لديَّ في مكتبتي من مقامات الهمذاني نسختان، إحداهما صادرة عن مكتبة الأسرة، بتحقيق وشرح محمد محيي الدين عبد الحميد، والأخرى صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، بتحقيق الشيخ محمد عبده. اخترت النسخة الثانية لأقرأها، دون مفاضلةٍ مسبقةٍ، أو التزامٍ بنصيحةِ أحدٍ، ولكن حسبما اتَّفق الأمر. فلمَّا ابتدأتُ القراءةَ بكلمة المحقِّق، لفتت انتباهي هذه الأسطر:
وهاهنا ما ينبغي التنبيه عليه، وهو أن في هذا المؤلَّف من مقامات البديع – رحمه الله – افتنانًا في أنواعٍ من الكلام كثيرة، ربما كان منها ما يستحيي الأديبُ من قراءته، ويخجلُ مثلي من شرحِ عبارته… ولكنْ لكلِّ زمانٍ مقال، ولكلِّ خيالٍ مجال، وهذا عذرنا في ترك المقامة الشامية…
فازددتُ فضولًا لأن أعرف المحتوى الذي من أجله استُبعدت هذه المقامة من التحقيق والنشر؛ برغم أنَّ السبب الذي إليه أرجَعَ المحقِّقُ تركَ المقامة، وَاهٍ وغيرُ علمي، ولا سيَّما أننا وجدنا في محقِّقي كتاب الحيوان مَن لم يستحيوا من إيرادِ حكاياتِ الزوفيليا Zoophilia الخادشة للحياء، ووجدنا في محقِّقي الأغاني للأصفهاني، مَن حقَّقوا بأمانةٍ تامَّةٍ أخبارَ مُخَنَّثٍ مثل “الدَّلال” الذي حفلت حياتُه بكثيرٍ من الأمور التي تخالفُ شرطَ الشيخ محمد عبده، وكل هذا في سبيل تِبيان ملامح الحياة الاجتماعية في العصور التي تنتمي إليها هذا الكتب، بموضوعيَّةٍ، لكي يتيسَّر للباحثين الوقوفُ على حقائقِ تلك الأزمان، وطبائعِ الناس فيها.
ظننتُ أن الشيخ محمد عبده انفرد بمنع النشر دون غيره، فبحثتُ في النسخة الأخرى عن المقامة الشامية، فلم أجدها.
ازددتُ عجبًا، فقررت أن أبحثَ في الإنترنت، وكانت المفاجأة!
لا أثرَ للمقامة الشامية على الإطلاق! مع إشارةٍ إلى أن المقامة مُثبَتةٌ في الطبعة الأولى للمقامات (عام 1298هـ)، وفي طبعة فاروق سعد (بيروت 1982م)!
حينئذٍ أدركتُ أنَّني لن أستطيعَ قراءةَ المقامة، إلا إذا التمستُها في إحدى مخطوطات مقامات الهمذاني، فحمَّلت مخطوطةً نَسَخَها (عبد الرحيم بن محمد عبد الكريم) في القرن التاسع عشر، وبدأت أبحث عن المقامة الشامية حتى وجدتها.
طرتُ بها ابتهاجًا، وأنا أنتقل من سطرٍ إلى سطرٍ، حتى أنهيتُها، وتذكرتُ أن الإشارةَ إلى تفاصيل هذه المقامة وردَتْ في كتاب (النثر الفني في القرن الرابع الهجري) للدكتور زكي مبارك، وأنه أوردَ فيه مقتطفاتٍ منها!
رجَّحتُ بعد تفكُّرٍ أنَّ منعَ المقامة الشامية من النشر في مصر طوال هذه الفترة الممتدة بين أول طبعة، وآخر طبعة، راجعٌ إلى الرأيِ الأخلاقيِّ الذي استنَّه الشيخ محمد عبده، وسار على نهجه من أتى بعدَه من المحققين. ولم يصدر المنع عن الدولة؛ لأن الدولة لم تجد غضاضةً في أن تنشرَ مؤسساتُها الرسمية كتابَ (الحيوان) و(الأغاني) و(ألف ليلة وليلة)! فعزمتُ لذلك على أن أقدِّم المقامة الشامية في هذا المقال، لكي تكونَ متاحةً لأيِّ باحثٍ لا يُوَفَّق إلى إيجاد طبعة المقامات التي أخرجها فاروق سعد، وأراد أن يطَّلع على المقامة الممنوعة، عن طريق الإنترنت.
وهذا هو نصُّ المقامة الشامية:
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: لَمَّا وَلِيتُ الحُكْمَ بِدِيَارِ الشَّامِ، اخْتَصَمَ إِلَيَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا تَدَّعِي صَدَاقًا، وَالأُخْرَى تَلْتَمِسُ طَلَاقًا وَإِنْفَاقًا. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي المُلْتَمِسَةِ صَدَاقَهَا؟ قَالَ: أَعَزَّ اللهُ القَاضِيَ. صَدَاقٌ عَمَّاذَا؟! وَأَنَا غَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ. فَوَاللهِ مَا أَثْقَلَتْ لِي وَتَدًا، وَلَا أَشْبَعَتْ لِي كَبِدًا، وَلَا عَمَّرَتْ لِي خَرَابًا، وَلَا مَلَأَتْ جِرَابًا. فَقُلْتُ: قَدْ تَبَطَّنْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ؛ لَكِنْ فَمًا غَيْرَ بَارِدٍ، وَثَدْيًا غَيْرَ نَاهِدٍ، وَبَطْنًا غَيْرَ وَالِدٍ، وَعَيْبًا غَيْرَ وَاحِدٍ، وَرِيقًا غَيْرَ رَيِّقٍ، وَطَرِيقًا غَيْرَ ضَيِّقٍ. فَعَدَلَتُ إِلَى المَرْأَةِ، وَقُلْتُ: مَا تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: أَيَّدَ اللهُ القَاضِيَ. هُوَ أَكْذَبُ مِنْ أَمَلِهِ، وَأَسْمَجُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَكْثَرُ فِي اللُّؤْمِ مِنْ حِيَلِهِ، وَأَشَدُّ فِي الشُّؤْمِ مِنْ وَغْلِهِ، وَأَفْسَدُ عِشْرَةً مِنْ سُفْلِهِ. وَاللهِ لَقَدْ صَادَفْتُ مِنْ فِيهِ صَقْرًا، وَمِنْ يَدِهِ صَخْرًا، وَمِنْ صَدْرِهِ سَمَّ خِيَاطٍ، لَا يَرْشَحُ بِقِيرَاطٍ. وَلَقَدْ زُفِفْتُ إِلَيْهِ بَدَنًا كَالدِّيبَاجِ، وَوَجْهًا كَالسِّرَاجِ، وَعَيْنًا كَعَيْنِ النِّعَاجِ، وَثَدْيًا كَحُقِّ العَاجِ، وَبَطْنًا كَظَهْرِ الهِمْلَاجِ، وَحِصْنًا ضَيِّقَ الرِّتَاجِ، خَشِنَ المِنْهَاجِ، حَارَّ المِزَاجِ، صَعْبَ العِلَاجِ. وَلَكِنْ كَيْفَ أَغْدُو وَهُوَ لَا يُنْجِزُ مَا يَعِدُ، وَهُوَ لَا يَجِدُّ وَيَجْهَدُ، لَوْ لَمْ يَخُنْهُ الوَتَدُ؟ فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: قَدْ رَمَتْكَ بِالعُنَّةِ، وَنَسَبَتْكَ إِلَى الأُبْنَةِ. فَمَالَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: أَبِنْتُ البَائِنِ أَعْلَمُ؟! أَلَمْ أَجْعَلْ لِتِسْعِينكِ ثَلَاثِينَ؟ أَلَمْ أُعِرْكِ فِي لَيْلَةٍ عِشْرِينَ، حَتَّى أَسْقَطْتِ الجَنِينَ؟ فَقَالَتْ: أُشْهِدُ القَاضِيَ عَلَى هَذَا الإِقْرَارِ. فَقَالَ: خَدَعْتِنِي يَا دَفَارِ.
وَقَالَتِ الثَّانِيَةُ: أَصْلَحَ اللهُ القَاضِيَ. أَسْأَلُ إِمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ. فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: كَمْ تُقَيِّمُهَا فِي الشَّهْرِ حَتَّى أُقَدِّمَهُ سَلَفًا؟ فَقُلْتُ: مِائَةٌ فِي الشَّهْرِ، تُعِينُهَا عَلَى صُرُوفِ الدَّهْرِ. فَقَالَ: لَعَلَّكَ قِسْتَ أَشْهُرِيَ بِشَهْرِكَ! إِنَّ أَمْرِيَ دُونَ أَمْرِكَ. فَقُلْتُ: لَا أُنْقِصُهَا عَنْ هَذَا القَدْرِ. فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ تُعْطِهَا نَفَقَةَ شَهْرَيْنِ دُونَ الأَجَلِ تَضْرِبُهُ، وَقَبْلَ المَاءِ تَشْرَبُهُ. فَقَالَتِ المَرْأَةُ: اتَّقِ اللهَ أَيُّهَا القَاضِي فِي بَنَاتٍ صِغَارٍ لَيْسَ لَهُنَّ كَادِحٌ سِوَاهُ، وَلَا كَادٌّ إِلَّا إِيَّاهُ. فَأَمَرْتُ بِتَوْفِيرِ ذَلِكَ عَلَى المَرْأَةِ. فَعَادَتَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ تَلْتَمِسَانِ فِي النَّفَقَةِ فَضْلًا، فَقُلْتُ: الطَّلَاقُ يُلْزِمُ القَاضِيَ أَنْ يَنْظُرَ عَنْكُمَا، فَغَيِّبَا عَيْنَكُمَا. ثُمَّ أَنْشَأَ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَقُولُ:
رُبَّ قَاضٍ عَلَى الوَرَى = جَائِرِ الحُكْمِ نَافِذِهْ
سَامَنِي بَذْلَ مُعْوِزٍ = وَنَضَا عَنْ نَوَاجِذِهْ
ذُقْنَ مُعْطِيهِ بَعْدَمَا = سَامَنِي فِي اسْتِ آخِذِهْ
فَقُلْتُ: القَاضِي لَا يَسْمَعُ مَا يَكْرَهُ. لَأَنْ أَحْتَمِلَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَزِنَ ذَاكَ، فَانْصَرِفَا وَاخْرُجَا. فَأَتْبَعْتُهُمَا مَنْ يَعْرِفُ خَبَرَهُمَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ.
محمد أحمد فؤاد
elmahatta.com
وهاهنا ما ينبغي التنبيه عليه، وهو أن في هذا المؤلَّف من مقامات البديع – رحمه الله – افتنانًا في أنواعٍ من الكلام كثيرة، ربما كان منها ما يستحيي الأديبُ من قراءته، ويخجلُ مثلي من شرحِ عبارته… ولكنْ لكلِّ زمانٍ مقال، ولكلِّ خيالٍ مجال، وهذا عذرنا في ترك المقامة الشامية…
فازددتُ فضولًا لأن أعرف المحتوى الذي من أجله استُبعدت هذه المقامة من التحقيق والنشر؛ برغم أنَّ السبب الذي إليه أرجَعَ المحقِّقُ تركَ المقامة، وَاهٍ وغيرُ علمي، ولا سيَّما أننا وجدنا في محقِّقي كتاب الحيوان مَن لم يستحيوا من إيرادِ حكاياتِ الزوفيليا Zoophilia الخادشة للحياء، ووجدنا في محقِّقي الأغاني للأصفهاني، مَن حقَّقوا بأمانةٍ تامَّةٍ أخبارَ مُخَنَّثٍ مثل “الدَّلال” الذي حفلت حياتُه بكثيرٍ من الأمور التي تخالفُ شرطَ الشيخ محمد عبده، وكل هذا في سبيل تِبيان ملامح الحياة الاجتماعية في العصور التي تنتمي إليها هذا الكتب، بموضوعيَّةٍ، لكي يتيسَّر للباحثين الوقوفُ على حقائقِ تلك الأزمان، وطبائعِ الناس فيها.
ظننتُ أن الشيخ محمد عبده انفرد بمنع النشر دون غيره، فبحثتُ في النسخة الأخرى عن المقامة الشامية، فلم أجدها.
ازددتُ عجبًا، فقررت أن أبحثَ في الإنترنت، وكانت المفاجأة!
لا أثرَ للمقامة الشامية على الإطلاق! مع إشارةٍ إلى أن المقامة مُثبَتةٌ في الطبعة الأولى للمقامات (عام 1298هـ)، وفي طبعة فاروق سعد (بيروت 1982م)!
حينئذٍ أدركتُ أنَّني لن أستطيعَ قراءةَ المقامة، إلا إذا التمستُها في إحدى مخطوطات مقامات الهمذاني، فحمَّلت مخطوطةً نَسَخَها (عبد الرحيم بن محمد عبد الكريم) في القرن التاسع عشر، وبدأت أبحث عن المقامة الشامية حتى وجدتها.
طرتُ بها ابتهاجًا، وأنا أنتقل من سطرٍ إلى سطرٍ، حتى أنهيتُها، وتذكرتُ أن الإشارةَ إلى تفاصيل هذه المقامة وردَتْ في كتاب (النثر الفني في القرن الرابع الهجري) للدكتور زكي مبارك، وأنه أوردَ فيه مقتطفاتٍ منها!
رجَّحتُ بعد تفكُّرٍ أنَّ منعَ المقامة الشامية من النشر في مصر طوال هذه الفترة الممتدة بين أول طبعة، وآخر طبعة، راجعٌ إلى الرأيِ الأخلاقيِّ الذي استنَّه الشيخ محمد عبده، وسار على نهجه من أتى بعدَه من المحققين. ولم يصدر المنع عن الدولة؛ لأن الدولة لم تجد غضاضةً في أن تنشرَ مؤسساتُها الرسمية كتابَ (الحيوان) و(الأغاني) و(ألف ليلة وليلة)! فعزمتُ لذلك على أن أقدِّم المقامة الشامية في هذا المقال، لكي تكونَ متاحةً لأيِّ باحثٍ لا يُوَفَّق إلى إيجاد طبعة المقامات التي أخرجها فاروق سعد، وأراد أن يطَّلع على المقامة الممنوعة، عن طريق الإنترنت.
وهذا هو نصُّ المقامة الشامية:
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: لَمَّا وَلِيتُ الحُكْمَ بِدِيَارِ الشَّامِ، اخْتَصَمَ إِلَيَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا تَدَّعِي صَدَاقًا، وَالأُخْرَى تَلْتَمِسُ طَلَاقًا وَإِنْفَاقًا. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي المُلْتَمِسَةِ صَدَاقَهَا؟ قَالَ: أَعَزَّ اللهُ القَاضِيَ. صَدَاقٌ عَمَّاذَا؟! وَأَنَا غَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ. فَوَاللهِ مَا أَثْقَلَتْ لِي وَتَدًا، وَلَا أَشْبَعَتْ لِي كَبِدًا، وَلَا عَمَّرَتْ لِي خَرَابًا، وَلَا مَلَأَتْ جِرَابًا. فَقُلْتُ: قَدْ تَبَطَّنْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ؛ لَكِنْ فَمًا غَيْرَ بَارِدٍ، وَثَدْيًا غَيْرَ نَاهِدٍ، وَبَطْنًا غَيْرَ وَالِدٍ، وَعَيْبًا غَيْرَ وَاحِدٍ، وَرِيقًا غَيْرَ رَيِّقٍ، وَطَرِيقًا غَيْرَ ضَيِّقٍ. فَعَدَلَتُ إِلَى المَرْأَةِ، وَقُلْتُ: مَا تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: أَيَّدَ اللهُ القَاضِيَ. هُوَ أَكْذَبُ مِنْ أَمَلِهِ، وَأَسْمَجُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَكْثَرُ فِي اللُّؤْمِ مِنْ حِيَلِهِ، وَأَشَدُّ فِي الشُّؤْمِ مِنْ وَغْلِهِ، وَأَفْسَدُ عِشْرَةً مِنْ سُفْلِهِ. وَاللهِ لَقَدْ صَادَفْتُ مِنْ فِيهِ صَقْرًا، وَمِنْ يَدِهِ صَخْرًا، وَمِنْ صَدْرِهِ سَمَّ خِيَاطٍ، لَا يَرْشَحُ بِقِيرَاطٍ. وَلَقَدْ زُفِفْتُ إِلَيْهِ بَدَنًا كَالدِّيبَاجِ، وَوَجْهًا كَالسِّرَاجِ، وَعَيْنًا كَعَيْنِ النِّعَاجِ، وَثَدْيًا كَحُقِّ العَاجِ، وَبَطْنًا كَظَهْرِ الهِمْلَاجِ، وَحِصْنًا ضَيِّقَ الرِّتَاجِ، خَشِنَ المِنْهَاجِ، حَارَّ المِزَاجِ، صَعْبَ العِلَاجِ. وَلَكِنْ كَيْفَ أَغْدُو وَهُوَ لَا يُنْجِزُ مَا يَعِدُ، وَهُوَ لَا يَجِدُّ وَيَجْهَدُ، لَوْ لَمْ يَخُنْهُ الوَتَدُ؟ فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: قَدْ رَمَتْكَ بِالعُنَّةِ، وَنَسَبَتْكَ إِلَى الأُبْنَةِ. فَمَالَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: أَبِنْتُ البَائِنِ أَعْلَمُ؟! أَلَمْ أَجْعَلْ لِتِسْعِينكِ ثَلَاثِينَ؟ أَلَمْ أُعِرْكِ فِي لَيْلَةٍ عِشْرِينَ، حَتَّى أَسْقَطْتِ الجَنِينَ؟ فَقَالَتْ: أُشْهِدُ القَاضِيَ عَلَى هَذَا الإِقْرَارِ. فَقَالَ: خَدَعْتِنِي يَا دَفَارِ.
وَقَالَتِ الثَّانِيَةُ: أَصْلَحَ اللهُ القَاضِيَ. أَسْأَلُ إِمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ. فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: كَمْ تُقَيِّمُهَا فِي الشَّهْرِ حَتَّى أُقَدِّمَهُ سَلَفًا؟ فَقُلْتُ: مِائَةٌ فِي الشَّهْرِ، تُعِينُهَا عَلَى صُرُوفِ الدَّهْرِ. فَقَالَ: لَعَلَّكَ قِسْتَ أَشْهُرِيَ بِشَهْرِكَ! إِنَّ أَمْرِيَ دُونَ أَمْرِكَ. فَقُلْتُ: لَا أُنْقِصُهَا عَنْ هَذَا القَدْرِ. فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ تُعْطِهَا نَفَقَةَ شَهْرَيْنِ دُونَ الأَجَلِ تَضْرِبُهُ، وَقَبْلَ المَاءِ تَشْرَبُهُ. فَقَالَتِ المَرْأَةُ: اتَّقِ اللهَ أَيُّهَا القَاضِي فِي بَنَاتٍ صِغَارٍ لَيْسَ لَهُنَّ كَادِحٌ سِوَاهُ، وَلَا كَادٌّ إِلَّا إِيَّاهُ. فَأَمَرْتُ بِتَوْفِيرِ ذَلِكَ عَلَى المَرْأَةِ. فَعَادَتَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ تَلْتَمِسَانِ فِي النَّفَقَةِ فَضْلًا، فَقُلْتُ: الطَّلَاقُ يُلْزِمُ القَاضِيَ أَنْ يَنْظُرَ عَنْكُمَا، فَغَيِّبَا عَيْنَكُمَا. ثُمَّ أَنْشَأَ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَقُولُ:
رُبَّ قَاضٍ عَلَى الوَرَى = جَائِرِ الحُكْمِ نَافِذِهْ
سَامَنِي بَذْلَ مُعْوِزٍ = وَنَضَا عَنْ نَوَاجِذِهْ
ذُقْنَ مُعْطِيهِ بَعْدَمَا = سَامَنِي فِي اسْتِ آخِذِهْ
فَقُلْتُ: القَاضِي لَا يَسْمَعُ مَا يَكْرَهُ. لَأَنْ أَحْتَمِلَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَزِنَ ذَاكَ، فَانْصَرِفَا وَاخْرُجَا. فَأَتْبَعْتُهُمَا مَنْ يَعْرِفُ خَبَرَهُمَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ.
محمد أحمد فؤاد
مقامة الهمذاني الممنوعة من النشر! - المحطة / تأخذك إلى أعماق الفكر
ازددتُ فضولًا لأن أعرف المحتوى الذي من أجله استبعدت مقامة الهمذاني من التحقيق والنشر؛ برغم أن السبب الذي إليه أرجَعَ المحقق تركَ المقامة، وَاهٍ وغير علمي