هدى العطاس - ذمولة شهيد.. قصة قصيرة

اجتازت السور المنخفض.. السماء كابية، سكون عميم إلا من نسيم يتخلل الشجيرات التي تبرعمت جوار الشواهد، يهسهس مثل ناي موجوع، يتداخل الهسيس وأنين خافت ينبعث من مكان خفي لربما من حفيف خطواتها المكلومة، ويتصادى وتكبيرة العيد التي تناهت من قباب بعيدة. انتصبت بجسدها وسط التباب الصغيرة المسجاة التي تفترش الأرض على مد البصر، بسملت وقرأت الفاتحة. ثم قرفصت أمام تبة صغيرة الحف داخلها الرفات الحبيب.

وبأصابع معروقة مسدت العشب الطري النابت كزغب على ظهر التبة، المبتل توا بالطل الفجري الذي بدأ يسفر عن صباحه. فتحت صرتها الصغيرة، وتناولت ذمولة مازالت ساخنة، فتتتها وبدأت بنثرها، ثم تتناول أخرى وقبل أن تفتتها رفعتها صوب فمها كأنما أودعتها وصية ما، عطفت جسدها على ظهر التبة الصغيرة، احتضنته وغطت وجهها بقمتها واستغرقت في وشوشة هامسة للجسد المسجى في باطن ثراها، فضفضت وبثته أسرارا ذهب قبل أن تتبادلها معه كعادتهما، ألصقت شفاهها تحسست التراب البارد أودعته قبلة دافئة، لم يرجعها من مناجاتها تلك سوى البلل الذي شعرت به في راحة كفها! كانت الذمولة ذائبة بين أصابعها وقد غمست بدموعها. حينها تذكرت شيئا ما، افترت شفتاها عن ابتسامة دافئة صعدت من بين حناياها مارة بمجرى الحليب، تمتمت من بين شهقات نحيبها: كان يفضلها مغمسة ب”الشاي الملبن”



* الذمولة: كعك حلو يخبز في كل مناطق الجنوب بأسماء مختلفة.
* التبة: كناية عن القبر الذي يرتفع عن الأرض قليلا. وقبور الشهداء تباب تعلو مع الزمن حتى تغدو جبالا شامخة.

ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...