هذه نقلة من السهول للمرتفعات..وعندما رحل وابتعد مضَّه الأسى وإهتز قلبه بالرفيف والخفقان.. وكانت أيامه الأولى في المناخ الجديد ذي البرودة التي تلسع على الأرض الحجرية أياماً مضرمة نارها من لهيب البعاد.. وإنسرب السكون والهمود لروحه
وتمنى في لحظات أن يحزم متاعه ويرجع هرباً من قبضة الإستيحاش..وكان متحرزاً منكمشاً من زيارات الوفود التي تأتيه في مسكنه مرحبة.. يستطلعونه ويوجهون إليه السؤالات التمويهية تسبر أغواره وطبائعه.. ويمدحون من سبقه من الزملاء ويقولون إنهم طيبون.. وهذه العيون تحوم حوله تداري ذكاءها ومكرها.. تتلصص حذرة ومترقبة لكل غريب وافد..!
ذهب في اليوم التالي للمبنى وعاين الأثاث والأدوات داخل (الشفاء ـ خانة) التي تقع مباشرة عند مدخل القرية وعلى حافة الجرف الذي يفضي للوادي هناك تتصل به عدة طرق ملتوية تنحدر له من أعلى حيث السوق الاسبوعي للنواحي المجاورة.. وبرغم لطافة الجو فإن (الأوكسجين) شحيح تزيد عدد دقات ضربات قلبه ويتصبب عرقه.. تنتفخ الأوردة تضخ دماءاً قوية من أثر العلو الشاهق..ويمشي تحت غازات أبخرة ( السخيماني) المتصاعدة الملتوية حتى تتراكم وتتكثف في الطبقات العليا.. شجيرات ( الطلح) هناك متفرقة بأعشابها القصيرة وتخرج من بين فجوات الحجارة.. وقليل من البقرات والمعزات تصعد وتنزل ترعى لا تعاني من مشقة يعانيها (هو)..!
وفي الليل الطويل تبدو النجيمات سهرانة يتأملها تبرق لحظات في السماء الملبدة بالسحابات حين يجلس أمام المسكن الحجري يلسعه البرد في الخارج والظلام الساكن المطبق لا يجوس فيه شخص والجميع في داخل البيوت يسمرون.. هنا (القمر) قريب جداً يكاد أن يلامس رؤوس الجبال..! أبيض ورخامي كبير كامل الإستدارة.. يختفي ثم يبين.
والآن فهم (هناك) يطل عليهم تحت سماء مكشوفة صيفية ويتخففون عن ملابسهم وأثقالهم النهارية تحت الشمس الغاضبة.. وهم هنا لا يخرجون في الليل بعيداً فالليل ملبَّد بالغموض والأسرار تباغتهم وتؤذيهم.. وكلهم قد هجعوا واختفت حتى النداءات إلا من (نباح الكلاب وعواء الثعالب البعاشيم البعيدة..!) تهيم الأرواح في تضاعيف الليل ويخشع قلبه وتنسرب روحه بعيداً ويترقب الأيام الآتية المجهولة.. ويتساءل : ـ
(لماذا أتى هنا وحنينه هناك كاشح لا ينتهي؟!)
البحث عن الأحلام الموضوعية
لقد خرج كثير من الشباب والرجال إلى المنافي في الهجرات القسرية وقد أصابت اللوثة (مأمون حسين) الذي كان جاداً ودقيقاً في عمله ومخلصاً تحت كل الظروف والمناخات.
وقد وجد هنا أن الحالات المرضية واحدة ومتشابهة..المعدة والطحال والحساسية الجلدية والحميات والجروح وسوء التنظيم وعدم الوقاية ومتاعب الكلى من المياه الجيرية الآسنة ولسانهم الجامع واحد لإيصال مضمون متاعبهم برغم النمطية الصوتية المتدفقة والمخارج العسيرة سريعة الايقاع..وهؤلاء الناس مضيافون كرماء ولهم شغف عظيم بالأسئلة الاستطلاعية والتفاصيل والمقارنات..وفي فترة وجيزة إنكسر قيد النفس الثقيل بالتواصل والزيارات والدعوات في السمر الليل بعد أن انتهت الفترة الإختبارية في الرصد..!!
ويقولون له : (أنتم قوم طيبون)
إنتهى الشك والحذر الوقائي..مما جعلهم يخلعون عليه صفات الأمانة والشهامة والإخلاص والثقة والمثابرة فنفذ عبر كل البوابات ملبياً طلب الاسعافات العاجلة في الليل الدّاجي المتأخر أو عند الفجر الكاذب..!
ثم تلاشت الأشجان الخاصة (عن البلد البعيد) تحت لسعات البرد والسحابات المتلبدة الراحلة وزخّات المطر صوب البيوت الحجرية.
والتقط كثيراً من الأسماء والمعالم وقد مرت عليه الجلاليب السوداء في مسكنه الملحق بـ (الشفاء ـ خانة)
وكانت (هي) بينهن تتقدمهن لسانهن وترجمانهن في نقل شكاويهن!! وتتميز عنهن بابتسامتها وخفتها ومبادراتها وإستطلاعاتها الاستفهامية ولماحيتها وجرأتها النادرة..!
هكذا كانت البدايات
(هايلة قاسم جيلان) التي كانت تأتي ثم تمكث قليلاً تلتقط من ( مأمون) مفردات لهجته المحكية وتميل نحوه قليلاً تسترق السمع جيداً وتحاكي مساحة القوالب ومدرجاتها النمطية.. وفي ظرف وجيز كادت أن تتقن كل المفردات وكانت تجلب لمسكنه الماء العذب من (الغيل) وأخريات يحملن له لفائف الخبز..وكان ينفرد بطبخ طعامه لوحده وعلى طريقته ويؤثر ذلك دون الطعام المسلوق ويعزم القوم لمائدته الغنية بالتوابل والمشهيات.
وفي ذلك الصباح بالذات كان قد إستيقظ باكراً.. يرقب من نافذته الغازات الرمادية المتصاعدة فوق الأحجار لتصبح سحابات هامية.. وتحت نثيث الندى كانت الخطوات تقترب منه نزلت من بيتها الشاهق المعلق على الصخرة الكبيرة الصمَاء وعندما إقتربت كانت (هي) بذاتها ـ هايلة ـ ووقفت تحت النافذة ومن تحت أثوابها أخرجت لفائف الخبز وعناقيد من العنب الشامي وتجاذبت معه الحديث..أتت لوحدها ولم تأت مع الآخريات.. وعندما قفلت راجعة قالت (إنها ستجلب له الماء من الغيل..!)
وإرتقت عيونه خلفها وصوّب نظره من مكمنه وراء النافذة خلفها كانت نظرة محددة ومركزية وبإحكام وعين قوية لا ترمش..! فهذا يوم فاصل لتحول انقلابي وتحت قدر مرسوم في درب لا يمكن الخروج عنه! وتلك لحظات منفلتة داخل الزمان والصباح الجديد السعيد..! وإنها اللحظة الفارقة والفاصلة..! وما كان له أن يساق هكذا في تقديره وظنه وخياله وتبعثر قلبه أشلاء في تلك الدقائق الحاسمة وأنها كانت تحاكي وتنطق بلغة عذبة محكية بلسانه (هو) وكان صوتها هديلاً كأنها تغني وكانت عيناها مغناطيسية ومتواطئة.. وتركت من خلفها زهوراً وأريجاً وينبوعاً فراتاً..!!
سليمان فياض والعيون البصّاصة : ـ
وكان قديماً كتابه عن العيون التي حاصرته حين كان يعمل في البادية في الحدود على صحراء الشام..بين الدويلات الثلاث التي تشع من وراء الحجب بمكرها ودهائها ولهيبها ومراوغتها وشكها وتحررزها وسحرها..!
يدعونه ويذهب لهم في بيوتهم ضيفاً كريماً نبيلاً مع كل أطراف الأسر وبيتها كبيوت الآخرين..وتحاول في جلوسها أن تكون قريباً منه وفي مواجهته وقد استعجب أهلها من لسانها المحكي الذي بدأ يتحور على طريقته في المحاكاة والتقليد..!
قال في نفسه (أمن أجل هذا جئت إلى هنا أيتها العينان الفاتكتان الغازيتان..؟!)
وفي النهار تأتي وتكون في (الشفاء ـ خانة) يدخل المرضى ويخرجون وتقدم خدماتها هكذا بما إتفق بتسهيل مهمة التعبير والشرح على مستوى الحالات الحرجة والحسّاسة..ثم أجادت تنظيف وترتيب وتعقيم الأدوات.
وكانت الناس تقول عنه (مأمون الباهي..مأمون الدءووب العفيف) وهو في مقتبل شبابه وفتوته وحساسيته الفائقة ثم عنفوان خصوصيته وظرفه وتواضعه ودعابته الفارقة بينهم بالاختلاط اللصيق مما أضاف عليه جاذبية وروحانية حانية ومتقشفة وكان متفانياً خدوماً لجميعهم..!
(وهايلة) هي الموضوع الكبير الشائك والقدر الصائد وقد أتى من تحت الشمس من البلد النائي الجاف الحار مترامى الأطراف..وإلى الغمام الحالم الراحل في الارتفاعات الشاهقة المعتدلة وأنها تحلم به بكل جرأة..فتسامت روحه وتلاقت معها..وما زالت تجلب له الماء والطعام مقبلة ومدبرة فلا يهم شئ..! وكانت العيون الأخرى المعادية تحاصره وتحصي حركاته مما جعلها تبتدر الحديث مدافعة بإنفعال وعيونها تلسع وتترقرق مياهها..!
حتى إشتدت به حالة الحساسية مع روحه اللائبة وجعلته مقتصداً في طعامه فأصابه النحول..والشرود..!!
عندما إمتلأت عيونه سهاداً ورملاً
على الورقة البيضاء وفوقها يرقد القلم ولم يخط حرفاً لها تلك التي انتخبتها أمه عروساً له...(نائلة) البعيدة المسكينة وفي إنتظاره!
يكوم العملات الورقية الخضراء وتأتيه الهدايا..وهو زاد في كل شئ..وكانت قد تعلمت منه طريقة الطبخ المسبوك وتفانيت الخلطات بالسمن والخضر والبهارات ثم بنت لها قصراً من الأحلام رسمت معالمه جيّداً بسماحتها وسطوتها وطهارتها وقوة شكيمتها وبأسها الحديد...(هايلة) التي تترقرق عيناها الحلوتان البّراقتان..عيونها البوابات الرحبة..وعيونها مدخلها عيناها تترقرقان وتهطلان مع الغناب ومع ألق الفرح وكدر الغضب..وقد عزّ المنام..!
عندما نصب له الأعداء أفخاخاً من الكراهية والإشانة
قالت له : ـ (هناك كثيرون يحومون حولها ويريدونها..يذهبون لديارها..فماذا أنت فاعل؟!)
قال في نفسه ولم يقل لها : ـ (لقد أقتحمتني وهدّت حصوني وكشفت عن ضعفي وقلة حيلتي..فهل لي من مخرج؟!)
تذهب وتأتي من ساعتها..وقبل برهة كانت هنا..خفيفة وناعمة..لا تغيب عن الخاطر..حفيف الثوب وأنفاسها المتلاحقة وأنفها العجيب وهمسها الباسم..أسنانها المفلجة..الإيشارب الأحمر..ترتقي الأحجار صاعدة وهابطة تعاود ثم تعاود..! وليس في الخاطر إلا (هو) وقالوا إن (البنت) جنحت كثيراً ومالت ميلاً واضحاً معيباً..وإمتد سوء الظن العريض متابعة في سكناته وروحاته وتطاير من العيون الشرر والغدر فأجمعوا على مناصحته بالمغادرة إلا من بعضهم أصحاب الذكريات والمعاشرة الطيبة الخالصة وأصحاب العاطفة والمودة والصداقة الموطّدة..ثم كانت بعض العيون المحايدة المستطلعة..ترقب المشهد متسائلة في صمت..ولم يعلّق شيئ..! وقد تقلّصت عضلات بطنه إنفعالاً مع مشاعر القوم المتباينة والمتنافرة بالذكريات الطيبة..أيام الوباء..وأيام المعركة الاخيرة وجروحها التي لم تندمل بعد..! وهذا حل بطوعه..فلا سبيل بغيره وإن الفضل من شيمته..وأبدى أصدقاؤه كثيراً من المشاعر والنوايا الحسنة (مبخوت/ مستور/ علي صغير/ وكحيل...وبعض النساء)
الرحيل المر إختياراً : ـ
حزم أمتعته..وعلم بذلك الجميع..وأبدت المرأة الكبيرة بنت القادح مشاعراً جريئة ومضادة لمن ظنوا به فساداً وسوءاً..أجهش بعضهم بكاءاً وقال إن البعاد يصون كرامته..وخرج ذاوياً ضاوياً مرفوع الهامة..وخرجوا جميعاً نساءً ورجالاً وصبايا وتفرقوا من بعيد على سنان الصخور..والسيارة أمام المسكن تتأهب للرحيل..لوّح بيديه ملوحاً منفعلاً ويتفّرس في الجموع وكانت (هي) هناك بعيدة..نائية ومتقرفصة على صخرة..تبدو كنقطة بعيدة نقطة وحيدة في الفضاء الأزرق..وأصابه إنقباض وكدر وخجل أسيف حين لاحت صورة نائلة التي بهتت تماماً؛ وقال إن هذه عودة نهائية.
وإلتقى به زملاؤه في رئاسة النواحي وأثنوه عما اعتزمه وكذلك ما كان من أمر المسؤول النافذ الذي تدخل دون أن يعرف الأسباب إلا من الصفات الجليلة والتقارير الوافية التي وصلته وكان التوجيه بالنقل لناحية أخرى بها إسقرار وإغراءات عديدة..حمل متاعه وإرتحل نحوها..وفي المنطقة كانت هي نفس الوجوه والحالات المتطابقة..وسكن مسكناً مستأجراً من عائلة (يحي علوان)..
وما توالت الأطياف والأرواح تحلق حوله تقلعه في عز المنام مخضوضاً..فكيف ينسى؟! وهم أيضا لا يتناسون ولا يستغنون فهذه مخالطة عميقة..وبعد أيام توافدوا عليه قاصدين وقد عرفوا الطريق..كانوا رجالاً كثر ونساءً قليلات..! فلا بديل عندهم غيره..فإن دواءه ناجع وتأتي الوفود وتفوت..وتلك العيون البرّاقة ثم إمتلأت فراغات الزمن الموحش بالعمل الدائب كعادته المتلازمة فأصابه الرهق.
وفي الأحلام العذبة تأتي (هي بنت قاسم جيلان) وفي الكوابيس المدلهمة تتعارك الأيدى المشتبكة حوله وهو يرقبها وجسمه يتثاقل ويموت..!
وكان بينهما الحديث الموصول ثم الصمت الجميل يشملها في البوح الساكن فيتواصلان دون ترتيب مقصود وحتى داخل ليالي السّمر والمؤانسة وسط لمّة العائلة الكبيرة..يشردان ويسرحان معاً..تداري نظراتها ويداريها..ثم تحكي بين أهلها لساناً مستعاراً كانت قد أتقنته..فيضحكون ويستعجبون منها..!
وذلك النهار جلست جنبه وإكتشف أنها تلامسه وتلاصقه كتفاً بكتف كانت أنفاسها قريبة من صفحة وجهه..وما كان إلا أن نهض فنهضت واقفة ثم تقدمت نحو المرآة الكبيرة المعلقة لتعدل من هيئتها..غاب وعيها في الزمان والمكان..أزاحت الإيشارب الأحمر الأثير لديه ثم حلّت عقدة من شعرها الذي تدفق ليلاً طويلاً حالكاً..وعندما إنتبهت لذلك فجأة صرخت ثم ولّت هاربة..!!
المخاطرة شوقاً وجسارة
ولقد عرفت (هي) بدورها خارطة الطريق حتى إهتدت للمسكن..وعند الباب وقفت وأطرقت وكانت ملفوفة لأخمصيها وكان ذلك في القيلولة مع النهار الدافئ..الشمس كبيرة متربعة على السماء الصافية..وهل في الإمكان والتصور أن تأتِ هنا..وهي بلحمها ودمها وشكيمتها القوية..! أنشده عند مرآها وجاشت بنفسه الإنفعالات المتضاربة.. (هايلة) فمن معها؟! خرج وإستكشف على الطريق العام..ولا أحد..! لقد جاءت إلى هنا ومن أجله..وهذا في النهاية هروب خطير..!
ثم قال كلاماً متقطعاً ولم يدركه..كان حزيناً وغاضباً ومرعوباً ومتشوقاً..! ترقرقت العيون والتمعت..كأنه تدحرج من قمة الجبل للسفح قالت : ـ
(لقد أتيت من نفسي ولن أعود..! ثم قالت كلاماً غاضباً محرضاً بلسانها الأصيل..وتفرّست في وجهه مستنجدة..إستدار ومضى وقد أضمر في نفسه أشياء..إستصحبها وخرج بها لجاره (يحى علوان)..ودخلت هي مع الحريم
همس في أذن جاره يحي؛ وقال إن الفتاة أتت للإستشارة من محلته القديمة وكان ذلك مألوفاً...ثم أنه سيعود بها.!!
ولم ينم فقد سكنت حبات الرمل عينيه حتى لاح الفجر!!
وفي اليوم التالي إستأجر سيارة ثم إتجه غرباً..سكنت ورافقته طوعاً..وكان سائق السيارة ينظر ينظر من المرآة نحوهما مرتاباً..! ومستطلعاً بخبث.
وعند نقطة المرور السريع توقفت السيارة وهمس السائق في أذن العسكري الذي هرول نحوه..فأخرج مأمون أوراقه ثم ذكر وجهته المقصودة..ثم أشار نحوها وقال إنها في صحبته لديارها التي هي مقصده ومكان عمله..وكانت قد غشيته راحة ومزيد من الطمأنينة.
ذكر ما جرى بعد العودة
وكأنهم على موعد معه فقد خرجوا من بيوتهم تجمعوا ونزلوا من فوق ونزلت (هي) بصحبته ملفوفة ومتعثرة تخطو وراءه..! وأمام الرجال كان ثابتاً وصادقاً ومباشراً..انصبت حوله بعض العيون المتعكرة..ونظروا في وجوه بعضهم متفرسين ثم لغطوا طويلاً..وكان (قاسم جيلان) ساكتاً وبعيداً عنهم وعندما هدأوا قال :ـ
(هذا سلوك مجيد وباسل..ولن نفرط بعد اليوم في رجل خبرناه واكتشفنا فيه كامل الصفات النبيلة..ولم نستوعبه تماماً منذ البداية..!)
وفي اليوم التالي ذهب وفد الرجال المختار إلى رئاسة النواحي يحملون على أكتافهم آلياتهم وعند المسؤول الكبير طالبوا برجوع وعودة (المأمون) للعمل من جديد بمحلتهم!!
ثم كان إجماع شرف المخالطة أن يتواشج أخيراً فيرسم القدر أمره المقسوم في الأزل وقبل أن يتشكل ما بين الماء والطين!
ومكث بين ظهرانيهم السنوات الطوال. وإشتاق لمرآة والده فسافر له..وغرق في فيض الحفاوة والتكريم..ثم وجد أن له ثلاثة من الأحفاد الذكور وأعمارهم متقاربة ومتوالية..أجهش في البكاء وإحتضن إبنه قائلاً : ـ
(تجيئ لنا في الوطن مع عائلتك كل عام..أم نذهب لك وإمرأتك هذه الحسينة خصيبة وتربتها طيبة الإنبات..والذي حدث بينك وبين هؤلاء القوم مكتوب ومسطر وعليه فلابد لك في النهاية أن تعود..أم تراك تريد أن تستوطن هنا للأبد؟! ولابد من التوفيق بطريقة ما..!)
وفي تلك الحالة كانت هجرة (مأمون) معاكسة ومضادة..وآخرون تفرقوا في الشتات لجميع الأمصار والمنافي يمكثون سنيناً يعود البعض ويبقى آخرون..يبذرون لهم بذراً منفياً فكيف يرجعون وقد تركوا لهم آثاراً بائنة..وتتقلب الأحوال وتتبدل... والذي كان مستحيلاً وبعيداً عن التصور أصبح جائزاً بالإمكان..!
وكانت (هايلة) وفي محيطها العائلي الصغير منسجمة ومتوافقة تتحدث وتحكي بلسانين في اللغة المحلية لأولادها بلسانها ولسان (مأمون)...ذاك الدمث الخلوق الجميل وما تزال وما انفكت تحاصره بعينيها البراقتين..النجمتين..!
وتمنى في لحظات أن يحزم متاعه ويرجع هرباً من قبضة الإستيحاش..وكان متحرزاً منكمشاً من زيارات الوفود التي تأتيه في مسكنه مرحبة.. يستطلعونه ويوجهون إليه السؤالات التمويهية تسبر أغواره وطبائعه.. ويمدحون من سبقه من الزملاء ويقولون إنهم طيبون.. وهذه العيون تحوم حوله تداري ذكاءها ومكرها.. تتلصص حذرة ومترقبة لكل غريب وافد..!
ذهب في اليوم التالي للمبنى وعاين الأثاث والأدوات داخل (الشفاء ـ خانة) التي تقع مباشرة عند مدخل القرية وعلى حافة الجرف الذي يفضي للوادي هناك تتصل به عدة طرق ملتوية تنحدر له من أعلى حيث السوق الاسبوعي للنواحي المجاورة.. وبرغم لطافة الجو فإن (الأوكسجين) شحيح تزيد عدد دقات ضربات قلبه ويتصبب عرقه.. تنتفخ الأوردة تضخ دماءاً قوية من أثر العلو الشاهق..ويمشي تحت غازات أبخرة ( السخيماني) المتصاعدة الملتوية حتى تتراكم وتتكثف في الطبقات العليا.. شجيرات ( الطلح) هناك متفرقة بأعشابها القصيرة وتخرج من بين فجوات الحجارة.. وقليل من البقرات والمعزات تصعد وتنزل ترعى لا تعاني من مشقة يعانيها (هو)..!
وفي الليل الطويل تبدو النجيمات سهرانة يتأملها تبرق لحظات في السماء الملبدة بالسحابات حين يجلس أمام المسكن الحجري يلسعه البرد في الخارج والظلام الساكن المطبق لا يجوس فيه شخص والجميع في داخل البيوت يسمرون.. هنا (القمر) قريب جداً يكاد أن يلامس رؤوس الجبال..! أبيض ورخامي كبير كامل الإستدارة.. يختفي ثم يبين.
والآن فهم (هناك) يطل عليهم تحت سماء مكشوفة صيفية ويتخففون عن ملابسهم وأثقالهم النهارية تحت الشمس الغاضبة.. وهم هنا لا يخرجون في الليل بعيداً فالليل ملبَّد بالغموض والأسرار تباغتهم وتؤذيهم.. وكلهم قد هجعوا واختفت حتى النداءات إلا من (نباح الكلاب وعواء الثعالب البعاشيم البعيدة..!) تهيم الأرواح في تضاعيف الليل ويخشع قلبه وتنسرب روحه بعيداً ويترقب الأيام الآتية المجهولة.. ويتساءل : ـ
(لماذا أتى هنا وحنينه هناك كاشح لا ينتهي؟!)
البحث عن الأحلام الموضوعية
لقد خرج كثير من الشباب والرجال إلى المنافي في الهجرات القسرية وقد أصابت اللوثة (مأمون حسين) الذي كان جاداً ودقيقاً في عمله ومخلصاً تحت كل الظروف والمناخات.
وقد وجد هنا أن الحالات المرضية واحدة ومتشابهة..المعدة والطحال والحساسية الجلدية والحميات والجروح وسوء التنظيم وعدم الوقاية ومتاعب الكلى من المياه الجيرية الآسنة ولسانهم الجامع واحد لإيصال مضمون متاعبهم برغم النمطية الصوتية المتدفقة والمخارج العسيرة سريعة الايقاع..وهؤلاء الناس مضيافون كرماء ولهم شغف عظيم بالأسئلة الاستطلاعية والتفاصيل والمقارنات..وفي فترة وجيزة إنكسر قيد النفس الثقيل بالتواصل والزيارات والدعوات في السمر الليل بعد أن انتهت الفترة الإختبارية في الرصد..!!
ويقولون له : (أنتم قوم طيبون)
إنتهى الشك والحذر الوقائي..مما جعلهم يخلعون عليه صفات الأمانة والشهامة والإخلاص والثقة والمثابرة فنفذ عبر كل البوابات ملبياً طلب الاسعافات العاجلة في الليل الدّاجي المتأخر أو عند الفجر الكاذب..!
ثم تلاشت الأشجان الخاصة (عن البلد البعيد) تحت لسعات البرد والسحابات المتلبدة الراحلة وزخّات المطر صوب البيوت الحجرية.
والتقط كثيراً من الأسماء والمعالم وقد مرت عليه الجلاليب السوداء في مسكنه الملحق بـ (الشفاء ـ خانة)
وكانت (هي) بينهن تتقدمهن لسانهن وترجمانهن في نقل شكاويهن!! وتتميز عنهن بابتسامتها وخفتها ومبادراتها وإستطلاعاتها الاستفهامية ولماحيتها وجرأتها النادرة..!
هكذا كانت البدايات
(هايلة قاسم جيلان) التي كانت تأتي ثم تمكث قليلاً تلتقط من ( مأمون) مفردات لهجته المحكية وتميل نحوه قليلاً تسترق السمع جيداً وتحاكي مساحة القوالب ومدرجاتها النمطية.. وفي ظرف وجيز كادت أن تتقن كل المفردات وكانت تجلب لمسكنه الماء العذب من (الغيل) وأخريات يحملن له لفائف الخبز..وكان ينفرد بطبخ طعامه لوحده وعلى طريقته ويؤثر ذلك دون الطعام المسلوق ويعزم القوم لمائدته الغنية بالتوابل والمشهيات.
وفي ذلك الصباح بالذات كان قد إستيقظ باكراً.. يرقب من نافذته الغازات الرمادية المتصاعدة فوق الأحجار لتصبح سحابات هامية.. وتحت نثيث الندى كانت الخطوات تقترب منه نزلت من بيتها الشاهق المعلق على الصخرة الكبيرة الصمَاء وعندما إقتربت كانت (هي) بذاتها ـ هايلة ـ ووقفت تحت النافذة ومن تحت أثوابها أخرجت لفائف الخبز وعناقيد من العنب الشامي وتجاذبت معه الحديث..أتت لوحدها ولم تأت مع الآخريات.. وعندما قفلت راجعة قالت (إنها ستجلب له الماء من الغيل..!)
وإرتقت عيونه خلفها وصوّب نظره من مكمنه وراء النافذة خلفها كانت نظرة محددة ومركزية وبإحكام وعين قوية لا ترمش..! فهذا يوم فاصل لتحول انقلابي وتحت قدر مرسوم في درب لا يمكن الخروج عنه! وتلك لحظات منفلتة داخل الزمان والصباح الجديد السعيد..! وإنها اللحظة الفارقة والفاصلة..! وما كان له أن يساق هكذا في تقديره وظنه وخياله وتبعثر قلبه أشلاء في تلك الدقائق الحاسمة وأنها كانت تحاكي وتنطق بلغة عذبة محكية بلسانه (هو) وكان صوتها هديلاً كأنها تغني وكانت عيناها مغناطيسية ومتواطئة.. وتركت من خلفها زهوراً وأريجاً وينبوعاً فراتاً..!!
سليمان فياض والعيون البصّاصة : ـ
وكان قديماً كتابه عن العيون التي حاصرته حين كان يعمل في البادية في الحدود على صحراء الشام..بين الدويلات الثلاث التي تشع من وراء الحجب بمكرها ودهائها ولهيبها ومراوغتها وشكها وتحررزها وسحرها..!
يدعونه ويذهب لهم في بيوتهم ضيفاً كريماً نبيلاً مع كل أطراف الأسر وبيتها كبيوت الآخرين..وتحاول في جلوسها أن تكون قريباً منه وفي مواجهته وقد استعجب أهلها من لسانها المحكي الذي بدأ يتحور على طريقته في المحاكاة والتقليد..!
قال في نفسه (أمن أجل هذا جئت إلى هنا أيتها العينان الفاتكتان الغازيتان..؟!)
وفي النهار تأتي وتكون في (الشفاء ـ خانة) يدخل المرضى ويخرجون وتقدم خدماتها هكذا بما إتفق بتسهيل مهمة التعبير والشرح على مستوى الحالات الحرجة والحسّاسة..ثم أجادت تنظيف وترتيب وتعقيم الأدوات.
وكانت الناس تقول عنه (مأمون الباهي..مأمون الدءووب العفيف) وهو في مقتبل شبابه وفتوته وحساسيته الفائقة ثم عنفوان خصوصيته وظرفه وتواضعه ودعابته الفارقة بينهم بالاختلاط اللصيق مما أضاف عليه جاذبية وروحانية حانية ومتقشفة وكان متفانياً خدوماً لجميعهم..!
(وهايلة) هي الموضوع الكبير الشائك والقدر الصائد وقد أتى من تحت الشمس من البلد النائي الجاف الحار مترامى الأطراف..وإلى الغمام الحالم الراحل في الارتفاعات الشاهقة المعتدلة وأنها تحلم به بكل جرأة..فتسامت روحه وتلاقت معها..وما زالت تجلب له الماء والطعام مقبلة ومدبرة فلا يهم شئ..! وكانت العيون الأخرى المعادية تحاصره وتحصي حركاته مما جعلها تبتدر الحديث مدافعة بإنفعال وعيونها تلسع وتترقرق مياهها..!
حتى إشتدت به حالة الحساسية مع روحه اللائبة وجعلته مقتصداً في طعامه فأصابه النحول..والشرود..!!
عندما إمتلأت عيونه سهاداً ورملاً
على الورقة البيضاء وفوقها يرقد القلم ولم يخط حرفاً لها تلك التي انتخبتها أمه عروساً له...(نائلة) البعيدة المسكينة وفي إنتظاره!
يكوم العملات الورقية الخضراء وتأتيه الهدايا..وهو زاد في كل شئ..وكانت قد تعلمت منه طريقة الطبخ المسبوك وتفانيت الخلطات بالسمن والخضر والبهارات ثم بنت لها قصراً من الأحلام رسمت معالمه جيّداً بسماحتها وسطوتها وطهارتها وقوة شكيمتها وبأسها الحديد...(هايلة) التي تترقرق عيناها الحلوتان البّراقتان..عيونها البوابات الرحبة..وعيونها مدخلها عيناها تترقرقان وتهطلان مع الغناب ومع ألق الفرح وكدر الغضب..وقد عزّ المنام..!
عندما نصب له الأعداء أفخاخاً من الكراهية والإشانة
قالت له : ـ (هناك كثيرون يحومون حولها ويريدونها..يذهبون لديارها..فماذا أنت فاعل؟!)
قال في نفسه ولم يقل لها : ـ (لقد أقتحمتني وهدّت حصوني وكشفت عن ضعفي وقلة حيلتي..فهل لي من مخرج؟!)
تذهب وتأتي من ساعتها..وقبل برهة كانت هنا..خفيفة وناعمة..لا تغيب عن الخاطر..حفيف الثوب وأنفاسها المتلاحقة وأنفها العجيب وهمسها الباسم..أسنانها المفلجة..الإيشارب الأحمر..ترتقي الأحجار صاعدة وهابطة تعاود ثم تعاود..! وليس في الخاطر إلا (هو) وقالوا إن (البنت) جنحت كثيراً ومالت ميلاً واضحاً معيباً..وإمتد سوء الظن العريض متابعة في سكناته وروحاته وتطاير من العيون الشرر والغدر فأجمعوا على مناصحته بالمغادرة إلا من بعضهم أصحاب الذكريات والمعاشرة الطيبة الخالصة وأصحاب العاطفة والمودة والصداقة الموطّدة..ثم كانت بعض العيون المحايدة المستطلعة..ترقب المشهد متسائلة في صمت..ولم يعلّق شيئ..! وقد تقلّصت عضلات بطنه إنفعالاً مع مشاعر القوم المتباينة والمتنافرة بالذكريات الطيبة..أيام الوباء..وأيام المعركة الاخيرة وجروحها التي لم تندمل بعد..! وهذا حل بطوعه..فلا سبيل بغيره وإن الفضل من شيمته..وأبدى أصدقاؤه كثيراً من المشاعر والنوايا الحسنة (مبخوت/ مستور/ علي صغير/ وكحيل...وبعض النساء)
الرحيل المر إختياراً : ـ
حزم أمتعته..وعلم بذلك الجميع..وأبدت المرأة الكبيرة بنت القادح مشاعراً جريئة ومضادة لمن ظنوا به فساداً وسوءاً..أجهش بعضهم بكاءاً وقال إن البعاد يصون كرامته..وخرج ذاوياً ضاوياً مرفوع الهامة..وخرجوا جميعاً نساءً ورجالاً وصبايا وتفرقوا من بعيد على سنان الصخور..والسيارة أمام المسكن تتأهب للرحيل..لوّح بيديه ملوحاً منفعلاً ويتفّرس في الجموع وكانت (هي) هناك بعيدة..نائية ومتقرفصة على صخرة..تبدو كنقطة بعيدة نقطة وحيدة في الفضاء الأزرق..وأصابه إنقباض وكدر وخجل أسيف حين لاحت صورة نائلة التي بهتت تماماً؛ وقال إن هذه عودة نهائية.
وإلتقى به زملاؤه في رئاسة النواحي وأثنوه عما اعتزمه وكذلك ما كان من أمر المسؤول النافذ الذي تدخل دون أن يعرف الأسباب إلا من الصفات الجليلة والتقارير الوافية التي وصلته وكان التوجيه بالنقل لناحية أخرى بها إسقرار وإغراءات عديدة..حمل متاعه وإرتحل نحوها..وفي المنطقة كانت هي نفس الوجوه والحالات المتطابقة..وسكن مسكناً مستأجراً من عائلة (يحي علوان)..
وما توالت الأطياف والأرواح تحلق حوله تقلعه في عز المنام مخضوضاً..فكيف ينسى؟! وهم أيضا لا يتناسون ولا يستغنون فهذه مخالطة عميقة..وبعد أيام توافدوا عليه قاصدين وقد عرفوا الطريق..كانوا رجالاً كثر ونساءً قليلات..! فلا بديل عندهم غيره..فإن دواءه ناجع وتأتي الوفود وتفوت..وتلك العيون البرّاقة ثم إمتلأت فراغات الزمن الموحش بالعمل الدائب كعادته المتلازمة فأصابه الرهق.
وفي الأحلام العذبة تأتي (هي بنت قاسم جيلان) وفي الكوابيس المدلهمة تتعارك الأيدى المشتبكة حوله وهو يرقبها وجسمه يتثاقل ويموت..!
وكان بينهما الحديث الموصول ثم الصمت الجميل يشملها في البوح الساكن فيتواصلان دون ترتيب مقصود وحتى داخل ليالي السّمر والمؤانسة وسط لمّة العائلة الكبيرة..يشردان ويسرحان معاً..تداري نظراتها ويداريها..ثم تحكي بين أهلها لساناً مستعاراً كانت قد أتقنته..فيضحكون ويستعجبون منها..!
وذلك النهار جلست جنبه وإكتشف أنها تلامسه وتلاصقه كتفاً بكتف كانت أنفاسها قريبة من صفحة وجهه..وما كان إلا أن نهض فنهضت واقفة ثم تقدمت نحو المرآة الكبيرة المعلقة لتعدل من هيئتها..غاب وعيها في الزمان والمكان..أزاحت الإيشارب الأحمر الأثير لديه ثم حلّت عقدة من شعرها الذي تدفق ليلاً طويلاً حالكاً..وعندما إنتبهت لذلك فجأة صرخت ثم ولّت هاربة..!!
المخاطرة شوقاً وجسارة
ولقد عرفت (هي) بدورها خارطة الطريق حتى إهتدت للمسكن..وعند الباب وقفت وأطرقت وكانت ملفوفة لأخمصيها وكان ذلك في القيلولة مع النهار الدافئ..الشمس كبيرة متربعة على السماء الصافية..وهل في الإمكان والتصور أن تأتِ هنا..وهي بلحمها ودمها وشكيمتها القوية..! أنشده عند مرآها وجاشت بنفسه الإنفعالات المتضاربة.. (هايلة) فمن معها؟! خرج وإستكشف على الطريق العام..ولا أحد..! لقد جاءت إلى هنا ومن أجله..وهذا في النهاية هروب خطير..!
ثم قال كلاماً متقطعاً ولم يدركه..كان حزيناً وغاضباً ومرعوباً ومتشوقاً..! ترقرقت العيون والتمعت..كأنه تدحرج من قمة الجبل للسفح قالت : ـ
(لقد أتيت من نفسي ولن أعود..! ثم قالت كلاماً غاضباً محرضاً بلسانها الأصيل..وتفرّست في وجهه مستنجدة..إستدار ومضى وقد أضمر في نفسه أشياء..إستصحبها وخرج بها لجاره (يحى علوان)..ودخلت هي مع الحريم
همس في أذن جاره يحي؛ وقال إن الفتاة أتت للإستشارة من محلته القديمة وكان ذلك مألوفاً...ثم أنه سيعود بها.!!
ولم ينم فقد سكنت حبات الرمل عينيه حتى لاح الفجر!!
وفي اليوم التالي إستأجر سيارة ثم إتجه غرباً..سكنت ورافقته طوعاً..وكان سائق السيارة ينظر ينظر من المرآة نحوهما مرتاباً..! ومستطلعاً بخبث.
وعند نقطة المرور السريع توقفت السيارة وهمس السائق في أذن العسكري الذي هرول نحوه..فأخرج مأمون أوراقه ثم ذكر وجهته المقصودة..ثم أشار نحوها وقال إنها في صحبته لديارها التي هي مقصده ومكان عمله..وكانت قد غشيته راحة ومزيد من الطمأنينة.
ذكر ما جرى بعد العودة
وكأنهم على موعد معه فقد خرجوا من بيوتهم تجمعوا ونزلوا من فوق ونزلت (هي) بصحبته ملفوفة ومتعثرة تخطو وراءه..! وأمام الرجال كان ثابتاً وصادقاً ومباشراً..انصبت حوله بعض العيون المتعكرة..ونظروا في وجوه بعضهم متفرسين ثم لغطوا طويلاً..وكان (قاسم جيلان) ساكتاً وبعيداً عنهم وعندما هدأوا قال :ـ
(هذا سلوك مجيد وباسل..ولن نفرط بعد اليوم في رجل خبرناه واكتشفنا فيه كامل الصفات النبيلة..ولم نستوعبه تماماً منذ البداية..!)
وفي اليوم التالي ذهب وفد الرجال المختار إلى رئاسة النواحي يحملون على أكتافهم آلياتهم وعند المسؤول الكبير طالبوا برجوع وعودة (المأمون) للعمل من جديد بمحلتهم!!
ثم كان إجماع شرف المخالطة أن يتواشج أخيراً فيرسم القدر أمره المقسوم في الأزل وقبل أن يتشكل ما بين الماء والطين!
ومكث بين ظهرانيهم السنوات الطوال. وإشتاق لمرآة والده فسافر له..وغرق في فيض الحفاوة والتكريم..ثم وجد أن له ثلاثة من الأحفاد الذكور وأعمارهم متقاربة ومتوالية..أجهش في البكاء وإحتضن إبنه قائلاً : ـ
(تجيئ لنا في الوطن مع عائلتك كل عام..أم نذهب لك وإمرأتك هذه الحسينة خصيبة وتربتها طيبة الإنبات..والذي حدث بينك وبين هؤلاء القوم مكتوب ومسطر وعليه فلابد لك في النهاية أن تعود..أم تراك تريد أن تستوطن هنا للأبد؟! ولابد من التوفيق بطريقة ما..!)
وفي تلك الحالة كانت هجرة (مأمون) معاكسة ومضادة..وآخرون تفرقوا في الشتات لجميع الأمصار والمنافي يمكثون سنيناً يعود البعض ويبقى آخرون..يبذرون لهم بذراً منفياً فكيف يرجعون وقد تركوا لهم آثاراً بائنة..وتتقلب الأحوال وتتبدل... والذي كان مستحيلاً وبعيداً عن التصور أصبح جائزاً بالإمكان..!
وكانت (هايلة) وفي محيطها العائلي الصغير منسجمة ومتوافقة تتحدث وتحكي بلسانين في اللغة المحلية لأولادها بلسانها ولسان (مأمون)...ذاك الدمث الخلوق الجميل وما تزال وما انفكت تحاصره بعينيها البراقتين..النجمتين..!