كاتب ياسين - ابن آوراس المحروم من الإرث.. ت: محمّد وليد ڨرين

كان محمود عائدا من جولة طويلة سيرا على الأقدام مع أصدقاء حقيقيين من القرية التي كان الأربعة يقطنونها. كانوا قد ذهبوا في الصباح الباكر وكانوا قد اشتموا جوّا جديدا قادما من المدينة. كانوا قد انتشوا بالضوضاء، بالأخبار، بالملذات، بأشغال المدينة وكانوا قد شربوا قدرا كبيرا من الشاي لكي “يمتلئ رأسهم“. عند رجوعهم إلى القرية افترق الأصدقاء والتعب قد نال منهم، بعد ليلة قضوها في المحادثات والبوح بالأسرار. كان يقول محمود في نفسه: “إنهم لحقا إخوتي. لا يخجلون من أصلهم.” لطالما شهدت القرية المشيّدة فوق أطلال رومانية سكانا صامتين، كأنهم مفتونون بماض مثقل بالألغاز. قلّما يوجد ساكن لا ينجذب إلى الـبريتوريوم[1] الروماني. فهناك تجد في كل ساعة من اليوم، معشّشا بين الشواهد، في قاع الزنازن أو من على خندق الأسود القديم، كل من ألقته القرية في أحضان الوحدانية، في الضجر، في الحلم أو في الانحلال. في أول المقام تجد البطّالين، الفتيان، مدخني الحشيش والسكارى، أناس يقارنون شبابهم الضائع بحطام الامبراطوريات… هناك تُدقّ أوشام العاشقين التي خُيِّبت آمالهم وهناك تتسكّع المزوِّجات الليليات. في يوم الأحد، يجلي كل ذلك “الشعب الدنيء” الـبريتوريوم هربا من زحام السياح والـكولون ونخبة البيروقراطيين والبورجوازيين الصغار. يجب القول أن عند مدخل القرية، قبالة الـبريتوريوم، ينتصب أكبر سجن في البلاد، بمئات من الحرس وألوف من السجناء. ما عدا السلطات وأعوان “المركزية”، بالستثناء التجار القلائل، والموظفين الصغار، والـمير والعائلات الكبيرة الذين يستغلون الفحم من الغابة المجاورة، تتألف عامة الشعب من عمّال يوميين عاطلين عن العمل في أغلب الأحيان ومن فلاحين مستقرين في الغابة أو عند مدخلها. غداة الاحتلال ظل الأوروبيون يشكلون أغلبية سكان القرية: كان عددهم خمسة مائة في سنة 1900، ثلاثة آلاف في 1936 وخمسة آلاف في احصائيات 1948. في سنة 1870، كان الأوروبيون ينقسمون إلى صنفين يختلفان تمام الاختلاف: المنفيون من فرنسا بسبب انتماءاتهم السياسية الجمهورية؛ أما الآخرون فكانت تجذبهم “ثروات المستعمرات” ووعود نابليون الثالث. تحكي الأسطورة أن عشيقة الإمبراطور امرأة مشبوهة تُدْعى مادام لاباريار[2]، أمرت بتشييد قصرها في قلب الأطلال والغابة، من حيث كان يطل على السجن. یروق للشعب أن یتصور تلك الفرنسية النبيلة التي كان نداء النجدة الذي كان يطلقه السجناء يسكن لياليها… كان السجن مخصّصا للنشطاء الأولين للطبقة العاملة الفرنسية، بعد مرور فترة وجيزة على مذابح مناضلي الـكومونة[3]. بقي المحبوسون منظمين لمدة طويلة، رغم أن الحراسة كانت مشددة عليهم من قبل حامية لم تُنْقَل إلى المدينة إلا في سنة 1943. لقد كان النائب رانك، أحد زعماء المحبوسين، أول من هرب وتمكن من فيليبفيل (سكيكدة) أن يركب إحدى السفن ليواصل الكفاح في فرنسا. كان منفاه قد دام 30 سنة. كان قد قاد في “المركزية” كفاحا يائسا لمنع رفاقه من أن يصبحوا برجوازيين كلّما تأصلت المستوطنة وزاد ازدهارها. كانت نفسه ممزقة، خلال آخر فترة قضاها في الحبس، بين الارادة لاسترجاع مكانته إلى جانب العمّال النشطاء في فرنسا وبين شعور جديد كان يؤثر كل يوم على حياة المحبوسين، ألا وهو حب الجزائر. ذات صباح من سنة 1923 التقى محمود بأصدقائه في مقهى يديره منفي سابق. كانوا صامتين وأنظارهم تنتقل من بنت المنفي إلى أول قارورة بيرة طلبوها. كان محمود يشعر بأشدّ حماس شعر به في حياته. غادر المقهى فجأة وترك أصدقائه بينما كان هؤلاء يطلبون قارورة بيرة أخرى… وجد نفسه مختبئا بين الأطلال عند هبوط الليل. كان يشد دائما في جيبه على القطعة النقدية الوحيدة التي كان قد خشي أن يضحي بها في المقهى. “هل وُلِدْتُ لأكون خادم عائلتي؟” لقد جرّد عمه أباه من الإرث ومات هذا الأخير في الحرمان. فاقترح عليه عمّه بعد مرور أشهر طويلة قضاها في البؤس أن أن يوظفه عنده لـ ”مراقبة الحطّابين”. منذ ذلك الحين لم يعد محمود يتكلم لا مع عمه ولا مع نصف أفراد عائلته ولا مع كل “أولاد العائلات” على العموم… “يعتقدون أنه يمكنهم التحكم فينا، هم الذين تركوا أراضيهم وأراضينا تُسْلب…والآن هم الأسياد. يسحقوننا بالعمل مثلما تُسْحَق البهائم، وذلك يحدث فوق ثروات الأجداد…” لقد فضّل محمود استرجاع حانوت أبيه. تلك المهنة ليست للشبان…فبالكاد يمكنه أن يعرض بعض الأساور للبيع في أيام السوق. تحتّم عليه الأمر في البداية أن يُسكن زوجته في الحانوت. ستار من الطين الجاف كان الفاصل الوحيد بينهما في ساعات العمل. أصبح محمود قليل الكلام. كان أول شخص ينتفض في القرية على “أولئك الموظفين في المكاتب” الذي كان يعتبرهم أشر الأعداء، بصفتهم حلفاء “أولاد العائلات”. بقدر ما كان يغرق في البؤس بقدر ما كان يكافح علنا ضدهم، واعيا أنه لم يكن لديه ما يخسره. ولكنه كان يظل كالمنعزل داخل الزنزانة منفصلا عن السجن الإجتماعي. كانت مهنة الصائغ الجديدة عليه تقيده بأغلال تجعله يشعر أنه سيشيب قبل الأوان، منقطعا عن إخوته في البؤس: الفلاحون الذين تمت مصادرة أراضيهم، البطالون والعمّال المتشردين. لم يكن أحد يتبعه في تمرّده وكانت تلك العزلة هي السبب. “محمود؟ يعتقد أن كل شيء جائز بالنسبة له. لو كان فقط متعلّما… ولكنه جاهل مثلنا.” هذا كل ما كان يُقال عنه، هو ابن الثلاثين سنة. لا أحد كان يعلم بأنه كان يشارك في اجتماعات سرية تقام غالبا في قلب الغابة.




[1] مركز قيادة الفيلق الروماني قديما
[2] Mme Labarrière
[3] في الثامن عشر من مارس عام 1871 رُفعت راية الثورة العمالية على قاعة بلدية باريس لتعلن ميلاد “كومونة باريس” أول دولة عمالية في التاريخ. وأصيب العالم الرأسمالي بالفزع لدى رؤيته راية العمال مرفوعة في قلب أوربا مهددة بسقوط رأس المال في العالم كله.



* عن مدونة محمّد وليد ڨرين


كاتب ياسين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...