أمام الخراب الذي يعانيه العالم يخجل أن يتحدث عنها. كثيرًا ما يكره رومانسيته، يراها خيبة كبرى، ويراهن على صلابته في مواجهة أمواج الهم المحيطة به. عليه أن يقف على قدمين برأس مغروسة على كتفيه فوق أرض صلبة. لكن بجعة أحلامه تلك لا تنازله إلا فوق رمال متحركة. هي تستطيع الطيران بجناحين مفرودين للريح.. وهو عليه أن يقاوم كي لا يضحى وليمة لتلك الرمال. من قال إن الحياة عادلة، أو القلوب؟
لسبب بعينه يكره رومانسيته، يراها هروبًا ورديًا لا يليق برجولته ولا بتاريخه. هو صاحب البطولة في كل قصة مع جميلة، وصاحب الكلمة الأخيرة فيها أيضًا.. دائمًا. وحدث أن خرج بعظام مكسورة من غزوة من دون ألم، مزهوًا بآثار الانتصار العاطفي على جسده. لكنه يخرج اليوم بقلب مكسور من غزوة خاسرة وهذا جديد عليه. جديد عليه أيضًا كل ذلك الألم.
فرغم كل حبيباته السابقات، لم يحدث أن فكر في الحب. لماذا يفكر فيه الآن؟
(في جدال داخلي مع نفسه)
غريب أن ينجو الحب من كل الكوارث التي حاقت بالبشر منذ أن كانوا يعمرون الغاب والكهوف من دون أن يتعلم الإنسان في تاريخه الطويل معه كيف ينجو منه؟
هب أنك لم تنج، ذلك لا يجعل من قصتك شيئًا خارقًا يستحق الذكر؟
ما الذي تساويه أنت في توتر القصص؟ قل لي.
بل إن قصتك التي تدّعي لم تبدأ، لتعلن حدادك على انتهائها.
الحب قرار مشترك بين اثنين بحرق المركب الوحيد الذي يحملهما في عرض المحيط. حالة من البقاء يحققها اقتيات كل واحد من الآخر، اقتيات متبادل تتوقف عليه حياة الاثنين. إنه جنون يعي صاحباه بأنه سيقودهما إلى حتفهما المشتهى.
وتقول قصتك؟
هل تعلم أن خسارة غادة السمان كانت بالنسبة لغسان كنفاني تساوي تمامًا خسارة فلسطين؟ هل جلدت نفسك بالغربة تلو الغربة كما فعل جبران انتظارًا للقاء حبيبة من دون أن يحدث يومًا؟ ذاك الانتظار كان الوطن الذي عاش فيه ومي زيادة يمنيان نفسيهما بلقاء. وماتا ولم يلتقيا... ماتا عاشقين.
-2-
هل ضحيت بأمك وعشيرتك ووطنك من أجل حبيب لا تعرف حتى إن كان يستحق تضحياتك كما فعلت تلك الصغيرة اليمينة هدى ذات عام؟ ما دمت لم تفعل، فلا تملأ فراغ هذه الأوراق هراء... كل ما تتحدث عنه هو وهم الحب وليس الحب. أنت لست عاشقًا، أنت نصف عاشق يوصي الشعراء بعدم مجالسته.
اقرأ كثيرا لتفهم أن موضعك في خارطة الحب لا يذكر.
حسن، ربما أن لحظات جلد الذات هذه فيها كثير من الصدق. وقد تكفيك لإسكات حاجتك القاتلة إليها. لو كان ما تشعر به وهمًا، فصلِ أن تكون خشيتك من الاشتياق حتى لقسوتها وهمًا. وأن أكبر وهم هو ذعرك من أنك إذا خسرتها ستخسر أجمل ما فيك... هي.
(صوت الغائب)
هو يعلم أنه يعيش في أقل الأزمنة تمسكًا بالحب أو اعترافًا به أو حتى بجدواه. ويعلم أن ذلك لم يغيّر في الأمر شيئًا... "الحب كده" وسيظل. ويفكر مروحًا عن نفسه أو مثقلاً عليها، هل يعقل أن يتعرض الإنسان الذي انقرضت كثير من الكائنات على يده إلى الانقراض على يد الحب؟
تبًا...
يغضبه اليوم الحديث عن تلك المرأة، ويريد العودة إلى حيث كان قبل أن يصاب بها. كان دائمًا قريبًا من الناس ومن مآسيهم. يوجعه همّ الأوطان، يغضبه الظلم، ولا يؤمن بشيء مثل مقاومة القهر.
يعشق الحرية إلى درجة أنه كثيرًا ما قال لو كانت الحرية أجمل نساء الأرض ولا تتمنى غيري لما تزوجتها كي لا أقيدها. لكنه اليوم وعلى عكس عقيدته، يتمسك بقهر تلك الأنثى وها هو يحلم بالبقاء معها على حساب حريته.
البقاء معها، ولو قليلاً...
الجلوس إليها للحديث عن الانتخابات والمظاهرات وكُتاب ماء الورد والبوهيميين من أمثاله، وشرب قهوة لا يهتم أن تكون بلا سكر في مكان لا يعنيه وبين أناس لا ينظر إليهم. بل لن ينظر حتى إليها وهو يكلمها فيما لن يتذكر أن يسأل نفسه إن كانت حقًا جميلة، وأين يقع مركز جاذبيتها، وبأي ذراع تحكم ملكوتها الهادئ. لن يسأل نفسه الأسئلة المتأخرة التي لم يطرحها على نفسه عندما أصيب بها.
وربما لن يقول شيئًا، سيتركها تتكلم وتتكلم وتتعرى أمامه كآلهة منقوشة على لوحة غوغان. ومن دون أن تشعر تكشف له عما تحبه في العالم وما تكرهه، ما يحزنها وما يسعدها، ما يهمها وما لا يهمها.
أشياء هكذا تشي بمفاتيح روحها فيقبضها ويخبئها ويستمتع بفتح كل باب من أبوابها مستقبلاً.
3-
فتسقط أمامه مدن المملكة مدينة تلو المدينة... يا للفتح! لكن ذلك لم يحدث ويشغله ما لم يحدث عن خبر سقوط معلولا الساحرة في يد الشيطان. يشعر بالذنب ويسأل نفسه كيف يجد الوقت والمبرر للتفرغ إلى التفكير بها؟ كيف يسمح له ضميره بغض بصره عن كل خسارات الكون للانشغال بخسارته هو؟
(جدل داخلي)
ضمير؟ ما علاقة الضمير بما أنت فيه؟ وهل هي جريمة أن تحاول رتق قلبك وشرايينك وروحك التي تنزف شوقًا إليها. ما الذي سيصيب العالم إذا أوقفت نزيفك؟... لا شيء عدا أنك ربما سترتاح. ثم من قال إنك المسيح المنذور لحمل خطايا البشر، والمعاناة نيابة عنهم؟ أنت رجل بقلب رجل، من حقه رغم كل العواصف والذبحات أن يحب امرأة.
لكن من سيفهمني وحبيبتي تلك بلا قلب، زئبقية المزاج والحضور، قابلة للتردد والشك لا استعداد عندها لإسعاد أحد. ومثلها هذا العالم، مشغول بمآسيه ولا قابلية عنده للتعاطف مع خسارتي، لذلك لن أعتد بعد اليوم بخسائره.
(صوت الغائب)
ها هي تتسبب في خسارة علاقته مع العالم الذي طالما اهتم به وتعاطف مع طيبيه وضعفائه وموهوبيه. يؤجل التأمل في كل ما فقد، بعد أن فقد شهية التفكير والكلام. من سيفهم رجلاً يحمل وجه حبيبته كقنبلة في الرأس، يكفي أن يحاول إزاحته أو النأي بتفكيره عنه لينفجر فيه.
(صوت المتكلم)
وكيف لي أن أدافع عني ضد أسلحتها التي أرفعها ضدي من دون حتى أن تعرف؟ فأمام كل صوت يشبه صوتها، وكل ضحكة تصهل حولي، وكل حركة أو سكون يشي بها، تتزلزل روحي وأسقط مغشيًا تحت حطام اللهفة الثقيل، الذي لا يمكن لشيء أن ينتشلني منه غير حضورها الغالي.
(صوت الغائب)
يعرف تمامًا أن لا أحد سيفهم حديثه هذا غيرها. وبرغم كل شيء، تبقى هي الوحيدة التي يمكنه ان يضع رأسه على صدرها ويقص لها قصتهما ويشكوها إليها فتسمع.
(صوت المخاطب)
ما الذي فعلته بك؟ هي تزهو في حدائق الغربة، وأنت تتسول فيها. هي تركب في طائرات الفرح، وأنت تهوي منها. هي لا تبالي بك، هي تسكنك.
-4-
يا لجوعك الذي حوّلها إلى رغيف حياتك. إنها غلطتك، وعبثًا تنتظر أن تصححها لك.
(صوت الغائب)
يهرب منها الآن، يركض كالمجنون، فتلاحقه ابتساماتها الساكنة في خلايا الروح. يتضور جوعًا إليها، يتعثر في حفر الشوق وهو يحاول مد خطاه بعيدا عنها، ثم ينهض محاولاً التماسك ومواصلة الركض. يستسلم لشياطين رغبته بالهرب إلى الكتب والسفر والأخريات، حتى الأخريات. لكن الأمل الأحمق بأن شيئًا قد يتحقق، يركض وراءه ويكاد يمسك به. وها هو ككل المهددين والمطاردين في هذا العالم، يسعى بكل حدس النجاة لديه إلى الإفلات. يمسك بزناد كبريائه الذي شده إلى خاصرته، يتحسسه ليتأكد من بقائه معه. فهو لا يريد بعد كل هذا الصمود أن يسقط أمامها باكيًا كطفل يقتله البرد والحر، صارخًا في وجهها، أريد دفئك يا باردة القلب!
انتبه أنه منذ أن عرفها ضاع منه صوته... لا يستطيع الصراخ أبدًا رغم حاجته إليه وربما لو صرخ لسقطت هي من حلقه!
"سأمشي الطريق الطويل.. إلى آخري".
تعب، إنه متعب كعائد من حرب، يبحث عن ملاذ يركن إليه ويحتمي فيه منها، فلا يجد غير العراء ككل المشردين في الأرض.
فكّر كثيرا في "ملتها"، كما يقول جزائري غاضب، ورأى أن الحل هو في التخلص منها. ذاك كان قراره "العسكري" الذي لا تراجع عن بطشه. والتخلص منها يعني أن تتحول بالنسبة إليه من صاحبة جلالة إلى عابرة سبيل في سوق أسبوعية. أن يتغير إيقاع حياته من ذبذبات حضورها وعدمية غيابها إلى النوم باكرًا وتسديد الفواتير وقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع جماهير كرة القدم.
أن تستعيد شعورك بالراحة المترهلة، وقدرتك على عدم الاكتراث بأحد. تنظر إلى كل من حولك كما تنظر إلى القطط والكلاب لا يفرق بينها إلا ألوانها وتوحشها وتوددها. كل ما تريده الآن هو التخلص منها.
جزيرة القطن تلك، ليتها تعلم كل الحياة التي نشرتها حولك وليتها اطلعت على الحديقة الأندلسية التي أنبتتها في قلبك. لكنها لن تعرف. وقد فوتت على نفسها فرصة أن تحظى برجل لا تقابله امرأة إلا مرة واحدة في العمر.
إنك تقول ذلك وأنت تعلم أن لحظات الدوار التي أصابتك بها كانت تستحق كل العمر الذي قضيته بانتظارها. هي لن تعرف شيئًا أيضًا عن كل المعجزات الصغيرة التي خبأتها في داخلك لها، ولن تعرف تاريخ عائلتك الممتد من نوميديا إلى إشبيليا.
هل تشفق عليها؟
منِّ نفسك بأنك هدية السماء إليها، فهي رغم كل شيء طيبة، وقلبها العنيد يظل في عينك كريستالاً يحرم عليك خدشه. ولقد حُرمتْ منك من دون أن يتسنى لها تقدير قيمتك، لسرّ سماوي لن تدركاه.
-5-
(صوت الغائب)
قرر إذن إنهاء مأساته بيده، فهو ليس أقل حزمًا من كل تلك الشعوب التي تمردت على القهر العربي. وربما يفتح خلاصه للعالم متسع أمل. يتسمر أمام قراره الحازم ذاك يقلبه ذات الشمال وذات اليمين؛ ترى ما الذي سيفعله به؟ وهل سأل نفسه إن كان تعيسًا وهو يعاني من ذلك الحب أم أنه كان سعيدًا؟ وأيهما أهم بالنسبة إليه؟ أن يعيش مرتاحًا كعجوز في التسعين ينتظر نهايته بسأم؟ أم أن يحيا متقلبًا بين النار والجليد؟
تمضي حياته عكس اتجاه الزمن، وها هي خلاياه تتجدد كل يوم ويدب الشباب ويتفتح في تقاسيم وجهه. كان دائمًا مزهوًا بوسامته وكم عول عليها للفت انتباه حبيبته... لكنها لم تكترث على غير عادة النساء معه. وعلى وقع الشك والغياب، عاش احتضاره الدافئ وشهقات حياة مؤلمة. ولم يحاول أن يسأل نفسه عما تريده، خوفًا من أن تعيده الأجوبة إلى رحم الحب بينما يريد هو أن يحقد عليها، ويحقد عليها بالقدر الذي يجعله لا يندم وهو يقطع حبل الود الذي يربطه بالناس. كانت هي حبل الود الذي يربطه بالناس. وقد لفه حول رقبته حتى لا تتخلى عنه فيسقط في الفراغ مرتطمًا بالكآبة والكآبة والكآبة.
سيندم...
هل يعقل أن يندم على كل قصيدة شعر كتبها؟ أو على تمرغه في حضن آلهة الغواية والوحي؟ هل يندم على تلك السعادة التي فاضت ولم يعد قلبه ولا روحه قادران على احتوائها، حتى أنه خاف من الموت بجلطة سعادة؟
(صوت المتكلم)
ليندم..
أيها الندم إلى الجحيم.. فلا ثمن لرأسي إن تدحرج عند قدميك غيرها، سيدة الرذاذ والرماد تلك
ولن أندم أني شغفت بها، ولن أندم أني بقراري وحدي أنهيت مأساتي، وقد تكون هذه آخر وردة أسفكها عليها. وقد تكون هذه آخر قبلة أنتزعها من ملائكة الشعر وجانه.
-6-
وقد تكون هذه مجازفتي الوحيدة المكشوفة معها، ليكن. ذاك قراري البربري الذي لن أتنازل عنه كما لم يتنازل أجدادي عن قرطاج. ضاعوا معها وفي سجونها بعد أن تمرغوا في حدائقها وأنهارها وملاعبها.
(صوت المخاطب)
لكن مهلاً، ألم يخطر ببالك أن التي تريد التخلص منها قد تكون قرطاج نفسها؟ تعويذة قديمة تكون قد بعثتها في جسد تلك الحبيبة؟ فتطرد نفسك من مدينة بهجتك ودلالك وعذابك العذب، وأنك بسبب مس الألم الذي يتخبطك قد تكون أخطأت القرار؟ "رودان" يفكر وينبهك أنك بعد نوبة السخرية تلك يجب أن تعود إلى صوابك. وها أنت تعود إلى صوابك. تعرف الحل لراحتك وستمضي فيه. وإذا تأملت الأمور جيدًا، تجد أنك تعرف جذور المشكلة جيدًا وتدرك امتداد فروعها. ها أنت تخطو خطواتك الأولى على الطريق الصحيح. لديك ما يكفي من الحماس والعزيمة والتعب والشعور بالإهانة. ستنتهي منها وتلغيها من حياتك إلى الأبد، وتولد من جديد قلبًا حرًا بجناحين متأهبين لغزو جميلة أخرى. أو ربما لن يكون قلبك المثقل، مستعدًا وسيختار راحة المحارب. لكن كيف؟
(صوت الغائب)
أفزعه السؤال. للتو اكتشف أنه متورط في ما يشبه الأزمات المعمرة في التاريخ، مشكلتها ليس الحل ولكن كيفية الوصول إليه. وعليه الآن أن يضع علامات قطع لقصته المعلقة.
يفكر "رودان" ثانية.
-7-
(صوت المتكلم)
لم يكن من شأن الحكمة أن يقتل سقراط نفسه، لماذا تريد أنت أن تفعل ذلك؟ إن الروح الميتة كالطاعون إذا أتى على مدينة أهلكها. لماذا عليك أن تهلك نفسك وتتخذ قرارات مبنية على استنتاجك وحدك. من قال إن الحقيقة وجه واحد نراه بعينين؟ إنها في أحيان كثيرة أوجه كثيرة لا تراها الأعين.
بدل الانسحاب قبل المعركة... واجه.
تقول العرافة إن الخوف من المشكلة أكبر من المشكلة نفسها. وإن الخوف من الموت أصعب من الموت. فقبل أن تضع سلاحك، ارفعه، وحين ترفعه، ستتبدد أمامك طواحين الهواء، ويشتد بصرك. قل لها ما قاله كل العشاق قبلك. فلست الأول في الطابور، وأسمعها، فقد تكون واقفة إلى جوارك فيه ولم ترها، بسبب الخوف من أن لا تكون هناك فيه معك. وربما حينها ستبدأ بكتابة قصة جديدة لكن بأربعة أيدٍ وقلبين.
*كاتبة من الجزائر تقيم في لندن
لسبب بعينه يكره رومانسيته، يراها هروبًا ورديًا لا يليق برجولته ولا بتاريخه. هو صاحب البطولة في كل قصة مع جميلة، وصاحب الكلمة الأخيرة فيها أيضًا.. دائمًا. وحدث أن خرج بعظام مكسورة من غزوة من دون ألم، مزهوًا بآثار الانتصار العاطفي على جسده. لكنه يخرج اليوم بقلب مكسور من غزوة خاسرة وهذا جديد عليه. جديد عليه أيضًا كل ذلك الألم.
فرغم كل حبيباته السابقات، لم يحدث أن فكر في الحب. لماذا يفكر فيه الآن؟
(في جدال داخلي مع نفسه)
غريب أن ينجو الحب من كل الكوارث التي حاقت بالبشر منذ أن كانوا يعمرون الغاب والكهوف من دون أن يتعلم الإنسان في تاريخه الطويل معه كيف ينجو منه؟
هب أنك لم تنج، ذلك لا يجعل من قصتك شيئًا خارقًا يستحق الذكر؟
ما الذي تساويه أنت في توتر القصص؟ قل لي.
بل إن قصتك التي تدّعي لم تبدأ، لتعلن حدادك على انتهائها.
الحب قرار مشترك بين اثنين بحرق المركب الوحيد الذي يحملهما في عرض المحيط. حالة من البقاء يحققها اقتيات كل واحد من الآخر، اقتيات متبادل تتوقف عليه حياة الاثنين. إنه جنون يعي صاحباه بأنه سيقودهما إلى حتفهما المشتهى.
وتقول قصتك؟
هل تعلم أن خسارة غادة السمان كانت بالنسبة لغسان كنفاني تساوي تمامًا خسارة فلسطين؟ هل جلدت نفسك بالغربة تلو الغربة كما فعل جبران انتظارًا للقاء حبيبة من دون أن يحدث يومًا؟ ذاك الانتظار كان الوطن الذي عاش فيه ومي زيادة يمنيان نفسيهما بلقاء. وماتا ولم يلتقيا... ماتا عاشقين.
-2-
هل ضحيت بأمك وعشيرتك ووطنك من أجل حبيب لا تعرف حتى إن كان يستحق تضحياتك كما فعلت تلك الصغيرة اليمينة هدى ذات عام؟ ما دمت لم تفعل، فلا تملأ فراغ هذه الأوراق هراء... كل ما تتحدث عنه هو وهم الحب وليس الحب. أنت لست عاشقًا، أنت نصف عاشق يوصي الشعراء بعدم مجالسته.
اقرأ كثيرا لتفهم أن موضعك في خارطة الحب لا يذكر.
حسن، ربما أن لحظات جلد الذات هذه فيها كثير من الصدق. وقد تكفيك لإسكات حاجتك القاتلة إليها. لو كان ما تشعر به وهمًا، فصلِ أن تكون خشيتك من الاشتياق حتى لقسوتها وهمًا. وأن أكبر وهم هو ذعرك من أنك إذا خسرتها ستخسر أجمل ما فيك... هي.
(صوت الغائب)
هو يعلم أنه يعيش في أقل الأزمنة تمسكًا بالحب أو اعترافًا به أو حتى بجدواه. ويعلم أن ذلك لم يغيّر في الأمر شيئًا... "الحب كده" وسيظل. ويفكر مروحًا عن نفسه أو مثقلاً عليها، هل يعقل أن يتعرض الإنسان الذي انقرضت كثير من الكائنات على يده إلى الانقراض على يد الحب؟
تبًا...
يغضبه اليوم الحديث عن تلك المرأة، ويريد العودة إلى حيث كان قبل أن يصاب بها. كان دائمًا قريبًا من الناس ومن مآسيهم. يوجعه همّ الأوطان، يغضبه الظلم، ولا يؤمن بشيء مثل مقاومة القهر.
يعشق الحرية إلى درجة أنه كثيرًا ما قال لو كانت الحرية أجمل نساء الأرض ولا تتمنى غيري لما تزوجتها كي لا أقيدها. لكنه اليوم وعلى عكس عقيدته، يتمسك بقهر تلك الأنثى وها هو يحلم بالبقاء معها على حساب حريته.
البقاء معها، ولو قليلاً...
الجلوس إليها للحديث عن الانتخابات والمظاهرات وكُتاب ماء الورد والبوهيميين من أمثاله، وشرب قهوة لا يهتم أن تكون بلا سكر في مكان لا يعنيه وبين أناس لا ينظر إليهم. بل لن ينظر حتى إليها وهو يكلمها فيما لن يتذكر أن يسأل نفسه إن كانت حقًا جميلة، وأين يقع مركز جاذبيتها، وبأي ذراع تحكم ملكوتها الهادئ. لن يسأل نفسه الأسئلة المتأخرة التي لم يطرحها على نفسه عندما أصيب بها.
وربما لن يقول شيئًا، سيتركها تتكلم وتتكلم وتتعرى أمامه كآلهة منقوشة على لوحة غوغان. ومن دون أن تشعر تكشف له عما تحبه في العالم وما تكرهه، ما يحزنها وما يسعدها، ما يهمها وما لا يهمها.
أشياء هكذا تشي بمفاتيح روحها فيقبضها ويخبئها ويستمتع بفتح كل باب من أبوابها مستقبلاً.
3-
فتسقط أمامه مدن المملكة مدينة تلو المدينة... يا للفتح! لكن ذلك لم يحدث ويشغله ما لم يحدث عن خبر سقوط معلولا الساحرة في يد الشيطان. يشعر بالذنب ويسأل نفسه كيف يجد الوقت والمبرر للتفرغ إلى التفكير بها؟ كيف يسمح له ضميره بغض بصره عن كل خسارات الكون للانشغال بخسارته هو؟
(جدل داخلي)
ضمير؟ ما علاقة الضمير بما أنت فيه؟ وهل هي جريمة أن تحاول رتق قلبك وشرايينك وروحك التي تنزف شوقًا إليها. ما الذي سيصيب العالم إذا أوقفت نزيفك؟... لا شيء عدا أنك ربما سترتاح. ثم من قال إنك المسيح المنذور لحمل خطايا البشر، والمعاناة نيابة عنهم؟ أنت رجل بقلب رجل، من حقه رغم كل العواصف والذبحات أن يحب امرأة.
لكن من سيفهمني وحبيبتي تلك بلا قلب، زئبقية المزاج والحضور، قابلة للتردد والشك لا استعداد عندها لإسعاد أحد. ومثلها هذا العالم، مشغول بمآسيه ولا قابلية عنده للتعاطف مع خسارتي، لذلك لن أعتد بعد اليوم بخسائره.
(صوت الغائب)
ها هي تتسبب في خسارة علاقته مع العالم الذي طالما اهتم به وتعاطف مع طيبيه وضعفائه وموهوبيه. يؤجل التأمل في كل ما فقد، بعد أن فقد شهية التفكير والكلام. من سيفهم رجلاً يحمل وجه حبيبته كقنبلة في الرأس، يكفي أن يحاول إزاحته أو النأي بتفكيره عنه لينفجر فيه.
(صوت المتكلم)
وكيف لي أن أدافع عني ضد أسلحتها التي أرفعها ضدي من دون حتى أن تعرف؟ فأمام كل صوت يشبه صوتها، وكل ضحكة تصهل حولي، وكل حركة أو سكون يشي بها، تتزلزل روحي وأسقط مغشيًا تحت حطام اللهفة الثقيل، الذي لا يمكن لشيء أن ينتشلني منه غير حضورها الغالي.
(صوت الغائب)
يعرف تمامًا أن لا أحد سيفهم حديثه هذا غيرها. وبرغم كل شيء، تبقى هي الوحيدة التي يمكنه ان يضع رأسه على صدرها ويقص لها قصتهما ويشكوها إليها فتسمع.
(صوت المخاطب)
ما الذي فعلته بك؟ هي تزهو في حدائق الغربة، وأنت تتسول فيها. هي تركب في طائرات الفرح، وأنت تهوي منها. هي لا تبالي بك، هي تسكنك.
-4-
يا لجوعك الذي حوّلها إلى رغيف حياتك. إنها غلطتك، وعبثًا تنتظر أن تصححها لك.
(صوت الغائب)
يهرب منها الآن، يركض كالمجنون، فتلاحقه ابتساماتها الساكنة في خلايا الروح. يتضور جوعًا إليها، يتعثر في حفر الشوق وهو يحاول مد خطاه بعيدا عنها، ثم ينهض محاولاً التماسك ومواصلة الركض. يستسلم لشياطين رغبته بالهرب إلى الكتب والسفر والأخريات، حتى الأخريات. لكن الأمل الأحمق بأن شيئًا قد يتحقق، يركض وراءه ويكاد يمسك به. وها هو ككل المهددين والمطاردين في هذا العالم، يسعى بكل حدس النجاة لديه إلى الإفلات. يمسك بزناد كبريائه الذي شده إلى خاصرته، يتحسسه ليتأكد من بقائه معه. فهو لا يريد بعد كل هذا الصمود أن يسقط أمامها باكيًا كطفل يقتله البرد والحر، صارخًا في وجهها، أريد دفئك يا باردة القلب!
انتبه أنه منذ أن عرفها ضاع منه صوته... لا يستطيع الصراخ أبدًا رغم حاجته إليه وربما لو صرخ لسقطت هي من حلقه!
"سأمشي الطريق الطويل.. إلى آخري".
تعب، إنه متعب كعائد من حرب، يبحث عن ملاذ يركن إليه ويحتمي فيه منها، فلا يجد غير العراء ككل المشردين في الأرض.
فكّر كثيرا في "ملتها"، كما يقول جزائري غاضب، ورأى أن الحل هو في التخلص منها. ذاك كان قراره "العسكري" الذي لا تراجع عن بطشه. والتخلص منها يعني أن تتحول بالنسبة إليه من صاحبة جلالة إلى عابرة سبيل في سوق أسبوعية. أن يتغير إيقاع حياته من ذبذبات حضورها وعدمية غيابها إلى النوم باكرًا وتسديد الفواتير وقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع جماهير كرة القدم.
أن تستعيد شعورك بالراحة المترهلة، وقدرتك على عدم الاكتراث بأحد. تنظر إلى كل من حولك كما تنظر إلى القطط والكلاب لا يفرق بينها إلا ألوانها وتوحشها وتوددها. كل ما تريده الآن هو التخلص منها.
جزيرة القطن تلك، ليتها تعلم كل الحياة التي نشرتها حولك وليتها اطلعت على الحديقة الأندلسية التي أنبتتها في قلبك. لكنها لن تعرف. وقد فوتت على نفسها فرصة أن تحظى برجل لا تقابله امرأة إلا مرة واحدة في العمر.
إنك تقول ذلك وأنت تعلم أن لحظات الدوار التي أصابتك بها كانت تستحق كل العمر الذي قضيته بانتظارها. هي لن تعرف شيئًا أيضًا عن كل المعجزات الصغيرة التي خبأتها في داخلك لها، ولن تعرف تاريخ عائلتك الممتد من نوميديا إلى إشبيليا.
هل تشفق عليها؟
منِّ نفسك بأنك هدية السماء إليها، فهي رغم كل شيء طيبة، وقلبها العنيد يظل في عينك كريستالاً يحرم عليك خدشه. ولقد حُرمتْ منك من دون أن يتسنى لها تقدير قيمتك، لسرّ سماوي لن تدركاه.
-5-
(صوت الغائب)
قرر إذن إنهاء مأساته بيده، فهو ليس أقل حزمًا من كل تلك الشعوب التي تمردت على القهر العربي. وربما يفتح خلاصه للعالم متسع أمل. يتسمر أمام قراره الحازم ذاك يقلبه ذات الشمال وذات اليمين؛ ترى ما الذي سيفعله به؟ وهل سأل نفسه إن كان تعيسًا وهو يعاني من ذلك الحب أم أنه كان سعيدًا؟ وأيهما أهم بالنسبة إليه؟ أن يعيش مرتاحًا كعجوز في التسعين ينتظر نهايته بسأم؟ أم أن يحيا متقلبًا بين النار والجليد؟
تمضي حياته عكس اتجاه الزمن، وها هي خلاياه تتجدد كل يوم ويدب الشباب ويتفتح في تقاسيم وجهه. كان دائمًا مزهوًا بوسامته وكم عول عليها للفت انتباه حبيبته... لكنها لم تكترث على غير عادة النساء معه. وعلى وقع الشك والغياب، عاش احتضاره الدافئ وشهقات حياة مؤلمة. ولم يحاول أن يسأل نفسه عما تريده، خوفًا من أن تعيده الأجوبة إلى رحم الحب بينما يريد هو أن يحقد عليها، ويحقد عليها بالقدر الذي يجعله لا يندم وهو يقطع حبل الود الذي يربطه بالناس. كانت هي حبل الود الذي يربطه بالناس. وقد لفه حول رقبته حتى لا تتخلى عنه فيسقط في الفراغ مرتطمًا بالكآبة والكآبة والكآبة.
سيندم...
هل يعقل أن يندم على كل قصيدة شعر كتبها؟ أو على تمرغه في حضن آلهة الغواية والوحي؟ هل يندم على تلك السعادة التي فاضت ولم يعد قلبه ولا روحه قادران على احتوائها، حتى أنه خاف من الموت بجلطة سعادة؟
(صوت المتكلم)
ليندم..
أيها الندم إلى الجحيم.. فلا ثمن لرأسي إن تدحرج عند قدميك غيرها، سيدة الرذاذ والرماد تلك
ولن أندم أني شغفت بها، ولن أندم أني بقراري وحدي أنهيت مأساتي، وقد تكون هذه آخر وردة أسفكها عليها. وقد تكون هذه آخر قبلة أنتزعها من ملائكة الشعر وجانه.
-6-
وقد تكون هذه مجازفتي الوحيدة المكشوفة معها، ليكن. ذاك قراري البربري الذي لن أتنازل عنه كما لم يتنازل أجدادي عن قرطاج. ضاعوا معها وفي سجونها بعد أن تمرغوا في حدائقها وأنهارها وملاعبها.
(صوت المخاطب)
لكن مهلاً، ألم يخطر ببالك أن التي تريد التخلص منها قد تكون قرطاج نفسها؟ تعويذة قديمة تكون قد بعثتها في جسد تلك الحبيبة؟ فتطرد نفسك من مدينة بهجتك ودلالك وعذابك العذب، وأنك بسبب مس الألم الذي يتخبطك قد تكون أخطأت القرار؟ "رودان" يفكر وينبهك أنك بعد نوبة السخرية تلك يجب أن تعود إلى صوابك. وها أنت تعود إلى صوابك. تعرف الحل لراحتك وستمضي فيه. وإذا تأملت الأمور جيدًا، تجد أنك تعرف جذور المشكلة جيدًا وتدرك امتداد فروعها. ها أنت تخطو خطواتك الأولى على الطريق الصحيح. لديك ما يكفي من الحماس والعزيمة والتعب والشعور بالإهانة. ستنتهي منها وتلغيها من حياتك إلى الأبد، وتولد من جديد قلبًا حرًا بجناحين متأهبين لغزو جميلة أخرى. أو ربما لن يكون قلبك المثقل، مستعدًا وسيختار راحة المحارب. لكن كيف؟
(صوت الغائب)
أفزعه السؤال. للتو اكتشف أنه متورط في ما يشبه الأزمات المعمرة في التاريخ، مشكلتها ليس الحل ولكن كيفية الوصول إليه. وعليه الآن أن يضع علامات قطع لقصته المعلقة.
يفكر "رودان" ثانية.
-7-
(صوت المتكلم)
لم يكن من شأن الحكمة أن يقتل سقراط نفسه، لماذا تريد أنت أن تفعل ذلك؟ إن الروح الميتة كالطاعون إذا أتى على مدينة أهلكها. لماذا عليك أن تهلك نفسك وتتخذ قرارات مبنية على استنتاجك وحدك. من قال إن الحقيقة وجه واحد نراه بعينين؟ إنها في أحيان كثيرة أوجه كثيرة لا تراها الأعين.
بدل الانسحاب قبل المعركة... واجه.
تقول العرافة إن الخوف من المشكلة أكبر من المشكلة نفسها. وإن الخوف من الموت أصعب من الموت. فقبل أن تضع سلاحك، ارفعه، وحين ترفعه، ستتبدد أمامك طواحين الهواء، ويشتد بصرك. قل لها ما قاله كل العشاق قبلك. فلست الأول في الطابور، وأسمعها، فقد تكون واقفة إلى جوارك فيه ولم ترها، بسبب الخوف من أن لا تكون هناك فيه معك. وربما حينها ستبدأ بكتابة قصة جديدة لكن بأربعة أيدٍ وقلبين.
*كاتبة من الجزائر تقيم في لندن