أعترف بأن ردود الفعلِ الثقافية التي استشعرتُها بعد تعرفي إلى عبد الله الترغي مرت بمرحلتين؛ مرحلةِ ما قبل كلية آداب تطوان ثم ما بعدها. في المرحلة الأولى لم تكن لقاءاتنا تتجاوز تبادل التحايا القصيرة المحايدة. لكن الترغي وهو يشتغل بالتعليم الثانوي كان قد اختار الحقل الثقافي الذي سيرتبط به ويتخصصُ فيه إلى يومنا هذا. حقل الأدب المغربي القديم بمخطوطاته وعصوره وقضاياه التوثيقية الشائكة. وكنت قد اخترت بدوري وأنا بعد أستاذ بالثانوي الحقل الذي سأرتبط به لكن من دون أن أقتصر عليه. إنه حقل السرد المغربي الحديث والمعاصر. في تلك المرحلة التي شملت العقد السبعيني من القرن الماضي وبدايات عقد الثمانينات كنت واقعاً في تأثيرٍ سحريٍ اسمه ظاهرة الأدب المغربي. كنت قد درّست في الثانوي نصوصاً لابن زنباع وأبي العباس الجراوي ومالك بن المرحل وغيرهم ولاحظت أن درجة جودتها الأدبية أقلُّ من درجة الإبداع المشرقي، فحزَّت في نفسي تلك الملاحظة وانطلقت باحثاً ومتسائلاً عن الصيغ التي قد تمكنني من تعويض هذا التفاوت الجمالي الصريح. في تلك المرحلة اكتشفت عبد الله كنون وكتبَه ومقالاته؛ خاصة مؤلَّفه الخالد "النبوغ المغربي في الأدب العربي" وسلسلتَه "ذكريات مشاهير رجال المغرب". فقد علمني كنون أن أُحبَّ ما يخصني ويخص ثقافة بلادي وأعتزَّ بها. لذلك لم أفر من تلك النصوص المغربية القديمة على الرغم من مستواها الفني المتواضع، فأدمت النظر فيها واهتديت إلى معادلة نقدية استنرت بها في تدريسي للأدب المغربي القديم. تقول المعادلة:
مهما تكن درجة الأدب هابطة يجب عليك أن تتعلم كيف تستخلص منه قدراً من أدبيته حتى وإن ضؤل القدر وقلّ.
في سياق هذا الحب الشامل أخذت أنظر بعين التقدير إلى التخصص الذي اختاره الترغي حتى وإن كان تعارفنا آنذاك لم يتجاوز لقاءات عابرةً في الشارع.
في سنة 1982 التحقت بهذه الكلية أستاذاً ثم التحق بنا الترغي سنة واحدة بعد ذلك إن لم تخني الذاكرة. ومنذ ذلك التاريخ بدأت المرحلة الثانية من تعارفنا الذي اتسم بالمناقشات الثقافية الطويلة وتبادل الآراء حول الأدب المغربي القديم ونصوصِه وطرائفه. وحينما اخترت "قصص الأطفال بالمغرب" موضوعاً لرسالة الدبلوم كان الحافز ذلك الشغفَ الذي أشرت إلى بعض سماته قبل قليل. كان موضوع الرسالة له صلة بالأدب المغربي الحديث، لكنه اضطرني في نفس الآن إلى البحث عن جذور الحكي في تراثنا الشعبي. في هذا المضمار جرت بيني وبين الترغي محادثات نقدية طريفة في تطوان وطنجة ما زلت أحتفظ عنها بذكريات لطيفة.
في أثناء مرحلة التعليم الجامعي أفادتني البنيوية بمقولة ترى إمكانَ التماس أدبية الأدب مهما تختلف أنواعه ونصوصه وتضؤل جودته. ولقد اشتهر رولان بارث بعنوان كتابه "درجة الصفر في الكتابة" الذي ساعدني كثيراً على ضبط علاقتي بالأدب القديم ومحاولة تنظيمها. ذلك أن الوثيقة العتيقة التي نقرؤها لابد أن نستشرف فيها قدراً من الأدبية سواء أكانت شعراً أم نثراً أم تفسيراً أم فهرسة أم نقداً أم مجرد تعليق في هامش كشكول. واستنارةً بهذا التصور كتبت مقالاً لم ينشر بعنوان "المقامة في درجة الصفر" حللت خلاله مقامة الحمى لجلال الدين السيوطي الخالية في ظاهرها من التجليات السردية التي تسم عموم المقامات. ذلك لم يعن قط أني تبنيت كل مقولات البنيوية. والواقع أن كثيراً منها لم يقنعني، وأبديت إزاءها تحفظات عديدة حتى قبل أن يصدر تودوروف كتابه الشجاع "الأدب في خطر".
من هذا الباب النقدي الضيق كان يحلو لي الاستماع إلى الترغي وهو يحدثني بانبهار عن اكتشافاته في عالم المخطوطات: حينما كنت مهتماً بموضوع أدب الأطفال كنت أحفزه لكي يروي لي ما يعرفه من طرائف وموضوعات في هذا الباب ثم أحاول تكييف ذلك من زاوية النظرية النقدية التي توجه عملي. وهكذا دواليك مع موضوعات الموسيقى، والفروسية، والتصوير، والبلاغة، والتمثيل، والرحلة إلى المشرق وغيرها. وعلى الرغم من أن الترغي يعجبه أن يتحدث إلى مستمع يحسن الإنصات مثلي فإنه في مقابل ذلك لم يكن يتحمس لكي أحدثه بدوري عن قضايا الأدب الحديث وصلتها بالموروث. لكن على الرغم من قلة حماسه حاولت جاهداً وباستمرار أن أعبر له عن أهمية اكتشافاته الخطيرة في حقل المخطوطات الذي انغمس فيه حتى أذنيه.
في أثناء إعدادي لرسالة "قصص الأطفال بالمغرب" اطلعت على أفكار تودوروف حول الحكاية والحكي فانجذبت إليها. لكن ما أثارني فيها اعتماد هذا الباحث الفرنسي على كتب التراث واستلهامُه منها عديداً من مفاهيم تحليل النص السردي. فقد استثمر في كتابه "مقدمة إلى الأدب الخارق" نصوصَ "ألف ليلة وليلة" من أجل التمييز بين الغريب étrangeوالعجيب merveil ، وكذا من أجل دراسة أنماط من بنيات الحكاية وازدواجية شخصياتها وتحولاتها. كما اعتمد على حكايات شارل پـيرو التي اقتبسها للأطفال في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وفي كتابه "نحـو الديكامرون Grammaire de Decameron" استلهم تودوروف حكايات كاتب إيطالي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي اسمه جيوفاني بوكاشيو، وهي الحكايات المعروفة بالديكامرون أو ألفِ ليلة وليلة الإيطالية، واستخلص منها ما يمكن تسميته بالبنيات الهيكلية والتركيبية لنموذج من السرد القديم. كما اعتمد في سبيل تعميق مفهوم الأدب الخارق على رواية جان پوطوكي Jean Potocki" المعنونة ب"المخطوط المعثورِ عليه في سرقسطة" المكتوبة عام 1804 والصادرة في إحدى طبعاتها عام 1958.
والخلاصة أن تودوروف استمد عديداً من أفكاره البنيوية من نصوص السرد القديم ففتح بذلك مجالاً خصباً أمام النقد الأدبي من أجل استثمار التراث في صياغة إشكالات جمالية جديدة. ولطالما عبرت للترغي عن مضمون هذه الخلاصة حيث كنت أقول له:
- تصور لو أنك فتحت مجال اكتشافاتك العظيمة في مجال المخطوطات على مثل النهج الذي اتبعه تودوروف فإنك ستقلب خريطة النقد السردي المغربي والعربي رأساً على عقب. إن التراث السردي المغربي زاخر بأشكال تعبيرية بكر، ومتى نفلح في تأملها ودراستها نقدياً يمكننا في الآن ذاته أن نسهم في إثراء نظرية السرد العالمية إن تضافرت الجهود المتفرقة. ثمة الكرامات، والمنامات، والرحلات الخيالية، والأحاجي، والألغاز، والأسمار، والمناظرات، والملاعب، والمقامات، والحكايات الشعبية، وحكايات الجان، والعجائب، والغرائب، والطرائف، والملح، والسير، وتراجم الرجال وغيرُها من الأشكال السردية التي تحتاج إلى دراسات معمقة من أجل استخلاص طرائق بنائها وأنماط سماتها. هي أشكال مفعمة بألوان من البلاغة المكيفة بسمات من الخصوصية المغربية والعربية والإسلامية. وفي سبيل ذلك أفترض أن تصاحب عمليةَ تحقيق المخطوط دراستُه بصيغ نقدية منفتحة. كنت أقول ذلك لصديقي عبد الله الترغي وأقترح عليه توجيه طلبتنا في هذا السبيل المزدوج. كان يبتسم ابتسامة الخبير المتمكن من ميدانه ثم يعود إلى الحكي بانتشاء عن قراءاته في حقول التراث الفسيحة. كأنه البحار المغامر الذي يمخر بسفينته عباب الأمواج الهائجة مكتشفاً الجزر وأشباهَ الجزر، حتى إذا ما تحقق له ذلك لم يجد الوقت الكافي لكي يستمتع بخيراتها، وإنما يبحر من جديد متطلعاً إلى اكتشاف المزيد من الأصقاع.
إن ما قام ويقوم به الترغي في سبيل اكتشاف المخطوطات المغربية والتعريف بها يوازي عمل مؤسسة ضخمة تحتاج في واقع الأمر إلى عمال وميزانية. لكن الرجل اندفع منذ شبابه نحو ما يعشَق بكل تلقائية ونكران للذات، حافزه حب الأدب المغربي الذي يجمعنا ويجعل أعمالنا وغاياتِنا تتكامل.
هنيئاً لك أيها الصديق العزيز بهذا التكريم الرائع، وأملي أن تُجمْع مقالاته وأعماله وتنشر قريباً، وألا يكون مصيرها مثلَ مصير أعمال تكريمي الذي تكاد تمضي عليه ثلاثُ سنوات.
والسلام عليكم ورحمة الله.
18 فبراير 2009
مهما تكن درجة الأدب هابطة يجب عليك أن تتعلم كيف تستخلص منه قدراً من أدبيته حتى وإن ضؤل القدر وقلّ.
في سياق هذا الحب الشامل أخذت أنظر بعين التقدير إلى التخصص الذي اختاره الترغي حتى وإن كان تعارفنا آنذاك لم يتجاوز لقاءات عابرةً في الشارع.
في سنة 1982 التحقت بهذه الكلية أستاذاً ثم التحق بنا الترغي سنة واحدة بعد ذلك إن لم تخني الذاكرة. ومنذ ذلك التاريخ بدأت المرحلة الثانية من تعارفنا الذي اتسم بالمناقشات الثقافية الطويلة وتبادل الآراء حول الأدب المغربي القديم ونصوصِه وطرائفه. وحينما اخترت "قصص الأطفال بالمغرب" موضوعاً لرسالة الدبلوم كان الحافز ذلك الشغفَ الذي أشرت إلى بعض سماته قبل قليل. كان موضوع الرسالة له صلة بالأدب المغربي الحديث، لكنه اضطرني في نفس الآن إلى البحث عن جذور الحكي في تراثنا الشعبي. في هذا المضمار جرت بيني وبين الترغي محادثات نقدية طريفة في تطوان وطنجة ما زلت أحتفظ عنها بذكريات لطيفة.
في أثناء مرحلة التعليم الجامعي أفادتني البنيوية بمقولة ترى إمكانَ التماس أدبية الأدب مهما تختلف أنواعه ونصوصه وتضؤل جودته. ولقد اشتهر رولان بارث بعنوان كتابه "درجة الصفر في الكتابة" الذي ساعدني كثيراً على ضبط علاقتي بالأدب القديم ومحاولة تنظيمها. ذلك أن الوثيقة العتيقة التي نقرؤها لابد أن نستشرف فيها قدراً من الأدبية سواء أكانت شعراً أم نثراً أم تفسيراً أم فهرسة أم نقداً أم مجرد تعليق في هامش كشكول. واستنارةً بهذا التصور كتبت مقالاً لم ينشر بعنوان "المقامة في درجة الصفر" حللت خلاله مقامة الحمى لجلال الدين السيوطي الخالية في ظاهرها من التجليات السردية التي تسم عموم المقامات. ذلك لم يعن قط أني تبنيت كل مقولات البنيوية. والواقع أن كثيراً منها لم يقنعني، وأبديت إزاءها تحفظات عديدة حتى قبل أن يصدر تودوروف كتابه الشجاع "الأدب في خطر".
من هذا الباب النقدي الضيق كان يحلو لي الاستماع إلى الترغي وهو يحدثني بانبهار عن اكتشافاته في عالم المخطوطات: حينما كنت مهتماً بموضوع أدب الأطفال كنت أحفزه لكي يروي لي ما يعرفه من طرائف وموضوعات في هذا الباب ثم أحاول تكييف ذلك من زاوية النظرية النقدية التي توجه عملي. وهكذا دواليك مع موضوعات الموسيقى، والفروسية، والتصوير، والبلاغة، والتمثيل، والرحلة إلى المشرق وغيرها. وعلى الرغم من أن الترغي يعجبه أن يتحدث إلى مستمع يحسن الإنصات مثلي فإنه في مقابل ذلك لم يكن يتحمس لكي أحدثه بدوري عن قضايا الأدب الحديث وصلتها بالموروث. لكن على الرغم من قلة حماسه حاولت جاهداً وباستمرار أن أعبر له عن أهمية اكتشافاته الخطيرة في حقل المخطوطات الذي انغمس فيه حتى أذنيه.
في أثناء إعدادي لرسالة "قصص الأطفال بالمغرب" اطلعت على أفكار تودوروف حول الحكاية والحكي فانجذبت إليها. لكن ما أثارني فيها اعتماد هذا الباحث الفرنسي على كتب التراث واستلهامُه منها عديداً من مفاهيم تحليل النص السردي. فقد استثمر في كتابه "مقدمة إلى الأدب الخارق" نصوصَ "ألف ليلة وليلة" من أجل التمييز بين الغريب étrangeوالعجيب merveil ، وكذا من أجل دراسة أنماط من بنيات الحكاية وازدواجية شخصياتها وتحولاتها. كما اعتمد على حكايات شارل پـيرو التي اقتبسها للأطفال في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وفي كتابه "نحـو الديكامرون Grammaire de Decameron" استلهم تودوروف حكايات كاتب إيطالي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي اسمه جيوفاني بوكاشيو، وهي الحكايات المعروفة بالديكامرون أو ألفِ ليلة وليلة الإيطالية، واستخلص منها ما يمكن تسميته بالبنيات الهيكلية والتركيبية لنموذج من السرد القديم. كما اعتمد في سبيل تعميق مفهوم الأدب الخارق على رواية جان پوطوكي Jean Potocki" المعنونة ب"المخطوط المعثورِ عليه في سرقسطة" المكتوبة عام 1804 والصادرة في إحدى طبعاتها عام 1958.
والخلاصة أن تودوروف استمد عديداً من أفكاره البنيوية من نصوص السرد القديم ففتح بذلك مجالاً خصباً أمام النقد الأدبي من أجل استثمار التراث في صياغة إشكالات جمالية جديدة. ولطالما عبرت للترغي عن مضمون هذه الخلاصة حيث كنت أقول له:
- تصور لو أنك فتحت مجال اكتشافاتك العظيمة في مجال المخطوطات على مثل النهج الذي اتبعه تودوروف فإنك ستقلب خريطة النقد السردي المغربي والعربي رأساً على عقب. إن التراث السردي المغربي زاخر بأشكال تعبيرية بكر، ومتى نفلح في تأملها ودراستها نقدياً يمكننا في الآن ذاته أن نسهم في إثراء نظرية السرد العالمية إن تضافرت الجهود المتفرقة. ثمة الكرامات، والمنامات، والرحلات الخيالية، والأحاجي، والألغاز، والأسمار، والمناظرات، والملاعب، والمقامات، والحكايات الشعبية، وحكايات الجان، والعجائب، والغرائب، والطرائف، والملح، والسير، وتراجم الرجال وغيرُها من الأشكال السردية التي تحتاج إلى دراسات معمقة من أجل استخلاص طرائق بنائها وأنماط سماتها. هي أشكال مفعمة بألوان من البلاغة المكيفة بسمات من الخصوصية المغربية والعربية والإسلامية. وفي سبيل ذلك أفترض أن تصاحب عمليةَ تحقيق المخطوط دراستُه بصيغ نقدية منفتحة. كنت أقول ذلك لصديقي عبد الله الترغي وأقترح عليه توجيه طلبتنا في هذا السبيل المزدوج. كان يبتسم ابتسامة الخبير المتمكن من ميدانه ثم يعود إلى الحكي بانتشاء عن قراءاته في حقول التراث الفسيحة. كأنه البحار المغامر الذي يمخر بسفينته عباب الأمواج الهائجة مكتشفاً الجزر وأشباهَ الجزر، حتى إذا ما تحقق له ذلك لم يجد الوقت الكافي لكي يستمتع بخيراتها، وإنما يبحر من جديد متطلعاً إلى اكتشاف المزيد من الأصقاع.
إن ما قام ويقوم به الترغي في سبيل اكتشاف المخطوطات المغربية والتعريف بها يوازي عمل مؤسسة ضخمة تحتاج في واقع الأمر إلى عمال وميزانية. لكن الرجل اندفع منذ شبابه نحو ما يعشَق بكل تلقائية ونكران للذات، حافزه حب الأدب المغربي الذي يجمعنا ويجعل أعمالنا وغاياتِنا تتكامل.
هنيئاً لك أيها الصديق العزيز بهذا التكريم الرائع، وأملي أن تُجمْع مقالاته وأعماله وتنشر قريباً، وألا يكون مصيرها مثلَ مصير أعمال تكريمي الذي تكاد تمضي عليه ثلاثُ سنوات.
والسلام عليكم ورحمة الله.
18 فبراير 2009