(1)
إلى دكاني القريب يصل صوت مكنسة الخوص وهي تبعثر الغبار المتراكم على عتبة الباب الإسمنتية. الوقت الذي أحتاجه للنهوض عن الكرسي الخشب المحصور بين طاولة تتراص عليها علب الحلويات المغلقة بأغطية ملوّنة؛ والرفوف المكْتظّة، في الخلف، بكلّ شيء قديم.. خلال هذا الوقت يكون صوت المكنسة قد توقّف. وعندما كنت أصل وألتفتُ ناحية الباب؛ أراه يفرش (جودلية) فوق العتبة المكنوسة للتوّ.. يفرشها بعناية مُغيّبًا حافة الدرجة حيث سيسند ظهره.. ثم يجلس بهدوء وعيناه تراقبان الطريق؛ فيبدو، وهو كذلك، كتمثال نحتته يد فنان ماهر.
تحته.. تظهر بعض ألوان قطع القماش، التي خيطتْ منها (الجودلية)، جديدة متألقة.. فيما أخرى، قد تكون من ثياب قديمة، فقدتْ ألوانها؛ فبدت باهتة وسط مهرجان الألوان المشع.
أعود إلى الداخل. أمسك الكرسي وأسحبه إلى الخارج تاركًا قائمتيه الخلفيتين تخطّان على الأرض. أضعه عند دَرْفة باب الدكان الحديد، جهة اليمين، في المساحة التي وصلتْ إليها الشمس. وعندما أجلس.. نبدو، أنا وهو، كنصبين صنعتهما يد فنان مجهول وتُركا هنا منذ الأزل.
في مثل هذا الوقت من الصباح.. تبقى الحركة متدثّرة بكسلها. وإذ يصل زحف خط الضوء المتعرّج قريبًا من مجرى المياه الممتدّ وسط الزقاق.. تبدأ أصوات سحب الستائر وفتح النوافذ. ومع خروج النساء بمكانسهنّ لتنظيف أسلاك (التور) الصدئ على النوافذ؛ ينسحب الهدوء أمام صخب الأطفال المنسلّين من المنازل على حذر.. يقفون قليلًا على العتبات قبل أنْ ينزلقوا إلى الأرض الرطبة.. فيما يبقى هو جالسًا في ضوء الشمس وقد غمره، كلّه، قبل أن يتجه بعيدًا حيث لم تنتهِ، بعد، فتاتان من تخطيط (طاقهما) على التراب.
على صفحة الجدار المتشقق، المواجه للصبي، كنتُ أرى جسده النحيل في فم الباب المفتوح وستارة القماش المتدلّية خلفه؛ فيبدو كما لو كان بانتظار أنْ ينتهي مصوّر كهل، يخفي رأسه في خرطوم القماش الأسود المتصل بصندوق تصويره، من التقاط صورة له.. فيما تحجب الستارة، القافزة فوق البلاط شبرًا، دهليز الدار المظلم ومن ثم فنائها الواسع. وفي اللحظات التي تطلّ فيها امرأة من الداخل، لتراه.. وتلقي نظرة على طرفي الزقاق، يتبعثر خط الضوء وهو يحاول الدخول إلى الدار بعد أنْ يصطدم بجسدها أولًا ومن ثمّ بالجدار دون أنْ يفلح في إضاءة الدهليز كلّه. وهو، إذ يحسّ بها خلفه، يلتفتُ إليها قليلًا.. ثم يعود. وتعود هي، إلى الداخل، تاركة ستارة القماش تغطّي فم الدهليز. كلّ ذلك أراه.. أتابع ظهوره على الجدار المواجه للصبي دون أنْ تفارقه شقوقه وبقعته الداكنة بعد أنْ سقط طلاؤها ذات مساء.
ثمّ يفقد الزقاق هدوءه، يطرده صراخ الأطفال.. ويسرقه باعة (الشعر بنات) والفرارات الورقية الملوّنة قبل أنْ يجهز على ما تبقّى منه بائع (الفلافل والصمون) الحار.
ينتصف النهار. أجرجر الكرسي خلفي لأعيده إلى مكانه. أغلق باب الدكان وأنسحب بقدمين ثقيلتين.
وأنا أتجاوزه، جالسًا على عتبته، أرى الستارة تتدلّى خلفه ساكنة.. خلفها دهليز مظلم.. ثم باحة تضيئها فتحة في السقف مغطاة بهرم من خشب وزجاج.
(2)
وكأنّه، كلّ يوم، ينتظر مغادرتي لينهض. أراه، وأنا هناك، في البيت، مضطجع على السرير بمواجهة جدار متشقق تحتلّ وسطه بقعة سقط طلاؤها فبدتْ داكنة.. أراه على الجدار، يطردني ببصره بمجرد أنْ أجتازه، وتبقى عيناه تخترقان ظهري حتى أنعطف. ثمّ ينهض.. يطوي (جودليته) ويحملها إلى الداخل ليخرج فتىً آخر فيه بعض من ذاك الجالس، على العتبة، طوال الصباح.. وليس كلّه.
لا أدري إنْ كنتُ غفوتُ.. أمْ أنّ عينيّ ما زالتا مفتوحتين على الجدار وأنا أراه ينظمّ إلى الأطفال المتراكضين في الزقاق. إلا أنّني، وبعينين أقرّ بكونهما مفتوحتين، رأيته يعتصم بالبقعة الداكنة، على الجدار، كلّما ركض الأطفال خلف بائع جوّال ليوقفوه ويتحلّقوا حوله. وكان ذلك يدهشني.. يجعلني أتذكّر أنّه لم يقترب من دكاني يومًا.. أو ربما اقترب ولكني نسيتُ ذلك. وحين يبتعد الباعة ويعود الأطفال إلى لعبهم؛ ينظمّ إليهم وكأنّه لم يفارقهم.
مرة.. كنتُ جالسًا على حافة السرير حين مرَّ بائع الفرارات الورقية. كعادته.. انزوى بعيدًا.. ثمّ عاد ليركض معهم وهو يمدّ يده الفارغة أمامه. جنبي، على الطاولة، كانت واحدة، بلون أحمر، مطروحة هناك. عندما اشتريتها سألني الرجل: “أيّ لون يفضّله حفيدك؟” لم أقل له أنّها لي. بجهد كبير نهضتُ.. تناولتها من على الطاولة واتجهتُ إلى الجدار. لم ينتبه إليّ إلّا بعد أنْ نقرتُ على كتفه بأصبع مرتجفة. بنصف التفاتة.. خطفها من يدي وركض. لم يرَني. كانت عيناه ملتصقتين بأجنحة الفرارة. لم يرَني.. في حين بقيتْ عيناي تجريان خلفه وهو يبتعد.
أبقى أنظر إليه.. وإلى الساعة الكبيرة المعلّقة على الجدار منتظرًا موعد مغادرتي. وكنتُ، في كلّ مرّة أهمّ فيها بالنهوض، أراه، على الجدار المتشقق، يتباطأ متلفّتًا كثيرًا وهو يتراجع إلى بقعته، على الجدار، محتلًّا مكان طلائها المتساقط. ومع أنّهم، وأنا أغيّر ثيابي، يبقون ينادونه.. إلّا أنّه كان يبقى هناك حتى أترك الغرفة.. ثمّ ينظمّ إليهم مرّة أخرى. لم أكن أراه.. أسمع، فقط، صوته وأنا أعالج ترباس الباب الصدئ لأخرج.
لا أدري كم هو الوقت الذي أحتاجه للوصول إلى انعطافة الطريق حيث يظهر بعدها، أمامي كما في كلّ يوم، مسمّرًا على عتبة الدار وكأنّه لم يغادرها: عيناه مثبتتان على الجدار المقابل له.. ربما على البقعة الداكنة تحديدًا.
(3)
عند العصر.. يبدو الزقاق، الغارق بظلّ كثيف، أكثر هدوءًا. أستشعر ذلك بمجرد أنْ أضع قدمي في طرفه البعيد. بعض دَرَفات النوافذ مفتوحة عن أضواء مصابيح صفر تتدلّى من السقوف.. أرى ذلك بصعوبة عبر أسلاك (التور) الصدئة. كانوا، في الداخل، بانتظار ذهاب ما تبقّى من النهار ليسحبوا الستائر.. حتى أنّ بعضها سُحب وأنا أسير.
على التراب.. ليس بعيدًا عن عتبة باب واطئ؛ كانت آثار (طاق) البنتين ما زالتْ باقية، غير أنهما ليستا هناك.
أجتازه، وهو على عتبة الباب، إلى دكاني. أفتحه.. فتهاجمني رائحة قديمة لكلّ شيء فيه. أبقى، وأنا أسترد أنفاسي، متأمّلًا الغبار المتراكم على الرفوف.. كفتي الميزان غير المتفقتين.. الأغطية الملوّنة لعلب الحلوى. أرى كلّ ذلك.. ثمّ أخطو متناولًا المقشّة المتروكة تحت الطاولة وأبدأ ببعثرته.
(4)
متكئًا كنتُ، على قائمة السرير، حين ترك البقعة الداكنة، على الجدار، وجاء إليّ. كانت المرّة الأولى التي يصل فيها إلى باب الدكان. بقي يقف مشدوهًا أمام أشيائي القديمة المهملة على الرفوف وفوق الطاولة. إلّا أنّ عينيه تعلّقتا بما تبقّى من لعبة تتدلّى على قائمة الباب كانت كلّ دوائرها فارغة باستثناء واحدة تحمل وجه مهرّج يمدّ لسانه ببلاهة يفتح عينيه على سعتهما وقد بهتتْ ألوانه. حين أشارتْ أصبعه إليها؛ تناولتها وقدمتها له. راقبته وهو ينتزع وجه المهرج ويقدّمه لي. “حلم”.. قلتُ له، وإذ بدا كأنّه لم يفهم؛ أكملتُ: “ضعها تحت رأسك قبل أنْ تنام”. بقيت أنظر إليه وهو يبتعد وكفّه مطبقة على وجه المهرج. ثمّ غفوتُ.
وعندما أفقتُ.. لم أره. كان باب الدار الموصد، وحده، يظهر أمامي على الجدار المتشقق، خلفه.. تحجب ستارة قماش باحة دار لم تعد واسعة بما يكفي. ومن المصباح الوحيد، الذي ما زال مضاءً فيها، علمتُ أنّ النهار لم يطلع بعد.
(5)
كان النهار طويلًا. والمروحة القديمة، المتشبّثة بصعوبة بسقف الدكان، تصبّ على رأسي هواءً ساخنًا. أسحبُ الكرسي الخشب إلى الخارج تاركًا قائمتيه الخلفيتين تخطّان على الأرض. أضعهُ عند باب الدكان. وعندما أجلس فوقه؛ أبدو كنصب قديم صنعته يد نحاتٍ ماهرٍ.. مجهول.
30/10 – 18/12/2018
البصرة
www.alnaked-aliraqi.net
إلى دكاني القريب يصل صوت مكنسة الخوص وهي تبعثر الغبار المتراكم على عتبة الباب الإسمنتية. الوقت الذي أحتاجه للنهوض عن الكرسي الخشب المحصور بين طاولة تتراص عليها علب الحلويات المغلقة بأغطية ملوّنة؛ والرفوف المكْتظّة، في الخلف، بكلّ شيء قديم.. خلال هذا الوقت يكون صوت المكنسة قد توقّف. وعندما كنت أصل وألتفتُ ناحية الباب؛ أراه يفرش (جودلية) فوق العتبة المكنوسة للتوّ.. يفرشها بعناية مُغيّبًا حافة الدرجة حيث سيسند ظهره.. ثم يجلس بهدوء وعيناه تراقبان الطريق؛ فيبدو، وهو كذلك، كتمثال نحتته يد فنان ماهر.
تحته.. تظهر بعض ألوان قطع القماش، التي خيطتْ منها (الجودلية)، جديدة متألقة.. فيما أخرى، قد تكون من ثياب قديمة، فقدتْ ألوانها؛ فبدت باهتة وسط مهرجان الألوان المشع.
أعود إلى الداخل. أمسك الكرسي وأسحبه إلى الخارج تاركًا قائمتيه الخلفيتين تخطّان على الأرض. أضعه عند دَرْفة باب الدكان الحديد، جهة اليمين، في المساحة التي وصلتْ إليها الشمس. وعندما أجلس.. نبدو، أنا وهو، كنصبين صنعتهما يد فنان مجهول وتُركا هنا منذ الأزل.
في مثل هذا الوقت من الصباح.. تبقى الحركة متدثّرة بكسلها. وإذ يصل زحف خط الضوء المتعرّج قريبًا من مجرى المياه الممتدّ وسط الزقاق.. تبدأ أصوات سحب الستائر وفتح النوافذ. ومع خروج النساء بمكانسهنّ لتنظيف أسلاك (التور) الصدئ على النوافذ؛ ينسحب الهدوء أمام صخب الأطفال المنسلّين من المنازل على حذر.. يقفون قليلًا على العتبات قبل أنْ ينزلقوا إلى الأرض الرطبة.. فيما يبقى هو جالسًا في ضوء الشمس وقد غمره، كلّه، قبل أن يتجه بعيدًا حيث لم تنتهِ، بعد، فتاتان من تخطيط (طاقهما) على التراب.
على صفحة الجدار المتشقق، المواجه للصبي، كنتُ أرى جسده النحيل في فم الباب المفتوح وستارة القماش المتدلّية خلفه؛ فيبدو كما لو كان بانتظار أنْ ينتهي مصوّر كهل، يخفي رأسه في خرطوم القماش الأسود المتصل بصندوق تصويره، من التقاط صورة له.. فيما تحجب الستارة، القافزة فوق البلاط شبرًا، دهليز الدار المظلم ومن ثم فنائها الواسع. وفي اللحظات التي تطلّ فيها امرأة من الداخل، لتراه.. وتلقي نظرة على طرفي الزقاق، يتبعثر خط الضوء وهو يحاول الدخول إلى الدار بعد أنْ يصطدم بجسدها أولًا ومن ثمّ بالجدار دون أنْ يفلح في إضاءة الدهليز كلّه. وهو، إذ يحسّ بها خلفه، يلتفتُ إليها قليلًا.. ثم يعود. وتعود هي، إلى الداخل، تاركة ستارة القماش تغطّي فم الدهليز. كلّ ذلك أراه.. أتابع ظهوره على الجدار المواجه للصبي دون أنْ تفارقه شقوقه وبقعته الداكنة بعد أنْ سقط طلاؤها ذات مساء.
ثمّ يفقد الزقاق هدوءه، يطرده صراخ الأطفال.. ويسرقه باعة (الشعر بنات) والفرارات الورقية الملوّنة قبل أنْ يجهز على ما تبقّى منه بائع (الفلافل والصمون) الحار.
ينتصف النهار. أجرجر الكرسي خلفي لأعيده إلى مكانه. أغلق باب الدكان وأنسحب بقدمين ثقيلتين.
وأنا أتجاوزه، جالسًا على عتبته، أرى الستارة تتدلّى خلفه ساكنة.. خلفها دهليز مظلم.. ثم باحة تضيئها فتحة في السقف مغطاة بهرم من خشب وزجاج.
(2)
وكأنّه، كلّ يوم، ينتظر مغادرتي لينهض. أراه، وأنا هناك، في البيت، مضطجع على السرير بمواجهة جدار متشقق تحتلّ وسطه بقعة سقط طلاؤها فبدتْ داكنة.. أراه على الجدار، يطردني ببصره بمجرد أنْ أجتازه، وتبقى عيناه تخترقان ظهري حتى أنعطف. ثمّ ينهض.. يطوي (جودليته) ويحملها إلى الداخل ليخرج فتىً آخر فيه بعض من ذاك الجالس، على العتبة، طوال الصباح.. وليس كلّه.
لا أدري إنْ كنتُ غفوتُ.. أمْ أنّ عينيّ ما زالتا مفتوحتين على الجدار وأنا أراه ينظمّ إلى الأطفال المتراكضين في الزقاق. إلا أنّني، وبعينين أقرّ بكونهما مفتوحتين، رأيته يعتصم بالبقعة الداكنة، على الجدار، كلّما ركض الأطفال خلف بائع جوّال ليوقفوه ويتحلّقوا حوله. وكان ذلك يدهشني.. يجعلني أتذكّر أنّه لم يقترب من دكاني يومًا.. أو ربما اقترب ولكني نسيتُ ذلك. وحين يبتعد الباعة ويعود الأطفال إلى لعبهم؛ ينظمّ إليهم وكأنّه لم يفارقهم.
مرة.. كنتُ جالسًا على حافة السرير حين مرَّ بائع الفرارات الورقية. كعادته.. انزوى بعيدًا.. ثمّ عاد ليركض معهم وهو يمدّ يده الفارغة أمامه. جنبي، على الطاولة، كانت واحدة، بلون أحمر، مطروحة هناك. عندما اشتريتها سألني الرجل: “أيّ لون يفضّله حفيدك؟” لم أقل له أنّها لي. بجهد كبير نهضتُ.. تناولتها من على الطاولة واتجهتُ إلى الجدار. لم ينتبه إليّ إلّا بعد أنْ نقرتُ على كتفه بأصبع مرتجفة. بنصف التفاتة.. خطفها من يدي وركض. لم يرَني. كانت عيناه ملتصقتين بأجنحة الفرارة. لم يرَني.. في حين بقيتْ عيناي تجريان خلفه وهو يبتعد.
أبقى أنظر إليه.. وإلى الساعة الكبيرة المعلّقة على الجدار منتظرًا موعد مغادرتي. وكنتُ، في كلّ مرّة أهمّ فيها بالنهوض، أراه، على الجدار المتشقق، يتباطأ متلفّتًا كثيرًا وهو يتراجع إلى بقعته، على الجدار، محتلًّا مكان طلائها المتساقط. ومع أنّهم، وأنا أغيّر ثيابي، يبقون ينادونه.. إلّا أنّه كان يبقى هناك حتى أترك الغرفة.. ثمّ ينظمّ إليهم مرّة أخرى. لم أكن أراه.. أسمع، فقط، صوته وأنا أعالج ترباس الباب الصدئ لأخرج.
لا أدري كم هو الوقت الذي أحتاجه للوصول إلى انعطافة الطريق حيث يظهر بعدها، أمامي كما في كلّ يوم، مسمّرًا على عتبة الدار وكأنّه لم يغادرها: عيناه مثبتتان على الجدار المقابل له.. ربما على البقعة الداكنة تحديدًا.
(3)
عند العصر.. يبدو الزقاق، الغارق بظلّ كثيف، أكثر هدوءًا. أستشعر ذلك بمجرد أنْ أضع قدمي في طرفه البعيد. بعض دَرَفات النوافذ مفتوحة عن أضواء مصابيح صفر تتدلّى من السقوف.. أرى ذلك بصعوبة عبر أسلاك (التور) الصدئة. كانوا، في الداخل، بانتظار ذهاب ما تبقّى من النهار ليسحبوا الستائر.. حتى أنّ بعضها سُحب وأنا أسير.
على التراب.. ليس بعيدًا عن عتبة باب واطئ؛ كانت آثار (طاق) البنتين ما زالتْ باقية، غير أنهما ليستا هناك.
أجتازه، وهو على عتبة الباب، إلى دكاني. أفتحه.. فتهاجمني رائحة قديمة لكلّ شيء فيه. أبقى، وأنا أسترد أنفاسي، متأمّلًا الغبار المتراكم على الرفوف.. كفتي الميزان غير المتفقتين.. الأغطية الملوّنة لعلب الحلوى. أرى كلّ ذلك.. ثمّ أخطو متناولًا المقشّة المتروكة تحت الطاولة وأبدأ ببعثرته.
(4)
متكئًا كنتُ، على قائمة السرير، حين ترك البقعة الداكنة، على الجدار، وجاء إليّ. كانت المرّة الأولى التي يصل فيها إلى باب الدكان. بقي يقف مشدوهًا أمام أشيائي القديمة المهملة على الرفوف وفوق الطاولة. إلّا أنّ عينيه تعلّقتا بما تبقّى من لعبة تتدلّى على قائمة الباب كانت كلّ دوائرها فارغة باستثناء واحدة تحمل وجه مهرّج يمدّ لسانه ببلاهة يفتح عينيه على سعتهما وقد بهتتْ ألوانه. حين أشارتْ أصبعه إليها؛ تناولتها وقدمتها له. راقبته وهو ينتزع وجه المهرج ويقدّمه لي. “حلم”.. قلتُ له، وإذ بدا كأنّه لم يفهم؛ أكملتُ: “ضعها تحت رأسك قبل أنْ تنام”. بقيت أنظر إليه وهو يبتعد وكفّه مطبقة على وجه المهرج. ثمّ غفوتُ.
وعندما أفقتُ.. لم أره. كان باب الدار الموصد، وحده، يظهر أمامي على الجدار المتشقق، خلفه.. تحجب ستارة قماش باحة دار لم تعد واسعة بما يكفي. ومن المصباح الوحيد، الذي ما زال مضاءً فيها، علمتُ أنّ النهار لم يطلع بعد.
(5)
كان النهار طويلًا. والمروحة القديمة، المتشبّثة بصعوبة بسقف الدكان، تصبّ على رأسي هواءً ساخنًا. أسحبُ الكرسي الخشب إلى الخارج تاركًا قائمتيه الخلفيتين تخطّان على الأرض. أضعهُ عند باب الدكان. وعندما أجلس فوقه؛ أبدو كنصب قديم صنعته يد نحاتٍ ماهرٍ.. مجهول.
30/10 – 18/12/2018
البصرة
محمد عبد حسن: بائع الأحلام - الناقد العراقي
(1) إلى دكاني القريب يصل صوت مكنسة الخوص وهي تبعثر الغبار المتراكم على عتبة الباب الإسمنتية. الوقت الذي أحتاجه للنهوض عن الكرسي الخشب المحصور بين طاولة تتراص عليها علب الحلويات المغلقة بأغطية ملوّنة؛ والرفوف المكْتظّة، في الخلف، بكلّ شيء قديم.. خلال هذا الوقت يكون صوت المكنسة قد توقّف. وعندما...