أحمد بنميمون - هذا الحب الأول المشترك.. الكتاب الأول

كان هذا الديوان المشترك : «أشعار للناس الطيبين» الصادر عام 1967 أول حب وكتاب لي وللصديقين الشاعرين أحمد هناوي والمسكيني الصغير وأول إصدار أيضاً لجمعية « روّاد القلم « المؤسسة في مطلع الستينيات.
لم تكن سنة 67 هزيمة أنظمة ونكبة عروبة ونكسة شعوب فحسب ولكنها كانت كذلك مرحلة حروب باردة وساخنة وهبة مغربية ملتهبة بالعمل الجمعوي والحزبي والحماس الشعبي والنضال السياسي والنزال النقابي والسجال الثقافي والجدال الصحافي. بل إن هذه الحقبة الستينية الخصبة بالعطاء والعناء والغناء هي الميلاد الحقيقي والجديد لحداثة كل أنواع الإبداع المغربي الأدبي والفني.
كانت الدواوين المغربية معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة، منها « ديوان مصطفى المعداوي « الصادر عام 1963 عن منشورات اتحاد كتاب المغرب العربي و» صامدون « لمحمد علي الهواري 1963 و» أعطاني خوخة ومات» لأحمد صبري 1967 ولم تتعد في سنوات الستين كلها سبع عشرة مجموعة شعرية ثم ارتفعت خلال العقود التالية.
وتحتل الدار البيضاء الصدارة في عدد الدواوين الصادرة والشعراء الرواد، المؤسسين والمدرسين والمكرسين للحداثة الشعرية، وشعرية النضال بالجمال، عبر القصيدة والجريدة والصداقة والعلاقة المباشرة في دور الشباب والحي والمقهى والمدرسة والمظاهرات الطلابية والتظاهرات السياسية والرحلات المدرسية التي كانت تنظمها وداديات التلاميذ التابعة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب والواقعة بشارع « الفداء « قريباً من سينما « الكواكب « أو في الندوات الفكرية والأمسيات الشعرية والقصصية والحفلات الفنية ومهرجان فلسطين لجمعية « رواد القلم « التي استضافت الكثير من كبار الأدباء والكتاب الشباب، الذين كانوا هم كذلك يبحثون عن موقع قدم وقلم تحت الشمس، ومن رواد الشعر الحديث مثل أحمد صبري « هداف الشعراء وحارس مرمى القصيدة « والشاعر الموتور « أحمد المجاطي الذي درسنا في ثانوية « عبد الكريم لحلو» لفترة قصيرة وأحمد الجوماري ابن حينا المحمدي ومحمد علي الهواري الشاعر والمناضل الذي درسنا في « معهد الرشاد» الحر واعتلى ذات يوم جداراً أمام باب «عبد الكريم لحلو» وخطب فينا وحرضنا على المظاهرة والإضراب كما كان مؤطراً لإحدى رحلات « الودادية « إلى غابة «وادي نفيفيخ» ومشاركاً في الرقص والغناء والألعاب مع أبناء وبنات « القوات الشعبية «.
ولذلك لا غرابة أن تصدر مجموعة « أشعار للناس الطيبين « في ذلك الديوان وبهذا العنوان « مشتركة « بين هؤلاء الشعراء الشباب من أعضاء « رواد القلم « التي كانت أبرز جمعية ثقافية وطنية. وكانت لها أنشطة «مشتركة» مع فرق مسرحية من فاس والدار البيضاء وغيرهما من المدن المغربية فضلاً عن جوق «اليد الذهبية» الموسيقية وعروض مسرح البدوي شبه الدائمة لبعض أعمال تشيخوف الدرامية القصيرة مثل « الدب « و « ضرر التبغ « على سبيل المثال، ومع جمعيات أخرى كثيرة مثل «وعي» الدار البيضاء و» بعث» مكناس و» معتمد « شفشاون التي استضافتها « رواد القلم « في أحد مهرجاناتها الشعرية بالدار البيضاء.
ويتعذر حصر أسماء كل « الرواد « المؤسسين والعاملين والعاطفين والمحبين والمنتسبين والطالبين الراغبين في عضوية الجمعية من وجوه الثقافة والأدب والفكر والحداثة والفن والشعر.
وبعد اثنتي عشرة سنة على تأسيس « رواد القلم» صدر أول ديوان للشاعر القمري الحسين « الربابة الآتية ألحانها من الناظور والمغرب الشرقي» بعنوان « ألف باء « عام 1975 وبأوراق خضراء اللون وعن «سلسلة منشورات رواد القلم « وبكلمة عن الشاعر بقلم « الرواد « على ظهر الغلاف وضمن « مشروع « طموح : « بهدف المساهمة في التخفيف من أزمة النشر والتوزيع التي تحاصر المؤلف المغربي المحدود الدخل، وهي أزمة لابد وأن تؤجج جشع التجار والمضاربين الذين لا أخلاق لهم ولا ضمائر ليشنوا هجمة مسعورة على مخ وعرق الأديب المغربي القصير اليد «. وللتعاون مع صاحب العمل الأدبي « على أسس سليمة من النزاهة والعدالة والديموقراطية» و « لا غاية لنا إلا النهوض بالمارد الأدبي التقدمي ببلادنا وانتشاله من السرداب الذي زج فيه «.
ومن وجدة والمغرب الشرقي أيضاً أتت إلى الدار البيضاء ألحان ربابة أخرى عبر ديوان « البريد يصل غدا « الذي صدر في هذه السنة نفسها1975 مشتركاً بين ثلاثة من الشعراء الأصدقاء : حسن الأمراني والطاهر دحاني ومحمد علي الرباوي وعن نفس « مطبعة بوزيد « الشعبية التي طبع فيها « الرواد « ديوان « أشعار للناس الطيبين «.
كان هذا الحب الأول « مشتركاً « بين جيل الريادة الشعرية والشهادة الشعبية من أجل كل « الناس الطيبين « في جميع ربوع « المغرب الذهبي « الأرجواني الشروق والغروب الكئيب الأفق الجريح والذبيح على حد تعبير نازك الملائكة : « كان المغرب لون ذبيح والأفق كآبة مجروح «.
لم أشارك « الرواد « إلا في اختيار نصوص القسم الخاص بي من « أشعار للناس الطيبين « لوجودي بفاس في مطلع السنة الجامعية بكلية الآداب أكتوبر 1966.ويعود الفضل في الإشراف عليها جمعاً وطبعاً وتوزيعاً إلى الرئيس الدائم منذ التأسيس الشاعر أحمد هناوي الذي انقطع مبكراً عن الدراسة الثانوية وانصرف إلى العمل الصحفي بجريدة « الكفاح الوطني «. وهو الذي كان يحرر كل المقدمات ويوقعها باسم « الرواد « كما في مقدمة هذا الديوان المشترك بعنوان: « إطلالة قصيرة على الأدب المغربي الحديث « _ الدار البيضاء 10 يناير 1967 _ ومما جاء في هذه الإطلالة « غير القصيرة « : « قد يفسر البعض إقدامنا على إصدار هذه المجموعة الشعرية المشتركة بكوننا قد عجزنا كل العجز عن إصدار، كل منا على حدة، ديوان خاص لكل واحد..غير أننا نعتبر أن هذا التفسير هو جزء من حقيقة كبيرة، وما هو إلا عنصر بسيط جداً من العناصر التي اعتمدناها في هذا المشروع، ذلك أننا أردنا بعملنا هذا أن نساعد القارئ على معرفة مدى وحدة الفكرة والبعد التصوري، وعمق التفاؤل بالغد المشرق، بالإضافة إلى جعل القارئ يطل من خلال هذه القصائد على الجمعية، مدركاً فلسفتها « . وفي خاتمة المقدمة هذا النداء والرجاء : « وإننا إذ نقوم بهذه البادرة المتواضعة متحملين في ذلك ما لا يخفى على أحد نرجو من إخواننا الأدباء، والشعراء بصفة خاصة، أن يحطموا جدار الانتظارية العقيمة ويخرجوا من جمودهم، ومد المكتبة المغربية والقراء بمؤلفات ستكون من دون شك أحسن مما تضمه دفتا « أشعار للناس الطيبين « ..
كثيراً ما كنت وسطاً بين الصديقين هناوي والمسكيني تماماً كما جاء اسمي وسطاً بينهما على وجه غلاف الديوان، الذي وزعت مجموعاته الثلاث بتلك « النزاهة والعدالة والديموقراطية « المنشودة لكل « الناس الطيبين « : 14 قصيدة لكل شاعر مع صورته وعنوان مجموعته المصدرة بكلمة نثرية في المجموعة الأولى : قصائد مصلوبة بتوقيع هناوي وفي المجموعة الثانية : صدر مفتوح بتوقيع المسكيني ومصدرة بمقطع شعري في المجموعة الثالثة : سنابل قمح للجياع بتوقيع الملياني. ولكل شاعر مقطع شعري على ظهر الغلاف متساوي الأبيات إلى جانب صورته. ولكن من ورد اسمه الأول على وجه الغلاف يكون وسطاً على ظهر الغلاف ومن جاء الأخير على وجه الغلاف يكون الأول داخل الديوان ومن كان الأول على ظهر الغلاف يأتي وسطاً على وجه الغلاف بحيث يكون كل شاعر الأول والوسط والأخير على وجه أو ظهر الغلاف أو داخل الديوان.
استقبلت هذه التجربة المشتركة بقراءات نقدية كثيرة أذكر منها على سبيل السماع لقاء لأحمد المديني قبل أن يعرف كاتباً تحدث فيه أمام جمهور من طلاب كلية الآداب بظهر المهراس بفاس عن « النزعة الكلبية « في إحدى مجموعات « أشعار للناس الطيبين «. وعلى سبيل السماع كذلك أذكر أن الأديب عبد القادر الصحراوي، الذي كان مدير ثانويتنا « عبد الكريم لحلو» قد خصص لهذه المجموعة المشتركة إحدى حلقات برنامج ثقافي كان يقدمه على أمواج الإذاعة الوطنية. كان ذلك قبل أن يدخل إلى قبة البرلمان نائباً عن « القوات الشعبية « وقبل أن يخرج منها وزيراً فسفيراً وقبل أن يقود معركة ساخنة لمخزنة اتحاد الكتاب في مؤتمره الخالد بمدارس محمد الخامس وبرئاسة الأديب الكبير الأستاذ عبد الكريم غلاب . كانت سنة دراسية شبه بيضاء لقسمنا على الأقل الذي خرج من أجل حملته الانتخابية ليطوف النهار كله من باب لباب ويبيت على الطوى في مقر حزب « القوات الشعبية « وليصاب بجرح خطير في الرأس أحد الأصدقاء من « رواد القلم «.
تجمع « أشعار للناس الطيبين « بين القصيدتين العمودية السائدة آنئذ والتفعيلية الآخذة في الانتشار بوتيرة أسرع من قصيدة النثر التي كانت لما تستقل بعد عن الشعر المرسل والمنثور. غير أن العبور من التقليد إلى التجديد قد تم بسلاسة دون أن يثير نقعاً ولا معركة نقدية حادة كما في المشرق ربما لأن المغرب كان دائماً في مهب جميع الرياح الشرقية والغربية، يقبل على الجديد ولا يفرط في القديم. كانت البداية عمودية لدى جل الشعراء في العقود الثلاثة الخمسين والستين والسبعين الذين هم جيل واحد من « الرواد « المؤسسين، والصحاب التابعين، لتقارب السن والنهل من نفس النبع والاحتراق بذات النار أو لوحدة الماء والناروالمؤثرات.
جميع النصوص المنشورة في القسم الخاص بي « سنابل قمح للجياع « تفعيلية أكثر مما هي عمودية، كتبت في نهاية الستينيات 65_ 66 خلال الدراسة الثانوية بالدار البيضاء والسنة الجامعية الأولى بدمشق، التي كانت سنة « الاختيار الثوري « والشعري أو الانتصار الكلي لشكل ومحتوى القصيدة الجديدة الحرة والملتزمة، رغم أني نشرت كثيراً من النصوص العمودية، الرومانسية والحماسية،غير الموجودة في هذه المجموعة المشتركة.
من نصوص 65 التفعيلية « هزيمة الغراب « المكتوبة بأسلوب حكائي يحاكي « فابلات « لافونتين وأمير الشعراء،غداة القرار الوزاري المشؤوم « 19 فبراير 1965» بمنع التلاميذ الذين تجاوز سنهم السادسة عشرة في السنة الرابعة إعدادي « شهادة البروفي» من الانتقال إلى الأقسام الثانوية وتوجيههم إلى تعليم تقني لم يوجد بعد. فكان ذلك أحد الأسباب في اندلاع شرارة الانتفاضة الشهيرة يوم 23 مارس 1965. لكن القصيدة تنتهي نهاية سعيدة، باندحار « الغراب « الوزاري الآمر بإحراق « الأسود والنسور « المدرسية، وبانتصار «حماة الديار « و» غابة الكبار والصغار» التي شبت فيها النيران ضد الطغيان الوزاري.
وكذلك « النغم الحائر « كتبت غداة طرد من عمله بالإذاعة الوطنية الفنان عبد السلام عامر مبدع الرائعتين « آخر آه « و « القمر الأحمر « المذكورتين فيها.
ومن نصوص دمشق 66 « هدايا إلى فلسطين « التي ذكرها أستاذنا الباحث الدكتور عباس الجراري في دراسة عن موضوعة فلسطين في الشعر الحديث ألقاها محاضرة في الدروس الحسنية. وهي لا تتصادى فقط مع أغنية فيروز عن العودة الفلسطينية، « سنرجع يوماً «، ولكنها في نفس الوقت أغنية الحنين إلى الوطن. وكذلك النص الأخير من المجموعة « فليصمت القلم «الذي يجمع بين الإيقاعين التفعيلي والعمودي « البسيط «،كتب غداة استشهاد الفدائي الفلسطيني مازن أبو غزالة الذي أمّن انسحاب رفاقه وأحاط نفسه بحزام ناسف وانفجر في العدو، وهو بطل نصوص عديدة منها قصيدة لفدوى طوقان، وآخر ما كتب في مفكرته : « زغرد يا رصاص، واخرس يا قلم « ومنه استوحيت هذا العنوان « فليصمت القلم « :
ميعادنا غدُنا
حيفا ويافا فعند الشط ننتصرُ
لابد ننتصرُ
ماذا يساوي، ويجدي، دونها العمُرُ.



العلم نشر في العلم يوم 02 - 12 - 2011


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...