الجنس في الثقافة العربية عايدة الجوهري - النبوءة والفحولة

1- الاحتفاء التاريخي بالفحولة:

إنّ الفحولة قيمة فردية واجتماعية في الثقافة العربية الإسلامية، وهذه القيمة تعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، لدرجة اتّحادها باسم المسمّى، فكلمة عرب، تعني، فصيحًا، صافيًا، صريحًا، مخلصًا، ولكنّها تُشير بين ما تُشير إليه، إلى «الجماع»، وكلمة «عروب»، وهي من الجذر ذاته، تُشير إلى «المرأة الجميلة، التي تعرض نفسها بلطف على زوجها».
ورغم تبنّي الإسلام لإرجاع إخراج آدم وحواء من الجنة إلى شهوتهما المتفلّتة من النصيحة الإلهية، إلاّ أنّ الله أجاز لبنيه وأنصاره إخراج الشهوة من أجسادهم وتسييرها، باتجاه جسد المرأة، بحرية شبه مطلقة، وتلخّص هذه الإباحة الآية التي تقول: «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (223)، وأتاح للمؤمنين ما ملكت أيمانهم من النساء شرط إيفاء أجورهنّ: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚوَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» (24). وكان سيرة الرسول مثالاً يُحتذى( ).
فالشهوة التي تسمي جسد المرأة، وتكون متوالياتها ومترتباتها، عبئًا على جسد الرجل، تُجيز تطهّر الرسول من غائلة الشهوة، فهو يطوف على نسائه التسع كل ليلة، معبّرًا عن مهمّة مقدّسة موكلة إليه، وكأنّه يذكر الجسد الأنثوي بما جُبل عليه، وإذا اعترض بني الإسلام مشاكل الشوق، تُذلّل فورًا العراقيل، وكلّما وجد نفسه في مأزق متعلّق بالمتعة، فإنّ الله يأتي بالحل القرآني الذي يكون في الوقت نفسه قانونًا، كإباحة زواجه من زوجة ابنه بالتبنّي زيد بن حارثة.
ونَعِمَ أنصاره بامتيازات لا تقلّ شأنًا، فأُجيز لهم الزواج بأربع، والتمتُّع بما ملكت أيمانهم، وبالطلاق ساعة يشاؤون، والزواج مجدّدًا ممّن يشاؤون، ولو كان الطلاق أبغضَ الحلال عند الله.
فالفحولة موضع فخر وتفاخر بين الرجال العرب والمسلمين، فهي خاصّة ذكرية جوهرية، وفي صميم التراث الإسلامي قدوة أولى تُحتذى، هي تجارب بني الإسلام العشقية والشهوية، فاض منها على أنصاره ما فاض من امتيازات شهوية، فتخلّت الشهوة من عن الأرضي المبتذَل، وتقدّست، وباتت الوسيلة الفضلى لتوكيد الإنسان – الذكر لذاته، ولهويته، وقوته، وقدرته على السيطرة، نبيًّا، أو عابدًا لله ونبيّه.
وقد صوّر بعضهم جلال الدين الرومي، الصوفي الكبير، معرضًا زوجته، التي كانت تظنّه عاجزًا جنسيًّا، «كليلة تجلّ عن الوصف»( ).
كما أنّ النويري، الموسوعي، المتوفّي عام 1332م، يلخّص استمرارية هذه الرؤية والأيديولوجية الحاضنة لها بالكلمات التالية: «وأمّا النكاح فهو ما يكنز التمدح بكثرته، وذلك أنّه دليل الكمال، صحة الذكورية (الذكورة)، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، ونُسب إلى أبي عباس قوله: وأفضل هذه الأمة النبي، وقد أعطي قوّةَ ثلاثين رجلاً من الجماع»( ).
إنّ الدعوة إلى الزواج تنبني على مقت العزوبة «والعزوبة ليست من الإسلام»( )، كما يقطع ابن حنبل وهو يمثّل في فاعليته والاستطاعة عليه ضرورة اجتماعية، براغماتية، حربية: «لو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا»( )، بهذه الأقوال ربط العرب المسلمون القدامى بين القدرة على النكاح والقدرة على الحرب، أي بين الفحولة القتالية والفحولة الجنسية كوجهين لعملة واحدة، ونحن نفترض أنّ الفحولة الجنسية توحي توحي بين ما توحي إليه بالقدرة على الإخصاب والتكاثر، وكثرة النسل تمثّل حاجة عسكرية لا مناص منها في الحروب المستندة جوهريًّا إلى الموارد البشرية، لا التكنولوجية.
وقد كانت هناك حاجة لتكثير عدد العرب من أجل الزراعة والغزو، والمسلمين فيما بعد، وكان محمد شديد الهمّ بهم، ومن أحاديثه: «سوداء ولود خير من حسناء لا تلد»، و«تزوجوا الودود الولود فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة»، من إجراءاته جعل الزواج سنّة، شبه الوجوب، لسدّ هذه الحاجة، وكان عدد العرب أثر في توقّف الفتوحات عند الخطوط التي انتهت إليها، وإليه يرجع عدم نجاح خطة موسى بن نصير لاجتياح أوروبا، وكان قد أعدّها وعرضها على الوليد بن عبدالملك بعد فتح الأندلس، فوجدها مستحيلةً عمليًّا.
واحتلّت بالتالي الشهوات الجنسية، الذكرية، مساحة واسعة في التراث الديني والتشريعي، والأدبي السردي، من مثل ألف ليلة وليلة، على سبيل المثال، التي أولت الفحولة مكانة ملكية، وجعلت منها قضية الملك شهريار الأولى، دون ملكه وسلطانه، بحيث فقد هذا الأخير صوابه منذ خيانة زوجته له، فنذر بعدئذٍ حياتَه للانتقام من الجنس الأنثوي برمّته. وتكتسي الفحولة أهمية إضافية لترافقها بلذة يتبارى العلماء والعالمون بوصفها.
وسنجد في كتاب «تحفة العروس ومتعة النفوس»( ) لمحمد بن أحمد التيجاني، و«عودة الشيخ إلى صباه»( )، للعلامة أحمد بن سليمان، تعريفًا للذة الجنسية وتفخيمًا بها، وبفوائد الجماع، وتسويغًا للإقبال عليهما.
فيصف الأول في مقدّمة كتابه النكاح قائلاً: «هو من أعظم اللذات الجسمانية، وأقوى الشهوات الحيوانية، وذكر الأطباء في منافعه أنّه ينشّط النفس، ويسرّها، ويُزيل الغضب، ويذهب بالفكر الرديء والظنون السيّئة، حتى أنّه ربما أبرأ من المالنخوليا، وأنّه يسكن عشق العشاق، وإن كان مع غير من يهوونه، إذا أكثروا منه... وهو عظيم النفع للأبدان القوية، العبلة، الكثيرة الدم»( ).
أمّا الثاني ورغم افتتاحه مقدّمته بذكر مضار الإفراط في النكاح، فهو عاد وأثنى على فوائد استعمال الباه باعتدال:
«فإنّه يجفّف البدن، ويُكسبه حرارة عرضية، ويُزيل الهمّ والفكر الرديء، وينفع في الأعراض البلغمية والسوداوية، ...، والذين طبائعهم مفرطة الحر والرطوبة وإذا أمسكوا عن الجماع، أسرعت إليه العفونة، ومن أكثر من الجماع فليُقلّل من إخراج الدم، وليكن الجماع عند تكاثف المني وعلامته أن يهيّج الإنسان ومن غير نظر إلى شيء يهيّجه فإذا حصل هذا فينبغي أن يُجامع لئلا يكسبه تكاثف المنى خفقانًا في الفؤاد وضيق الصدر والهوس والدوران»( ). ولا غرو في أن يسترسل بن سليمان في مدحه فوائد النكاح، هو الذي خصّص كتابه لتعليم أصول تقوية الباه، رغم المحاذير التي استهلّ بها كتابه.

2- انتصار خطاب الشهوة على خطاب العفّة:
وفي الواقع الإنتربولوجي اليومي، شغلت الشهوة الجنسية، بما تعكسه من تجسيد لقوّة الفحولة، الموحية بالقوة الذاتية، والاجتماعية، ومن قدرة على التلذُّذ والاستمتاع وإرضاء النساء، واستقطابهنّ، والإكثار من النسل، أهل السلطان والمال، وكل من استطاع إليها سبيلاً في عصور الحضارة العربية، وحفلت كتب التراث بأخبار الجواري، والسبايا، والسراري، في مجتمع قام على اقتصاد الغنائم البشرية، وغير البشرية، فشهد أحمد بن سليمان على ازدهار الشهوات، واجتياحها الحياة العامة قائلاً:
«إنّني لما رأيت الشهوات كلّها منوطة بأسماء الباه وداعلية إلى الجماع، ورأيت أهل الأقدار وأرباب الأموال ورؤساء أهل كل بلد في عصرنا هذا، وما تقدّمه، من الأعصار والأزمان، هممهم مصروفة إلى معاشرة النسوان وأحوالهم متفرّقة في بيوت القيان، ولم أرَ أحدًا منهم يخلو من عشق لمغنية واستهتار بجارية وغرام بفاحشة»( ).
وعلى الضفّة الأخرى، وخوفًا من الوقوع في فخّ الشهوات المحرّمة، ينهض خطاب أخر مضاد، يحذّر من الشهوات المحرّمة المعقودة خارج إطار النكاحات الرسمية، واعدًا الزانيات والزواني بأقسى العقوبات، كالجلد، والرجم، داعيًا إلى عدم الوقوع في فخّ الافتتان بالنساء، ومن الأحاديث المنسوبة إلى نبيّ الإسلام:
«اللهم إنّ أعوذ بك من فتنة النساء وعذاب القبر»، و«ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء». وعلى هذه الازدواجية الأخلاقية، انبنى الموقف من جسد المرأة كغرض جنسي، يفتن ويُفتن به، يفتن الرجال وهؤلاء يفتنون به قينساقون إلى المعصية، ولتفادي هذه المعصية يفترض أن تتّخذ كل التدابير الاجتماعية لضبط سلوك المرأة، وتمويه جسدها ورغباتها، فهي قادرة، افتراضيًّا، على إفقاد الرجل سيطرته على ذاته، وتوريطه رغمًا عنه، في ارتكاب المعصية، ولمّا كانت المرأة «هشّة»، «واهنة»، «رخوة الإرادة»، وفوق ذلك «ناقصة عقل ودين»، جاز ابتكار كل الوسائل والطرائق لكبحها ومحاصرتها، حرصًا على استقرار الرجل وأمنه الجسدي، ومزاجه، وتفاديًا للوقوع في فخ «الخطيئة» و«الفاحشة».
ولكنّ خطاب الشهوة كان هو الخطاب الغالب، ومترتباته هي الغالبة، شرعًا وفقهًا وممارسةً، وطال خطاب القمع شريحة الحرائر، اللواتي تمّت محاصرتهنّ قانونيًّا وأيديولوجيًّا، دون الجواري، والنساء دون الرجال.
وفي تعارُض تامّ مع الوعظ الديني الداعي إلى التعفُّف والصبر، صدرت الشريعة عن مجاراة للجنسانية الذكورية، هي التي جعلتها تُبيح ما كان سائدًا قبلها، وهو التسرّي.
ولقد تنزّه عنها اثنان من مؤسّسي الإسلام أبو ذر الغفاري وروزبة الأصفهاني، وأدانها فيما بعد عمر بن عبدالعزيز، باعتباره إياها من أبواب الزنا، ولو أنّه لم يتجرّأ على تحريمها بنصّ قطعي( ). ولاحقًا تضمّنت تعاليم المذهب الدرزي المتحدّر من الإسلام الدعوة إلى العفّة، والابتعاد عن الشهوات، والتحكُّم بها، والدليل على ذلك اكتفاء الدروز بزوجة واحدة على ما شاءت تعاليمهم، واختيار بعض مشايخهم الزواج بإحداهنّ دون إقامة علاقة جنسية معها من باب التعفُّف، وقهر النفس، والتعالي على الملذّات الدنيوية.
نحن قمنا باستعراض بعض أدبيات الفحولة في المخيال العربي، لتظهير المكانة التي يشغلها مفهوم الفحولة ومقولاتها، في حياة الرجل العربي القديم، من جهة، ومن أجل الاستفسار عن جذور الاستيهامات، والخيالات، والهواجس، والتحديات، التي تراود عقل ووجدان ومشاعر، الرجل العربي المعاصر، من جهة أخرى، مفترضين أنّ هذه الاستيهامات الخيالات والهواجس والتحديات، التي تحفل بها نظرة الرجل العربي إلى قوته الجنسية، تجد سندًا دائمًا لها في هذا التراث المتغلغل في ثقافة الشعب، ومعتقداته، وافتراضاته، وهذا التراث يستمدّ بدوره جذوره من التراث الثقافي المعياري العالمي.

3- نظرية أرسطو في الفحولة:
يستمدّ تعظيم الفحولة الجنسية عراقته من التاريخ، منذ عبادة الخصوبة الذكرية، ونشوء العبادات البدائية المتمركزة حول العضو المذكر، رموزه، وتماثيله، وتحديدًا بعد اكتشاف دور الرجل في الإخصاب، بعد أن كان هذا الدور مغفلاً، ولفترة طويلة، ولقد عبّر عن هذا القول الثقافي الذكوري خيرَ تعبير الفيلسوف اليوناني أرسطو، مغلّبًا دور الرجل في الإخصاب والتكاثر.
لإثبات مركزية الرجل في الإخصاب والتكاثر، وهامشية المرأة، بنى أرسطو نظرية تشريحية تقوم على افتراض إيجابية الرجل وسلبية المرأة في عملية الإخصاب وقارب هيئتها التشريحية تحت عنوان النقصان، والهشاشة، والقصور، وعدّ جسدها مادّة خاملة غير فعّالة، والشيء الوحيد الذي يفتقر إليه هو الروح، فهو غير قادر على الحركة ويُعدّ سلبيًّا سلبيّةً مطلقة، قائلاً:
«إنّ الأنثى كأنثى، تُعدّ عنصرًا سلبيًّا، وتتلخّص حالتها كونها الآخذة، المستقبلة للشكل الذكوري أو حركة Kinésis، أو الشكل eidos، فهو أي الحيض يُعّد منتجًا للـ adymania، أي في عدم الكفاية للحرارة اللازمة للطبخ، ولذلك يفتقر إلى pnèuma أي الهواء الساخن الذي يهب الحياة. إنّ جسد المرأة وفق منطق أرسطو هو مجرّد مادة خام prote huile اللازمة للعملية التوليدية»( ).
هذه النظرية هي أحد الانعكاسات الفكرية الفلسفية لاكتشاف دور الرجل في الإخصاب والتكاثر، الذي آل إلى تمجيد الفحولة، وهذا التمجيد المقرون بمعاني القوة، امتدّ إلى مفهوم السلطة، وتمّ إدغام الفحولة الجنسية والخصوبة، بالرئاسة والسلطة، وقد يفسّر هذا الإدغام تعدُّد الزوجات عند البطل قديمًا.
يُعدّ الملك، أو السلطان، أو البطل، أو الفارس، أو النبي، صورةً عن المؤلَّه، ومن ثمة تكون الوظيفة واحدة ما دام المركزان أو الموقعان، متناظرين. فمن وظيفة المؤلَّه، التي تلقى عليه في تصوّر الإنسان الزارع خاصّةً، أن يكون مانحًا، واهبًا، محدثًا الخصوبة والنماء والتجدّد، والوفرة في الزرع والحيوان والحياة والمجتمع.
وكي يتسطيع الملك، السلطان، البطل، الفارس، أو النبي، القيام بتلك المهمات، فلا بدّ من أن يكون متمتّعًا بالصحة، ومن بينها بصورة خاصّة، القدرة الجنسية، التي هي القدرة على الإخصاب والخلق والتحكُّم.
ومن هنا كان مفهوم العقم مجرّمًا للمرأة، باعتبارها أرضًا قاحلة جرداء، دون مساءلة نطفة الرجل، فتوصم المرأة بالعاقر، كعنف لفظي موجّه ضدّها، فهي منظورة من علٍ، وعدم إخصابها يتطلّب في الحال استصلاحها، أو التفكير في كيفية معالجتها بطرق شتّى، وإبراز مسؤوليتها الشخصية في ذلك، وفي أحسن الأحوال باستبدالها بأخرى، ومع تقدُّم الطب، واكتشاف دور الرجل في عدم الإنجاب، بات الرجل العقيم هو الآخر موضع تبخيس، واشتباه، ويعاني هو الآخر من الشعور بالنقصان والعجز، ومن الشعور بالتخلُّف عن أداء الدور الإخصابي الذي نذرته له الطبيعة، وإذا ترافق عجزه عن الإخصاب بالعجز الجنسي، بلغت أزمة الرجل الوجودية أوجَها.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...