تحكي الأسطورة السومرية أن الآلهة أرهقوا من كثرة الأعمال الموكلة إليهم وضجوا بالشكوى، فدعاهم الإله «إنكى» إلى حفل كبير حضره كل الآلهة، وكان الحفل من أجل خلق الإنسان الذي سيحمل العناء عن الآلهة وسيقوم بخدمتهم، دارت الخمر في الحفل وشرب «إنكى» خمره المقدسة وعمَّ الحفل سُكْر لذيذ، انتشت له مكامن الآلهة وجوارحهم، وهتفوا باسم «إنكى» الذي فكر في خلق الإنسان.
تظهر الخمر في أقدم أساطير حضارات العراق، مشروبًا إلهيًا يرافق البشر منذ لحظة خلقهم، لكن في 22 أكتوبر 2016، تجاهل البرلمان العراقي هذا التاريخ العريق، وصوَّت على قانون واردات البلديات، الذي أضيفت له فقرة ضمن المادة 14 تحظر استيراد وتصنيع الخمور، وهي فقرة أثارت جدلاً عامًا واعتراضات حادة، وبخاصة من أعضاء الكتل غير الإسلامية، الذين رأوا فيها تطرفًا يشابه تطرف داعش، وتعديًا غير دستوري على حقوق الأقليات.
في البدء كانت البيرة
تعج آثار حضارات ما بين النهرين بمئات الألواح الطينية والقطع الأثرية التي تسجل طرق ووسائل صنع البيرة وشربها، وتصور مجالس الشراب، كما وُجدت أكواب وآنية لشرب الخمر وتصنيعه، ويعتقد علماء الآثار أن العراقيين هم أول من صنع البيرة وشربها في التاريخ قبل أكثر من 6 آلاف عام.
ويُورِد جاي بروكس، وهو مدون وخبير في البيرة والخمور، في تدوينة عن آلهة القدماء المرتبطين بالخمر، ثماني آلهة وإلاهات لدى السومريين والبابليين والآشوريين لهم علاقة بالخمور، أبرزهم اﻹلهة «نينكاسي»، وهي الإلهة السومرية المسؤولة عن حفظ البيرة، المشروب القومي حينذاك. وقد اعتبر العراقيون القدماء شرب الخمر شرطًا للتحضر؛ فنجد في ملحمة جلجامش أن الرجل المتوحش أنكيدو (رفيق جلجامش)، في طريقه للحضارة، يتعلم شرب الخمر، إذ يقول النص: «لقد تناول الجعة سبع مرات، ما أدى إلى تحرر روحه، وراح يهتف بصوت عالٍ، وقد امتلأ جسمه بحسن التكوين، وأشرق وجهه».
أما أشهر الآثار البابلية، وهي المسلة المدون عليها شريعة الملك حمورابي (1792 ـ 1750 ق.م) أبرز ملوك بابل الأولى، فقد أولت اهتمامًا خاصًا بالخمر، فأوردت قوانين تفصيلية لتنظيم صناعتها وتوزيعها وطرق شربها، وقواعد لساقيات الخمر وبيوتهن، وعقوبات قاسية بحق من يغشها أو يخالف القوانين. كما عُرفت دولة المناذرة العرب جنوب العراق بصناعة الخمر من أصناف الزروع مثل التمر والعنب، واشتهروا بـ«الخمر الحيري»، نسبة إلى عاصمتهم «الحيرة»، وهو خمر كان مشهورًا في بلاد فارس وعند العرب، وبقي موجودًا ومعروفًا حتى بعد دخول الإسلام.
سكارى في الكفر والإسلام
حتى في الإسلام، اختلف فقهاء العراق عن جمهور فقهاء المسلمين في تحريم الخمر؛ فبينما حرم جمهور الفقهاء كل أنواع الخمر قليلها وكثيرها، خالفهم الإمام أبو حنيفة وتلميذه الإمام أبو يوسف، قاضي القضاة لهارون الرشيد، وجمهور الأحناف؛ فقد كانوا يرون أن الخمر المحرمة هي نبيذ العنب المُسكِر، أما إذا لم يُسكِر أو كان من غير العنب؛ كأن كان من الشعير أو العسل أو التمر أو القمح أو التين، فليس حرامًا. واشتهر هذا الرأي بأنه «مذهب أهل العراق في الخمر».
وقد طوَّر العالم المسلم جابر بن حيان، الذي عاش وعمل في الكوفة، آلة للتقطير، واستخدمها في تقطير العطر والكحل، ثم استخدمها العالم أبو بكر الرازي فيما بعد لتقطير الكحول. وجاء اسم «الكحول» من الكلمة العربية «كحل»، وهو الاسم الذي ما يزال مستخدمًا إلى اليوم في معظم اللغات. وقد كان لهذا الاختراع أهمية كبيرة جدًا في تاريخ المشروبات الكحولية؛ فقبل هذا الاختراع كان العالم يشرب الخمور (النبيذ، البيرة) بدلًا من المشروبات المقطرة (العرق، الويسكي، الفودكا...). العراقيون إذًا أصحاب فضل على العالم في اكتشاف المشروبات المخمرة، وأصحاب فضل على العالم في اختراع التقطير الذي طور أنواع الخمور الأخرى المعروفة اليوم.
بغداد عاصمة الخمر والشعراء
عرف العراق الخمريات على يد المسلمين منذ دخولهم إليه؛ فروايات فتح العراق في عهد عمر بن الخطاب تحكي عن الفارس المجاهد أبي محجن الثقفي، الذي جلده الخليفة لشربه الخمر فأعلن توبته، ثم عاد إليها فمنعه قائد الجيش سعد بن أبي وقاص من المشاركة في معركة القادسية، وقد بلغت شدة تعلقه بالخمر أن أوصى ولده:
إذا مِتُّ فَادفِنِّي إلى جَنبِ كَرمَةٍ = تَروِي عِظامِي بَعد مَوتي عُرُوقها
ولا تَدفِنَني بالفَلاة فإنَّني = أخافُ إذا مَا مِتُّ أن لا أذُوقَها
ولعل العصر العباسي كان أزهى عصور الخمر في تاريخ العراق، أو ربما ﻷن تفاصيل مجالس اللهو فيه وصلتنا عبر عشرات المصادر، ولم يُعرَف عن الخليفتين الأولين أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور منشئ بغداد، أنهما شربا الخمر، وإن وردت قصص عن تسامح الثاني مع الشاربين من الشعراء الذين استحسن قصائدهم مثل ابن هرمة، أما خلفاؤهما فعُرف عنهم جميعًا شرب الخمر، فاشتهر ذلك عن المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم ومن تلاهم.
وسيكون بمقدورنا تصور ما بلغته الخمر في عصر العباسيين حين نقرأ شعر أبي نواس، الذي كان نديمًا للخليفة الرشيد ثم ابنه الخليفة الأمين من بعده، وله في الزندقة والمجون والتغزل بالجواري والغلمان أبيات كثيرة، منها التي يقول فيها:
دَعِ المساجِدَ للـعُبَّاد تَسكُنُها = وطُفْ بِنَا حَولَ خَمَّارٍ لِيَسقِينَا
ما قَالَ رَبُّكَ وَيلٌ للذِينَ سَكِرُوا = ولكن قال وَيلٌ لِلمُصلِّينَا
ويُكذِّب كثير من الإسلاميين كل ما يروى عن معاقرة الخلفاء عمومًا، والرشيد خصوصًا، للخمر، ويزعمون أنهم كانوا صالحين مجاهدين لا يمكن أن يشربوها، مع أن المصادر التي تروي سُكرهم هي المصادر ذاتها التي تروي جهادهم، وقد ثبت أن الصحابة أنفسهم ارتكب بعضهم الزنا وشرب بعضهم الخمر، فقد لا يتعارض أن يكون المرء مجاهدًا صالحًا مع ارتكابه بعض المعاصي، وروايات شرب العباسيين للخمر بالآلاف فلا سبيل ﻹنكارها.
ويمكن تتبع أخبار الخمر عند العباسيين بالذات في مئات المصادر الإسلامية، أشهرها على سبيل المثال: «الأغاني» ﻷبي الفرج الأصفهاني، و«تاريخ الطبري»، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«الأذكياء» و«أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي، و«البيان والتبيين» و«الرسائل» للجاحظ، و«العقد الفريد» لابن عبد ربه، و«المستطرف» للأبشيهي، وغيرها من كتب الأدب والتاريخ والسير والطبقات والمعاجم والتراجم. للاستزادة، ارجع إلى دراسة بعنوان مجالس اللهو في قصور الخلفاء في العصر العباسي الأول.
الخمر طريقًا إلى الله
ليس الخمر شرابًا للعديد من العراقيين فحسب، بل إنه يدخل في صلب أديان عريقة في بلاد الرافدين، على رأسها المسيحية، التي وُجدت في العراق منذ ألفي عام تقريبًا، ويُعد سر «التناول» أحد الطقوس الأساسية التي تمارسها معظم الكنائس العراقية. والتناول هو أحد الأسرار الكنسية، إذ يُتناول الخبز والنبيذ ليختلط جسد المسيح ودمه بجسد ودم المُتناوِل.
أما الإيزيديون فيصومون ثلاثة أيام في شهر ديسمبر، وفي نهايتها يفطرون بشرب الخمر مع رجال الدين الذين يطلق عليهم «البير»، كما يمارسون طقسًا مشابهًا للتناول، فيأكلون الخبز مع النبيذ.
ويستخدم الصوفيون المسلمون الخمر رمزًا لله والسكر في حبه؛ فقد شبهوا الغياب في الوجد بالغياب في السكر، واستعاروا كثيرًا من مصطلحات الشراب وما يدور حوله لقصائدهم. يقول الإمام عبد القادر الجيلاني المشهور بلقب «قطب بغداد»، أحد أعلام المتصوفة وإليه تنسب الطريقة القادرية:
شَرِبتُ كَأسينِ كَأسٌ مِن مَحَبّتَكُم = وَكأسُ صَرفٍ عَلَى مَصروفِ أَدنانِي
«حليب السباع» بين داعش والشيعة
للخمر والعَرَق بالتحديد في العراق المعاصر تاريخ ضخم اندثر معظمه في الأعوام الأخيرة، لكن هناك بعض المحاولات الدؤوبة للحفاظ على هذا التراث. وقد صادفتُ معجمًا للكلمات العامية العراقية التي تصف الخمر وشربها وما يحيط بمجالسها، سماه ناشره إجلاء الغبرة عن مصطلحات الخمرة.
يطلق العراقيون على العرق، مشروبهم الروحي الأكثر انتشارًا، «حليب السباع»؛ ﻷن لونه يصبح أبيض عند تخفيفه بالماء. وكانت مصانع العرق في العراق تنتج عرق المستكي المصنوع من المستكة، ويسمى أيضًا عرق العصرية، على اسم معمل العصرية المنتج له، كما تنتج عرق الزحلاوي، نسبة لزحلة اللبنانية، المصنوع من الينسون، كما أنتجت المصانع العراقية البيرة الشهيرة «الفريدة» منذ عام 1956.
أغلقت كل المصانع بعد الاحتلال الأمريكي، وعلى رأسها مصنع بيرة الفريدة، ومصنعا شهرزاد وسنبلة، إضافة إلى معمل عرق العصرية ومعمل عرق المسيّح ومصنع جن أبو جسر. وبدلاً منها، انتشرت في الأعوام الأخيرة صناعة الخمر في البيوت، حيث تصنع الفودكا والجن، لكنها تحوي مخاطر جمة؛ إذ لا تخضع ﻷي نوع من الرقابة.
وفي كثير من مناطق الريف الزراعية، كان العراقيون يقطرون خمرهم في البيوت للاستخدام الشخصي، وقد يهدون الفائض منه أو يبيعونه، وقد اشتهر من هذا النوع «عرق بعشيقة» نسبة إلى مدينة بعشيقة في شمال العراق قرب الموصل، ويُصنع من التمر والشمر (الرزنايج)، ويُعد أفضل أنواع العرق وأغلاها حتى عن المستورد، لكن إنتاجه توقف بعد سيطرة الدولة الإسلامية «داعش» على الموصل وما حولها وضمنه بعشيقة.
وحتى في المناطق التي لم تسيطر عليها داعش، واجهت مصانع ومحلات الخمور تضييقًا شديدًا مع صعود الإسلاميين والتشدد، سواءً على يد الحكومة التي تسيطر عليها أحزاب شيعية أو من قبل الميليشيات الشيعية المتطرفة، إلى جانب تهديدات إرهابية على يد المتشددين الإسلاميين من السُنَّة. وقد تعرضت متاجر الخمور إلى عشرات الهجمات المسلحة والعمليات الانتحارية قُتل فيها تجار وزبائن، ما أدى إلى انهيار تجارة الخمور وإغلاق معظم المصانع وكثير من المتاجر.
أما فائق الشيخ علي، النائب في البرلمان العراقي عن التحالف المدني الديمقراطي، فقد أبدى اندهاشه من القانون، متسائلاً إن كانت وردت رواية أو حديث واحد عن أن الإمام علي أراق الخمور الموجودة في العراق، حين نقل الخلافة من المدينة إلى الكوفة؟
لا يُعقل في بلدٍ يحوي تنوعًا دينيًا ومذهبيًا وثقافيًا ويحمل تاريخًا غنيًا وممتدًا مثل العراق أن يتم حظر الخمر، وبخاصةٍ أن الحظر في حقيقته مرتبط بمصالح ضيقة لنواب البرلمان المتشددين، بل إن المفارقة أن هؤلاء النواب يزعمون أنهم يحاربون داعش كونه فصيلاً متشددًا يصادر الحريات، لكن ممارستهم على أرض الواقع لا تبعد كثيرًا عنه.
تظهر الخمر في أقدم أساطير حضارات العراق، مشروبًا إلهيًا يرافق البشر منذ لحظة خلقهم، لكن في 22 أكتوبر 2016، تجاهل البرلمان العراقي هذا التاريخ العريق، وصوَّت على قانون واردات البلديات، الذي أضيفت له فقرة ضمن المادة 14 تحظر استيراد وتصنيع الخمور، وهي فقرة أثارت جدلاً عامًا واعتراضات حادة، وبخاصة من أعضاء الكتل غير الإسلامية، الذين رأوا فيها تطرفًا يشابه تطرف داعش، وتعديًا غير دستوري على حقوق الأقليات.
في البدء كانت البيرة
تعج آثار حضارات ما بين النهرين بمئات الألواح الطينية والقطع الأثرية التي تسجل طرق ووسائل صنع البيرة وشربها، وتصور مجالس الشراب، كما وُجدت أكواب وآنية لشرب الخمر وتصنيعه، ويعتقد علماء الآثار أن العراقيين هم أول من صنع البيرة وشربها في التاريخ قبل أكثر من 6 آلاف عام.
ويُورِد جاي بروكس، وهو مدون وخبير في البيرة والخمور، في تدوينة عن آلهة القدماء المرتبطين بالخمر، ثماني آلهة وإلاهات لدى السومريين والبابليين والآشوريين لهم علاقة بالخمور، أبرزهم اﻹلهة «نينكاسي»، وهي الإلهة السومرية المسؤولة عن حفظ البيرة، المشروب القومي حينذاك. وقد اعتبر العراقيون القدماء شرب الخمر شرطًا للتحضر؛ فنجد في ملحمة جلجامش أن الرجل المتوحش أنكيدو (رفيق جلجامش)، في طريقه للحضارة، يتعلم شرب الخمر، إذ يقول النص: «لقد تناول الجعة سبع مرات، ما أدى إلى تحرر روحه، وراح يهتف بصوت عالٍ، وقد امتلأ جسمه بحسن التكوين، وأشرق وجهه».
أما أشهر الآثار البابلية، وهي المسلة المدون عليها شريعة الملك حمورابي (1792 ـ 1750 ق.م) أبرز ملوك بابل الأولى، فقد أولت اهتمامًا خاصًا بالخمر، فأوردت قوانين تفصيلية لتنظيم صناعتها وتوزيعها وطرق شربها، وقواعد لساقيات الخمر وبيوتهن، وعقوبات قاسية بحق من يغشها أو يخالف القوانين. كما عُرفت دولة المناذرة العرب جنوب العراق بصناعة الخمر من أصناف الزروع مثل التمر والعنب، واشتهروا بـ«الخمر الحيري»، نسبة إلى عاصمتهم «الحيرة»، وهو خمر كان مشهورًا في بلاد فارس وعند العرب، وبقي موجودًا ومعروفًا حتى بعد دخول الإسلام.
سكارى في الكفر والإسلام
حتى في الإسلام، اختلف فقهاء العراق عن جمهور فقهاء المسلمين في تحريم الخمر؛ فبينما حرم جمهور الفقهاء كل أنواع الخمر قليلها وكثيرها، خالفهم الإمام أبو حنيفة وتلميذه الإمام أبو يوسف، قاضي القضاة لهارون الرشيد، وجمهور الأحناف؛ فقد كانوا يرون أن الخمر المحرمة هي نبيذ العنب المُسكِر، أما إذا لم يُسكِر أو كان من غير العنب؛ كأن كان من الشعير أو العسل أو التمر أو القمح أو التين، فليس حرامًا. واشتهر هذا الرأي بأنه «مذهب أهل العراق في الخمر».
وقد طوَّر العالم المسلم جابر بن حيان، الذي عاش وعمل في الكوفة، آلة للتقطير، واستخدمها في تقطير العطر والكحل، ثم استخدمها العالم أبو بكر الرازي فيما بعد لتقطير الكحول. وجاء اسم «الكحول» من الكلمة العربية «كحل»، وهو الاسم الذي ما يزال مستخدمًا إلى اليوم في معظم اللغات. وقد كان لهذا الاختراع أهمية كبيرة جدًا في تاريخ المشروبات الكحولية؛ فقبل هذا الاختراع كان العالم يشرب الخمور (النبيذ، البيرة) بدلًا من المشروبات المقطرة (العرق، الويسكي، الفودكا...). العراقيون إذًا أصحاب فضل على العالم في اكتشاف المشروبات المخمرة، وأصحاب فضل على العالم في اختراع التقطير الذي طور أنواع الخمور الأخرى المعروفة اليوم.
بغداد عاصمة الخمر والشعراء
عرف العراق الخمريات على يد المسلمين منذ دخولهم إليه؛ فروايات فتح العراق في عهد عمر بن الخطاب تحكي عن الفارس المجاهد أبي محجن الثقفي، الذي جلده الخليفة لشربه الخمر فأعلن توبته، ثم عاد إليها فمنعه قائد الجيش سعد بن أبي وقاص من المشاركة في معركة القادسية، وقد بلغت شدة تعلقه بالخمر أن أوصى ولده:
إذا مِتُّ فَادفِنِّي إلى جَنبِ كَرمَةٍ = تَروِي عِظامِي بَعد مَوتي عُرُوقها
ولا تَدفِنَني بالفَلاة فإنَّني = أخافُ إذا مَا مِتُّ أن لا أذُوقَها
ولعل العصر العباسي كان أزهى عصور الخمر في تاريخ العراق، أو ربما ﻷن تفاصيل مجالس اللهو فيه وصلتنا عبر عشرات المصادر، ولم يُعرَف عن الخليفتين الأولين أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور منشئ بغداد، أنهما شربا الخمر، وإن وردت قصص عن تسامح الثاني مع الشاربين من الشعراء الذين استحسن قصائدهم مثل ابن هرمة، أما خلفاؤهما فعُرف عنهم جميعًا شرب الخمر، فاشتهر ذلك عن المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم ومن تلاهم.
وسيكون بمقدورنا تصور ما بلغته الخمر في عصر العباسيين حين نقرأ شعر أبي نواس، الذي كان نديمًا للخليفة الرشيد ثم ابنه الخليفة الأمين من بعده، وله في الزندقة والمجون والتغزل بالجواري والغلمان أبيات كثيرة، منها التي يقول فيها:
دَعِ المساجِدَ للـعُبَّاد تَسكُنُها = وطُفْ بِنَا حَولَ خَمَّارٍ لِيَسقِينَا
ما قَالَ رَبُّكَ وَيلٌ للذِينَ سَكِرُوا = ولكن قال وَيلٌ لِلمُصلِّينَا
ويُكذِّب كثير من الإسلاميين كل ما يروى عن معاقرة الخلفاء عمومًا، والرشيد خصوصًا، للخمر، ويزعمون أنهم كانوا صالحين مجاهدين لا يمكن أن يشربوها، مع أن المصادر التي تروي سُكرهم هي المصادر ذاتها التي تروي جهادهم، وقد ثبت أن الصحابة أنفسهم ارتكب بعضهم الزنا وشرب بعضهم الخمر، فقد لا يتعارض أن يكون المرء مجاهدًا صالحًا مع ارتكابه بعض المعاصي، وروايات شرب العباسيين للخمر بالآلاف فلا سبيل ﻹنكارها.
ويمكن تتبع أخبار الخمر عند العباسيين بالذات في مئات المصادر الإسلامية، أشهرها على سبيل المثال: «الأغاني» ﻷبي الفرج الأصفهاني، و«تاريخ الطبري»، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«الأذكياء» و«أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي، و«البيان والتبيين» و«الرسائل» للجاحظ، و«العقد الفريد» لابن عبد ربه، و«المستطرف» للأبشيهي، وغيرها من كتب الأدب والتاريخ والسير والطبقات والمعاجم والتراجم. للاستزادة، ارجع إلى دراسة بعنوان مجالس اللهو في قصور الخلفاء في العصر العباسي الأول.
الخمر طريقًا إلى الله
ليس الخمر شرابًا للعديد من العراقيين فحسب، بل إنه يدخل في صلب أديان عريقة في بلاد الرافدين، على رأسها المسيحية، التي وُجدت في العراق منذ ألفي عام تقريبًا، ويُعد سر «التناول» أحد الطقوس الأساسية التي تمارسها معظم الكنائس العراقية. والتناول هو أحد الأسرار الكنسية، إذ يُتناول الخبز والنبيذ ليختلط جسد المسيح ودمه بجسد ودم المُتناوِل.
أما الإيزيديون فيصومون ثلاثة أيام في شهر ديسمبر، وفي نهايتها يفطرون بشرب الخمر مع رجال الدين الذين يطلق عليهم «البير»، كما يمارسون طقسًا مشابهًا للتناول، فيأكلون الخبز مع النبيذ.
ويستخدم الصوفيون المسلمون الخمر رمزًا لله والسكر في حبه؛ فقد شبهوا الغياب في الوجد بالغياب في السكر، واستعاروا كثيرًا من مصطلحات الشراب وما يدور حوله لقصائدهم. يقول الإمام عبد القادر الجيلاني المشهور بلقب «قطب بغداد»، أحد أعلام المتصوفة وإليه تنسب الطريقة القادرية:
شَرِبتُ كَأسينِ كَأسٌ مِن مَحَبّتَكُم = وَكأسُ صَرفٍ عَلَى مَصروفِ أَدنانِي
«حليب السباع» بين داعش والشيعة
للخمر والعَرَق بالتحديد في العراق المعاصر تاريخ ضخم اندثر معظمه في الأعوام الأخيرة، لكن هناك بعض المحاولات الدؤوبة للحفاظ على هذا التراث. وقد صادفتُ معجمًا للكلمات العامية العراقية التي تصف الخمر وشربها وما يحيط بمجالسها، سماه ناشره إجلاء الغبرة عن مصطلحات الخمرة.
يطلق العراقيون على العرق، مشروبهم الروحي الأكثر انتشارًا، «حليب السباع»؛ ﻷن لونه يصبح أبيض عند تخفيفه بالماء. وكانت مصانع العرق في العراق تنتج عرق المستكي المصنوع من المستكة، ويسمى أيضًا عرق العصرية، على اسم معمل العصرية المنتج له، كما تنتج عرق الزحلاوي، نسبة لزحلة اللبنانية، المصنوع من الينسون، كما أنتجت المصانع العراقية البيرة الشهيرة «الفريدة» منذ عام 1956.
أغلقت كل المصانع بعد الاحتلال الأمريكي، وعلى رأسها مصنع بيرة الفريدة، ومصنعا شهرزاد وسنبلة، إضافة إلى معمل عرق العصرية ومعمل عرق المسيّح ومصنع جن أبو جسر. وبدلاً منها، انتشرت في الأعوام الأخيرة صناعة الخمر في البيوت، حيث تصنع الفودكا والجن، لكنها تحوي مخاطر جمة؛ إذ لا تخضع ﻷي نوع من الرقابة.
وفي كثير من مناطق الريف الزراعية، كان العراقيون يقطرون خمرهم في البيوت للاستخدام الشخصي، وقد يهدون الفائض منه أو يبيعونه، وقد اشتهر من هذا النوع «عرق بعشيقة» نسبة إلى مدينة بعشيقة في شمال العراق قرب الموصل، ويُصنع من التمر والشمر (الرزنايج)، ويُعد أفضل أنواع العرق وأغلاها حتى عن المستورد، لكن إنتاجه توقف بعد سيطرة الدولة الإسلامية «داعش» على الموصل وما حولها وضمنه بعشيقة.
وحتى في المناطق التي لم تسيطر عليها داعش، واجهت مصانع ومحلات الخمور تضييقًا شديدًا مع صعود الإسلاميين والتشدد، سواءً على يد الحكومة التي تسيطر عليها أحزاب شيعية أو من قبل الميليشيات الشيعية المتطرفة، إلى جانب تهديدات إرهابية على يد المتشددين الإسلاميين من السُنَّة. وقد تعرضت متاجر الخمور إلى عشرات الهجمات المسلحة والعمليات الانتحارية قُتل فيها تجار وزبائن، ما أدى إلى انهيار تجارة الخمور وإغلاق معظم المصانع وكثير من المتاجر.
أما فائق الشيخ علي، النائب في البرلمان العراقي عن التحالف المدني الديمقراطي، فقد أبدى اندهاشه من القانون، متسائلاً إن كانت وردت رواية أو حديث واحد عن أن الإمام علي أراق الخمور الموجودة في العراق، حين نقل الخلافة من المدينة إلى الكوفة؟
لا يُعقل في بلدٍ يحوي تنوعًا دينيًا ومذهبيًا وثقافيًا ويحمل تاريخًا غنيًا وممتدًا مثل العراق أن يتم حظر الخمر، وبخاصةٍ أن الحظر في حقيقته مرتبط بمصالح ضيقة لنواب البرلمان المتشددين، بل إن المفارقة أن هؤلاء النواب يزعمون أنهم يحاربون داعش كونه فصيلاً متشددًا يصادر الحريات، لكن ممارستهم على أرض الواقع لا تبعد كثيرًا عنه.