كانت المدينة الصغيرة تنهض متثاقلة من سباتها العميق فقد هل الصباح وإن حجبت خيوطه الفضية جلابيب الضباب الرمادي الذي تساقط على الأزقة فأخفى العمال والتجار والطلبة وهم يتدافعون إلى حقول عملهم. وكان عسيرا على الزائي أن يتبين ذلك الرجل السائر بخطى وثيدة متثاقلة فقد كان أحمد عبد العزيز يبدو من بعيد وكأنه طيف يسبح في أعمدة من بخور حتى إذا تغلبت أشعة الشمس على طبقات الضباب ونفذت إلى الطريق أجلت قسمات أحمد: عينان سوداوان أجهدهما الحزن والسهر، فم صغير كأنه جرح في وجهه يعلوه شارب كث أسود تحسبه من بعيد كأنما استقر على فمه، قامة متوسطة نحيلة رشيقة لولا انحناءة في أعلى الظهر لا ريب أنها نجمت عن جلوسه الطويل مشدودا إلى الكرسي في وظيفته بالبلدية . . . لكن الأشعة سرعان ما تتوارى فيختفي الرجل على إثرها وكأنهما على ميعاد. . .
فمنذ ساعتين وأحمد عبد العزيز يضرب في الطريق المعتم بعد أن غادر منزله وقد خلص فيه بعد نقاش طويل مع نفسه أن يتزوج مرة ثانية بعد وفاة المرحومة زوجته الوفية: أن مجرد ذكراها يثير في نفسه شجوا غائرا وألما وجيعا وكيف وكل ما في البيت يذكره بها؟ فهي وإن كانت قد ودعته إلى الأبد منذ سنوات ستة فقد أبقى على كل صغيرة وكبيرة في البيت حتى أدوات زينتها، إنه يدرك تماما أن حياته بعدها أصبحت يبابا لا بهجة فيها، ولولا ذلك الخيط النوراني الذي خلفته بعدها ليشده إلى دنيا الناس لكانت لحياته هذه شأن آخر، لولا الفتاة اللطيفة البشوش دائما ذات الشعر الأشقر والعينين الخضراوين واليدين البيضتين، لولا ابنتهما نعيمة لما فكر هذا التفكير الجديد، التفكير بالزواج فالبناء بامرأة أخرى محال أن يسعد به، لكن من يعنى بالبنت وقد أوفت على السابعة من عمرها وهو الموظف النظامي الذي لا يقوى على مبارحة مكتبه إلا في الساعات القليلة المحدودة بصرامة؟! . .
وتمتمت شفتاه بكلمات خافتة واغرورقت عيناه وهو يمد بصره إلى الطريق الطويل، وداخله شعور حاد بالندم وكأنه مقدم على جريمة لا تغتفر، وهم أن يعود أدراجه ليأخذ بنته بين ذراعيه ويبكي مستغفرا مكفرا لكن شعوره الجديد ألح عليه ملقيا في نفسه عبارات العزاء والتشجيع موحيا إليه أن عمله هذا ليس إلا وفاء لروح المرحومة . . . أليست نعيمة ثمرة عشرتهما السعيدة طيلة عشر سنوات؟ لماذا إذن يحاول أن يحشرها في دنياه المتجهمة القاتمة ؟ ماذا جنت هي حتى تحرم من حنان الأم والأب ؟ . . .
وأخذ يسرع الخطى إلى الطبيب الذي سيكشف على جسمه ليقرر سلامته من الأمراض فهو حريص أبدا على الخير ومحبة الناس، وزاد في سرعة خطوه خشية تغيير رأيه لكن ترى ماذا ستقول عائلة المرحومة؟ ألم تكن له خير عون؟ إنه هو الموظف المتوسط الحال لم يكن قط بقادر على شراء كل ما تتوق إليه زوجه، ولكنها كانت تحبه وترأف به فلا تثقل كاهله بطلباتها
وإنما تقوم بزيارة أهلها الميسورين حتى إذا ما عادت أرته ما جلبته من زيارتها من فساتين أو مجوهرات ثم انحنت عليه تقبل عينيه وجبينه في مرح وحدب.
وطفق أحمد عبد العزيز يبطئ في خطوه وكأنما استلذ الذكرى وقد عاودته فأخذ يحاور نفسه : لله ما كان أروعها! ما الزواج إلا لعبة رهان نخسره فيحطم كياننا أو نربحه فنعيش في نعيم مقيم، وقد عشت في هذا النعيم مع زوجتي المرحومة، كنت سعيدا بحبها وكانت سعيدة بحبي إياها فعاشت حرة وفية . . . واعتراه الشعور بالندم من جديد ـــ إذا هو تزوج لكن ما لبثت فكرة جديدة أن برقت في ذهنه أحس معها بارتياح كبير فمضى يقنع نفسه بها: لأذهب إلى الطبيب فمن أدراني أن هذا الجسم المتعب الذي أناخت عليه أحزان ست سنوات مازال سليما ؟ إنني لا أستطيع حتى الجزم بأن الدم الذي يسري فيه لم يتحول بعد لونه القاني إلى زرقة أو سواد ؟ لا محالة إذن أن الطبيب سيقرر عدم صلاحيتي للزواج فأفوز برضاء نفسي الدائبة لإسعاد ثمرة حبي لزوجتي الغالية وأريح أمينة الأرملة الطيبة التي ارتأى أصدقائي مواساة لي أن أتزوج بها.
وخب السير في الطريق الطويل الذي بدا الضباب ينحسر عنه رويدا رويدا حتى بلغ واجهة العيادة فدلف بسرعة وحمد الله أن دوره بعد واحد فقط فرواد العيادة لم يوافوها بعد، وأتى دوره فدخل وهز يد الطبيب ثم أفهمه أنه يريد فحصا عاما لجسمه ليتأكد من سلامته بغية الزواج، فتهللت أسارير الطبيب وقال: مبروك . . مبروك. وبعد الفحص شد على يده ثانية وهو يردد : مبروك . . مبروك. وأحس أحمد بشعور متناقض مبهم إذ هو حقا يريد لجسمه أن يكون صحيحا معافى، فالعقل السليم في الجسم السليم، لكن الطبيب ما برح أن قال مبتسما:
- أظن أنك لا تهتم يا سيدي بالأطفال ما دمت تحب من ستتزوج؟
فرد أحمد متسائلا:
- لست أفهم ما تعنيه يا سيدي
فاستطرد الطبيب مجيبا:
- أن الكشف عنك أثبت أن المرض الذي كان بك منذ صباك قد زال نهائيا إلا أنه أبقاك عاقرا. وأني أستبعد أن يكون لك أطفال!
ولم يسمع أحمد كلام الطبيب فقد اندفع كمن مس ومضى يعدو في الطريق المشمس مضطرب الخاطر وكأن الضباب ما فتيء يلفه.
ـــــــــــــ
دعوة الحق، العدد 21
فمنذ ساعتين وأحمد عبد العزيز يضرب في الطريق المعتم بعد أن غادر منزله وقد خلص فيه بعد نقاش طويل مع نفسه أن يتزوج مرة ثانية بعد وفاة المرحومة زوجته الوفية: أن مجرد ذكراها يثير في نفسه شجوا غائرا وألما وجيعا وكيف وكل ما في البيت يذكره بها؟ فهي وإن كانت قد ودعته إلى الأبد منذ سنوات ستة فقد أبقى على كل صغيرة وكبيرة في البيت حتى أدوات زينتها، إنه يدرك تماما أن حياته بعدها أصبحت يبابا لا بهجة فيها، ولولا ذلك الخيط النوراني الذي خلفته بعدها ليشده إلى دنيا الناس لكانت لحياته هذه شأن آخر، لولا الفتاة اللطيفة البشوش دائما ذات الشعر الأشقر والعينين الخضراوين واليدين البيضتين، لولا ابنتهما نعيمة لما فكر هذا التفكير الجديد، التفكير بالزواج فالبناء بامرأة أخرى محال أن يسعد به، لكن من يعنى بالبنت وقد أوفت على السابعة من عمرها وهو الموظف النظامي الذي لا يقوى على مبارحة مكتبه إلا في الساعات القليلة المحدودة بصرامة؟! . .
وتمتمت شفتاه بكلمات خافتة واغرورقت عيناه وهو يمد بصره إلى الطريق الطويل، وداخله شعور حاد بالندم وكأنه مقدم على جريمة لا تغتفر، وهم أن يعود أدراجه ليأخذ بنته بين ذراعيه ويبكي مستغفرا مكفرا لكن شعوره الجديد ألح عليه ملقيا في نفسه عبارات العزاء والتشجيع موحيا إليه أن عمله هذا ليس إلا وفاء لروح المرحومة . . . أليست نعيمة ثمرة عشرتهما السعيدة طيلة عشر سنوات؟ لماذا إذن يحاول أن يحشرها في دنياه المتجهمة القاتمة ؟ ماذا جنت هي حتى تحرم من حنان الأم والأب ؟ . . .
وأخذ يسرع الخطى إلى الطبيب الذي سيكشف على جسمه ليقرر سلامته من الأمراض فهو حريص أبدا على الخير ومحبة الناس، وزاد في سرعة خطوه خشية تغيير رأيه لكن ترى ماذا ستقول عائلة المرحومة؟ ألم تكن له خير عون؟ إنه هو الموظف المتوسط الحال لم يكن قط بقادر على شراء كل ما تتوق إليه زوجه، ولكنها كانت تحبه وترأف به فلا تثقل كاهله بطلباتها
وإنما تقوم بزيارة أهلها الميسورين حتى إذا ما عادت أرته ما جلبته من زيارتها من فساتين أو مجوهرات ثم انحنت عليه تقبل عينيه وجبينه في مرح وحدب.
وطفق أحمد عبد العزيز يبطئ في خطوه وكأنما استلذ الذكرى وقد عاودته فأخذ يحاور نفسه : لله ما كان أروعها! ما الزواج إلا لعبة رهان نخسره فيحطم كياننا أو نربحه فنعيش في نعيم مقيم، وقد عشت في هذا النعيم مع زوجتي المرحومة، كنت سعيدا بحبها وكانت سعيدة بحبي إياها فعاشت حرة وفية . . . واعتراه الشعور بالندم من جديد ـــ إذا هو تزوج لكن ما لبثت فكرة جديدة أن برقت في ذهنه أحس معها بارتياح كبير فمضى يقنع نفسه بها: لأذهب إلى الطبيب فمن أدراني أن هذا الجسم المتعب الذي أناخت عليه أحزان ست سنوات مازال سليما ؟ إنني لا أستطيع حتى الجزم بأن الدم الذي يسري فيه لم يتحول بعد لونه القاني إلى زرقة أو سواد ؟ لا محالة إذن أن الطبيب سيقرر عدم صلاحيتي للزواج فأفوز برضاء نفسي الدائبة لإسعاد ثمرة حبي لزوجتي الغالية وأريح أمينة الأرملة الطيبة التي ارتأى أصدقائي مواساة لي أن أتزوج بها.
وخب السير في الطريق الطويل الذي بدا الضباب ينحسر عنه رويدا رويدا حتى بلغ واجهة العيادة فدلف بسرعة وحمد الله أن دوره بعد واحد فقط فرواد العيادة لم يوافوها بعد، وأتى دوره فدخل وهز يد الطبيب ثم أفهمه أنه يريد فحصا عاما لجسمه ليتأكد من سلامته بغية الزواج، فتهللت أسارير الطبيب وقال: مبروك . . مبروك. وبعد الفحص شد على يده ثانية وهو يردد : مبروك . . مبروك. وأحس أحمد بشعور متناقض مبهم إذ هو حقا يريد لجسمه أن يكون صحيحا معافى، فالعقل السليم في الجسم السليم، لكن الطبيب ما برح أن قال مبتسما:
- أظن أنك لا تهتم يا سيدي بالأطفال ما دمت تحب من ستتزوج؟
فرد أحمد متسائلا:
- لست أفهم ما تعنيه يا سيدي
فاستطرد الطبيب مجيبا:
- أن الكشف عنك أثبت أن المرض الذي كان بك منذ صباك قد زال نهائيا إلا أنه أبقاك عاقرا. وأني أستبعد أن يكون لك أطفال!
ولم يسمع أحمد كلام الطبيب فقد اندفع كمن مس ومضى يعدو في الطريق المشمس مضطرب الخاطر وكأن الضباب ما فتيء يلفه.
ـــــــــــــ
دعوة الحق، العدد 21