فى آخر الفصل الأخير من كتابى الصادر مؤخراً تحت عنوان «شجون مصرية» ختمت كلامى بالعبارة التالية: وعلى الرغم من كل ما سبق «أقصد المعوقات الحكومية والشعبية للثورة الثقافية» فلابد لنا من ثورة ثقافية وإلا عادت بنا عقارب الساعة إلى الوراء ستين سنة، فصرنا سنة 1952 أو بتحديد أكثر سنة 1954، يعنى تكرار التجربة الناصرية، يعنى تكرار الأسى.
ولأن هذه العبارة كُتبت قبل عامين، جرت فيهما مياه كثيرة فى نهرنا المهدد بالجفاف، فالواجب إعادة صياغة تلك العبارة لتكون أكثر ملاءمة لما نعيشه اليوم، فتكون: لابد لنا من ثورة ثقافية وإلا خرجنا تماماً من التاريخ المعاصر، بلا قدرة على العودة إليه فى المدى المنظور.. خصوصاً أن الحالة المصرية الحالية، تحتشد فيها الشواهد الدالة على التدهور العام، حسبما سيأتى بيانه بعد قليل.
■ ■ ■
ولتوضيح المقصود بالثورة الثقافية، تلافياً لسوء الفهم، أعيد هنا المعنى المراد من هذا المصطلح: الثورة الثقافية هى الحركة المجتمعية الرافضة ذهنياً للتدهور العام، الهادفة إلى تغيير ما استقر فى المجتمع من أفكار عامة وأمور اعتقادية ورؤى كلية للكون، وهى تختلف عن الثورة السياسية التى تهدف إلى إعلان الرفض للسلطة القائمة، وتسعى إلى تغيير «النظام» بإسقاطه وتبديله بشكل عنيف من الثائرين، يصادمه شكل قمعى أعنف من النظام السياسى القائم.. والثورة الثقافية لا تنطوى بالضرورة على الصخب والعنف والعنف المضاد، وغير ذلك من سمات الثورات السياسية وحركات التحرر، بل هى تحتاج الهدوء وإمعان النظر والمراجعة الرصينة للأفكار والمفاهيم العامة الكبرى والمفاهيم السائدة فى المجتمع، والجرأة على إعادة النظر فيها لاستبقاء الصالح وتحطيم الطالح.. حتى لو كان الطالح مرتبطاً بمصالح قوى وجماعات مؤثرة.
هذا هو المفهوم المحدد للثورة الثقافية، ولا عبرة هنا بعمليات التشويه المتعمد لهذا المفهوم، مثلما جرى فى الصين وإيران سابقاً تحت اسم «الثورة الثقافية»، بينما كان المراد هو قمع المخالفين واقتلاع المعارضة السياسية من جذورها!
ومثلما جرى مؤخراً فى مصر، حين دعا الرئيس إلى «ثورة دينية» فاهتاج جماعة وهاجموا الرموز الدينية وسخروا منها، بحدة، وهو ما أودى بمصير هؤلاء الثائرين وألقى ببعضهم فى غيابة السجن المذل الذى كلما أُلقم شخصاً قال: هل من مزيد! ومثلما حدث حين تمَّ إجهاض الجانب الثقافى من ثورة يناير 2011 فتحولت الثورة إلى فورة سرعان ما فقدت البوصلة وصارت تثير الحسرة، حسبما أوضحت فى كتابى «فقه الثورة» وفى الكتاب المشار إليه فى بداية هذه المقالة.
■ ■ ■
وإعادة بناء المفاهيم العامة والتصورات الأساسية المستقرة فى أذهان الناس، هى إحدى الدعامات الأساسية التى تقوم عليها الثورة الثقافية.. وقد يعترض بعضهم قبل أن يستكمل النظر فى بقية هذا الكلام، قائلاً: ومن الذى قال أصلاً إننا بحاجة لثورة ثقافية، وحتى مفهوم «الثورة» فى حد ذاته قد صار كريهاً عند الناس، فما عادوا يحتملون سماع هذه الكلمة أساساً، بعدما دمرت الثورات العربية البلاد التى اشتعلت فيها، فضاعت سوريا وليبيا واليمن، وأفلتت تونس ومصر من الانهيار بأعجوبة، فكيف نفكر ثانية فى ثورات؟
ولهذا المعترض نقول: اعتراضك يرد عليه الدليل الذى أوردته، لأن الذى اندلع فى البلاد العربية قبل خمس سنوات هو ثورات سياسية لا ثقافية، والبلاد التى انهارت لم تسقطها الثورات، وإنما الجماعات الدينية المسلحة التى استغلت لحظة الارتجاج والفراغ السلطوى المؤقت، فسارعت إلى نشر فوضاها أملاً فى السيطرة السياسية تحت الراية المخادعة المسماة «إحياء الخلافة الإسلامية»، ولم يستطع أهل البلاد التى تدهورت أحوالها، مواجهة هذه الهجمة الشرسة لضعف القشرة الفكرية والثقافية فى هذه البلاد، بسبب حرص حكامها «القذافى، الأسد الأب، صالح الطالح» على تفريغ بلادهم من عناصر التثقيف العام وقمع الكتاب والمفكرين والفنانين الذين يحفظون الشعلة الثقافية متوهجة. وبالعكس، كان بمصر وتونس قبص من وهج الإبداع ومن الإنتاج الثقافى المتنوع، ومن القدرة على التفكير النقدى والعقلانى، وبقدر حضور ذلك فى البلدين كان قدر انفلاتهما من الانهيار.. لو لم تكن الحالة الثقافية فى مصر مقبولة نسبياً، لما كان بمستطاع المصريين أن يواجهوا حالة الاضطراب العام والتقافز على الكراسى السلطوية، ولكانوا قد استسلموا بسرعة لغياب القدرة على مواجهة العواصف العنيفة التى هبت على بلادهم «ولاتزال تهب، لكن معظم الناس لا ينتبهون» ناهيك عن أن الثورة الثقافية، بما تشتمل عليه من ضرورة إعادة النظر فى المفاهيم والتصورات، ليست كمثيلتها السياسية، فهى لا تتم بالخروج إلى الشوارع والميادين بالهتافات المنذرة بالصدامات، وإنما تكون بالدخول العقلانى الهادئ فى عمق التكوينات الفكرية وأنماط المعتقدات الموروثة، لنفض الغبار عنها وطرح الطالح منها واستبقاء الصالح وتطويره.. الثورة الثقافية عمل معرفى جسور، يجرؤ على مواجهة المستقر الشائع الذى ثبتت بلادته وعدم ملاءمته للواقع الجديد.. الثورة السياسية تهدم، آملة فى أن يعاد البناء يوماً من جديد، لأنها ترى الواقع السياسى هو الأسوأ وأياً ما كان الذى سيحل محله، فهو أفضل منه، ومن هنا تجرى بعد الثورات السياسية الويلات. أما الثورة الثقافية فهى تنطلق أصلاً من اعتزاز بالانتماء إلى الواقع الثقافى العام، ومن عدم الانسلاخ عنه بدنياً بالهجرة وذهنياً بالاغتراب والانزواء.. الثورة الثقافية تقوم على أكتاف الكتاب والمفكرين والفنانين الملتزمين تجاه المجتمع، مثلما هم ملتزمون بمعاناة الإبداع فى مجالاتهم، وهؤلاء فى العادة لا يصخبون فى العلن، وإنما يعكفون على بناء الفكر وتأسيس الرؤى وتطوير وسائل التفكير، بهدوء، ثم يؤدى ذلك بشكل تلقائى إلى إزاحة البالى من الأفكار العامة، والمشوه والمغلوط والملعوب به.. وبالتالى، فالثورة الثقافية تبدأ بالبناء وليس الهدم.
وقد يأتى معترض ثان، فيقول: هذا كله تنظير وتهويمات غير مفهومة من شأنها تشتيت التركيز، فى وقت يواجه فيه المجتمع عدة تحديات أهمها ضعف الاقتصاد وغلاء الأسعار وبلاء الإرهاب والتطرف، بالإضافة إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية وتزايد المؤامرات الخارجية وحروب الجيل الرابع والأربعين، والخامس والخمسين!
ولهذا المعترض نقول إن كثرة المشكلات وتفاقمها، دليل على أن المعالجة الجزئية والغرق فى التفاصيل، نهج بائس، وقد جربنا خلال الستين سنة الماضية طريقة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» فكانت النتيجة أننا قمعنا كل الأصوات وأسكتناها، وخسرنا المعركة ومعها مستوى التعليم ومنظومة القيم الاجتماعية والمكانة المرموقة التى كانت لمصر فى منتصف القرن العشرين، وأضاعها سعار السلطة الذى سلب ألباب مجموعة الشباب الذين كانوا يسمون «الضباط الأحرار» جداً، فجثموا متعاقبين على قلب البلاد حتى تساقطت أوراقهم الخريفية شيوخاً فى أراذل الأعمار بعدما أتوا بأراذل الأعمال، ولم يكن من الممكن محاسبة أحد منهم أو إنقاذه من هوسه الشخصى وتشبثه بالكرسى الجالب للهمّ والمسبب له، لا مناص إذن من رؤية كلية للواقع والمستقبل، وإطار عام له طابع «استراتيجى» وليس تكتيكياً، ومنظومة فكرية تعلو فوق التفاصيل فتدرك الصورة الإجمالية المركبة، يعنى، لابد من نظام إدراكى جديد يناسب الواقع المتجدد، وهذا لا يمكن عمله بآليات التفكير البالية، ولا مفر من الوصول إليه عبر ثورة ثقافية تعيد بناء المفاهيم والتصورات الكلية أولاً، ثم تعالج التفاصيل بالعلاج المناسب لها وليس بإسكات الأصوات وإعلاء راية «المعركة» فقط.
وقد يأتى معترض من هؤلاء الذين راجت تجارتهم فى الآونة الأخيرة، فيزعق بما معناه: إن هذه الدعوة لإعادة بناء المفاهيم العامة، وللثورة الثقافية بكل مشتملاتها وركائزها، هى مجرد حيلة أخرى خبيثة لهدم البلاد ومحاولة لتنفيذ «أجندة» خفية تخدم المصالح الصهيونية والأغراض الغربية المشبوهة.. و.. وإلى آخر مثل هذه الأقاويل الشوهاء.
وهذا المعترض لا يجب الرد عليه أصلاً، ولا يليق به إلا التجاهل والإهمال، لاسيما أن هؤلاء المخبرين عن النوايا، مخبرون فى الغالب، وقد وقع فى شباكهم كثيرون اشتبكوا معهم فضاعت عليهم فرصة تطوير الأفكار التى طرحوها، فتمَّ تمزيقها وتشويههم، ومادام هؤلاء المعترضون، وبالأحرى: المهللون، يخرجون عن الموضوع الأصلى إلى الكلام عن النوايا وعن الضمائر وعن الأغراض الخفية، باحثين وهم التفهاء عمن هم أكثر تفاهة منهم، ليصدقوا كلامهم الفارغ من المضمون، فليكن سؤالنا للواحد منهم: أخبرنا بما قدمته أنت، أولاً، حتى يجوز لك انتقاد القاصى والدانى كأنك حامى الحمى! وأين كنت من قبل، وما الذى تعلمته أو علمته أو شاركت فيه قبل أن تنصّب نفسك قاضياً وجلاداً..
■ ■ ■
وعملية «إعادة البناء» هذه على الرغم من أهميتها، فإنها محفوفة بمخاطر عديدة لابد من الانتباه إليها، أن كل طرح جديد لمسألة كبرى، هو فى واقع الأمر اجتهاد عقلانى لا يزعم لنفسه اليقين التام، ولا ينطلق من المزاعم المسماة بادعاء كاذب «الأصول الراسخة» مع أنها هى التى رسخت بنا فى قاع العالم، ولا من «الحق المطلق» الذى أثبتت تجارب الأمم أنه زعم مزيف، ولا من «الإنابة عن الله» حسبما يدعى كثيرون ممن أطلقوا اللحى وظنوا أن غاية الدين ومنتهاه هى حف الشوارب، ولا بأس عندهم مع ذلك من إطلاق الشهوات الغريزية إلى سقفها الأعلى وخداع الناس ونكاح الصغيرات وقتل المخالف إذا ما وجدوا إلى قتله سبيلاً، فإن لم يتيسر ذلك لهم اتهموه فى عقيدته وفى عقله وفى وطنيته، كأنهم حراس العقيدة والعقلانية والأوطان، وما هم بالحقيقة إلا انتهازيون يلعبون بالقيم المطلقة فى ميدان الأغراض المؤقتة، بلا خجل ولا وجل ولا كتاب مبين.
وإعادة بناء المفاهيم العامة لا تندرج تحت بند تحليل الأحداث الجارية والأخبار المتضاربة التى يزخر بها واقعنا، وإنما تنبع من الرؤية الكلية للواقع ومن طرح الأسئلة الكبرى الركيزية التى تصعد من التفصيلات والجزئيات إلى العمومى الشامل، فمن هذه الأسئلة مثلاً: لماذا تدهورت لغة التعامل اليومى وقصرت عن التعبير بدقة عن المعانى؟ بل انقلبت دلالة المفردات حتى صارت تعنى المعنى المضاد، على النحو الذى طرحناه سابقاً فى كتابات عديدة ومناسبات متنوعة، فإن كانت اللغة هى وعاء الفكر، فكيف يمكن للفكر الجمعى والعقل العام أن يتطور بأوعية صدئة مترهلة الدلالة؟.. لماذا انهارت منظومة القيم فى مجتمعنا، فأمست «الفهلوة» بديلاً عن الإتقان، وصارت «الوصولية» مكان الالتزام، وسادت «السفاهة» فى مواضع الجدية، فكيف يمكن أن ينضبط السلوك العام إذا كانت الأفكار المحركة له فى حالة فوضى؟.. لماذا صارت مصر بلداً طارداً لأهله يحلم الواحد منهم بالهجرة الدائمة أو المؤقتة، مع أنها كانت حتى منتصف القرن الماضى موطن جذب للأجانب الذين كانوا يفدون إليها للعمل أو الاستقرار، وطالما سكنها آنذاك إيطاليون ويونانيون وإسبان وفرنسيون، فإذا بها فى منعطف تاريخى حاد تتحول من موطن جذب إلى جهة طرد؟.. لماذا لم يحصل مصرى يعمل فى مصر على جائزة نوبل فى العلوم، مع أن الواقع العلمى فى الأربعينيات من القرن الماضى وفى بداية الخمسينيات كان يبشِّـر بذلك، ولماذا لم يحصل فيلم مصرى على جائزة «أوسكار» واحدة، مع أن صناعة السينما بدأت فى مصر قبل عدة بلاد أوروبية ومع أهم البلاد الأوروبية؟.. لماذا انهار التعليم فى مصر؟.. لماذا تم تجنيد البلاد عدة عقود من أجل تنمية قدراتها العسكرية وتحرير فلسطين ومعارضة القوى الدولية وتحقيق الوحدة العربية، ومرت السنوات الطوال العجاف على الناس وأكلت قلوب ثلاثة أجيال، ولم تتحقق الوحدة العربية ولم نثبت أمام القوى الدولية ولم نحرر فلسطين، ولم نشكل جيشاً عربياً موحداً مرهوب القدرة العسكرية.. وبشكل عام: لماذا صرنا فى العين الحمئة!
■ ■ ■
وفى عملية إعادة البناء اجتهاد ومجاهدة ضد مصالح الراسخين فى القاع، مستمتعين، ولذا فهى تحتاج صبراً طويلاً واحتمالاً لا محدوداً، لأن هؤلاء لن يرضوا بالتنازل عن مكاسبهم الشخصية ومصالحم المحدودة لصالح ارتقاء المجتمع بأفراده أجمعين، أو نهضة البلاد بأهلها مجتمعين، ففى الوضع السائد المتدهور وجد هؤلاء لأنفسهم مكاناً ومكانة، لأن يأمنوا أن يجدوا مثلها إذا تغيرت الأحوال، ومن هنا فهم يدعمون بقوة فكرة الثبات والاستقرار «الخادع» ويعلقون آمال غيرهم على مشجب رخو وأمنيات فضفاضة، عبر زرع بذور الأوهام فى نفوس الناس وإقناعهم بأن الفرج قريب ولا منطق له، وبأن «المخلِّص» سوف يأتى مهما طال انتظاره، وبأن الأدعية تفعل دون الحاجة لبذل الجهد فى العمل، وبأن الكرم السماوى لا محدود لمن يحتمون من اللصوص بالنصوص.
وتمييز هذه المجموعة الرديئة عن بقية الناس، سهل ميسور، ولا يحتاج جهداً لاكتشافهم وكشفهم، لأنهم مكشوفون، ففى الوقت الذى تجد فيه معظم الناس يشتكون سوء الحال والمآل، ويعانون، نرى هذه القلة تميل بطبعها ومن أجل الحفاظ على مصالحها، لكل حاكم مهما كان، وهم يحذِّرون دوماً من المصير البائس ولا يقيسون أبداً على المصائر السعيدة! يقولون لا نريد أن نكون مثل سوريا وليبيا واليمن، ولا يقولون نريد أن نكون مثل الدول المتقدمة، يعلنون شعارات جوفاء فاقدة المعنى، من نوع «أنا أو الفوضى» وعلى قاعدة «مصر مستهدفة» مؤكدين أنه «ليس فى الإمكان أفضل مما كان».. إلى آخر هذه الدعاوى المكشوفة التى لا تصمد أمام أى نقد، ولا تقود إلا إلى التدهور العام.
وعندما يستشعر هؤلاء الخطر على أنفسهم، ومصالحهم الشخصية، بسبب السعى إلى اكتشاف جذور المشكلات التى يعانى منها المجتمع، أو حين تطرح أسئلة كبرى لا تقتصر على الوقائع اليومية ومجريات الأمور، أو عندما ننوى إعادة بناء المفاهيم، يلجأون إلى أبخس الحيل لإجهاض تلك المحاولات، ولديهم قائمة طويلة من الاتهامات الجاهزة للانطباق وللأخذ بخناق كل من يجرؤ على التفكير بشكل مختلف أو الكلام بلغة مبتكرة، فيسارعون بقذفه بما لا حصر له من اتهامات فيستنفد طاقته فى الرد عليهم ورد اتهامهم له بأنه: ملحد، علمانى، صهيونى، ماسونى، فرعونى. كائن فضائى.. إلخ، وليس المهم عندهم صدق الاتهام وإنما قدرته على شغل عوام الناس به لإشغالهم عن الفكرة المطروحة أو جدوى إعادة النظر فى هذه المسألة الأساسية أو تلك، وقد رأينا مؤخراً كيف واجهوا الممثل السينمائى الذى انتقد رئيس الجمهورية، بأنه شاذ جنسياً! دون اهتمام ببيان الصلة بين الرأى الذى طرحه، والاتهام الذى وجهوه إليه، فإن قلنا إن علينا إعادة النظر فى القضية الفلسطينية وطرحها بشكل يفهمه العالم المعاصر، بعيداً عن أوهام القداسة والحماس الدينى الأهوج، واجهوا ذلك لا بالمناقشة الهادئة للأفكار المطروحة وإنما بالاتهامات المجانية بالعمالة والصهينة والسعى للكسب المادى.. والمفارقة هنا تكمن فى أن هذه التهم الفضفاضة تليق بهم أكثر من غيرهم! فهم الذين لا يمانعون أن تشتعل الحرائق بمصر إن كان ذلك مُرْضِـياً لدويلة خليجية حقيرة تغدق عليهم الأموال، وهم الذين ضللوا العباد بالدعاوى الباطلة حتى استقوت إسرائيل وصارت ذا شأن ملموس، لكنهم يصرون على إنكاره كأن الإنكار سوف يلغى الواقع، وهم الذين يسعون للكسب المادى، مهما كان مصدره «حتى لو كانت تبرعات الفقراء» ومهما كان المقابل، وقد رأينا من أمثالهم الكثير مما لا يقبله عقل ولا شرع ولا دين.
■ ■ ■
وأخيراً، فإن إعادة بناء المفاهيم «وبقية مسارات الثورة الثقافية: الارتقاء باللغة، التثقيف العام، بعث منظومة القيم» لا تتوقف أهميتها على كونها شرطاً ضرورياً لتطور المجتمع وتلافى الآثار السلبية لتدهور مستوى التعليم والإعلام والمؤسسات الثقافية الحكومية، فحسب، وإنما تلعب دوراً حيوياً فى مواجهة هوس الإرهاب وخطر التطرف الدينى، لأنها تقتلع الجذور الخبيثة لهذا النبت الشيطانى الذى ينمو سريعاً فى غيبة العقلانية والمنطق، وسرعان ما يبحث عن الأسلحة والمتفجرات التى تقتل الأبرياء وتشعل الحرائق لإحراج الحكومات، فتوجد الحجة لمصادرة الحريات وقمع المعارضة، بدعوى أن الحكومة فى حرب ضد الإرهاب، فيؤدى القمع إلى مزيد من هوس الإرهاب وخطر التطرف المحرج للحكومات، فتقوى الحجة الحكومية المبررة لمصادرة الحريات وقمع المعارضة بدعوى الحرب ضد الإرهاب، فيؤدى القمع إلى مزيد من هوس الإرهاب.. وهكذا تدور إلى ما لا نهاية هذه الدائرة الجهنمية المفرغة من المعنى، ومن المنطق، ومن ضرورة النظر نحو المستقبل.
د. يوسف زيدان
المصري اليوم..
الثلاثاء 05-04-2016
www.facebook.com
ولأن هذه العبارة كُتبت قبل عامين، جرت فيهما مياه كثيرة فى نهرنا المهدد بالجفاف، فالواجب إعادة صياغة تلك العبارة لتكون أكثر ملاءمة لما نعيشه اليوم، فتكون: لابد لنا من ثورة ثقافية وإلا خرجنا تماماً من التاريخ المعاصر، بلا قدرة على العودة إليه فى المدى المنظور.. خصوصاً أن الحالة المصرية الحالية، تحتشد فيها الشواهد الدالة على التدهور العام، حسبما سيأتى بيانه بعد قليل.
■ ■ ■
ولتوضيح المقصود بالثورة الثقافية، تلافياً لسوء الفهم، أعيد هنا المعنى المراد من هذا المصطلح: الثورة الثقافية هى الحركة المجتمعية الرافضة ذهنياً للتدهور العام، الهادفة إلى تغيير ما استقر فى المجتمع من أفكار عامة وأمور اعتقادية ورؤى كلية للكون، وهى تختلف عن الثورة السياسية التى تهدف إلى إعلان الرفض للسلطة القائمة، وتسعى إلى تغيير «النظام» بإسقاطه وتبديله بشكل عنيف من الثائرين، يصادمه شكل قمعى أعنف من النظام السياسى القائم.. والثورة الثقافية لا تنطوى بالضرورة على الصخب والعنف والعنف المضاد، وغير ذلك من سمات الثورات السياسية وحركات التحرر، بل هى تحتاج الهدوء وإمعان النظر والمراجعة الرصينة للأفكار والمفاهيم العامة الكبرى والمفاهيم السائدة فى المجتمع، والجرأة على إعادة النظر فيها لاستبقاء الصالح وتحطيم الطالح.. حتى لو كان الطالح مرتبطاً بمصالح قوى وجماعات مؤثرة.
هذا هو المفهوم المحدد للثورة الثقافية، ولا عبرة هنا بعمليات التشويه المتعمد لهذا المفهوم، مثلما جرى فى الصين وإيران سابقاً تحت اسم «الثورة الثقافية»، بينما كان المراد هو قمع المخالفين واقتلاع المعارضة السياسية من جذورها!
ومثلما جرى مؤخراً فى مصر، حين دعا الرئيس إلى «ثورة دينية» فاهتاج جماعة وهاجموا الرموز الدينية وسخروا منها، بحدة، وهو ما أودى بمصير هؤلاء الثائرين وألقى ببعضهم فى غيابة السجن المذل الذى كلما أُلقم شخصاً قال: هل من مزيد! ومثلما حدث حين تمَّ إجهاض الجانب الثقافى من ثورة يناير 2011 فتحولت الثورة إلى فورة سرعان ما فقدت البوصلة وصارت تثير الحسرة، حسبما أوضحت فى كتابى «فقه الثورة» وفى الكتاب المشار إليه فى بداية هذه المقالة.
■ ■ ■
وإعادة بناء المفاهيم العامة والتصورات الأساسية المستقرة فى أذهان الناس، هى إحدى الدعامات الأساسية التى تقوم عليها الثورة الثقافية.. وقد يعترض بعضهم قبل أن يستكمل النظر فى بقية هذا الكلام، قائلاً: ومن الذى قال أصلاً إننا بحاجة لثورة ثقافية، وحتى مفهوم «الثورة» فى حد ذاته قد صار كريهاً عند الناس، فما عادوا يحتملون سماع هذه الكلمة أساساً، بعدما دمرت الثورات العربية البلاد التى اشتعلت فيها، فضاعت سوريا وليبيا واليمن، وأفلتت تونس ومصر من الانهيار بأعجوبة، فكيف نفكر ثانية فى ثورات؟
ولهذا المعترض نقول: اعتراضك يرد عليه الدليل الذى أوردته، لأن الذى اندلع فى البلاد العربية قبل خمس سنوات هو ثورات سياسية لا ثقافية، والبلاد التى انهارت لم تسقطها الثورات، وإنما الجماعات الدينية المسلحة التى استغلت لحظة الارتجاج والفراغ السلطوى المؤقت، فسارعت إلى نشر فوضاها أملاً فى السيطرة السياسية تحت الراية المخادعة المسماة «إحياء الخلافة الإسلامية»، ولم يستطع أهل البلاد التى تدهورت أحوالها، مواجهة هذه الهجمة الشرسة لضعف القشرة الفكرية والثقافية فى هذه البلاد، بسبب حرص حكامها «القذافى، الأسد الأب، صالح الطالح» على تفريغ بلادهم من عناصر التثقيف العام وقمع الكتاب والمفكرين والفنانين الذين يحفظون الشعلة الثقافية متوهجة. وبالعكس، كان بمصر وتونس قبص من وهج الإبداع ومن الإنتاج الثقافى المتنوع، ومن القدرة على التفكير النقدى والعقلانى، وبقدر حضور ذلك فى البلدين كان قدر انفلاتهما من الانهيار.. لو لم تكن الحالة الثقافية فى مصر مقبولة نسبياً، لما كان بمستطاع المصريين أن يواجهوا حالة الاضطراب العام والتقافز على الكراسى السلطوية، ولكانوا قد استسلموا بسرعة لغياب القدرة على مواجهة العواصف العنيفة التى هبت على بلادهم «ولاتزال تهب، لكن معظم الناس لا ينتبهون» ناهيك عن أن الثورة الثقافية، بما تشتمل عليه من ضرورة إعادة النظر فى المفاهيم والتصورات، ليست كمثيلتها السياسية، فهى لا تتم بالخروج إلى الشوارع والميادين بالهتافات المنذرة بالصدامات، وإنما تكون بالدخول العقلانى الهادئ فى عمق التكوينات الفكرية وأنماط المعتقدات الموروثة، لنفض الغبار عنها وطرح الطالح منها واستبقاء الصالح وتطويره.. الثورة الثقافية عمل معرفى جسور، يجرؤ على مواجهة المستقر الشائع الذى ثبتت بلادته وعدم ملاءمته للواقع الجديد.. الثورة السياسية تهدم، آملة فى أن يعاد البناء يوماً من جديد، لأنها ترى الواقع السياسى هو الأسوأ وأياً ما كان الذى سيحل محله، فهو أفضل منه، ومن هنا تجرى بعد الثورات السياسية الويلات. أما الثورة الثقافية فهى تنطلق أصلاً من اعتزاز بالانتماء إلى الواقع الثقافى العام، ومن عدم الانسلاخ عنه بدنياً بالهجرة وذهنياً بالاغتراب والانزواء.. الثورة الثقافية تقوم على أكتاف الكتاب والمفكرين والفنانين الملتزمين تجاه المجتمع، مثلما هم ملتزمون بمعاناة الإبداع فى مجالاتهم، وهؤلاء فى العادة لا يصخبون فى العلن، وإنما يعكفون على بناء الفكر وتأسيس الرؤى وتطوير وسائل التفكير، بهدوء، ثم يؤدى ذلك بشكل تلقائى إلى إزاحة البالى من الأفكار العامة، والمشوه والمغلوط والملعوب به.. وبالتالى، فالثورة الثقافية تبدأ بالبناء وليس الهدم.
وقد يأتى معترض ثان، فيقول: هذا كله تنظير وتهويمات غير مفهومة من شأنها تشتيت التركيز، فى وقت يواجه فيه المجتمع عدة تحديات أهمها ضعف الاقتصاد وغلاء الأسعار وبلاء الإرهاب والتطرف، بالإضافة إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية وتزايد المؤامرات الخارجية وحروب الجيل الرابع والأربعين، والخامس والخمسين!
ولهذا المعترض نقول إن كثرة المشكلات وتفاقمها، دليل على أن المعالجة الجزئية والغرق فى التفاصيل، نهج بائس، وقد جربنا خلال الستين سنة الماضية طريقة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» فكانت النتيجة أننا قمعنا كل الأصوات وأسكتناها، وخسرنا المعركة ومعها مستوى التعليم ومنظومة القيم الاجتماعية والمكانة المرموقة التى كانت لمصر فى منتصف القرن العشرين، وأضاعها سعار السلطة الذى سلب ألباب مجموعة الشباب الذين كانوا يسمون «الضباط الأحرار» جداً، فجثموا متعاقبين على قلب البلاد حتى تساقطت أوراقهم الخريفية شيوخاً فى أراذل الأعمار بعدما أتوا بأراذل الأعمال، ولم يكن من الممكن محاسبة أحد منهم أو إنقاذه من هوسه الشخصى وتشبثه بالكرسى الجالب للهمّ والمسبب له، لا مناص إذن من رؤية كلية للواقع والمستقبل، وإطار عام له طابع «استراتيجى» وليس تكتيكياً، ومنظومة فكرية تعلو فوق التفاصيل فتدرك الصورة الإجمالية المركبة، يعنى، لابد من نظام إدراكى جديد يناسب الواقع المتجدد، وهذا لا يمكن عمله بآليات التفكير البالية، ولا مفر من الوصول إليه عبر ثورة ثقافية تعيد بناء المفاهيم والتصورات الكلية أولاً، ثم تعالج التفاصيل بالعلاج المناسب لها وليس بإسكات الأصوات وإعلاء راية «المعركة» فقط.
وقد يأتى معترض من هؤلاء الذين راجت تجارتهم فى الآونة الأخيرة، فيزعق بما معناه: إن هذه الدعوة لإعادة بناء المفاهيم العامة، وللثورة الثقافية بكل مشتملاتها وركائزها، هى مجرد حيلة أخرى خبيثة لهدم البلاد ومحاولة لتنفيذ «أجندة» خفية تخدم المصالح الصهيونية والأغراض الغربية المشبوهة.. و.. وإلى آخر مثل هذه الأقاويل الشوهاء.
وهذا المعترض لا يجب الرد عليه أصلاً، ولا يليق به إلا التجاهل والإهمال، لاسيما أن هؤلاء المخبرين عن النوايا، مخبرون فى الغالب، وقد وقع فى شباكهم كثيرون اشتبكوا معهم فضاعت عليهم فرصة تطوير الأفكار التى طرحوها، فتمَّ تمزيقها وتشويههم، ومادام هؤلاء المعترضون، وبالأحرى: المهللون، يخرجون عن الموضوع الأصلى إلى الكلام عن النوايا وعن الضمائر وعن الأغراض الخفية، باحثين وهم التفهاء عمن هم أكثر تفاهة منهم، ليصدقوا كلامهم الفارغ من المضمون، فليكن سؤالنا للواحد منهم: أخبرنا بما قدمته أنت، أولاً، حتى يجوز لك انتقاد القاصى والدانى كأنك حامى الحمى! وأين كنت من قبل، وما الذى تعلمته أو علمته أو شاركت فيه قبل أن تنصّب نفسك قاضياً وجلاداً..
■ ■ ■
وعملية «إعادة البناء» هذه على الرغم من أهميتها، فإنها محفوفة بمخاطر عديدة لابد من الانتباه إليها، أن كل طرح جديد لمسألة كبرى، هو فى واقع الأمر اجتهاد عقلانى لا يزعم لنفسه اليقين التام، ولا ينطلق من المزاعم المسماة بادعاء كاذب «الأصول الراسخة» مع أنها هى التى رسخت بنا فى قاع العالم، ولا من «الحق المطلق» الذى أثبتت تجارب الأمم أنه زعم مزيف، ولا من «الإنابة عن الله» حسبما يدعى كثيرون ممن أطلقوا اللحى وظنوا أن غاية الدين ومنتهاه هى حف الشوارب، ولا بأس عندهم مع ذلك من إطلاق الشهوات الغريزية إلى سقفها الأعلى وخداع الناس ونكاح الصغيرات وقتل المخالف إذا ما وجدوا إلى قتله سبيلاً، فإن لم يتيسر ذلك لهم اتهموه فى عقيدته وفى عقله وفى وطنيته، كأنهم حراس العقيدة والعقلانية والأوطان، وما هم بالحقيقة إلا انتهازيون يلعبون بالقيم المطلقة فى ميدان الأغراض المؤقتة، بلا خجل ولا وجل ولا كتاب مبين.
وإعادة بناء المفاهيم العامة لا تندرج تحت بند تحليل الأحداث الجارية والأخبار المتضاربة التى يزخر بها واقعنا، وإنما تنبع من الرؤية الكلية للواقع ومن طرح الأسئلة الكبرى الركيزية التى تصعد من التفصيلات والجزئيات إلى العمومى الشامل، فمن هذه الأسئلة مثلاً: لماذا تدهورت لغة التعامل اليومى وقصرت عن التعبير بدقة عن المعانى؟ بل انقلبت دلالة المفردات حتى صارت تعنى المعنى المضاد، على النحو الذى طرحناه سابقاً فى كتابات عديدة ومناسبات متنوعة، فإن كانت اللغة هى وعاء الفكر، فكيف يمكن للفكر الجمعى والعقل العام أن يتطور بأوعية صدئة مترهلة الدلالة؟.. لماذا انهارت منظومة القيم فى مجتمعنا، فأمست «الفهلوة» بديلاً عن الإتقان، وصارت «الوصولية» مكان الالتزام، وسادت «السفاهة» فى مواضع الجدية، فكيف يمكن أن ينضبط السلوك العام إذا كانت الأفكار المحركة له فى حالة فوضى؟.. لماذا صارت مصر بلداً طارداً لأهله يحلم الواحد منهم بالهجرة الدائمة أو المؤقتة، مع أنها كانت حتى منتصف القرن الماضى موطن جذب للأجانب الذين كانوا يفدون إليها للعمل أو الاستقرار، وطالما سكنها آنذاك إيطاليون ويونانيون وإسبان وفرنسيون، فإذا بها فى منعطف تاريخى حاد تتحول من موطن جذب إلى جهة طرد؟.. لماذا لم يحصل مصرى يعمل فى مصر على جائزة نوبل فى العلوم، مع أن الواقع العلمى فى الأربعينيات من القرن الماضى وفى بداية الخمسينيات كان يبشِّـر بذلك، ولماذا لم يحصل فيلم مصرى على جائزة «أوسكار» واحدة، مع أن صناعة السينما بدأت فى مصر قبل عدة بلاد أوروبية ومع أهم البلاد الأوروبية؟.. لماذا انهار التعليم فى مصر؟.. لماذا تم تجنيد البلاد عدة عقود من أجل تنمية قدراتها العسكرية وتحرير فلسطين ومعارضة القوى الدولية وتحقيق الوحدة العربية، ومرت السنوات الطوال العجاف على الناس وأكلت قلوب ثلاثة أجيال، ولم تتحقق الوحدة العربية ولم نثبت أمام القوى الدولية ولم نحرر فلسطين، ولم نشكل جيشاً عربياً موحداً مرهوب القدرة العسكرية.. وبشكل عام: لماذا صرنا فى العين الحمئة!
■ ■ ■
وفى عملية إعادة البناء اجتهاد ومجاهدة ضد مصالح الراسخين فى القاع، مستمتعين، ولذا فهى تحتاج صبراً طويلاً واحتمالاً لا محدوداً، لأن هؤلاء لن يرضوا بالتنازل عن مكاسبهم الشخصية ومصالحم المحدودة لصالح ارتقاء المجتمع بأفراده أجمعين، أو نهضة البلاد بأهلها مجتمعين، ففى الوضع السائد المتدهور وجد هؤلاء لأنفسهم مكاناً ومكانة، لأن يأمنوا أن يجدوا مثلها إذا تغيرت الأحوال، ومن هنا فهم يدعمون بقوة فكرة الثبات والاستقرار «الخادع» ويعلقون آمال غيرهم على مشجب رخو وأمنيات فضفاضة، عبر زرع بذور الأوهام فى نفوس الناس وإقناعهم بأن الفرج قريب ولا منطق له، وبأن «المخلِّص» سوف يأتى مهما طال انتظاره، وبأن الأدعية تفعل دون الحاجة لبذل الجهد فى العمل، وبأن الكرم السماوى لا محدود لمن يحتمون من اللصوص بالنصوص.
وتمييز هذه المجموعة الرديئة عن بقية الناس، سهل ميسور، ولا يحتاج جهداً لاكتشافهم وكشفهم، لأنهم مكشوفون، ففى الوقت الذى تجد فيه معظم الناس يشتكون سوء الحال والمآل، ويعانون، نرى هذه القلة تميل بطبعها ومن أجل الحفاظ على مصالحها، لكل حاكم مهما كان، وهم يحذِّرون دوماً من المصير البائس ولا يقيسون أبداً على المصائر السعيدة! يقولون لا نريد أن نكون مثل سوريا وليبيا واليمن، ولا يقولون نريد أن نكون مثل الدول المتقدمة، يعلنون شعارات جوفاء فاقدة المعنى، من نوع «أنا أو الفوضى» وعلى قاعدة «مصر مستهدفة» مؤكدين أنه «ليس فى الإمكان أفضل مما كان».. إلى آخر هذه الدعاوى المكشوفة التى لا تصمد أمام أى نقد، ولا تقود إلا إلى التدهور العام.
وعندما يستشعر هؤلاء الخطر على أنفسهم، ومصالحهم الشخصية، بسبب السعى إلى اكتشاف جذور المشكلات التى يعانى منها المجتمع، أو حين تطرح أسئلة كبرى لا تقتصر على الوقائع اليومية ومجريات الأمور، أو عندما ننوى إعادة بناء المفاهيم، يلجأون إلى أبخس الحيل لإجهاض تلك المحاولات، ولديهم قائمة طويلة من الاتهامات الجاهزة للانطباق وللأخذ بخناق كل من يجرؤ على التفكير بشكل مختلف أو الكلام بلغة مبتكرة، فيسارعون بقذفه بما لا حصر له من اتهامات فيستنفد طاقته فى الرد عليهم ورد اتهامهم له بأنه: ملحد، علمانى، صهيونى، ماسونى، فرعونى. كائن فضائى.. إلخ، وليس المهم عندهم صدق الاتهام وإنما قدرته على شغل عوام الناس به لإشغالهم عن الفكرة المطروحة أو جدوى إعادة النظر فى هذه المسألة الأساسية أو تلك، وقد رأينا مؤخراً كيف واجهوا الممثل السينمائى الذى انتقد رئيس الجمهورية، بأنه شاذ جنسياً! دون اهتمام ببيان الصلة بين الرأى الذى طرحه، والاتهام الذى وجهوه إليه، فإن قلنا إن علينا إعادة النظر فى القضية الفلسطينية وطرحها بشكل يفهمه العالم المعاصر، بعيداً عن أوهام القداسة والحماس الدينى الأهوج، واجهوا ذلك لا بالمناقشة الهادئة للأفكار المطروحة وإنما بالاتهامات المجانية بالعمالة والصهينة والسعى للكسب المادى.. والمفارقة هنا تكمن فى أن هذه التهم الفضفاضة تليق بهم أكثر من غيرهم! فهم الذين لا يمانعون أن تشتعل الحرائق بمصر إن كان ذلك مُرْضِـياً لدويلة خليجية حقيرة تغدق عليهم الأموال، وهم الذين ضللوا العباد بالدعاوى الباطلة حتى استقوت إسرائيل وصارت ذا شأن ملموس، لكنهم يصرون على إنكاره كأن الإنكار سوف يلغى الواقع، وهم الذين يسعون للكسب المادى، مهما كان مصدره «حتى لو كانت تبرعات الفقراء» ومهما كان المقابل، وقد رأينا من أمثالهم الكثير مما لا يقبله عقل ولا شرع ولا دين.
■ ■ ■
وأخيراً، فإن إعادة بناء المفاهيم «وبقية مسارات الثورة الثقافية: الارتقاء باللغة، التثقيف العام، بعث منظومة القيم» لا تتوقف أهميتها على كونها شرطاً ضرورياً لتطور المجتمع وتلافى الآثار السلبية لتدهور مستوى التعليم والإعلام والمؤسسات الثقافية الحكومية، فحسب، وإنما تلعب دوراً حيوياً فى مواجهة هوس الإرهاب وخطر التطرف الدينى، لأنها تقتلع الجذور الخبيثة لهذا النبت الشيطانى الذى ينمو سريعاً فى غيبة العقلانية والمنطق، وسرعان ما يبحث عن الأسلحة والمتفجرات التى تقتل الأبرياء وتشعل الحرائق لإحراج الحكومات، فتوجد الحجة لمصادرة الحريات وقمع المعارضة، بدعوى أن الحكومة فى حرب ضد الإرهاب، فيؤدى القمع إلى مزيد من هوس الإرهاب وخطر التطرف المحرج للحكومات، فتقوى الحجة الحكومية المبررة لمصادرة الحريات وقمع المعارضة بدعوى الحرب ضد الإرهاب، فيؤدى القمع إلى مزيد من هوس الإرهاب.. وهكذا تدور إلى ما لا نهاية هذه الدائرة الجهنمية المفرغة من المعنى، ومن المنطق، ومن ضرورة النظر نحو المستقبل.
د. يوسف زيدان
المصري اليوم..
الثلاثاء 05-04-2016
Mohamed Abo Zaid
إعادة بناء المفاهيم العامة د. يوسف زيدان المصري اليوم.. الثلاثاء 05-04-2016 فى آخر الفصل الأخير من كتابى الصادر مؤخراً تحت عنوان «شجون مصرية» ختمت كلامى بالعبارة التالية: وعلى الرغم من كل ما سبق...