عفريت أول: العائلة انتبه جيدا لحكاية جد جدي هكذا يقول الأب لابنه الكبير قبل أن يطفيء النور, ويتمدد علي الكنبة مبحلقا بعينين لامعتين في ظلمة السقف, يعقد ذراعيه فوق صدره, فيما الابن الكبير يجلس علي الكرسي الخشبي وقد ضم كعبيه لبعضهما, والجلباب الأبيض الناصع لا يغطي ساقيه, تتدلي يداه علي جانبيه, ولمسة برد تلسعه, يستمع لأبيه. انتبه جيدا لحكاية جد جدي التي بدأت بأن أولاده الثمانية والمتدرجين في العمر إلي ثماني عشرة سنة منهم خمسة صبيان وثلاث بنات, كلهم كما تبدأ الحكاية, يخافون القطط, وبشكل لافت, وصاروا أضحوكة في الحي, لو صادف أحدهم قطا, وهو يمشي في الحارة يصرخ ويفزع ويجري يحتمي بأبيه وأمه, وربما اختفي في الدار لا يخرج منها أياما.
في المقهي حاصر الشيوخ والرجال جد الجد وسألوه حلا, فقد حاولوا منع القطط من دخول الحي بلا جدوي, القطط تقفز من أعلي البيوت, وهو العارف بأن للقطط سبع أرواح, لكن الرعب الذي يقتل أولاده جعله يفكر في الرحيل عن الحي, وما كل أحياء المدينة إلا دور ودكاكين وقطط لا يمكن محاربتها, حتي همس له الشيخ بالحل الأمثل.
في صباح العيد الصغير دخل جد جدنا علي أولاده حاملا بين يديه قطة صغيرة جدا, لونها أسود وفي غزة رأسها شعيرات بيضاء, تماسك الأولاد في البداية, التصقوا بالجدار خوفا, ثم تشجع واحد وراء الآخر واقتربوا من الكائن المرعب المدفوس في حضن جد جدنا, تأملوه بدهشة, قطة صغيرة تموء بضعف, أخذ جد جدنا يلاعبها, ويرميها لأعلي ويلتقطها, يربت عليها, يمسح شعرها, يجلس علي الكليم ويضعها في حجرة فتروح في سابع نومه كطفل رضيع, يبحلقون مبهورين وفي لحظة تاريخية تقدم ابنه الكبير بحذر, ومد يده المرتعشة ولمس شعر القطة التي لم تتحرك, مس شعرها, ثم في جرأة طبطب علي رأسها, فتطلعت إليه بعينيها وماءت بنعومة ورجاء فانفجر الجميع بضحك هستيري.
تعودوا عليها ابن وراء ابن, والجدة الكبيرة كانت تجهز لها رضعة اللبن, وتطمئن عليها في الليل عندما تنام وسط الأولاد, حتي كبرت القطة وخاف جد جدنا أن تهرب بعد أن حطت السكينة في صدورهم, وبعد أن أشاد الجميع بأولاده الذين أصبحوا يمشون في الحارة بلا خوف من القطط, صار يراجع قفل الأبواب وإحكام الشبابيك كل ليلة خوفا من وقوع المحظور وهروب القطة, ثم توصل لفكرة عبقرية: أن يأتي بقط ويزوجه لقطته, وافق الجميع علي الفكرة وتزوج القط من القطة, وأنجبا العديد من القطط ملأت البيت بهجة ومواء, واحتلت تحت السرير وفوق الدولاب, والطرقات, والبلكونة, والسندرة.
انسحب خوفهم من القطط, وصار لكل منهم عدد من القطط تنام في حضنه, وتنتظره وتأكل معه, الأم لا تبدأ نهارها إلا بعد أن تلمع الصورة الكبيرة المتصدرة الصالة, وفيها جد جدنا والجدة الكبيرة وأربع قطط تلتمع عيونها, وتلمع صورة الابن الكبير صاحب الجرأة التاريخية, صورته وهو يحمل بين ذراعيه القط الأكبر الذي يبص في ثقة للكاميرا.
هذه هي حكاية جد جدنا مع القطط, هل يمكن أن تنام الآن ؟
ينهض الابن من كرسيه الخشبي, ينحني, يقبل رأس أبيه ذي الشعر الأسود الذي زحفت علي سوالفه شعيرات بيضاء, ويهمس: تصبح علي خير يا أبي, ويمشي بحذر في الصالة خوفا من أن يدوس أي قط من القطط التي تملأ البيت, وهي من سلالة قطة جد الجد, يدخل حجرة نومه مع أخويه وأخته, ينامون في الظلمة, من أزة الباب ينهض أخوه وأخته يزومون وينظرون له بغيظ ودهشة, وهو يرتجف من اتساع حد قاتهم والتماعها في الليل.
* عفريت ثان: ألعاب الأرانب
قالت الأم لابنتها محاسن إذا تأخرت عند خالك نامي في حضن زوجة خالك, ولا ترجعي وحدك في الليل, ذلك لأن محاسن بيضاء وشعرها أصفر وجميلة وصغيرة, وحول رقبتها سلسلة بها خرزة زرقاء, ورغم سنوات عمرها الاثنتي عشرة فهي تحفظ أغنيات شادية, وترقص مثل سامية جمال, وتدفس رأسها بين النساء, وتعرف حكايات الرجال مع زوجاتهم, وكثيرا ما تتأمل جسدها أمام المرآة, وكثيرا ما تراها الأم وتطلب الستر من الستار, لذلك شددت عليها إذا تأخرت أن تنام في حضن زوجة خالها.
محاسن جلست عند خالها وتغدت وعاكست العيال وشاهدت مسلسل الثامنة مساء وانكمشت من البرد في حجرة خالها تسمع له, وهو يحكي عن العفاريت, لكنها حين دقت الساعة الحادية عشرة نهضت وقررت العودة لدارها, ولأن دماغها ناشفة لم تسمع لخالها, فأرسل معها خالد ليوصلها للدار, خالد أشعل سيجارة, وسحبها تحت إبطه, وبرطم بكلمات غاضبة, يضغط علي كتفها بيده اليسري لتهمد, تنفلت, تقفز مثل عنزة, شارعها يبدأ من أول جسر قطار الدلتا ممتدا بين سكون البيوت الواطئة علي الشمال, وعلي اليمين أرض فضاء تمرح فيها الحشرات والضفادع في مياه راكدة عفنة, والمصباح الوحيد معلق علي باب دار الشيخ عتمان وينتهي الشارع بالمقابر المظلمة القابعة علي اليمين, ودار محاسن في الحارة السد علي الشمال, تركها خالد بالضبط أمام عتبة باب دارهم في الحارة ورجع.
محاسن وجدت الباب الخشبي كالح اللون مغلقا, فأمسكت بال سقاطة ودقت دقة ودقة و.. انتفضت إذ قفز بين رجليها شيء أبيض صغير, ودهشت لأنه أرانب, تراجعت للخلف, أحترزت منه, وقف الأرنب في سكون ذليل, شجعها لتنقض عليه وتمسكه, لكنه في لحظة خاطفة فر, جري قليلا, ثم توقف, تقدمت باتجاهه واتسعت دهشتها حين ظهر فجأة أرنبان خلفه, كانا أكبر حجما, لهما نفس اللون الأبيض الشاهق, التمعت عيون الأرانب, العيون حمراء مضيئة, تلعب الأرانب بأذانها في مسكنة, محاسن جرت باتجاه أجمل الأرانب وأكبرها حجما, راوغها محافظا علي مسافة صغيرة بينه وبينها, ركعت علي ركبتيها تناديه بأصابعها الدقيقة, يستجيب لحظات, ويتقدم, تشعر بأنفاسه دفئة في أصابعها, انقضت بيديها لتمسكه, فر, ضربت الأرض بيديها حسرة, ووقعت, فيما الأرنب يخايلها, تتقدم ويتراجع, سيدنو منها وتمسكه, و.. جري بسرعة وقفز إلي العربة الكارو المركونة بجوار دار الحاج صالح, والعربة لعبتها كل يوم, يفك الحاج صالح الحصان ويجره إلي داخل الدار, بينما تنط هي علي العربة مع البنات, يغنين ويرقصن ويقصصن حكايات العفاريت اللابدة في المقابر, نطت علي العربة, لا تعرف كيف أصبح الأرنب في حضنها؟ ضمته وهي تصرخ بفرح, للأرنب رائحة المسك ودفء ينبعث من فروه الأبيض الناعم الحرير, ركن الأرنب رأسه في صدرها لحظات ثم قفز إلي الأرض كالملسوع, وقفت تصفق, ثم هالها أن الأرانب ملأت الحارة السد, صارت الحارة مؤرنبة! نزلت إليها لتمسك بأرنب من أذنيه, وجرت بينها, الصهد يطلع من قلب الأرض, تدور,, تفتح ذراعيها وهي تدور, تدور الأرانب حولها, تكاد الأرانب تقف علي أطراف أظفارها, تخدعها الأرانب وتجري ناحية المقابر, محاسن تجري خلفها بخفة وسرعة, الأرانب تباغتها وتقف فجأة, تقع محاسن, تجتمع الأرانب حولها وعلي بطنها, تدغدغها, تضحك محاسن بلا توقف, تتمرغ علي الأرض والأرانب تتمرغ معها, سمعت ضحكات رقيقة خافتة وهمسا لفحتها حرارة, سكنت الأرانب لحظة ثم انطلقت ناحية الحارة, جرت محاسن خلفها, رأت الأرانب تقفز إلي أعلي وتظل في الهواء كأنها تطير, الأرانب معلقة فوق رأسها, تحاول محاسن عبثا أن تمسك بها, جيش من الأرانب يجري ويطير, محاسن لم تكف عن المحاولة, جاء أجمل أرنب يجري أمامها يقع ويتمرغ تحت رجليها, داعبته, وجرت, جرت خلفها كل الأرانب, محاسن تقفز الترع والجسور, وتخوض في الغيطان, وتطير من بين أفرع الشجر, محاسن تعثرت ووقعت سطيحة, انخلع الشبشب, وانحل شعرها, فوقها حطت الأرانب وانتابها ضحك ناعم رقيق بلا توقف, انتقلت نوبة الضحك إلي محاسن وظلت تضحك, انفلتت من الأرانب وجرت إلي عتبة باب الدار ووقعت من الارهاق.
في الصباح الباكر فتحت الأم الباب كالح اللون, فوجدت محاسن نائمة علي العتبة بشعر محلول, وشبشبها مرميا في وسط الحارة, خبطت الأم علي صدرها بفزع, وزعلت من أخيها الذي ترك البنت الجميلة البيضاء ذات الشعر الأصفر ترجع لوحدها.
* عفريت ثالث:برواز
في البداية كانت الأصوات تتناهي من بعيد: ارتطام مكتوم, طقطقة سرير, جرجرة تربيزة, هبدة كرسي. ونادرا ما سمعوا الصرخة المبتورة, لكن بدأت الأصوات تصبح واضحة, عالية محددة, تبينوها قادمة من البيت الملاصق من الشقة المجاورة بالطابق الثالث ذي البلكونة المغلقة من سنوات والتي يطلون عليها من بلكونتهم بسهولة, والبلكونة غالبا ما تكون متربة وبها بعض من ريش خفيف وزغب, طار وحط بها من شهور, وأحيانا تمسي البلكونة نظيفة, فيقول الأب لأبنائه ليطمئنهم: أفهمتم.. أمه تأتي من حين لآخر لتنظف الشقة, وهي التي تجرجر الكراسي لتكنس وتمسح.
حاولوا الاقتناع, حتي باتت الأصوات تأتي كأن عددا من العمال يعمل بهمة وسرعة, وأصوات خبط وشيل وحط وأزيز, وفي تلك الليلة عاود صرخته المبتورة, ندت من الصغيرة آهة مفزوعة, ووقفت الكبيرة علي السرير ثم قفزت ونادت علي أخيها الأكبر. وقفوا في البلكونة يبصون علي البلكونة المجاورة, لا يسمعون صوتا, يميل الأخ بنصفه الأعلي ويمد رقبته ولا يري أي ضوء, عندما يعوون إلي أسرتهم يعم السكون, وما أن يشدوا الأغطية حتي تبدأ هسهسة, ثم أشياء تهتز, وتتحرك كراس من مكان لآخر, وذات مرة سمعوا بوضوح صوت تحطم زجاج, تقوست الصغيرة رعبا. تدخل الأب والحاج صاحب البيت وأحضرا أم فهمي صاحب الشقة, الذي اختفي من سنوات, أقسمت الأم أن زوجة ابنها المرحوم الذي قتله ابن الحرام في السوق, لابد أنها تأتي من خلف ظهره وتعبث بالشقة, وتقسم أن الزوجة التي لم تلد لها حفيدا قد سرقت برواز صورته المذهب, ورمت بصورته علي الأرض, فأخذت هي صورة الغالي الذي قتله ابن الحرام في السوق, بينما أكد الحاج صاحب البيت أن أحدا لا يتجرأ علي دخول شقة في بيته دون علمه, فتحوا الشقة, كان الانتريه بكراسيه الضخمة مستقرا في مكانه, والسرير مرتبا, والبرواز المذهب مرميا علي الأرض, زجاجه منثورا, وصورة فهمي تحت البرواز وإن كانت ملامحه مختفية تماما عدا ابتسامة واسعة علي شفتيه.
في المقهي حاصر الشيوخ والرجال جد الجد وسألوه حلا, فقد حاولوا منع القطط من دخول الحي بلا جدوي, القطط تقفز من أعلي البيوت, وهو العارف بأن للقطط سبع أرواح, لكن الرعب الذي يقتل أولاده جعله يفكر في الرحيل عن الحي, وما كل أحياء المدينة إلا دور ودكاكين وقطط لا يمكن محاربتها, حتي همس له الشيخ بالحل الأمثل.
في صباح العيد الصغير دخل جد جدنا علي أولاده حاملا بين يديه قطة صغيرة جدا, لونها أسود وفي غزة رأسها شعيرات بيضاء, تماسك الأولاد في البداية, التصقوا بالجدار خوفا, ثم تشجع واحد وراء الآخر واقتربوا من الكائن المرعب المدفوس في حضن جد جدنا, تأملوه بدهشة, قطة صغيرة تموء بضعف, أخذ جد جدنا يلاعبها, ويرميها لأعلي ويلتقطها, يربت عليها, يمسح شعرها, يجلس علي الكليم ويضعها في حجرة فتروح في سابع نومه كطفل رضيع, يبحلقون مبهورين وفي لحظة تاريخية تقدم ابنه الكبير بحذر, ومد يده المرتعشة ولمس شعر القطة التي لم تتحرك, مس شعرها, ثم في جرأة طبطب علي رأسها, فتطلعت إليه بعينيها وماءت بنعومة ورجاء فانفجر الجميع بضحك هستيري.
تعودوا عليها ابن وراء ابن, والجدة الكبيرة كانت تجهز لها رضعة اللبن, وتطمئن عليها في الليل عندما تنام وسط الأولاد, حتي كبرت القطة وخاف جد جدنا أن تهرب بعد أن حطت السكينة في صدورهم, وبعد أن أشاد الجميع بأولاده الذين أصبحوا يمشون في الحارة بلا خوف من القطط, صار يراجع قفل الأبواب وإحكام الشبابيك كل ليلة خوفا من وقوع المحظور وهروب القطة, ثم توصل لفكرة عبقرية: أن يأتي بقط ويزوجه لقطته, وافق الجميع علي الفكرة وتزوج القط من القطة, وأنجبا العديد من القطط ملأت البيت بهجة ومواء, واحتلت تحت السرير وفوق الدولاب, والطرقات, والبلكونة, والسندرة.
انسحب خوفهم من القطط, وصار لكل منهم عدد من القطط تنام في حضنه, وتنتظره وتأكل معه, الأم لا تبدأ نهارها إلا بعد أن تلمع الصورة الكبيرة المتصدرة الصالة, وفيها جد جدنا والجدة الكبيرة وأربع قطط تلتمع عيونها, وتلمع صورة الابن الكبير صاحب الجرأة التاريخية, صورته وهو يحمل بين ذراعيه القط الأكبر الذي يبص في ثقة للكاميرا.
هذه هي حكاية جد جدنا مع القطط, هل يمكن أن تنام الآن ؟
ينهض الابن من كرسيه الخشبي, ينحني, يقبل رأس أبيه ذي الشعر الأسود الذي زحفت علي سوالفه شعيرات بيضاء, ويهمس: تصبح علي خير يا أبي, ويمشي بحذر في الصالة خوفا من أن يدوس أي قط من القطط التي تملأ البيت, وهي من سلالة قطة جد الجد, يدخل حجرة نومه مع أخويه وأخته, ينامون في الظلمة, من أزة الباب ينهض أخوه وأخته يزومون وينظرون له بغيظ ودهشة, وهو يرتجف من اتساع حد قاتهم والتماعها في الليل.
* عفريت ثان: ألعاب الأرانب
قالت الأم لابنتها محاسن إذا تأخرت عند خالك نامي في حضن زوجة خالك, ولا ترجعي وحدك في الليل, ذلك لأن محاسن بيضاء وشعرها أصفر وجميلة وصغيرة, وحول رقبتها سلسلة بها خرزة زرقاء, ورغم سنوات عمرها الاثنتي عشرة فهي تحفظ أغنيات شادية, وترقص مثل سامية جمال, وتدفس رأسها بين النساء, وتعرف حكايات الرجال مع زوجاتهم, وكثيرا ما تتأمل جسدها أمام المرآة, وكثيرا ما تراها الأم وتطلب الستر من الستار, لذلك شددت عليها إذا تأخرت أن تنام في حضن زوجة خالها.
محاسن جلست عند خالها وتغدت وعاكست العيال وشاهدت مسلسل الثامنة مساء وانكمشت من البرد في حجرة خالها تسمع له, وهو يحكي عن العفاريت, لكنها حين دقت الساعة الحادية عشرة نهضت وقررت العودة لدارها, ولأن دماغها ناشفة لم تسمع لخالها, فأرسل معها خالد ليوصلها للدار, خالد أشعل سيجارة, وسحبها تحت إبطه, وبرطم بكلمات غاضبة, يضغط علي كتفها بيده اليسري لتهمد, تنفلت, تقفز مثل عنزة, شارعها يبدأ من أول جسر قطار الدلتا ممتدا بين سكون البيوت الواطئة علي الشمال, وعلي اليمين أرض فضاء تمرح فيها الحشرات والضفادع في مياه راكدة عفنة, والمصباح الوحيد معلق علي باب دار الشيخ عتمان وينتهي الشارع بالمقابر المظلمة القابعة علي اليمين, ودار محاسن في الحارة السد علي الشمال, تركها خالد بالضبط أمام عتبة باب دارهم في الحارة ورجع.
محاسن وجدت الباب الخشبي كالح اللون مغلقا, فأمسكت بال سقاطة ودقت دقة ودقة و.. انتفضت إذ قفز بين رجليها شيء أبيض صغير, ودهشت لأنه أرانب, تراجعت للخلف, أحترزت منه, وقف الأرنب في سكون ذليل, شجعها لتنقض عليه وتمسكه, لكنه في لحظة خاطفة فر, جري قليلا, ثم توقف, تقدمت باتجاهه واتسعت دهشتها حين ظهر فجأة أرنبان خلفه, كانا أكبر حجما, لهما نفس اللون الأبيض الشاهق, التمعت عيون الأرانب, العيون حمراء مضيئة, تلعب الأرانب بأذانها في مسكنة, محاسن جرت باتجاه أجمل الأرانب وأكبرها حجما, راوغها محافظا علي مسافة صغيرة بينه وبينها, ركعت علي ركبتيها تناديه بأصابعها الدقيقة, يستجيب لحظات, ويتقدم, تشعر بأنفاسه دفئة في أصابعها, انقضت بيديها لتمسكه, فر, ضربت الأرض بيديها حسرة, ووقعت, فيما الأرنب يخايلها, تتقدم ويتراجع, سيدنو منها وتمسكه, و.. جري بسرعة وقفز إلي العربة الكارو المركونة بجوار دار الحاج صالح, والعربة لعبتها كل يوم, يفك الحاج صالح الحصان ويجره إلي داخل الدار, بينما تنط هي علي العربة مع البنات, يغنين ويرقصن ويقصصن حكايات العفاريت اللابدة في المقابر, نطت علي العربة, لا تعرف كيف أصبح الأرنب في حضنها؟ ضمته وهي تصرخ بفرح, للأرنب رائحة المسك ودفء ينبعث من فروه الأبيض الناعم الحرير, ركن الأرنب رأسه في صدرها لحظات ثم قفز إلي الأرض كالملسوع, وقفت تصفق, ثم هالها أن الأرانب ملأت الحارة السد, صارت الحارة مؤرنبة! نزلت إليها لتمسك بأرنب من أذنيه, وجرت بينها, الصهد يطلع من قلب الأرض, تدور,, تفتح ذراعيها وهي تدور, تدور الأرانب حولها, تكاد الأرانب تقف علي أطراف أظفارها, تخدعها الأرانب وتجري ناحية المقابر, محاسن تجري خلفها بخفة وسرعة, الأرانب تباغتها وتقف فجأة, تقع محاسن, تجتمع الأرانب حولها وعلي بطنها, تدغدغها, تضحك محاسن بلا توقف, تتمرغ علي الأرض والأرانب تتمرغ معها, سمعت ضحكات رقيقة خافتة وهمسا لفحتها حرارة, سكنت الأرانب لحظة ثم انطلقت ناحية الحارة, جرت محاسن خلفها, رأت الأرانب تقفز إلي أعلي وتظل في الهواء كأنها تطير, الأرانب معلقة فوق رأسها, تحاول محاسن عبثا أن تمسك بها, جيش من الأرانب يجري ويطير, محاسن لم تكف عن المحاولة, جاء أجمل أرنب يجري أمامها يقع ويتمرغ تحت رجليها, داعبته, وجرت, جرت خلفها كل الأرانب, محاسن تقفز الترع والجسور, وتخوض في الغيطان, وتطير من بين أفرع الشجر, محاسن تعثرت ووقعت سطيحة, انخلع الشبشب, وانحل شعرها, فوقها حطت الأرانب وانتابها ضحك ناعم رقيق بلا توقف, انتقلت نوبة الضحك إلي محاسن وظلت تضحك, انفلتت من الأرانب وجرت إلي عتبة باب الدار ووقعت من الارهاق.
في الصباح الباكر فتحت الأم الباب كالح اللون, فوجدت محاسن نائمة علي العتبة بشعر محلول, وشبشبها مرميا في وسط الحارة, خبطت الأم علي صدرها بفزع, وزعلت من أخيها الذي ترك البنت الجميلة البيضاء ذات الشعر الأصفر ترجع لوحدها.
* عفريت ثالث:برواز
في البداية كانت الأصوات تتناهي من بعيد: ارتطام مكتوم, طقطقة سرير, جرجرة تربيزة, هبدة كرسي. ونادرا ما سمعوا الصرخة المبتورة, لكن بدأت الأصوات تصبح واضحة, عالية محددة, تبينوها قادمة من البيت الملاصق من الشقة المجاورة بالطابق الثالث ذي البلكونة المغلقة من سنوات والتي يطلون عليها من بلكونتهم بسهولة, والبلكونة غالبا ما تكون متربة وبها بعض من ريش خفيف وزغب, طار وحط بها من شهور, وأحيانا تمسي البلكونة نظيفة, فيقول الأب لأبنائه ليطمئنهم: أفهمتم.. أمه تأتي من حين لآخر لتنظف الشقة, وهي التي تجرجر الكراسي لتكنس وتمسح.
حاولوا الاقتناع, حتي باتت الأصوات تأتي كأن عددا من العمال يعمل بهمة وسرعة, وأصوات خبط وشيل وحط وأزيز, وفي تلك الليلة عاود صرخته المبتورة, ندت من الصغيرة آهة مفزوعة, ووقفت الكبيرة علي السرير ثم قفزت ونادت علي أخيها الأكبر. وقفوا في البلكونة يبصون علي البلكونة المجاورة, لا يسمعون صوتا, يميل الأخ بنصفه الأعلي ويمد رقبته ولا يري أي ضوء, عندما يعوون إلي أسرتهم يعم السكون, وما أن يشدوا الأغطية حتي تبدأ هسهسة, ثم أشياء تهتز, وتتحرك كراس من مكان لآخر, وذات مرة سمعوا بوضوح صوت تحطم زجاج, تقوست الصغيرة رعبا. تدخل الأب والحاج صاحب البيت وأحضرا أم فهمي صاحب الشقة, الذي اختفي من سنوات, أقسمت الأم أن زوجة ابنها المرحوم الذي قتله ابن الحرام في السوق, لابد أنها تأتي من خلف ظهره وتعبث بالشقة, وتقسم أن الزوجة التي لم تلد لها حفيدا قد سرقت برواز صورته المذهب, ورمت بصورته علي الأرض, فأخذت هي صورة الغالي الذي قتله ابن الحرام في السوق, بينما أكد الحاج صاحب البيت أن أحدا لا يتجرأ علي دخول شقة في بيته دون علمه, فتحوا الشقة, كان الانتريه بكراسيه الضخمة مستقرا في مكانه, والسرير مرتبا, والبرواز المذهب مرميا علي الأرض, زجاجه منثورا, وصورة فهمي تحت البرواز وإن كانت ملامحه مختفية تماما عدا ابتسامة واسعة علي شفتيه.