"النَّمُّ: رَفْع الحديثِ على وجه الإشاعةِ والإفْسادِ. وقيل: تَزْيينُ الكلام بالكذب. من نمَّ يَنِمُّ ويَنُمُّ، فهو نَمومٌ ونَمَّامٌ ومِنَمٌّ، ونَمٌّ، من قَوْمٍ نَمِّينَ وأنِمَّاءَ ونُمٍّ، وهي نَمَّةٌ، ويقال للنَّمَّام القَتَّاتُ، ونَمَّامٌ مُبَالَغَةٌ، والاسمُ النَّمِيمَة، وأصل هذه المادة يدلُّ على إظهار شيء وإبرازه"؛ هذا هو التعريف الشائع في معاجم اللغة العربية عن معنى كلمة "نميمة".
اقرأ أيضاً: المقاهي الثقافية في العالم: فضاءات موازية خارج التقليد
كما يقول الإمام الغزالي (1058-1111) عن النميمة في كتابه "الإحياء": "اعلم أنّ اسم النَّمِيمَة إنما يطلق في الأكثر على مَن ينمُّ قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: "فلان كان يتكلَّم فيك بكذا وكذا"، وليست النَّميمة مُختصة به، بل حدُّها كشفُ ما يُكره كشفُه، سواء كَرِهه المنقولُ عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن، بل حقيقة النَّميمة إفشاء السرّ وهتك الستر عما يُكره كشفه ...".
المقاهي أرض خصبة للنميمة
لكنّ "النميمة" اكتسبت خصائص ومعاني تجاوزت معانيها التقليدية داخل الأوساط الأدبية والثقافية، وفي منطقة "وسط البلد" بمدينة القاهرة؛ حيث تنتشر المقاهي الشعبية في شوارعها وأزقتها الضيقة؛ إذ تعدّ اجتماعات الكتّاب والمثقفين في المقاهي أرضاً خصبة لحياكة النمائم، وتبادل الآراء في بينهم حول عمل أدبي ما، أو حول كاتب أو كتّاب يثار الجدل حول نتاجهم الأدبي. ينتشر الكتّاب والمثقفون في مقاهي وسط البلد، كمقهى زهرة البستان، الذي ما يزال روّاده من كتّاب كبار يقيمون في جلساتهم، فالشاعر عبد المنعم رمضان، والقاص سعيد الكفراوي، والروائيان وحيد الطويلة وعزّت القمحاوي؛ هؤلاء من الأدباء الذين ما يزالون يحافظون على تقليد الاجتماع في مقهى "زهرة البستان" كلّ يوم جمعة في الصباح الباكر، ويطلقون عليها "قعدة الجمعة"، التي قد تجمع حولها في بعض الأحيان أكثر 15 من كاتب ومثقف وصحفي، كما الروائي الراحل، مكاوي سعيد (1956- 2017)، كان يقضي معظم وقته في الكتابة ولقاء الأصدقاء في مقهى زهرة البستان.
وهناك أيضاً مقهى الندوة الثقافية، ومقهى الحميدية، ومقهى ستراند، ومقهى "غزال" في شارع شامبيلون، هذا عدا المطاعم والبارات، مثل: مطعم ومقهى ريش، ومطعم الجريون، والنادي اليوناني، وحانة "كاب دور".
في هذه المقاهي والمطاعم والبارات تُحاك النمائم، وتنطلق ألسنة الكتّاب والمثقفين في طرحهم آراء جريئة حول المشهد الأدبي، حول أعمال أدبية حازت شهرة ما، لكنّها ما دون المستوى، عن كاتب "بيست سيلر" لمعَ نجمه لكنّه يكتب روايات شديدة الرداءة. طاقة من الغضب والسخرية والضحك على كتّاب- خصوم، لا تحتملها الصفحات الثقافية في الجرائد، أو في المجلات.
في المقهى الشعبي لا مكان لكاتب لا يستطيع أن يدافع عن نصّه بالحجة والمنطق والبرهان، وكمّ أفواه النمَّامين، والمقهى هو أرض المعارك الأدبية والثقافية، إثبات الوجود، ففي المساحات الضيقة هذه تقال الآراء الحقيقة حول الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة.
"حفريات" التقت الكتّاب المصريين؛ أحمد عبد اللطيف، وهشام أصلان، وأحمد شوقي علي، وأحمد مجدي همام، والروائية السورية مها حسن، الذين أدلوا بآرائهم حول موضوع النميمة في الأوساط الأدبية.
يقول الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف: "أعتقد أنّ هناك سعياً طوال الوقت لتكوين رأس مال مادي من خلال الجلوس في المقهى وأحاديث النميمة، ففكرة أن يكون هناك كاتب حاضر في أجواء وسط البلد في القاهرة ومقاهيها، وعلى احتكاك دائم مع الناس، يكوّن شيئاً أقرب لـ "السمعة الحسنة"، إن جاز التعبير، تحميه من النقد، وتمنحه مزايا من بينها أنّه موجود وسط أناس وأصدقاء يدافعون عن كتاباته وعن وجوده، بالطبع موضوع النميمة على المقهى، ليس بالجديد، إنّه قديم جداً في أجواء الأوساط الأدبية، مرتبط أيضاً بفكرة الشلة الثقافية، وهذا تقليد ثقافي حاضر من أيام نجيب محفوظ وشلّة مقهى ريش، على سبيل المثال، وكان موجوداً أيضاً في فترة التسعينيات".
هل خفت بريق النميمة؟
وأضاف عبد اللطيف: "مع بداية الألفية الجديدة، خفت بريق النميمة على المقاهي؛ إذ باتت النميمة موجودة أيضاً في مواقع التواصل الاجتماعي، كـ "الفيسبوك"، وعبر رسائله الخاصة، لكن يبقى المقهى هو المكان الشرعي الذي يعبّر عن فكرة "الشلّة"؛ لأنّه يقوم على فكرة الجماعة؛ مجموعة من الكتّاب والأدباء يتقابلون في مكان محدّد هو "المقهى" أو "البار"، ويناقشون كتابات بعضهم وكتابات غيرهم، وبالطبع يناقشون كتاباتهم بكثير من المديح وكتابات غيرهم بكثير من الذمّ".
ويرى عبد اللطيف؛ أنّ جلسات المقاهي مرتبطة بفكرة التواصل مع الأجيال من خلال المقهى "فعادة نرى الكتّاب الكبار الذين ما يزالون موجودين بسيرهم، هم الكتّاب الذين تربطهم علاقات واسعة بأجيال أصغر منهم، وكانوا يتقابلون معهم بكثير من التواضع، التواضع بوصفه احتواء واستيعاباً لهذا الجيل، فالكتّاب الكبار كانوا معفيين من أن ينتقد أحد أعمالهم، كما أنّهم كسبوا أجيالاً أصغر منهم تقرأ أعمالهم بشكل مستمر، انطلاقاً من فكرة أننا عرفنا هذا الكاتب والتقينا به، فتجب علينا قراءة أعماله، فإذا كان هناك كاتب غائب عن جلسات المقاهي، فغالباً يكون قد تخلى تماماً عن رأس المال الذي يتكون على هامش هذه الجلسات".
ويرى عبد اللطيف أنّ هذا الشيء "له سلبياته وإيجابياته، وأنا لست ضدّ فكرة أن تكون هناك شلّة ثقافية أو أدبية، جماعة ما تعبّر عن أفكارها بالكتابة، وقد تجمّعوا على هذا الأساس، لكن بالمقابل يجب أن تكون الجماعة ضدّ إقصاء الآخر الذي يكتب كتابة مختلفة عن هذه الشلّة أو الجماعة من الكتّاب، أو دعم تجارب أدبية ضعيفة فقط لأنّ الصداقة تربطهم، وهذا موجود، ولأنّ هذه الجلسات قائمة على النميمة أساساً، وهو شعور إنساني في النهاية لا نستطيع منعه أو رفضه".
النميمة من سمّاعة الهاتف إلى المقهى
أما القاصّ والصحفي هشام أصلان، فقال: "بحكم النشأة، كبرت وإلى جانبي هاتف منزلي، أستطيع وصفه بصندوق أسود لنميمة المثقفين لعشرات السنين، لك أن تتخيل كيف طالت كلّ أشكال النميمة أعداداً هائلة من أبناء الوسط الثقافي على اختلاف أجيالهم، من هنا لم يكن مفاجئاً لي، حين أصبحت بشخصي فرداً من هؤلاء، إننا مجتمع نمّام، غير أنني لا أرى المسألة شديدة السوء، بالأحرى أتفهمها، لا أرى في النميمة بين الكتّاب والأدباء على المقاهي شكلًا للشرّ، في أغلب أشكالها هي منطقة للتسلية والسخرية، ربما يستخدمها البعض أحيانًا كأكتاف قانونية لأشخاص يريد إزعاجهم بخفة ظلّ، وهو ما لا أعتبره أيضاً شرّاً صرفاً.
اقرأ أيضاً: المقاهي الثقافية في العالم: فضاءات موازية خارج التقليد
كما يقول الإمام الغزالي (1058-1111) عن النميمة في كتابه "الإحياء": "اعلم أنّ اسم النَّمِيمَة إنما يطلق في الأكثر على مَن ينمُّ قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: "فلان كان يتكلَّم فيك بكذا وكذا"، وليست النَّميمة مُختصة به، بل حدُّها كشفُ ما يُكره كشفُه، سواء كَرِهه المنقولُ عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن، بل حقيقة النَّميمة إفشاء السرّ وهتك الستر عما يُكره كشفه ...".
المقاهي أرض خصبة للنميمة
لكنّ "النميمة" اكتسبت خصائص ومعاني تجاوزت معانيها التقليدية داخل الأوساط الأدبية والثقافية، وفي منطقة "وسط البلد" بمدينة القاهرة؛ حيث تنتشر المقاهي الشعبية في شوارعها وأزقتها الضيقة؛ إذ تعدّ اجتماعات الكتّاب والمثقفين في المقاهي أرضاً خصبة لحياكة النمائم، وتبادل الآراء في بينهم حول عمل أدبي ما، أو حول كاتب أو كتّاب يثار الجدل حول نتاجهم الأدبي. ينتشر الكتّاب والمثقفون في مقاهي وسط البلد، كمقهى زهرة البستان، الذي ما يزال روّاده من كتّاب كبار يقيمون في جلساتهم، فالشاعر عبد المنعم رمضان، والقاص سعيد الكفراوي، والروائيان وحيد الطويلة وعزّت القمحاوي؛ هؤلاء من الأدباء الذين ما يزالون يحافظون على تقليد الاجتماع في مقهى "زهرة البستان" كلّ يوم جمعة في الصباح الباكر، ويطلقون عليها "قعدة الجمعة"، التي قد تجمع حولها في بعض الأحيان أكثر 15 من كاتب ومثقف وصحفي، كما الروائي الراحل، مكاوي سعيد (1956- 2017)، كان يقضي معظم وقته في الكتابة ولقاء الأصدقاء في مقهى زهرة البستان.
وهناك أيضاً مقهى الندوة الثقافية، ومقهى الحميدية، ومقهى ستراند، ومقهى "غزال" في شارع شامبيلون، هذا عدا المطاعم والبارات، مثل: مطعم ومقهى ريش، ومطعم الجريون، والنادي اليوناني، وحانة "كاب دور".
في هذه المقاهي والمطاعم والبارات تُحاك النمائم، وتنطلق ألسنة الكتّاب والمثقفين في طرحهم آراء جريئة حول المشهد الأدبي، حول أعمال أدبية حازت شهرة ما، لكنّها ما دون المستوى، عن كاتب "بيست سيلر" لمعَ نجمه لكنّه يكتب روايات شديدة الرداءة. طاقة من الغضب والسخرية والضحك على كتّاب- خصوم، لا تحتملها الصفحات الثقافية في الجرائد، أو في المجلات.
في المقهى الشعبي لا مكان لكاتب لا يستطيع أن يدافع عن نصّه بالحجة والمنطق والبرهان، وكمّ أفواه النمَّامين، والمقهى هو أرض المعارك الأدبية والثقافية، إثبات الوجود، ففي المساحات الضيقة هذه تقال الآراء الحقيقة حول الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة.
"حفريات" التقت الكتّاب المصريين؛ أحمد عبد اللطيف، وهشام أصلان، وأحمد شوقي علي، وأحمد مجدي همام، والروائية السورية مها حسن، الذين أدلوا بآرائهم حول موضوع النميمة في الأوساط الأدبية.
يقول الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف: "أعتقد أنّ هناك سعياً طوال الوقت لتكوين رأس مال مادي من خلال الجلوس في المقهى وأحاديث النميمة، ففكرة أن يكون هناك كاتب حاضر في أجواء وسط البلد في القاهرة ومقاهيها، وعلى احتكاك دائم مع الناس، يكوّن شيئاً أقرب لـ "السمعة الحسنة"، إن جاز التعبير، تحميه من النقد، وتمنحه مزايا من بينها أنّه موجود وسط أناس وأصدقاء يدافعون عن كتاباته وعن وجوده، بالطبع موضوع النميمة على المقهى، ليس بالجديد، إنّه قديم جداً في أجواء الأوساط الأدبية، مرتبط أيضاً بفكرة الشلة الثقافية، وهذا تقليد ثقافي حاضر من أيام نجيب محفوظ وشلّة مقهى ريش، على سبيل المثال، وكان موجوداً أيضاً في فترة التسعينيات".
هل خفت بريق النميمة؟
وأضاف عبد اللطيف: "مع بداية الألفية الجديدة، خفت بريق النميمة على المقاهي؛ إذ باتت النميمة موجودة أيضاً في مواقع التواصل الاجتماعي، كـ "الفيسبوك"، وعبر رسائله الخاصة، لكن يبقى المقهى هو المكان الشرعي الذي يعبّر عن فكرة "الشلّة"؛ لأنّه يقوم على فكرة الجماعة؛ مجموعة من الكتّاب والأدباء يتقابلون في مكان محدّد هو "المقهى" أو "البار"، ويناقشون كتابات بعضهم وكتابات غيرهم، وبالطبع يناقشون كتاباتهم بكثير من المديح وكتابات غيرهم بكثير من الذمّ".
ويرى عبد اللطيف؛ أنّ جلسات المقاهي مرتبطة بفكرة التواصل مع الأجيال من خلال المقهى "فعادة نرى الكتّاب الكبار الذين ما يزالون موجودين بسيرهم، هم الكتّاب الذين تربطهم علاقات واسعة بأجيال أصغر منهم، وكانوا يتقابلون معهم بكثير من التواضع، التواضع بوصفه احتواء واستيعاباً لهذا الجيل، فالكتّاب الكبار كانوا معفيين من أن ينتقد أحد أعمالهم، كما أنّهم كسبوا أجيالاً أصغر منهم تقرأ أعمالهم بشكل مستمر، انطلاقاً من فكرة أننا عرفنا هذا الكاتب والتقينا به، فتجب علينا قراءة أعماله، فإذا كان هناك كاتب غائب عن جلسات المقاهي، فغالباً يكون قد تخلى تماماً عن رأس المال الذي يتكون على هامش هذه الجلسات".
ويرى عبد اللطيف أنّ هذا الشيء "له سلبياته وإيجابياته، وأنا لست ضدّ فكرة أن تكون هناك شلّة ثقافية أو أدبية، جماعة ما تعبّر عن أفكارها بالكتابة، وقد تجمّعوا على هذا الأساس، لكن بالمقابل يجب أن تكون الجماعة ضدّ إقصاء الآخر الذي يكتب كتابة مختلفة عن هذه الشلّة أو الجماعة من الكتّاب، أو دعم تجارب أدبية ضعيفة فقط لأنّ الصداقة تربطهم، وهذا موجود، ولأنّ هذه الجلسات قائمة على النميمة أساساً، وهو شعور إنساني في النهاية لا نستطيع منعه أو رفضه".
النميمة من سمّاعة الهاتف إلى المقهى
أما القاصّ والصحفي هشام أصلان، فقال: "بحكم النشأة، كبرت وإلى جانبي هاتف منزلي، أستطيع وصفه بصندوق أسود لنميمة المثقفين لعشرات السنين، لك أن تتخيل كيف طالت كلّ أشكال النميمة أعداداً هائلة من أبناء الوسط الثقافي على اختلاف أجيالهم، من هنا لم يكن مفاجئاً لي، حين أصبحت بشخصي فرداً من هؤلاء، إننا مجتمع نمّام، غير أنني لا أرى المسألة شديدة السوء، بالأحرى أتفهمها، لا أرى في النميمة بين الكتّاب والأدباء على المقاهي شكلًا للشرّ، في أغلب أشكالها هي منطقة للتسلية والسخرية، ربما يستخدمها البعض أحيانًا كأكتاف قانونية لأشخاص يريد إزعاجهم بخفة ظلّ، وهو ما لا أعتبره أيضاً شرّاً صرفاً.