كان لقاء الخطيبي بجاك دريدا، كما برولان بارث، لقاء فكريا وشخصيا. والحقيقة أن علاقة مفكرنا المغربي بدريدا كانت أعمق، لمجموعة من العوامل الذاتية والفكرية التي ترتبط بتكوينهما الفلسفي ولكون المفاهيم الدريدية قد وجدت صدى مباشرا في كتابات الخطيبي. فالخطيبي ورولان بارث تواصلا بالأساس من خلال علاقتهما بهذا المفكر الشاب الذي يعيد النظر في تاريخ الفكر بكامله من خلال مفاهيم ومسعى نظري تفكيكي، لا يقتصر على الفلسفة وتاريخها، ولا على تاريخ الفكر الغربي وإنما يتجاوز ذلك إلى الأدب والأنثربولوجيا والترجمة وقضايا قَلَّ أن يتطرق لها آخرون كالدين والعنف والضيافة والترجمة.
نجد صدى لأفكار جاك دريدا في كتابات الخطيبي بدءً من أواسط الستينيات، غير أن هذا التواشج المفاهيمي سيظهر بشكل أوضح في مقاله المؤسس: المغرب الكبير أفقا للفكر، حيث سوف يغدو مفهوم الاختلاف مسبارا تحليليا لتفكيك علاقة الفكر "العربي" بالذات والهوية والغيرية... بعدما استثمر الخطيبي سيميولوجيا بارث، ممزوجة بنفحات ديريدية في كتابه الاسم العربي الجريح الذي ترجمه محمد بنيس للعربية (1980، دار العودة). ويبدو أن الخطيبي انزلق من البارثية الذكية إلى المفاهيمية الديريدية انطلاقا من تعقد القضايا التي يطرقها، ولأنه تأكد أن رولان بارث، رغم انفتاحه الفكري، ظل منغلقا في تمركز فكري وعرقي تؤكده تجربته الخائبة في المغرب. فالخطيبي كان قد عرف بارث منذ الستينيات وصاحبه وكان زميلا له بكلية الآداب بالرباط حين كان يدرّس بها سنة 1970. طبعا لم يكن بارث حديث المعرفة بالعالم العربي، فقد كانت أولى علاقاته المباشرة به في 1949، حين قام بالتدريس في الإسكندرية. وهناك صادف جوليان غريماس صاحب "السرديات" المشهورة، الذي تعرّف من خلاله على كتابات سوسور التي ستمنح نظريته منحى لسانيا وبنيويا.
حين أصدر الخطيبي كتابه "الاسم العربي الجريح"، كتب له بارث مقدمة جاء فيها: "إنني والخطيبي، نهتم بأشياء واحدة، بالصور والعلامات والآثار والحروف. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، إذ يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها ويأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي... وما يسائله الخطيبي هو إنسان "شعبي" كلية، هذا الذي لا يتكلم إلا بالدلالات الخاصة به، ويجد نفسه دائما مغدورا من قبل الآخرين، سواء أكان ناطقا (أي الفلكلوريين) أم مجرد منسي بكل بساطة (أي المثقفين). إن أصالة الخطيبي ساطعة بعلاقته بعرقه. وصوته متميز حتما، ومن ثم فهو متفرد حتما، لأن ما يقترحه بشكل مفارق هو استرجاع الهوية والاختلاف في آن...". يعترف بارث بما يقدمه له الخطيبي، لأنه (مثل مشيل فوكو الذي درّس سنة 1969 بتونس) استُدعي هو أيضا للتدريس في الرباط. غير أن العام كان عام مواجهات بين الطلبة والنظام المغربي، فكان تصور بارث عن مقامه بالمغرب تصورا سلبيا، لم يستفد فيه إلا من علاقته الذاتية برفيقه في هذه الفترة بطنجة.
ولقد أحس بارث بتوافقه مع الخطيبي في استلهام فكر الاختلاف لدى جاك دريدا واعترف بذلك وكأنه يحس بانزلاق الخطيبي المستمر نحو فكر يمنحه التحرر الفكري اللازم: "وهنا يمكن لغربي (مثلي) أن يتعلم شيئا من الخطيبي.إننا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله. ليس أساسنا اللغوي واحدا: ومع ذلك يمكن أن نأخذ عنه درسا في الاستقلال، مثلا.إننا واعون مؤكدا بانغلاقنا الإيديولوجي، ومنا من يبحث عن بعض أفكار الاختلاف وهم يسائلون المطلق الآخر، الشرق (أعني:الزن، التاو، البوذية)، لكن ما يجب أن نتعلمه ليس هو استظهار نموذج (تفرق اللغة بيننا فيه تماما)، بل أن نكتشف لأنفسنا لغة "متعددة المنطقة"، واختلافات سيقوض مزيجها الاندماجية المرعبة (لأنها تاريخيا) بعيدة القدم للأنا الغربي"
يكمن الفارق هنا بين بارث ودريدا في أن الأول مفكر متحرر يحس بتمركزيته العرقية التي لن يحرره منها بلد قريب ومستعمر سابقا من لغته وثقافته، بل بلد عريق جدا ومغاير تماما مارس جاذبيته الكبرى على حضارة فرنسا هو اليابان (كتاب "أمبراطورية العلامات، 1970)، وأن الثاني ولد في بلد متاخم للمغرب، كان في ما مضى منطقة مغربية تنتمي للدولة المرابطية والموحدية المغربية، هو الجزائر. فهو يهودي جزائري عاش صباه في بلد عربي متعدد الأعراق والديانات. وهو من ثم أقرب إلى روح الخطيبي التفكيكية التي تسائل القضايا المحلية بكثير من الذكاء التفكيكي.
نجد صدى لأفكار جاك دريدا في كتابات الخطيبي بدءً من أواسط الستينيات، غير أن هذا التواشج المفاهيمي سيظهر بشكل أوضح في مقاله المؤسس: المغرب الكبير أفقا للفكر، حيث سوف يغدو مفهوم الاختلاف مسبارا تحليليا لتفكيك علاقة الفكر "العربي" بالذات والهوية والغيرية... بعدما استثمر الخطيبي سيميولوجيا بارث، ممزوجة بنفحات ديريدية في كتابه الاسم العربي الجريح الذي ترجمه محمد بنيس للعربية (1980، دار العودة). ويبدو أن الخطيبي انزلق من البارثية الذكية إلى المفاهيمية الديريدية انطلاقا من تعقد القضايا التي يطرقها، ولأنه تأكد أن رولان بارث، رغم انفتاحه الفكري، ظل منغلقا في تمركز فكري وعرقي تؤكده تجربته الخائبة في المغرب. فالخطيبي كان قد عرف بارث منذ الستينيات وصاحبه وكان زميلا له بكلية الآداب بالرباط حين كان يدرّس بها سنة 1970. طبعا لم يكن بارث حديث المعرفة بالعالم العربي، فقد كانت أولى علاقاته المباشرة به في 1949، حين قام بالتدريس في الإسكندرية. وهناك صادف جوليان غريماس صاحب "السرديات" المشهورة، الذي تعرّف من خلاله على كتابات سوسور التي ستمنح نظريته منحى لسانيا وبنيويا.
حين أصدر الخطيبي كتابه "الاسم العربي الجريح"، كتب له بارث مقدمة جاء فيها: "إنني والخطيبي، نهتم بأشياء واحدة، بالصور والعلامات والآثار والحروف. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، إذ يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها ويأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي... وما يسائله الخطيبي هو إنسان "شعبي" كلية، هذا الذي لا يتكلم إلا بالدلالات الخاصة به، ويجد نفسه دائما مغدورا من قبل الآخرين، سواء أكان ناطقا (أي الفلكلوريين) أم مجرد منسي بكل بساطة (أي المثقفين). إن أصالة الخطيبي ساطعة بعلاقته بعرقه. وصوته متميز حتما، ومن ثم فهو متفرد حتما، لأن ما يقترحه بشكل مفارق هو استرجاع الهوية والاختلاف في آن...". يعترف بارث بما يقدمه له الخطيبي، لأنه (مثل مشيل فوكو الذي درّس سنة 1969 بتونس) استُدعي هو أيضا للتدريس في الرباط. غير أن العام كان عام مواجهات بين الطلبة والنظام المغربي، فكان تصور بارث عن مقامه بالمغرب تصورا سلبيا، لم يستفد فيه إلا من علاقته الذاتية برفيقه في هذه الفترة بطنجة.
ولقد أحس بارث بتوافقه مع الخطيبي في استلهام فكر الاختلاف لدى جاك دريدا واعترف بذلك وكأنه يحس بانزلاق الخطيبي المستمر نحو فكر يمنحه التحرر الفكري اللازم: "وهنا يمكن لغربي (مثلي) أن يتعلم شيئا من الخطيبي.إننا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله. ليس أساسنا اللغوي واحدا: ومع ذلك يمكن أن نأخذ عنه درسا في الاستقلال، مثلا.إننا واعون مؤكدا بانغلاقنا الإيديولوجي، ومنا من يبحث عن بعض أفكار الاختلاف وهم يسائلون المطلق الآخر، الشرق (أعني:الزن، التاو، البوذية)، لكن ما يجب أن نتعلمه ليس هو استظهار نموذج (تفرق اللغة بيننا فيه تماما)، بل أن نكتشف لأنفسنا لغة "متعددة المنطقة"، واختلافات سيقوض مزيجها الاندماجية المرعبة (لأنها تاريخيا) بعيدة القدم للأنا الغربي"
يكمن الفارق هنا بين بارث ودريدا في أن الأول مفكر متحرر يحس بتمركزيته العرقية التي لن يحرره منها بلد قريب ومستعمر سابقا من لغته وثقافته، بل بلد عريق جدا ومغاير تماما مارس جاذبيته الكبرى على حضارة فرنسا هو اليابان (كتاب "أمبراطورية العلامات، 1970)، وأن الثاني ولد في بلد متاخم للمغرب، كان في ما مضى منطقة مغربية تنتمي للدولة المرابطية والموحدية المغربية، هو الجزائر. فهو يهودي جزائري عاش صباه في بلد عربي متعدد الأعراق والديانات. وهو من ثم أقرب إلى روح الخطيبي التفكيكية التي تسائل القضايا المحلية بكثير من الذكاء التفكيكي.