خيّمت الحيرة على وجوه حشود المنافقين والحرّاس والخدم الذين انتشروا في ارجاء القصر الملكي وهم ينظرون الى ملكهم المتجبّر كيف يصارع منيته على سريره الذهبي الذي اكسب المكان هيبة.. تراتيل الترجّي وترانيم الاشفاق التي اطلقها الملك لم تلق عند خصمه قبولاً، بل إصراراً على جعله في احتضار أخير .. همسات الحشود تطيّرت أصواتاً عالية في أزقة القصر الكبير وهي تقول: الملك سيموت، المملكة ستنهار،ماذا سيكون مصيرنا ؟ صرخات الملك دوت سنفونية مشؤومة في ارجاء غرفته المزيّنة والمنوّرة لا لا أريد أن أموت لا لا .. دندن مستشاره الأول (بهلول) في سرّه وهو يشهد صراع ملكه مع منيته وبمساعدة اطبائه الشخصيين قائلاً : سأحكم المملكة من خلف الكواليس نعم سأفعل ذلك ؟ ..
رحل عهد ماض كان قد عُبّأ حزناً ورعباً وهو بهيئة كسيح موشّح بقبح الافعال خلف سحب العهد الجديد، وقلوب الناس المكتوية تحدّق بعرش الملك الجديد من سيجلس عليه ؟ مراسيم التتويج أمام حشود الشعب كانت صاخبة ؛ والهمس علا في فناء ساحة القصر ها قد وصل الملك ها هو ها هو… انحناءات مستشاريه ووزرائه رسمت لوحة من الطاعة وهو يمشي بينهم تحت ظل الاستيحاء قاصداً كرسيه ؛ عرش ابيه واجداده والمعزوفة الأخيرة تدقها أيادي الجوقة لتعلن ابتداء التتويج . تقدّم (بهلول) وسط الصمت الاجباري وانحنى للملك الجديد (إقبال) وتلا على مسامع المحتشدين مفردات التنصيب .. والهلاهل على الفور قد خيّمت على أجواء الاحتفال..
ربيع عمره الثلاثيني أوجس في نفسه خيفة من تولي هذه المهمة في ليلة التتويج ، والافكار المضطربة تتشظى محيّرة لا تعرف من سيهديها الى الطريق الصحيح، فحكم أبيه واجداده أخذ من قلوب الشعب وألسنتهم ولاء الطاعة العمياء من دون أن ينبس لسان احدهم بكلمة لماذا أو لا واحدة… ساعات ثقيلة تسير ببطء عليه وهو مطأطأ رأسه راجلاً قدماه ذهاباً واياباً داخل غرفته ويداه تصطكان ببعضهما مع حشرجات صوت مبحوح ماذا سأفعل ؟…قلق نفسي وعينان تبصران عبر نافذة واسعة افول نجوم السماء شيئاً فشيئا وعقارب الساعة تحبو مشلولة نحو تقسيماتها المنتظمة،واضواء الفجر فتلت عضلاتها عبر مطربيها (الديوكة) معلنة (كوكوكوكو..) وبعفوية ردد خلف المطربين الخرسان (الديوكة) مقطّعة نثرية تعود للعصر العباسي لابن الوردي : ((فصاح الديك : ها أنا أُناديك ، أنا قد أذنت ، فاقم الصلاة انت . هذا أوان صف الأقدام ووضع الجباه…)) لبى طائعاً نداء الاستغفار واهتدى بفكرة الاستعانة بعلماء المملكة للمشورة والامتثال… لم ترق لبهلول هذه الفكرة وراح ينفث في قلب ملكه سحر خبثه قطرة بعد أخرى حتى يسير بمشورته ويحكم بما يقرّه هو وحده.. أخبار مملكته ومعاناة شعبه تأتيه مجمّلة عبر مستشاريه ووزرائه الذين سيطر عليهم بهلول لاسبوع من التتويج .. والامانة والراحة صكت في نفسه أبواب الشكوك والخيفة من حصول شيء ما في المملكة..
جهاد عقله في سوح أفكاره مكّنه من الظفر بفكرة الخروج من قيود أركان قصره الى الشعب ليرى ما يجري في مملكته من حقيقة ما يسمعه من مستشاريه ووزرائه، وقد هيّأ لنفسه ذلك عندما بدأ ينعزل بصومعة خاصة ليوم في الاسبوع لا أحد يعرف ماذا يفعل ؟ وفي أي مكان هو .. تسلل من قصره والشمس قد تسيّدت السماء باعثة لهيبها بشدة وثياب رثّة أكست جلده المدلل الذي لا يقوى على تحمل سُنن اللهب التي تنفثها الشمس ؛ متنكراً قاصداً السوق العام في الميدان ليرى ويسمع ما يجهله.. دخل وسط الزحام وعيناه القابعتان خلف لثام متهرّأ تفترس بفزع ما حوله خوفاً من مصير رحلة مجهولة المعلوم.. توغل أكثر فاكثر في صفوف المارّة واصوات مروّجي البضائع تستقر عنوة في مسمعه ؛ وعلى الفور تناثر غبار شديد من بين المارة عكّر صفو الجو الملتهب ؛ واصوات صهيل الرعب تبطش به باسواط هرّأت جلده وهو تحت أقدامهم يحبو منكباً على وجهه وهو يصرخ سأدفع سأدفع سامحوني سأدفع.. الصهيل يتعالى والأسواط تتوالى من دون أن يحرك الجمع المتجمهر شعوره حتى ولو بكلمة مسكين . تقدم أكثر من الحلبة التي نصبت أمام محل الأقمشة وثقب جدار الجمهور المتصلّب خوفاً حتى وصل الى المقدمة وشاهد ثلاثة طغاة يرتدون زي جُباة الضرائب يتسلّون بغطرسة بهذا الذي اصطبغت بزّته بلون الدم والتراب..ارتعد شفقة وتكلّست قدماه على أرض مغبرّة من هول المشهد وراح يدمدم مع نفسه حتى انفجر بركان لسانه وتفوه بكلمة كفى كفى… انكم مجرمون انا الملك.. ذهول المتجمهرين أخرس همسات سرّهم على قول الملك ولسان حالهم يقول:أيريد هذا الفقير أن يقتل ؟ ماذا دهاه ؟ ضحك بسخرية أحد ابطال الغطرسة على هذه الصراحة والجرأة وقال : إنك حتماً ملك مملكة الفقراء والتعساء ولصراحتك ستكافىء حالاً .. بمباغتة سريعة يترنح السوط على ظهر الملك بضربات موجعة تسقطه أرضاً الى جنب المظلوم الأول وينال في أول ساعة من رحلته عذاب الإهانة والألم.
انتهى المشهد… انصرف الجمهور ولملم الملك وصاحبه اعضاءهما المتألمة. وانعطف في سيره الوئيد المتمايل نحو سكينة ليسترد عافيته . انزوى بعيداً عن زحام السوق واتكأ على جدار منزل وانفاسه تومض متقطعة بتباطىء مقيت.. فكّر في موقفه المؤلم ولم يشء أن يرجع الى قصره بل آثر تفقد المملكة.. غفوة بسيطة تنقله بجلباب أمير في باحة قصره المزيّن وافراد الحرس قد انتصبوا تماثيلاً لحماية المكان؛ وابيه تزيّنه بزّة الملك الخاصة والسوط بيده يبطش باحد حراسه لانه قصّر في اداء واجبه إهمالاً. يزهو السوط بافتخار وهو يكوي جسد الحرس والملك المتجبر يتلذذ بما يصنع حتى صرخ الأمير كفى كفى ..أرجوك كفى .. فزع من غفوته على صوت أقدام رجل يكبره سناً رمى بين يديه كيساً صغيراً مغلقاً وكسنا برق مرق واختفى في دهاليز ازقة المنازل المبعثرة بجنب السوق. استغرب الملك من ذلك وفضوله حرّك انامله الموجعة لمعرفة ما في داخل الكيس وما ان فتحه وتلامعت منه اضواء نقود معدنية حتى طوقته ثلّة من اللاهثين -انه هنا إنّ السارق هنا -وجدناه ،قيدوه عنوة مع لكمات وركلات ألهبت ألم اضلاعه بعد الدرس الأول الذي هرب منه قبل وقت قليل، واقتادوه صوب صاحب المتجر الذي سرقت منه النقود وهو يردد انا لست بسارق .. انا لست بسارق، وصلوا عند صاحب المتجر وقرروا تسليمه الى العدالة إلاّ أنّ صاحب المتجر لم يرض بهذا الحكم وأراد ان يقتص بنفسه منه وعلل ذلك بقوله:إنّ القضاة مرتشون فكم يتطلب منا هذا الأمر من النقود والوقت ؟ أحدهم بدهشة اذن ماذا ستفعل ؟ ابتسم ونادى أحد صبيانه اجلب لي السوط قررت أن اجلده ستين جلدة حتى لا يكررها ثانية .صرخ الملك وسط الميدان والثلة المنتفعة من صاحب المتجر والتجمهر العشوائي من المارة يسمعون كلاماً غريباً .. انا الملك انا ملككم.ذهل المتجمهرون من هذا القول لانه تكرر قبل ساعات ومن الفقير الرث نفسه ؛ والسوط قد بدأ عمله بحراثة ظهره ليسقط الملك مغشياً عليه ويستفيق مرتمياً في محل للقصابة كان صاحبه قد أشفق عليه وجاء به للمحل.. أيقن الملك صعوبة رحلة المجهول ولاسيما بعد ان قصّ عليه صاحب محل القصابة سيرة احداث ما يجري خارج قصره من قتل ودمار ورعب وسوء القضاء وغير ذلك .
دوامة اعصار ضريرة تشرده خوفاً من مجهول قد يحلّ به ليقرر العودة الى قصره.. خطوات العودة باتت ثقيلة مؤلمة متجنباً كل حدث وشخص يقابله والتعب اثناء مشيه الكسيح يصطاده بين الحين والآخر.. يجلس هنا ويواصل ويتكىء هناك ويواصل.. إقترب من مشارف قصره المتلألىء ولم يبق سوى بضعة منازل قليلة ليعبرها..التعب سخر عدو له يصطاده ويجبره على الجلوس.جلس في نهاية زقاق ضيق وصوت ناعم يستنجد هذه المرّة .. اتركه اتركه أرجوك لا لا لا تفعل أرجوك لاتقتله .نهض غاضباً لانهاء الموقف وجوانبه المؤلمة تقول له اترك ذلك اترك ذلك .. صراخ ناعم ألزمه الحضور للمشاركة في الموقف واذا باثنين يتصارعان أمامها وهي تنوح ثكلى على هول ما تراه.. طعنه وارداه قتيلاً وصراخها يدوي لا لا .. التفت خائفاً رأى الملك ولى هارباً تاركاً المشهد بلا نهاية. تقدم الملك نحو المرأة الثكلى وبهدوء لا عليك فانا الملك وقد رأيت بعيني ما حصل وسأجلب لك حقك . كلام ملك وصراخ ثكلى وهكذا حتى تجمع الناس وسؤالهم من القاتل من القاتل. أشارت باصبعها وهي تنوح انه هو . أوه الملك ثانية،صرخ الملك كعادته انا الملك انا الملك.. حراس المملكة اقتادوا هذه المرّة الى سجن المدينة ورفعوا قضيته الى القاضي بعد ان سردوا كل ما فعله وادّعاه . نظر القاضي اليه وهو رثّ البزة مبعثر الملامح جرّاء ما حصل له وبعد ان دوّن الشهود إفاداتهم لما سمعوه من ادعائه بكونه الملك وسرقته وقتله اصدر القاضي عليه حكماً بالاعدام شنقاً وينفذ على الفور حال توقيع الملك عليه.. أرسل القاضي ملف القضية الى حضرة الملك المسجون وسلّمت بيد مستشاره الأول بهلول الذي يريد الخلاص منه. قرأ بهلول القضية واستغرب وقال أيعقل أن يكون هذا الملك ؟ قرر ان يذهب ليراه من خلف الستار أمام القاضي ليبت بالحكم وبعد الوصول تفرّس فيه وايقن انه هو الملك وقال للقاضي انه ليس الملك ..الملك سيوقع أوراقه حالاً حتى تنفذوا حكمكم .
تجمهر الناس وسط المدينة ليروا حدث الاعدام شنقاً وبهلول ومستشاريه ووزرائه الذين اعلنوا الولاء له أول الحاضرين..صعد على منصّة الاعدام وتدلى الحبل من الاعلى قاصداً رقبته وفي سرّه آهات وحسرات على شرّ الناس وسطوة الأيام.. الطبول تقرع لحن الوداع والحبل يطوّق رقبته واحدهم يزيح من تحت قدميه كرسي الوقوف ، وبخوف مدهش يسقط من على سريره لا لا لا أريد أن أموت .. أوه انه حلم مقيت.
د. سامي شهاب الجبوري
*أديب عراقي
- منقول عن المجلة الثقافية الجزائرية
رحل عهد ماض كان قد عُبّأ حزناً ورعباً وهو بهيئة كسيح موشّح بقبح الافعال خلف سحب العهد الجديد، وقلوب الناس المكتوية تحدّق بعرش الملك الجديد من سيجلس عليه ؟ مراسيم التتويج أمام حشود الشعب كانت صاخبة ؛ والهمس علا في فناء ساحة القصر ها قد وصل الملك ها هو ها هو… انحناءات مستشاريه ووزرائه رسمت لوحة من الطاعة وهو يمشي بينهم تحت ظل الاستيحاء قاصداً كرسيه ؛ عرش ابيه واجداده والمعزوفة الأخيرة تدقها أيادي الجوقة لتعلن ابتداء التتويج . تقدّم (بهلول) وسط الصمت الاجباري وانحنى للملك الجديد (إقبال) وتلا على مسامع المحتشدين مفردات التنصيب .. والهلاهل على الفور قد خيّمت على أجواء الاحتفال..
ربيع عمره الثلاثيني أوجس في نفسه خيفة من تولي هذه المهمة في ليلة التتويج ، والافكار المضطربة تتشظى محيّرة لا تعرف من سيهديها الى الطريق الصحيح، فحكم أبيه واجداده أخذ من قلوب الشعب وألسنتهم ولاء الطاعة العمياء من دون أن ينبس لسان احدهم بكلمة لماذا أو لا واحدة… ساعات ثقيلة تسير ببطء عليه وهو مطأطأ رأسه راجلاً قدماه ذهاباً واياباً داخل غرفته ويداه تصطكان ببعضهما مع حشرجات صوت مبحوح ماذا سأفعل ؟…قلق نفسي وعينان تبصران عبر نافذة واسعة افول نجوم السماء شيئاً فشيئا وعقارب الساعة تحبو مشلولة نحو تقسيماتها المنتظمة،واضواء الفجر فتلت عضلاتها عبر مطربيها (الديوكة) معلنة (كوكوكوكو..) وبعفوية ردد خلف المطربين الخرسان (الديوكة) مقطّعة نثرية تعود للعصر العباسي لابن الوردي : ((فصاح الديك : ها أنا أُناديك ، أنا قد أذنت ، فاقم الصلاة انت . هذا أوان صف الأقدام ووضع الجباه…)) لبى طائعاً نداء الاستغفار واهتدى بفكرة الاستعانة بعلماء المملكة للمشورة والامتثال… لم ترق لبهلول هذه الفكرة وراح ينفث في قلب ملكه سحر خبثه قطرة بعد أخرى حتى يسير بمشورته ويحكم بما يقرّه هو وحده.. أخبار مملكته ومعاناة شعبه تأتيه مجمّلة عبر مستشاريه ووزرائه الذين سيطر عليهم بهلول لاسبوع من التتويج .. والامانة والراحة صكت في نفسه أبواب الشكوك والخيفة من حصول شيء ما في المملكة..
جهاد عقله في سوح أفكاره مكّنه من الظفر بفكرة الخروج من قيود أركان قصره الى الشعب ليرى ما يجري في مملكته من حقيقة ما يسمعه من مستشاريه ووزرائه، وقد هيّأ لنفسه ذلك عندما بدأ ينعزل بصومعة خاصة ليوم في الاسبوع لا أحد يعرف ماذا يفعل ؟ وفي أي مكان هو .. تسلل من قصره والشمس قد تسيّدت السماء باعثة لهيبها بشدة وثياب رثّة أكست جلده المدلل الذي لا يقوى على تحمل سُنن اللهب التي تنفثها الشمس ؛ متنكراً قاصداً السوق العام في الميدان ليرى ويسمع ما يجهله.. دخل وسط الزحام وعيناه القابعتان خلف لثام متهرّأ تفترس بفزع ما حوله خوفاً من مصير رحلة مجهولة المعلوم.. توغل أكثر فاكثر في صفوف المارّة واصوات مروّجي البضائع تستقر عنوة في مسمعه ؛ وعلى الفور تناثر غبار شديد من بين المارة عكّر صفو الجو الملتهب ؛ واصوات صهيل الرعب تبطش به باسواط هرّأت جلده وهو تحت أقدامهم يحبو منكباً على وجهه وهو يصرخ سأدفع سأدفع سامحوني سأدفع.. الصهيل يتعالى والأسواط تتوالى من دون أن يحرك الجمع المتجمهر شعوره حتى ولو بكلمة مسكين . تقدم أكثر من الحلبة التي نصبت أمام محل الأقمشة وثقب جدار الجمهور المتصلّب خوفاً حتى وصل الى المقدمة وشاهد ثلاثة طغاة يرتدون زي جُباة الضرائب يتسلّون بغطرسة بهذا الذي اصطبغت بزّته بلون الدم والتراب..ارتعد شفقة وتكلّست قدماه على أرض مغبرّة من هول المشهد وراح يدمدم مع نفسه حتى انفجر بركان لسانه وتفوه بكلمة كفى كفى… انكم مجرمون انا الملك.. ذهول المتجمهرين أخرس همسات سرّهم على قول الملك ولسان حالهم يقول:أيريد هذا الفقير أن يقتل ؟ ماذا دهاه ؟ ضحك بسخرية أحد ابطال الغطرسة على هذه الصراحة والجرأة وقال : إنك حتماً ملك مملكة الفقراء والتعساء ولصراحتك ستكافىء حالاً .. بمباغتة سريعة يترنح السوط على ظهر الملك بضربات موجعة تسقطه أرضاً الى جنب المظلوم الأول وينال في أول ساعة من رحلته عذاب الإهانة والألم.
انتهى المشهد… انصرف الجمهور ولملم الملك وصاحبه اعضاءهما المتألمة. وانعطف في سيره الوئيد المتمايل نحو سكينة ليسترد عافيته . انزوى بعيداً عن زحام السوق واتكأ على جدار منزل وانفاسه تومض متقطعة بتباطىء مقيت.. فكّر في موقفه المؤلم ولم يشء أن يرجع الى قصره بل آثر تفقد المملكة.. غفوة بسيطة تنقله بجلباب أمير في باحة قصره المزيّن وافراد الحرس قد انتصبوا تماثيلاً لحماية المكان؛ وابيه تزيّنه بزّة الملك الخاصة والسوط بيده يبطش باحد حراسه لانه قصّر في اداء واجبه إهمالاً. يزهو السوط بافتخار وهو يكوي جسد الحرس والملك المتجبر يتلذذ بما يصنع حتى صرخ الأمير كفى كفى ..أرجوك كفى .. فزع من غفوته على صوت أقدام رجل يكبره سناً رمى بين يديه كيساً صغيراً مغلقاً وكسنا برق مرق واختفى في دهاليز ازقة المنازل المبعثرة بجنب السوق. استغرب الملك من ذلك وفضوله حرّك انامله الموجعة لمعرفة ما في داخل الكيس وما ان فتحه وتلامعت منه اضواء نقود معدنية حتى طوقته ثلّة من اللاهثين -انه هنا إنّ السارق هنا -وجدناه ،قيدوه عنوة مع لكمات وركلات ألهبت ألم اضلاعه بعد الدرس الأول الذي هرب منه قبل وقت قليل، واقتادوه صوب صاحب المتجر الذي سرقت منه النقود وهو يردد انا لست بسارق .. انا لست بسارق، وصلوا عند صاحب المتجر وقرروا تسليمه الى العدالة إلاّ أنّ صاحب المتجر لم يرض بهذا الحكم وأراد ان يقتص بنفسه منه وعلل ذلك بقوله:إنّ القضاة مرتشون فكم يتطلب منا هذا الأمر من النقود والوقت ؟ أحدهم بدهشة اذن ماذا ستفعل ؟ ابتسم ونادى أحد صبيانه اجلب لي السوط قررت أن اجلده ستين جلدة حتى لا يكررها ثانية .صرخ الملك وسط الميدان والثلة المنتفعة من صاحب المتجر والتجمهر العشوائي من المارة يسمعون كلاماً غريباً .. انا الملك انا ملككم.ذهل المتجمهرون من هذا القول لانه تكرر قبل ساعات ومن الفقير الرث نفسه ؛ والسوط قد بدأ عمله بحراثة ظهره ليسقط الملك مغشياً عليه ويستفيق مرتمياً في محل للقصابة كان صاحبه قد أشفق عليه وجاء به للمحل.. أيقن الملك صعوبة رحلة المجهول ولاسيما بعد ان قصّ عليه صاحب محل القصابة سيرة احداث ما يجري خارج قصره من قتل ودمار ورعب وسوء القضاء وغير ذلك .
دوامة اعصار ضريرة تشرده خوفاً من مجهول قد يحلّ به ليقرر العودة الى قصره.. خطوات العودة باتت ثقيلة مؤلمة متجنباً كل حدث وشخص يقابله والتعب اثناء مشيه الكسيح يصطاده بين الحين والآخر.. يجلس هنا ويواصل ويتكىء هناك ويواصل.. إقترب من مشارف قصره المتلألىء ولم يبق سوى بضعة منازل قليلة ليعبرها..التعب سخر عدو له يصطاده ويجبره على الجلوس.جلس في نهاية زقاق ضيق وصوت ناعم يستنجد هذه المرّة .. اتركه اتركه أرجوك لا لا لا تفعل أرجوك لاتقتله .نهض غاضباً لانهاء الموقف وجوانبه المؤلمة تقول له اترك ذلك اترك ذلك .. صراخ ناعم ألزمه الحضور للمشاركة في الموقف واذا باثنين يتصارعان أمامها وهي تنوح ثكلى على هول ما تراه.. طعنه وارداه قتيلاً وصراخها يدوي لا لا .. التفت خائفاً رأى الملك ولى هارباً تاركاً المشهد بلا نهاية. تقدم الملك نحو المرأة الثكلى وبهدوء لا عليك فانا الملك وقد رأيت بعيني ما حصل وسأجلب لك حقك . كلام ملك وصراخ ثكلى وهكذا حتى تجمع الناس وسؤالهم من القاتل من القاتل. أشارت باصبعها وهي تنوح انه هو . أوه الملك ثانية،صرخ الملك كعادته انا الملك انا الملك.. حراس المملكة اقتادوا هذه المرّة الى سجن المدينة ورفعوا قضيته الى القاضي بعد ان سردوا كل ما فعله وادّعاه . نظر القاضي اليه وهو رثّ البزة مبعثر الملامح جرّاء ما حصل له وبعد ان دوّن الشهود إفاداتهم لما سمعوه من ادعائه بكونه الملك وسرقته وقتله اصدر القاضي عليه حكماً بالاعدام شنقاً وينفذ على الفور حال توقيع الملك عليه.. أرسل القاضي ملف القضية الى حضرة الملك المسجون وسلّمت بيد مستشاره الأول بهلول الذي يريد الخلاص منه. قرأ بهلول القضية واستغرب وقال أيعقل أن يكون هذا الملك ؟ قرر ان يذهب ليراه من خلف الستار أمام القاضي ليبت بالحكم وبعد الوصول تفرّس فيه وايقن انه هو الملك وقال للقاضي انه ليس الملك ..الملك سيوقع أوراقه حالاً حتى تنفذوا حكمكم .
تجمهر الناس وسط المدينة ليروا حدث الاعدام شنقاً وبهلول ومستشاريه ووزرائه الذين اعلنوا الولاء له أول الحاضرين..صعد على منصّة الاعدام وتدلى الحبل من الاعلى قاصداً رقبته وفي سرّه آهات وحسرات على شرّ الناس وسطوة الأيام.. الطبول تقرع لحن الوداع والحبل يطوّق رقبته واحدهم يزيح من تحت قدميه كرسي الوقوف ، وبخوف مدهش يسقط من على سريره لا لا لا أريد أن أموت .. أوه انه حلم مقيت.
د. سامي شهاب الجبوري
*أديب عراقي
- منقول عن المجلة الثقافية الجزائرية