منذ خمس وثلاثين سنة خلَت تمّ تعييني مُدرّسة بمنطقة ريفية نائية. فرحتي بالتعيين والدموع التي رأيتها في عيون والديّ وأخواتي ، أنستني المكان المجهول الذي سأذهب إليه وأنا شابة لم تكمل التاسعة عشر ربيعا. كنتُ الأولى التي تحصلت على الشهادة بل الوحيدة في قريتي الصغيرة . كان يوما مشهودا تعالت فيه زغاريد أمي وسط الحوْش وفي النهج الضيّق لمنزلنا ، كانت المرة الأولى التي تزغرد فيها منذ تزوجتْ ، وكذلك المرة الأولى التي تحَدّتْ فيها حَجْر العائلة ، بالخروج إلى الشارع وعلا صوتها بين نساء اعمامي وجدتي وكذلك الجيران ، لم اسمع طلاقة صوتها وثقتها بنفسها كما سمعتها ذاك اليوم كانت تقول : (حْزامْ البنات جابْ المُعلمات)
كانت كالذئبة المفترسة ، لَمعةُ عيونها وزغاريدها كمن عاد بنصر من حرب لم تتكافأ فيها فرص النجاة ، كيف لا وأمي خاضت الحرب النفسية لأكثر من عقد ونصف ، حرب السّلْفات والحَماة ، أمي التي لم يزدن فراشها بمولود ذكر طيلة تلك المدة ، تلك الحرب التي خاضتها حرمتني القُبلة الأولى لحَلمتيها ، نفرَتْ مني منذ الصرخة الأولى لي في هذه الدنيا حين بشّرتها القابلة بهذه الإشارة ( ) والتي تعني في تقاليدنا أن المولود أنثى ، لم تحضنّي ولم يتلوّث ثوبها بدم رحمها الذي انجبني بنتا.
كطفل الخطيئة، لم يطلقوا علي إسم كأي مولود جاء هذا العالم . اكتفوا بعبارات مبتورة ( جِيبْ الطُّفله، هِزْ الطفله) قيل لي ان جدتي من الأم هي التي سمّتني على اسم أمها ودعت الله ان أكون ( مْرا فحْلهْ) ، اما أبي فما كان يعنيه الإسم كثيرا، كان يحملني تحت جناحيه الى الجارة لترضعني مع ابنها.
لم أكن أتصور أن نجاحي سيُخرج أمي من صمتها ومن عزلتها ويجعل منها إمرأة تُكسر كل القيود العائلية وتصرخ ملء صوتها و تفتخر بما جاد رحمها . أمي التي يئست من سماع الزغاريد في منزلنا جادت بما لديها من قطع نقدية لبائع الدجاج الذي يزور قريتنا كل سوق اسبوعية وطمعت في كرمه أن ينادي بمضخّم الصوت الذي يُشهر به فراريجه الاصطناعية ( الفرّوجْ بدينارْ) ان يقول ( بنت تونس العرقوبية نجحت مُعلمة) ، أمي التي ظلت تربي الخرفان وتُسرف في تعليفها كلما شعرت بأعراض حملٍ، تنذرها خالصة (لسيدي مهدي وسيدي عبد القادر وامّهْ خوله) لو انها أنجبت ولدا ، خمسة عشر حولا وامي تُربّي الخرفان الذكور نَذْرا لله والأولياء الصالحين . ذاك الكبش تُحوّل وجهته إلى زريبة عمي مع الصرخة الأولى لوضع أمي مولودها . المضحك أن أكباش أمي كانت هي من تنكحُ نِعاجَ أعمامي ونعاج العمدة ، لم تكن نعاجهم تلد ذكور الخرفان كما تلد نساؤهم الذكور . وحدها نعجةُ أمي تلد الفُحُولُ . فرحة امي بنجاحي أنفقت فيها كل ما لديها واكتفت بفرّوجين أبيضيْن سمينين ، محقونين جعلتهما وليمة نجاحي ، فرحتها ما كانت بنفس الوقع الذي رأيته في عيون أبي الذي كان يقف شامخا ودخان سجائره يصاعد مع فرحه إلى سماء عادلة . أبي الوحيد آمن بي وبقدراتي على النجاح وسط مجتمع رفض ان يعطيني اسما ويلبيني تلك اللبنة الأولى حيث كانت جدتي تقول ( خْسَارِةْ حْليبْ البِكْراتْ في البْناتْ) ، أبي كان أكثر كرما من أمي ذبح الخروف الوحيد الباقي بزريبتنا وقسّمه حِصَصًا متساوية ثم دعاني ان أكتب أسماء الجيران على أوراق صغيرة وطلب مني أن أضع كل ورقة على كل حصة لحم.
فرح ابي كان قسمة عادلة أما فرح أمي فكان طائرا خفيفا كذاك الريش الذي عصفت به الرياح بعد السّلخ فعانق السماء . أبي ذبح الفحْل الباقي الشيء الوحيد المشترك بين فرحة ابي وفرحة أمي هو الدّمُ الذي تشرّبته عتبة الحَوْشِ ليتسرّب إلى باقي البيوت.
زينة المدوري
كانت كالذئبة المفترسة ، لَمعةُ عيونها وزغاريدها كمن عاد بنصر من حرب لم تتكافأ فيها فرص النجاة ، كيف لا وأمي خاضت الحرب النفسية لأكثر من عقد ونصف ، حرب السّلْفات والحَماة ، أمي التي لم يزدن فراشها بمولود ذكر طيلة تلك المدة ، تلك الحرب التي خاضتها حرمتني القُبلة الأولى لحَلمتيها ، نفرَتْ مني منذ الصرخة الأولى لي في هذه الدنيا حين بشّرتها القابلة بهذه الإشارة (
كطفل الخطيئة، لم يطلقوا علي إسم كأي مولود جاء هذا العالم . اكتفوا بعبارات مبتورة ( جِيبْ الطُّفله، هِزْ الطفله) قيل لي ان جدتي من الأم هي التي سمّتني على اسم أمها ودعت الله ان أكون ( مْرا فحْلهْ) ، اما أبي فما كان يعنيه الإسم كثيرا، كان يحملني تحت جناحيه الى الجارة لترضعني مع ابنها.
لم أكن أتصور أن نجاحي سيُخرج أمي من صمتها ومن عزلتها ويجعل منها إمرأة تُكسر كل القيود العائلية وتصرخ ملء صوتها و تفتخر بما جاد رحمها . أمي التي يئست من سماع الزغاريد في منزلنا جادت بما لديها من قطع نقدية لبائع الدجاج الذي يزور قريتنا كل سوق اسبوعية وطمعت في كرمه أن ينادي بمضخّم الصوت الذي يُشهر به فراريجه الاصطناعية ( الفرّوجْ بدينارْ) ان يقول ( بنت تونس العرقوبية نجحت مُعلمة) ، أمي التي ظلت تربي الخرفان وتُسرف في تعليفها كلما شعرت بأعراض حملٍ، تنذرها خالصة (لسيدي مهدي وسيدي عبد القادر وامّهْ خوله) لو انها أنجبت ولدا ، خمسة عشر حولا وامي تُربّي الخرفان الذكور نَذْرا لله والأولياء الصالحين . ذاك الكبش تُحوّل وجهته إلى زريبة عمي مع الصرخة الأولى لوضع أمي مولودها . المضحك أن أكباش أمي كانت هي من تنكحُ نِعاجَ أعمامي ونعاج العمدة ، لم تكن نعاجهم تلد ذكور الخرفان كما تلد نساؤهم الذكور . وحدها نعجةُ أمي تلد الفُحُولُ . فرحة امي بنجاحي أنفقت فيها كل ما لديها واكتفت بفرّوجين أبيضيْن سمينين ، محقونين جعلتهما وليمة نجاحي ، فرحتها ما كانت بنفس الوقع الذي رأيته في عيون أبي الذي كان يقف شامخا ودخان سجائره يصاعد مع فرحه إلى سماء عادلة . أبي الوحيد آمن بي وبقدراتي على النجاح وسط مجتمع رفض ان يعطيني اسما ويلبيني تلك اللبنة الأولى حيث كانت جدتي تقول ( خْسَارِةْ حْليبْ البِكْراتْ في البْناتْ) ، أبي كان أكثر كرما من أمي ذبح الخروف الوحيد الباقي بزريبتنا وقسّمه حِصَصًا متساوية ثم دعاني ان أكتب أسماء الجيران على أوراق صغيرة وطلب مني أن أضع كل ورقة على كل حصة لحم.
فرح ابي كان قسمة عادلة أما فرح أمي فكان طائرا خفيفا كذاك الريش الذي عصفت به الرياح بعد السّلخ فعانق السماء . أبي ذبح الفحْل الباقي الشيء الوحيد المشترك بين فرحة ابي وفرحة أمي هو الدّمُ الذي تشرّبته عتبة الحَوْشِ ليتسرّب إلى باقي البيوت.
زينة المدوري