تروح الشمس وتجيء، ولا تزال الطفلة طفلة، لكنها ستظل وحيدة، ترى العالم من عين في قلبها لا عقلها، ذلك أنها تريد الجميع سعداء، لكن الجميع لا يمكنهم ذلك، وعلى ذلك تعاني يسرا أشد العناء، ومع نضوج ثمارها، وبزوغ الشفق من خديها، تستدير شفتاها كأقحوانة برية وتخبو شهيتها إلى الكلام من هول ما رأت، وتميل بمرور الزمن إلى أن تصمت عن الجميع صمت القبور.
رأت يسرا كثيرا من الدموع في هذا البيت الكائن على ربوة نائية، تحيطه بيوت خشبية قليلة وبعض المزارع على الجانب الشرقي، وكان المزارعون يحلبون الأبقار والجواميس في الصباح، ويحصدون القمح والجرجير والسريس، وفي الليل يدحرجون النكات والنمائم متحلقين حول نار تخبز مساءهم ضحكا وسرورا، وأحيانا يتوقفون عن الكلام ليتقاسموا أحزان الأب الذي هرع إلى البيت غير آبه بالبزوغ التاريخي للمريخ في حضن درب التبانة العظيم، قائلا لزوجته والنواح حولهما يتقد ولا يهدأ: لا تجزعي، لعل الله قضى برحيلها خيرا نجهله. وتلتقط الزوجة عبر وشاحها دمعتين تفركهما بين إصبعيها وتقول: برحيل أمي، رحل الخيرُ عن منزلنا إلى الأبد. ويسرا رابضة عند الباب تتشبث في خوف بجديلة إيمان أختها الكبرى، والتي كانت تصل إلى نهاية ظهرها آنذاك، فكرت الصغيرة هل ستستطيع أن توقظ جدتها مرة أخرى؟ تماما عندما كانت تغفو على صدرها تاركة شعرها الرمادي بين يديها الصغيرتين لتفرقه من المنتصف وتمرره عبر فتحات الفلاية الشديدة الدقة، كان ذلك الأمرُ مدهشا ليسرا وقتها، فإيمان رغم بداية نضوجها لم تكن تحتمل تمشيط الأم لشعرها، والتي اضطرت غير مرة لأن تحكم فخذيها على خصرها وهي تغوص بأسنان المشط التي تتكسر في شعرها غير آبهة بدموع إيمان ولا بصراخها الذي يتعالى.
وذات مرة قالت إيمان ليسرا وهي تربت على كتفها بعد جلسة البكاء العظيم: أتريديني ألا أبكي ثانية؟ وأومأت الصغيرة بالإيجاب، لأنه كان يروعها أن تبكي أختها كل مرة بهذا الشكل الفظيع.. وجاءت إيمان بمقص السمك المعدني ووضعته بين راحتي يسرا الصغيرة الوادعة.
غرفة الصالون تتحول بمرور الزمن إلى مكان مهجور، بعد أن كان يحفل بصحون الفشار واللب والسوداني، وتحلق العائلة حول التلفزيون كل خميس، والنوم على السجاد والقفز على الأرائك، والضحك بصوت عالٍ. الآن التراب يكسو المنضدة الرُخامية، وأذرع الكراسي الخشبية المُذهبة، يكسو القلوب والكلام والمشاعر الباهتة. كان الرجال يهرعون من الباب إلى الصالون ومن الصالون إلى الباب، وفي قلب النهار تحولت لغرفة اجتماعات طارئة، قال الأب لأخيه الأكبر صاحب السيارة الفخمة، أنه عازمٌ للذهاب إلى الشرطة للإبلاغ عن اختفاء ابنته. لكن الأخ الأكبر رد ببرود أن البنت لم تذهب إلى المدرسة من الأساس، وأن ذلك يُضعف مسألة أن يكون حدث لها مكروه، ثم لمعت عينه وقال: "لابد أنها ذهبت إلى مكان ما". وانتفض من مكانه، التقط مفاتيح سيارته، وجذب أخيه من يده، وأخرج نضارة الشمس من جراب جلدي مُفضض في جيب جاكتته، وخرجا معا. لم تسمع يسرا لطمات أو ضربات أو تأنيبًا صاخبًا عندما عادت إيمان، بل كان الهدوء يغلفها وهي متقرفصة في سريرها كفرخ صغير يرتجف، متشبثة بوسادتها، وتحت الوسادة كان كيس قُماشي به العديد من قصاصات الشعر.
تعلمت يسرا مسايرة والديها بالصمت، بينما كلما علقت الأم لإيمان على شكل الحجاب، علا صوتها وأخذت تزوم وتزمجر، وتهدد وتصرح بأنها لم تعد تحب أحدا في هذا البيت البائس.
تضع الأم الأطباق على مائدة الإفطار أول أيام رمضان، ثم تقف تجاه الشباك المفتوح على الشفق الأحمر والطيور التي تقف على الأسطح وقد حانت لحظة آذان المغرب، راجية من الله أن تحمل إيمان صينيتها وتجلس معهم على المائدة هذا العام، لكن هذا لم يحدث منذ أعوام طويلة.. تربت على كتف يسرا وتقول في نفسها: يا إلهي اهدِ العُصاة.
ستتذكر يسرا بعد عشرين عاما، صوت سقوط القلم على الأرض، فتستيقظ فزعة، سألت زوجها ماذا هناك؟ وأجاب مرتبكا أنه سيشرح لها بعد أن يعود مع شمس العصاري. ملامح أختها عند الرحيل الأخير تتردد على مخيلتها دائما، مازالت بعينين يسكنهما الجموح، وسمرة فاتنة، وشعر قصير بلا تعرجات، لقد تركت وراءها ورقة بيضاء.. بالتأكيد كانت تريد أن تكتب شيئا، كم لعنت يسرا نفسها على صحوها المباغت، وتتساءل: ترى ماذا فعلت بك السنون مع كل هذه القسوة يا إيمان؟
في الشرفة يتثاءب الوجود، والله شاخص البصر في الغيوم، تسمع صوت غلق الباب، فتتحرك إلى غرفة بنتها، تداعب أصابع قدميها ثم تقبلها، وتضع رأسها بجانبها، وتتمنى أنه عندما يقرر الجميع الرحيل، ألا تستيقظ أبدا.
رأت يسرا كثيرا من الدموع في هذا البيت الكائن على ربوة نائية، تحيطه بيوت خشبية قليلة وبعض المزارع على الجانب الشرقي، وكان المزارعون يحلبون الأبقار والجواميس في الصباح، ويحصدون القمح والجرجير والسريس، وفي الليل يدحرجون النكات والنمائم متحلقين حول نار تخبز مساءهم ضحكا وسرورا، وأحيانا يتوقفون عن الكلام ليتقاسموا أحزان الأب الذي هرع إلى البيت غير آبه بالبزوغ التاريخي للمريخ في حضن درب التبانة العظيم، قائلا لزوجته والنواح حولهما يتقد ولا يهدأ: لا تجزعي، لعل الله قضى برحيلها خيرا نجهله. وتلتقط الزوجة عبر وشاحها دمعتين تفركهما بين إصبعيها وتقول: برحيل أمي، رحل الخيرُ عن منزلنا إلى الأبد. ويسرا رابضة عند الباب تتشبث في خوف بجديلة إيمان أختها الكبرى، والتي كانت تصل إلى نهاية ظهرها آنذاك، فكرت الصغيرة هل ستستطيع أن توقظ جدتها مرة أخرى؟ تماما عندما كانت تغفو على صدرها تاركة شعرها الرمادي بين يديها الصغيرتين لتفرقه من المنتصف وتمرره عبر فتحات الفلاية الشديدة الدقة، كان ذلك الأمرُ مدهشا ليسرا وقتها، فإيمان رغم بداية نضوجها لم تكن تحتمل تمشيط الأم لشعرها، والتي اضطرت غير مرة لأن تحكم فخذيها على خصرها وهي تغوص بأسنان المشط التي تتكسر في شعرها غير آبهة بدموع إيمان ولا بصراخها الذي يتعالى.
وذات مرة قالت إيمان ليسرا وهي تربت على كتفها بعد جلسة البكاء العظيم: أتريديني ألا أبكي ثانية؟ وأومأت الصغيرة بالإيجاب، لأنه كان يروعها أن تبكي أختها كل مرة بهذا الشكل الفظيع.. وجاءت إيمان بمقص السمك المعدني ووضعته بين راحتي يسرا الصغيرة الوادعة.
غرفة الصالون تتحول بمرور الزمن إلى مكان مهجور، بعد أن كان يحفل بصحون الفشار واللب والسوداني، وتحلق العائلة حول التلفزيون كل خميس، والنوم على السجاد والقفز على الأرائك، والضحك بصوت عالٍ. الآن التراب يكسو المنضدة الرُخامية، وأذرع الكراسي الخشبية المُذهبة، يكسو القلوب والكلام والمشاعر الباهتة. كان الرجال يهرعون من الباب إلى الصالون ومن الصالون إلى الباب، وفي قلب النهار تحولت لغرفة اجتماعات طارئة، قال الأب لأخيه الأكبر صاحب السيارة الفخمة، أنه عازمٌ للذهاب إلى الشرطة للإبلاغ عن اختفاء ابنته. لكن الأخ الأكبر رد ببرود أن البنت لم تذهب إلى المدرسة من الأساس، وأن ذلك يُضعف مسألة أن يكون حدث لها مكروه، ثم لمعت عينه وقال: "لابد أنها ذهبت إلى مكان ما". وانتفض من مكانه، التقط مفاتيح سيارته، وجذب أخيه من يده، وأخرج نضارة الشمس من جراب جلدي مُفضض في جيب جاكتته، وخرجا معا. لم تسمع يسرا لطمات أو ضربات أو تأنيبًا صاخبًا عندما عادت إيمان، بل كان الهدوء يغلفها وهي متقرفصة في سريرها كفرخ صغير يرتجف، متشبثة بوسادتها، وتحت الوسادة كان كيس قُماشي به العديد من قصاصات الشعر.
تعلمت يسرا مسايرة والديها بالصمت، بينما كلما علقت الأم لإيمان على شكل الحجاب، علا صوتها وأخذت تزوم وتزمجر، وتهدد وتصرح بأنها لم تعد تحب أحدا في هذا البيت البائس.
تضع الأم الأطباق على مائدة الإفطار أول أيام رمضان، ثم تقف تجاه الشباك المفتوح على الشفق الأحمر والطيور التي تقف على الأسطح وقد حانت لحظة آذان المغرب، راجية من الله أن تحمل إيمان صينيتها وتجلس معهم على المائدة هذا العام، لكن هذا لم يحدث منذ أعوام طويلة.. تربت على كتف يسرا وتقول في نفسها: يا إلهي اهدِ العُصاة.
ستتذكر يسرا بعد عشرين عاما، صوت سقوط القلم على الأرض، فتستيقظ فزعة، سألت زوجها ماذا هناك؟ وأجاب مرتبكا أنه سيشرح لها بعد أن يعود مع شمس العصاري. ملامح أختها عند الرحيل الأخير تتردد على مخيلتها دائما، مازالت بعينين يسكنهما الجموح، وسمرة فاتنة، وشعر قصير بلا تعرجات، لقد تركت وراءها ورقة بيضاء.. بالتأكيد كانت تريد أن تكتب شيئا، كم لعنت يسرا نفسها على صحوها المباغت، وتتساءل: ترى ماذا فعلت بك السنون مع كل هذه القسوة يا إيمان؟
في الشرفة يتثاءب الوجود، والله شاخص البصر في الغيوم، تسمع صوت غلق الباب، فتتحرك إلى غرفة بنتها، تداعب أصابع قدميها ثم تقبلها، وتضع رأسها بجانبها، وتتمنى أنه عندما يقرر الجميع الرحيل، ألا تستيقظ أبدا.