة الوطني
11 توصية لتفعيل الثقافة في «خلوة الثقافة والعلوم»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
sadazakera.wordpress.com
لقد تجادل الفلاسفة المحدثون منذ ديكارت حول «الأنا» من تكون، جسم وروح أم جسد فحسب (سبينوزا ونيتشه)؟ ذات عارفة (كانط) أم ذات تاريخيّة (فلسفة هيجل)؟ ذات تأويلية (هيدغر وغادامير) أم شعوب تغيّر العالم (ماركس)؟ وبالرغم من اختلاف هذه المقاربات الفلسفية الحديثة في تشخيص مفهوم الذات، يمكن اختزالها في ثنائية الشخصيّ والكوني أو الفردي والثقافي، بحيث يقع التمييز بين ضربين من الهويّة: هويّة شخصية خاصّة بالفرد بما هو فرد له ملامح خاصّة وحقوق فرديّة وواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها، وهويّة ثقافيّة جماعيّة ينتمي وفقها الفرد إلى جماعة ثقافية معيّنة لها تاريخ وتراث وقيم وعقائد ومنظومة رمزيّة مشتركة، لكن هل هذا النوع من الهويّة ثابت ونهائي ومغلق؟
ريكور والهوية السردية
لقد اشتغل الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور على مسألة الهويّة في ثلاثيّته الفلسفية تحت عنوان «الزمان والسرد» (1983-1985) واخترع مفهوماً يغيّر عميقاً تصوّرنا التقليدي لهويّاتنا هو مفهوم الهويّة السردية. وهو مفهوم نحته ريكور في أفق براديغم أدبي جديد يختلف عن براديغم الفضاء الأدبي (بلانشو) والنصّ (البنيوية) والرواية (لوكاتش) والأدب بوصفه التزاماً (سارتر).
لكن ما معنى الهويّة السردية؟ يميّز ريكور بين دلالتين لمفهوم الهويّة: الهويّة في معنى الهو نفسه أي «الهو هو» التي تقال على كل موضوع يستمرّ في الزمن على شاكلة الحجر أو الشجر. والهويّة في معنى«الهو عينه» أي القدرة على التماسك أو الثبات الإرادي للذات أمام الآخر عبر النمط الذي وفقه يسلك شخص ما بحيث بوسع الغير أن يعوّل عليه. وهذا النوع من الهويّة يجسّد مفهوم الوعد الذي ألتزم به «أنا الذي يوجد» وليس فقط «ما أنا كائن بعدُ». فأنا لست مجرّد هويّة مغلقة عما كنت عليه إنّما أنا هويّة مفتوحة على وعد ألتزم بالإيفاء به. وهنا يظهر مفهوم الهوية السردية بوصفه المكوّن الثالث للهوية الشخصية أي قدرة الشخص على سرد أحداث وجوده على نحو منتظم. لكن هذا النوع من الهوية السردية غير ممكن إلاّ عبر الاشتغال على قصص التاريخ والمخيال. وهو ما جعل ريكور يقسم ثلاثيته المعروفة تحت عنوان الزمان والسرد، بحيث يقع تقسيم هذا الاشتغال التأويلي على براديغم جديد للهويّة إلى ثلاث مراحل: السرد التاريخي (الجزء 1)، السرد القصصي (الجزء 2) وأخيراً الزمان المروي (الجزء 3). وإنّ ما يحرّك مكنة التأويل هنا سؤال أساسي: هل يمكن القول بنهاية فنّ الحكي بكلّ أشكاله: الأسطورة والقصص الديني والرواية نفسها؟ وكيف بوسعنا تصوّر عالم من دون قصص؟ وماذا تبقى لنا – نحن الذين ننتمي إلى عالم فلسفات النهايات أي نهاية الذات والتاريخ والإنسان ونهاية السرديات – من أجل أن يقول كلّ منّا «أنا كائن» أو «أنا موجود»؟ إنّ ما هو مزعج هنا هو تحطيم فكرة الشكل نفسها إلى حدّ نصير فيه هيولى، كتل من الغرائز الاستهلاكية، أشبه بالسلع في عالم البضاعة المطلقة، وهو ما يهدّد بحسب ريكور فكرة «العيش معاً». ومن أجل تحصين هذا الأفق الاتيقي والسياسي معاً علينا أن نستعيد فكرة الحكي والقصص والسرد. وفي هذا المعنى يكتب ريكور: «ليس لدينا أدنى فكرة عمّ ستكونه ثقافة لا نعرف فيها ما يعنيه الحكي».
استعادة السرد
إنّه من أجل التأسيس ثانية لثقافة السرد يستعيد ريكور نظرية أرسطو في المحاكاة بوصفها «منبعاً للسرد التاريخي وللسرد القصصي معاً» وذلك في ثلاثة معانٍ:«المحاكاة 1» بوصفها فهماً مسبقاً للتجربة البشرية أي شبكة الرموز التي يجسّدها التراث والتقاليد والقيم العابرة للأجيال. و«المحاكاة 2» أي جملة الأعمال الأدبية التي تتنزّل ضمن دائرة «التفسير». و«المحاكاة 3» التي تتعلّق بإعادة التصوّر أي بفعل القراءة، وذلك باعتبار القارئ قطباً أساسيّاً ضمن حقل الوظيفة السردية التي تخرج من الرمز إلى النصّ إلى الفعل. وضمن هذا الحقل التأويلي للهوية السردية كنموذج أدبي مغاير ينشّط ريكور مفهوم الحبكة. ويدرج هذا المفهوم ضمن جدلية خاصة بين التاريخ والأحداث السردية. فإذا كان التاريخ يحدث وفق «مبدأ انتظام تتالى فيه الأحداث»، فإنّ الحدث السردي الذي يحدث بمحض المصادفة إنّما يساهم في إنجاز معقولية الحبكة نفسها. ذلك أنّه من دون أحداث سردية أي مفاجآت وطفرات يفقد التاريخ كلّ ديناميّة زمنيّة. ومن جهة أخرى، من دون نظام تاريخي تتحوّل الأحداث العرضية إلى مجرّد مصادفات من دون أيّ أمل في توحيدها. وهنا تتدخّل «الجدلية التشكيلية» القائمة بين أشكال الانسجام التاريخي وأشكال التنافر السردي، وهي جدلية تمنح هيئة للأحداث وهو معنى إنجاز الحبكة نفسها. وهنا يولد مفهوم السرد بوصفه تلك القدرة على تشكيل الأحداث بمنحها حبكة سرديّة تخلق الانسجام بين التاريخ الكلّي والأحداث التي قد تحدث فتعرّض الحبكة إلى الخطر.
لكنّ السرد القصصي لا يمنح الأحداث شكلاً فقط، إنّما هو يقترح عالماً. وهنا يقع تحرير السرد من النصّ المغلق وفتحه على عالم القراءة. إنّنا نكتب من أجل القرّاء وتبعاً لذلك فما نكتبه يخرج عن حدود الأسوار الداخلية للنصوص. إنّ السرد يؤرّخ للحياة وبما هو كذلك فهو يعيد تشكيل الذات التي تسرد نفسها أو تمنح حياتها للسرد. وهو المعنى الذي يقترحه ريكور للأدب: «إنّ الأدب هو هذه الورشة الوسيعة لتجارب الفكر، حيث يختبر السرد مصادر تنوّع الهويّة السردية».
ثمّة إذن نوع من النضال السردي الدائم من أجل تجديد الهويّة وإثرائها، وتحويلها إلى هويّة مرنة وديناميّة تقوّي من مناعة الأشخاص ضدّ التحجّر في حدود الهويات المغلقة. لكن وفق أيّ نموذج يسلك هذا النضال السرديّ؟ إنّ التعامل مع الحياة بوصفها نسيجاً من القصص المحكيّ إنّما يوقّع إمكانية تأويلية للمصالحة بين التاريخ والتخييل. فنحن نحكي من أجل أن نتعرّف إلى أنفسنا، ومن أجل أن نفهم أنفسنا، ومن أجل أن نتقاسم التجربة المعيشة مع الآخرين كما لو كانوا أنفسنا، أو كما لو كنّا نحن آخرين أيضاً. فعن السؤال الفلسفي الكبير: من أكون؟ يجيب ريكور «أنا سردية فحسب»، لكن بشرط أن أكون قادراً على إنجاز الحبكة الخاصة بي، أي على منح مبدأ انسجام لكل الأحداث العارضة التي تحدث في وجودي. أنا سرديّة نفسي بشرط أن أكون قادرا على منح المعنى لأفقر الأحداث الخاصة بي أي إلى درجة قدرتي على تحويل المصادفة إلى قدر. لكنّ الهوية السردية لا تحيل هنا إلى أيّ ضرب من الذاتوية الميتافيزيقية على طريقة ديكارت وكانط أو ظاهراتية على طريقة هوسرل، أو النرجسية الفردية على طريقة فرويد، بل هي هوية زمنيّة تاريخيّة معاً. إن الزمن نفسه هو زمان مرويّ أو لا يكون. وهذا هو عنوان الجزء الثالث من كتاب الزمان والسرد. كيف يمكن للسرد القصصي أن يخترع الزمان نفسه صلب التاريخ الكلّي؟ وهنا نجد أنفسنا أمام إحراج فلسفي عميق: من جهة لا يوجد الزمان بالنسبة إلينا الاّ بوصفه حدثاً سرديّاً يحتاج كي يكون إلى الرموز والعلامات والنصوص، ومن جهة أخرى يهزم الزمانٌ السرد نفسه بأن يبقى مستغلقاً عن اللغة. وهنا يظهر مدى «التباس الزمان» إزاء «قوّة السرد في الارتقاء به إلى اللغة». وذلك لأنّ الزمان يمكن الحديث عنه بطرق أخرى، ممّ يجعله «يظلّ مستغلقاً حتى على السرد نفسه» لأنّه يفلت من حدود التشكيل. وفي هذا السياق يظهر مفهوم الهويّة السرديّة في نوع من النتائج الأخيرة التي يرسمها ريكور لورشته الكبرى عن السرد التاريخي ثمّ عن السرد القصصي وأخيراً عن الزمان المرويّ نفسه. ويكتب ريكور في آخر فقرة من كتابه ما يلي: «والحقيقة أنّه لا شيء يلزمنا بالانتقال من فكرة الهويّة السردية إلى فكرة وحدة التاريخ، ثمّ الاعتراف بحدود السرد وهو يواجه سرّ الزمان الذي يحيط بنا». ههنا نجد أنفسنا أمام مفارقة عجيبة بين قوّة السرد في تشكيل الزمان واستغلاق الزمان نفسه، وكأنّه يخرج منتصراً برغم وقوعه أسيراً في حبكة السرد. إنّ الزمان المرويّ يضعنا إذن أمام ضرب من إخفاق السرد عن السطو على الزمان نفسه، غير أنّ «ما يخفق هنا ليس التفكير بل الدافع- أو.. الغرور الذي يحرّض فكرنا على اعتبار نفسه سيّد المعنى وسلطانه».
ادعاء
إنّ الهويّة السرديّة إذن ليست حرّة تماماً من هذا الضرب من الادعاء الملازم لها بوصفها «ذاتاً فاعلة تهيمن على المعنى كلّه»، لكنّ هذا الادعاء الذي يخفق عبره السرد في أن «يستنفد قوّة التكلّم التي تعيد تصوير الزمان» ليس أمراً مذموماً إنّما هو محرّض على مزيد من البحث من لدن الأفراد والجماعات عن «هوياتهم السردية الخاصة». يتعلّق الأمر إذن بوضعيّة تأويليّة تسمح باللقاء بين ما يسمّيه ريكور «التباسية الزمان وشعرية السرد».
هكذا يقع التجديد في مفهوم الهويّة عبر براديغم الهوية السردية الذي يفتح به ريكور أفقاً تأويلياً وإتيقياً جديداً يحرّر الهويات من الهوية الثقافية المغلقة على دين أو عرق أو قوميّة ما. فالهوية السردية تمنح الأفراد والجماعات الثقافية القدرة على تملّك سردياتها الخاصّة وعلى تجديدها على الدوام معاً، وذلك باعتبارها سرديات تحدث صلب الزمن، وهي في الوقت نفسه، تمنحه شكلاً مغايراً معاً. والزمن ههنا هو زمن القارئ الذي بوسعه إعادة تشكيل السرد وتجديد الزمن المرويّ عبر تجربة القراءة والتأويل. نحن إذن ه ويات سرديّة في معنى يمنحنا فيه السرد بأشكاله أدباً أو شعراً أو أساطير الزمن الخاص بنا في كلّ مرّة. فالزمان نفسه لا يحدث إلاّ على نحو سردي برغم كونه يهزم السرد باستغلاقه عليه والتباسه صلب استعارات القصص وطيّاته الرمزيّة. هكذا تتكوّن هوياتنا الشخصية نفسها عبر تفاعل دينامي بين السرديات الخاصة وقصص المخيال الجمعي، لكنّ الهويّة السردية ليست ثابتة ولا مغلقة حول نفسها، لأنّها زمنيّة تنسج نفسها صلب نسيج الحكايات التي تندمج ضمنها على نحو متجدد على الدوام. وفي هذا المعنى يتجدّد الزمان نفسه ويتحوّل من الزمن النفسي والزمن الكسمولوجي إلى الزمن السردي. وفي هذا السياق يكتب ريكور ما يلي: «إنّ محاولة اشتقاق زمن العالم من زمن النفس أو العكس تبدو محاولة يائسة ومحكومة بالفشل».
ماذا يحدث في حالة الإعلان عن نهاية فنّ القصص؟ وكيف يمكن تصوّر عالم بلا قصص؟ ربّما نتحوّل يومئذ إلى مسوخ تعبر السوق الكبيرة للعالم، مسوخ لا تتقن غير الاستهلاك والقتل، لكن حذار من السرديات المغلقة لأنّها لا تنتج سوى كائنات فقدت علاقتها بالزمن، وتحوّلت إلى مسوخ تراثية لا تتقن غير التحديق بالظلام.
اقرأ أيضا
هانس أندرسن.. «وأصبح الخيال حقيقة»
حور القاسمي: «لقاء مارس» منصة للحوار حول قضايا الفن المعاصر
برنامج حافل في شهر القراءة الوطني
11 توصية لتفعيل الثقافة في «خلوة الثقافة والعلوم»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوية السردية.. أنا حَبْكَتي. بقلم: د. أمّ الزين بنشيخة المسكيني
في عصر هشاشة الفرد، وانحسار مساحة الحياة الشخصية وتحوّل حياة الأشخاص إلى مسطّحات افتراضية يتداخل فيها الحقيقي بالتخييلي، والواقعي بالرقمي والمعولم بالمحلي، ثمّة ما يدعو إلى التفكير مرّة أخرى بهويّا…