جيلالي خلاص - خريف رجل المدينة


البداية…
بغمزة كبيرة، يتقلد الرجل منصب مدير عام لمؤسسة البناء بالبلدية. يجلس إلى المكتب الأنيق صبيا يبتسم في وداعة. فيما بعد يطوف بالموظفين بشوشا لطيفا. الشفاه الجافة تبادله الابتسام. يعود إلى مكتبه. فوق الكرسي المحشو يجلس متفكرا يلاعب ساقيه. طفلا فضوليا، يدور بالكرسي مجربا كافة الأوضاع. يدق جرس الكتابة يقف ليخلع سترته. تدخل الكاتبة فيمد إليها السترة:
علقيها فوق المشجب.
حين تستدير إليه، تجد سحنته قد تغيرت. لم يعد يبتسم كعهده. للحظة تشعر أنها تقف حيال رجل آخر.
غدا، تأتي الكاتبة الجديدة. أرجو أن تعلميها ضروريات المهنة..
سيدي…
في حزم يشير إلى الباب. ذاهلة باكية تخرج الكاتبة وتلتحق بمكتبها..
تنصرم الأشهر. يأمر بنقل نصف موظفي المديرية إلى جهات مختلفة. تخلفهم شلة جديدة.
تمضي السنوات. يعوض الأصدقاء القدامى. بجدد. على الشاطئ الهادئ أخذت الأمواج تداعب هيكل فيلا تبتسم للبحر. من رتاجها الكبير يدخل الرجل مبتسما.. يأمر الخادم برد الرتاج. عبر الحديقة الغنّاء يسير. يفتح باب السكنى. يصعد إلى الشرفة. البحر جميل مصقول. تتسع ابتسامة الرجل، تصير بعرض البحر. بصره يمتد إلى الميناء. هناك باخرة ترسو. من أحشائها تتهادى سيارة (مرسيداس) فخمة في المدينة تذهل البسطاء الذين عرفوا الطوبالي أحمد عن قرب. الآن يتحتم عليهم تسميته أحمد الطوبالي. الرجل العملاق. محور الأحاديث في الشوارع والمقاهي والبيوت، وحتى في السجن الرابض هناك على طرف المدينة…
في لمحة بصر…
كابوس غريب. انحرفت سيارة المرسيداس الفخمة يسارا. في خط مائل شقت الطريق. أمعاؤه تتمزق. إلى اليمين يدير المقود.. إلى اليسار… الزمن أسرع من حركة يديه المتوترة. السيارة تتعدى خندق اليسار.
وسط تربة وطئة، ترتطم بكثيب ترابي أفرغته شاحنة ما ذات يوم. تنقلب مرة.. مرتين.. بعيدا، يطير زجاحها صاد الرياح. سليما يقع. فيما بين المقود والدستة يجد أحمد الطوبالي نفسه مضغوطا. للمرة الثالثة تنقلب السيارة. لكن هذه المرة، ترتشق بأنفها في الأرض ثم تهوى… ينجذب جسد السائق. يستأصل من بين المقود والدستة. إلى الأمام، تمرق رأسه الحاسرة. على جزء منها ينطبق طرفا إطار الزجاج صاد الرياح… السفلي يكسر عظم جبينه… العلوي يسلخ في وحشية مقدمة الرأس الحاسرة… بحديد الباب لمفلم ترتطم ركبته اليمنى.. تكسر على الفور… الألم يذيبه.. لثوان يشعر بدوارن مرعب يطوح به نائيا. الغيبوبة.. شبح رهيب يعصر رأسه.. يختطفه..
الحفر في ذاكرة محتضر:
ماذا أصابني؟ أذكر أنني انحرفت بسيارتي تلافيا لكلب كان يعبر الطريق نسيت نفسي… سرعتي فائقة كانت… لم أتمكن من ارجاع السيارة إلى جادة الطريق مجرد كلب… للأسف! برق في ذهني لحظتها أني لو صدمت لكسر لي أحد المصابيح الأمامية… تخيل أن يكسر لك مصباح سيارة كهذه ولا تجد له مثيلا في بلدنا، لكني ارتكبت خطأ فادحا… ثلاثون مليون! ثمن المرسيداس التي شغلت النّاس… رباه! هل ذهبت هباء؟ حتى قطع الغيار لا توجد هنا… هذا الطراز منعدم… علي الاتصال بالأصدقاء في ألمانيا… آه… لقد وقع ما وقع… لأحاول النهوض… لقد تأخرت… الأصدقاء هناك في سيدي فرج… إنهم ينتظرونني… آه… الألم يمزقني… رأسي… رأسي… أحس بها مشقوقة… … مسلوخة… حلاق مجنون هذا الذي أجرى موساه فيما بين الجلد والعظم! ماذا أصابه لم أحلق شعري يوما بهذه الطريقة الخاصة… ما باله… كيف لم ير نعومة شعري… آه… أعتقد أن الألم يخف… سأمشط شعري من جديد… سليمة تنتظرني في سيدي فرج لا بد من الظهور أمامها بهندام لائق… فتاة فاتنة، سليمة… أحب عينيها الجذابتين وشفتيها الشبقيتين لحدّ الساعة لم ألتق بامرأة لها شفتين كتينك… شعور جنوني يعتريني كلما قبلتها… أرغب في قص شفتيها… أريد أن آخذهما إلى الأبد… جاءني بها سليمان… المقاول الوحيد الذي لم أضاحع زوجته. لم أكن أتحرق لذلك لا بد من الفوز بها قبل توقيع العقد… يقال أن له زوجة جميلة لكنه يحرمها من الخروج ويقتر عليها في العيش رغم ضخامة ثروته… سمعت عني بلا ريب… ضاجعت جميع زوجات الآخرين.. رقية زوجة عبد القادر.. ياسمينة زوجة عيسى… لا يمكن أن يأخذ سليمان الصفقة دون الركوع كزملائه… هذا شيء أساسي لا بد من الحساب له حين التعامل مع أحمد الطوبالي.. من يصدق؟ مجرد موظف. جرذ مكتب متواضع… ويصبح فجأة رجل مال.. آه.. سأماطل و أتهرب إلى أن يدعوني إلى البيت… وهناك. لكم أتوق إلى ذلك اليوم! صحيح أنه أتحفني بسليمة… لكن سليمة ليست زوجة، كان يمكنني الحصول عليها بمفردي.. آه.. ساقي تؤلمني… هل كسرت؟ رب.. الألم يقطع جسدي اربا اربا… لأحاول النهوض… لا أستطيع وليس من عادتي إخلاف الوعود… اتفقنا على اللقاء في سيدي فرج للغداء… لا بد من تلبية الدعوة… علي ألا أتأخر… اليوم أول يوم من عطلتي السنوية لعنة الله على هذه القضايا التي سلبت عقلي.. كان الأحرى أن آخذها في بداية الصيف لأتمتع براحتي أفضل… لكن تلك المشاغل.. الإسمنت.. الفيلا.. الصفقات الجديدة. ثريا زوجة سالم التي لم أستطع الابتعاد عنها… علية الشبقية… الأصدقاء الجدد. وحتى الحساد.. كلهم تآمروا علي وأخروا عطلتي إلى بداية الخريف… بيد أن الندم لا ينفع.. سأحاول النهوض.. آه.. أحس أن ساقي اليمنى فصلت عن فخذي ماذا أصابها يا ترى؟ لأحاول رفع رأسي… لا شك أن حديدة ما تسجن ساقي.. لكن مالي؟ لا أستطيع رفع رأسي! ومع ذلك أشعر أني قادر على النهوض.. لا .. إن شيئا يكبل رأسي.. ما أقسى الألم الذي أعانيه.. لم أحس بمثله في حياتي.. أكاد أتقيأ.. قلبي يوشك أن يتوقف.. لأحاول مرة أخرى.. يا للمهزلة! رأسي ثابتة لا تنصاغ لإرادتي.. لكأنها بترت.. رباه.. أسمع أصواتا.. إنها على ما يبدو تقترب مني.. هاهي قريبة فعلا.. أسمعها لأحاول فتح عيني لأرى.. يا للشيطان.. هما مغلقتان مغمضتان ولا رغبة لهما في الانفتاح ماذا وقع للعالم؟ أذني؟ تسمعان الأصوات ولا تحددان لا لغتها ولا كلماتها! ما أغرب الحالة التي إلت إليها! أتراني أعيش كابوسا.. أم؟.. لا .. لا .. لأنهض.. حتى حافظتي لا أدري أين وضعتها تبا له من يوم! كنت أفكر في علية وكيف تقضي ليلتها وحيدة.. كذبت عليها.. آه.. ماذا يفعل هؤلاء الأوغاد لعنة الله عليهم.. يرطنون بلغة لا أفهم منها شيئا! ماذا يفعلون..؟ إنهم يحملونني.. لأصرخ.. لأصرخ لكن ما لصوتي لا ينطلق؟ رحمتك يا رب! ماذا جنيت لأحرم حتى من الصراخ؟ ماذا جنيت لأصل إلى هذه الدرجة من العجز وأنا لا أزال لم أتخط الشباب؟.. الأوغاد.. إلى أين يأخذونني؟ ربما هم الذين دبروا الحادث.. من يدري؟.. أطلقوا الكلب ودفعوه ليعبر الطريق في الوقت المناسب.. كلب!! مجرد كلب! عندما أتذكر هذا! أكاد أقتل نفسي! لكن يحضرني أن الحادث وقع لي في مكان خال.. حشيش يابس وطبيعة ميتة.. لا سكان.. لا شيء في الأفق.. الطريق ذاته كان خاليا.. الخريف هو أنيسي الوحيد الذي كنت ولا أزال أشم رائحته الرطبة.. آه.. أكاد أجزم بأن هؤلاء الرجال هم مدبروا الحادث.. أخاف أن يكونوا من عصابات المختطفين.. هم قلائل في بلدنا.. منعدمون تقريبا.. لكن.. سيطلبون من زوجتي فدية مالية كبيرة.. مسكينة زوجتي!.. هي لا تعلم عن ثروتي إلا القليل القليل.. أنا لا أثق في النساء.. معاطف تسترنا ساعات البرد ولا بد من خلعها وإبعادها بمجرد طلوع الشمس.. يصلحن للجنس ولا غير! لكن لو تأكد الاختطاف.. من سيقذني؟ سالم المقاول؟ الحكومة؟ زوج ابنة عمي ذو المركز السامي؟.. لا .. سالم هو الوحيد الذي.. آه .. إني أشك فيه هو الآخر! من يقول لي بأنه ليس حاقدا علي؟ ألم يعلم حقا بعلاقة زوجته بي؟ الغيرة مصيبة.. لو .. آه .. ثريا.. جذابة.. فاتنة تجيد ممارسة الجنس! أول الأمر مانعت.. ربما لخوفها من زوجها، لكن سرعان ما سقطت في أحضاني حين تدفقت عليها هداياي.. المال سحرها.. خارت.. عادت تأتيني بلا موعد.. ترقد في سريري حملا رضيعا ينشد الدفء.. آه.. أيها المال.. الحرز الذي ليس بإمكان أي ساحر تحديه!.. لا شيء يقف حياله.. عصب لا شك أنهم رعاة أو لصوص جاؤوا يسلبونني متاعي ونقودي.. يا للأسف الدنيا.. ثريا.. في أحضانها أشعر بضعفي.. أحس بجوعي.. كثيرا ما فكرت في اختطافها و السفر بها إلى مكان مجهول.. الاحتفاظ بها بين أحضاني.. لكن.. جنون.. جنون.. ماذا يفعل الأنذال؟ يمدونني في مكان ما ليتني فهمت بعضا من رطائنهم! لا ريب أنهم يتشاورون.. آه.. سيتسببون في تأخري عن مواعيدي! أصدقاء سيدي فرج.. ومحمود الذي ينتظر في الميناء بشحنة الإسمنت الجديدة؟ ألا أمر عليه لأعطيه آخر الترتيبات.. أمرته بانتظاري لغاية حضوري.. ترى هل سينتظر؟ أمازال على وفائه أم؟.. شحنة ضخمة هذه المرة.. مليون مقفل بلا أدنى ريب! ربعه يأخذه الوسطاء ولكن الكفاية في الباقي..
سأصل على التكملة من الأكياس التي اسجلها في المؤسسة مثقوبة غير صالحة نهاية كل شهر.. هي الأخرى توفر لي دخلا محترما.. عملية بسيطة ومريحة.. نصف مليون كل شهر.. الإسمنت ثروة فعلا.. من يصدق؟ عشر سنوات.. استطعت أن أجمع من بيعه سريا ما لم يقدر على جمعه كبار التجار في خمسين سنة!.. محمود.. زوجته رائعة هي الأخرى.. لا شك أنه علم بعلاقتي بها لكنه يتغاضى! لو ثار لانتهت حياته!.. هو يعرف ذلك.. بفضلي أصبح رجل مال ولم يكن إلا راعيا!.. من أول انخراطه في المؤسسة، دخلت بيته.. لا تواضعا.. احدى «سارياتي» كانت قد أشارت إلي.. (زوجته مغرية يا أحمد) دفعت علال ليقنعه بالعمل في المؤسسة.. جاء.. قبلته على الفور.. أعطيته كل الامتيازات.. تناولت معه الغداء نفس اليوم.. رأيت زوجته.. مغرية! لم تخطئ (السارية) في وصفها.. غمزتها.. لم تمانع.. لها جسد يثير غرائز الموتى!.. البارحة باتت في أحضاني.. تفعل ذلك كلما أرسلت زوجها في مهمة لجلب الإسمنت.. دافئة هي.. حنون.. تقدرني وتحبني بإعجاب كبير.. الشهرة لها فوائد لا ريب! صرت أسير حبها رغم تعدد خليلاتي ومخطباتي.. آه.. رحمتك يا رب! اعفني ولو قليلا من هذا الألم الذي يعصر رأسي.. ترى أأنا مصاب بكسر في الجمجمة شيء خطير لو حدث!.. حتى الطب متأخر لدينا.. لا أحد يستطيع إنقاذي.. إلا.. لكن السفر إلى أوربا سيقتلني.. آه.. والأنذال؟ أين هم؟ أسمع رطانتهم التي لا أعيها ولكني لا أحس بهم! ترى أوضعوني في مكان خفي وبعثوا يطلبون فدية من زوجتي؟ لأصرخ.. لأصرخ.. لكن كيف؟ أصبت بالخرس.. أحس بلساني يتحرك لكن صوتي لا يخرج! ربما كانوا من بعض الحاقدين أنهي بناء فيلاي. سأعطيهم كل ما يطلبون.. أملي الوحيد، هل سيحرمونني من لمسة دخوله؟ العيش ولو ساعة بين جدرانه؟ لا.. لا.. علال لن يتركهم يتقربون منها.. حارس أمين.. آه.. علي اللعنة!.. زوجته لم تنج من مغامراتي.. عاقر لكن ليست ذميمة! ضاجعتها من أول لقاء.. تركت زوجها في الحراسة وتظاهرت بالسؤال عنه في بيته الذي سلمته له في الحي الجديد.. فتحت الباب.. رأتني.. لم تصدق.. كانت تتوق إلى هذه اللحظة.. من نظراتها أدركت أنها كانت تتمنى امتلاكي.. لكن بدون أمل.. دعتني للدخول لم أرفض.. النساء ضعفي الكبير.. لا قدرة لي على رفض طلب امرأة وخصوصا إذا ما دعتني إلى البيت.. أعدت لي قهوة.. جلسنا نرتشف القهوة للخطاب.. لم نفكر طويلا.. كانت تحترق وكنت أتلظى.. تركنا الفناجين منتصفة ورحنا نتعارك.. أجل نتعارك! غرامها غريب فعلا.. يا لها من مجربة!.. كادت تلتهمني.. ظمأى لا ترتوي.. جوعى لا تشبع.. ذلك ما حببها لقلبي.. فيما بعد كنت أضاجعها مرة أو مرتين في الأسبوع لكن هذا كان كاف ليجعلها توشم جسدي وشما يبقى لأيام! زوجها طيب جدا معجب بي إلى حد العبادة!.. وهي عاقر.. الوحيدة التي أضاجعها وأنا اشعر بالثقة.. ما زالت النساء الأخريات تخفنني رغم.. تجاربي التي لا تحصى ولا تعد.. أخاف ذنوب الصبيان.. لا زلت لا أثق قي الأقراص رغم نجاعتها المثبتة.. آه.. ساقي.. ساقي تكاد تنفصل عن فخذي.. لا.. لقد انفصلت فعلا.. يا إلهي ليس في مقدوري مد يد للمسها.. لا يمكن أن افتح عيني لأراها.. ماذا جرى يا ترى؟ يبدو أن الصمت يلفني.. أين أنا؟ أأنقذني سالم؟ لكن أين هو لماذا لا يكلمني؟ لماذا لا يساعدني على النهوض؟ لماذا؟ آه.. رأسي.. رأسي.. تنفجر.. الرحمة.. الشفقة.. أنا إنسان ضعيف.. التوبة.. التوبة.. يا رب.. لا أحتمل لا أطيق.. النجدة.. النجدة.. أنقذوني.. آغيثوني.. سالم.. علية.. نسيمة.. آه.. أسرعوا.. شدوا عني يدي هذا الشبح الذي يهصر رأسي بلا رحمة.. آه.. وسيارتي؟ ثلاثون مليون.. سيشمت الأعداء.. الحساد.. سيقولون ويقولون.. آه.. أنقذوني.. اللهم رحمتك.. لا أطيق.. لا أطيق.. آه..»
«الرجال الذين عثروا عليه:
يالها من سيارة! لكن للأسف.. ملايين ذهبت في رمشة عين!..
أسرع ساعدنا.. الرجل يكاد يموت.. وأنت تنظر إلى السيارة (وقد سحب ثلاثتهم الرجل من بين الحظام): يا إلهي! إنه مصاب في رأسه. كسور في الجمجمة بلا شك.. هيا لتسرع.. لتسرع به إلى المستشفى..
اللهم رحمتك.. رجله اليمنى مكسورة كذلك (يضع يده ويتحسس نبض الجريح).. جراح خطيرة لكنه لا يزال حيا.. لنسرع.. لنسرع.
والسيارة؟ وأمتعته؟
أحياة الرجل تهمنا أم الأمتعة؟
نسيت الاجراءات (يسرع أحدهم إلى السيارة يفتشها.. يأخذ مفاتيحها وحافظة النقود ومحفظة وثائق..).
هيا..
يتعاونون.. إلى داخل سيارتهم يرفعونه وينطلقون.. الطريق خال إلا من سياراتهم!!
دعوة غداء:
في نفاد صبر.. في توجس.. في قلق.. ينظرون إلى ساعاتهم.. نفس الرقم.. تقف عليه جميع العقارب.. في وجوه بعضهم يحدجون.. ذات التوتر يسود كافة الملامح نفس الخيبة ترتسم على كل القسمات.. الواحدة بعد منتصف النهار ولم يأت! عيسى أكثرهم نفاد صبر.. يقف.. يسبر خطوات العيون تتبعه نظراتها الحيارى.
الصمت سيد الموقف.. إليهم يستدير..
ربما لن يحضر؟
لا.. لا.. أحمد لا يتلاعب بالمواعيد.. سيأتي من غير شك.. لننتظر قليلا.. لكنها الواحدة؟
صحيح.. ربما اضطره شيء إلى.. أو اعترضه شغل..؟
لننتقل لبيته فهو في عطلة ولا يمكن الاتصال به في مكتبه..
فكرة صائبة..
ينتصب عبد القادر ويسبق عيسى إلى قاعة الاستقبالات حيث يوجد الهاتف.. يركّب الرقم الذي يحفظه.. ينتظر.. لحظات طويلة.. يسمع جرس الجهاز يدق في الجهة المقابلة.. لكن لا مجيب.. لا يد تسرع فتحمل السماعة وتنقذه من هذا الجحيم الذي يلتهمه.. يصمم على الانتظار دقائق أخرى.. طويلة.. مرهقة.. تمزق الأعصاب.. أخيرا يعود.. وفي يأس يخاطب العيون المحدقة فيه.. الآذان الصاغية إليه.
لا شيء.. الهاتف يدق ولا أحد يرد.. يبدو أن البيت شاغرا..
ترى، أصحب زوجته؟
سليمة، الفتاة التي أحضرها سليمان لأحمد الطوبالي تحدج عيسى المتحدث بنظرة شزراء..
سليمان يتولى الإجابة بسرعة:
مستحيل.. لقد أعلمته بحضور سليمة!.. إذن..
إذن.. ربما..
ماذا تقصد؟..
أقصد.. لا.. لا.. لا شيء.. (عبد القادر لا يصدق أن صفقة العمر التي طالما انتظرها يعترض تحقيقها حادث ما..)
يا جماعة، الساعة تشارف الثامنة زولا!
لننتظر قليلا..
كلا يا عبد القادر.. انتظرنا ما فيه الكفاية الرجل لن يأتي.. لنؤجل هذه الدعوة إلى يوم آخر..
تؤجل.. آواه.. «عيسى يدق الأرض بحذائه ذي الكعب العالي..».
لنتلفن مرة أخيرة.. «يهرع سليمان هذه المرة إلى الجهاز.. يعود بعد دقائق طويلة مرهقة.. »
لا شيء.. نفس العملية تتكرر لا مجيب!
ليؤجل الغداء..
ومع ذلك، فأنا آسف!..
ويعود الصمت.. في باطن عيسى يرغى زبد موج هادر «ضاعت الفرصة! وآسفاه.. كم انتظرت هذه الساعة للوصول إليها، قدمت كل غال.. المال.. الهدايا.. وحتى.. الزوجة.. أجل حتى زوجتي علمت بوقوعها في غرام هذا الرجل لكني تغاضيت.. الصفقة أغلى من مجرد نزوة زوجة!.. عشرات الملايين في ورشة بناء 200 مسكن متواضع.. صفقة العمر.. لن أعثر على مثلها أبدا.. اليوم الذي يمر خير من ذلك الذي يأتي.. الفرص لا تكرر.. ترى؟ لا.. لا.. أصدق..».
آسفون.. حقا..
عبد القادر يعقب.. الخيبة تمتص قواه.. هو الآخر ضحى بزوجته عائدة.. هي أجمل من زوجة عيسى.. من أجل الزوجات بلا ريب.. كثيرا ما تعرض لحسد، «لكن كل شيء يهون أمام المال.. بدونه كنت لن أحصل على شيء.. تخيل صفقة مد أنابيب المياه والمجاري عبر مدينة كتلك التي يحكمها أحمد الطوبالي.. ؟ ملايين.. ملايين.. مستحيل تحصيلها من مكان آخر.. في فرصة أخرى.. ضعف الرجل الوحيد: النساء.. علمت أنه يفضل زوجات معارفه وأصدقائه.. ثم فكرت: من يثبت لي بأن زوجتي لا تخونني مع نذل آخر؟ هي فاتنة وطالبوها ليسوا قلائل.. شيء صعب فعلا، أن تتزوج امرأة جميلة وتراقبها!.. قد تخونك مع أبسط الناس.. بواب الفيلا.. سائق السيارة الخاص.. مع أي شخص يتفرد بها ولو ساعة.. حياة اليوم غريبة حقا.. يوم خرجت المرأة إلى الشارع أبيح كل شيء.. علينا بالبحث عن مصطلحات أخرى تعوض: حرمة.. الشرف.. الأمانة.. الحصانة الزوجية!!».
حتى سليمة فجعت.. خاب أملها.. أغراها سليمان بالكثير.. صحيح أنها نالت من الرجل شيئا.. لكنها تعود اليوم خائبة وقبل ساعة كانت تحترق شوقا إلى ذلك الذي شعرت بين أحضانه بالرجولة الحقيقية تلامسها. هل تراه بعد اليوم؟ لم يحرمها من شيء رغم قصر المدة التي مرت بها على تعارفهما.. لكن..
سليمان أول من يخرج.. في قلبه تنفجر قنبلة موقوتة.. لم يضيع شيئا لكنه خائب لأنه لم يربح شيئا!.. على هذا الغداء، علق الكثير من الآمال.. وبقيت مجرد آمال.. بل هي تخبو الآن كجمرات لم يعد يفتح الباب ويلتفت ليدعو سليمة للركوب. سرعان ما تجري. في داخل السيارة ترتمي مجهشة بالبكاء.. لم يعلق.. هو الآخر يركب ويصفق الباب.. يدفع السيارة بعنف عبر الاسفلت الرطب برذاذ الخريف.. انتهى النهار..
في انتظار النهار:
أي شيء آخر؟ قال أنه سيحضر في تمام الرابعة مساء.. لم يتعود التلاعب بمصلحته الشخصية فما باله اليوم؟ السادسة مساء تدق ولا رئيس في الأفق.. نهار كامل في الانتظار للحصول على الشحنة وساعات أخرى من السأم في انتظار الرئيس.. قال أن له تعليمات هامة يدلي بها إلى.. أي تعليمات؟ ينوي السفر إلى الخارج خلال عطلته؟
عشر سنوات خلت وأنا في خدمته.. حفظت تعليمات المهنة عن ظهر قلب.. فماذا عساه يضيف إلى تجربتي.. أنا أحق منه بتلك الثروة.. بواسطتي كوّن معظمها.. الاسمنت.. الاسمنت الذي غدى ذهبا نادرا على مدى السنوات الأخيرة وفي جميع أنحاء القطر، يحصل عليه هو مجانا ويبيعه حسب هواه!..
السابعة مساء.. كفاني انتظارا.. لم يحضر.. علي بالتوجه إلى المخزن كالعادة.. لأول مرة، أخالف الأوامر لكن مرة واحدة لا تغير مجرى الأحداث!..
في غرفة نوم ما بالمدينة:
فيكي لوندروس تغني:
الحياة تمضي..
الزمن يغير لونه..
ليتغير كل شيء وليس لون الزمن فقط! أما أنا فلن أغير الأسطوانة.. فيها هذا المقطع الذي يأخذني بعيدا بعيدا.. ما له الليلة تأخر؟! ينقض وعده؟ الليلة ذات صبغة خاصة، ما أشد شوقي إلى جسده الرياضي.. يكفيني أن يتمدد جنبي ويشاركني أحلامي لا أستطيع النوم من غير هدهداته.. لمساته.. قبلاته.. ضماته.. الإنسان الوحيد الذي ملأ فراغ حياتي.. في أحضانه وجدت الملجأ الآمن الذي ينقذني.. يحميني من رجال أمي الوقحين.. كفاني اصطناعا للبسمات.. التكلفات.. كفاني.. ترى ماذا يكون رأي أمي التي أودعت نفسها في صندوق الغرام السرمدي، لو دخلت غرفتي الآن وألفتني منبطحة هكذا على السرير؟ في المرآة، يطالعني وجهي: جفوني منفخة.. عيناي محمرتان.. خداي شاحبان.. لا نعاس.. لا حبيب.. الساعة تدنو من الثانية صباحا، أين هو؟ أ حدث له شيء.. يقولون أنه يخرب ويسرق مال المدينة ليبني فيلاه ويمول مشاريعه الضخمة.. حساد.. منافقون.. لو استطاعوا لقلبوا الدنيا وأكلوا أموال كل اليتامى والأرامل والمنكوبين.. تبا لهم من كذابين!..
متى تصل يا حبيبي؟ متى؟ لكأن الزمن يتغير فعلا.. أي حدس أشار إلي باختيار هذه المجموعة من أسطوانات فيكي لوندروس. ما هي تغني الآن:
بعدك..
لن أصير إلا ظلا،
ظل نفسك..
بعدك؟
لن يبقى لي أمل..
بعدك..
كانت أسطوانته المفضلة، إلا أن قلبي يحدس شيئا.. يتوجس شرا.. لا.. لا.. لن يحدث شيء..
خبر ذرته الريح في كل ركن بالمدينة:
وقع لأحمد حادث سيارة.. أصيب برضوض من الدرجة الثانية في الجمجمة، لا يزال في غيبوبة بمستشفى مصطفى منذ صبيحة الأمس..
فجيعة رجل:
أين أذهب بعده؟ آمالي.. خبزي.. حياتي.. أحمد.. أحمد الطوبالي يموت؟ مستحيل نتوقف في لحظة.. كلا! لا أصدق.. لا يمكن أن أصدق.. الرجل الذي أغدق علي المال والجاه رغم تفاهتي وبلادتي يموت..؟.. ماذا بقي لي في الحياة؟ ماذا؟ ﻣ.. آه..
تجمهر المارة حول رجل يسقط بكامل طوله وسط الرصيف.. احتاروا.. وضع أحدهم مفتاحا بيد الساقط.. تطوع آخر بسيارته.. حملوه إلى المستشفى على عجل.. مفجوعة جاءت زوجته تجري.. أمام باب قسم الاستعجالات.. استقبلها ممرض..
أنت زوجة علال، حارس فيلا أحمد الطوبالي..؟
آه.. أي (تضرب ركبتيها).
لا خوف عليه.. أصيب باضطراب عصبي وأغمي عليه لا غير!
عبر أحياء ومقاهي المدينة…
شيخ: رحمتك يا رب.. إنا لله وإنا إليه راجعون!.. إيه.. ما أقصرك أيتها الفانية ومع ذلك يغتر كثير من الناس!.. إنا لله وإنا إليه راجعون…
امرأة: (تمنت أن يضاجعها ولم تفز به): شح.. شح.. حتى هو كان طاير..
كهل: لا حول و لا قوة إلا بالله!.. رغم حقدي وغضبي، لم أكن أتمنى له الموت بهذه السرعة!.. صحيح أنه رفض توظيفي وأخرجني من مكتبه بالشتم ولكن.. سبحان الله!..
أم علية: ويحك يا علية.. ويحك وويح أمك! أهذا هو حظنا في الحياة؟
شاب: إني آسف لكون الموت شيئا رهيبا ومع ذلك فهو ضروري.. بكل صراحة ربما سيموت جرذ كلف المدينة الشيء الكثير مجهول: لم يمت.. ليته يمت!.. ليته!
من غير موته لن يفتح الطريق إلى ترقيتي مديرا بالمؤسسة!..
صديقان عاديان: هو يزاحم الأيام كالسجين: هي الحياة.. وما بعد الكربة إلا الفرج!
يأخذ تذكرة دخول إلى العالم الآخر و النّاس يتحدّثون.. أشياء كثيرة.. كلام لا يحصى أسمعه وليس في مقدوري رفع إصبعي.. لم تمر على الحادث إلا 24 ساعة لكن ألسنة النّاس لا ترحم ليتهم تركو.. يموت ثم قالوا ما يشاؤون! اليوم عرفت إلى أي مدى يمكن أن يصل حقد النّاس.. هو على شفا الموت وهم يطالبون بموته.. لو وجدوا لأحرقوه..!
آخر خبر:
«زاره الأهل. الأمل في حياته ضئيل!»
مرعبة نظراتهم الجوعى!..
في غرفة الانتظار وقفوا ينتظرون وهما.. علية العشيقة، عبد القادر، سليمان، سليمة، عيسى.. محمود السائق الشخصي.. علال، حارس الفيلا الذي اكترى سيارة أجرة فور استيقاظه من الإغماءة!.. متملقون آخرون، أصدقاء عاديون.. زملاء عمل..وقفوا ولا أنيس لهم غير الصمت المريع..
غرفة العمليات.. سالم هو الوحيد الذي صاحب الأسرة.. كان أعز أصدقائه على ما يبدو.. يقال أنه الدماغ الحقيقي للرجل!..وقفوا واجفين ينتظرونه عائدا.. وعاد.. عاد وحده ومن خلفه مزق سكون الدهاليز عويل نساء. عاد.. رأوه.. هرعوا إليه.. حاصروه لكأنهم يخافون إفلاته..- سالم.. سالم..
الحصار يستد.. للحطة يفكر في أن يبصق في وجوههم جميعا وينصرف لحاله، يفكر في شتم أخيارهم.. لكن.. هو الآخر مثلهم فقد مزايا لن يعثر عليها أبدا.. يتململ.. الحصار يشتد!
مرعبة نظراتهم الجوعى.. في يأس يرفع يديه.. ينزلهما ببطء.. يحجب وجهه، يجهش بالبكاء. وبين شقهتين يخرج صوته المخنوق: مات!!»

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...