عوض ابراهيم احمد ارباب - الميت الحي

فى اواخر العام 2015 اعلن لنا استاذ علم الاجتماع بالكلية عن نيته فى اصطحابنا فى جولة ميدانية لدراسة حالات عينة من الناس يتمكن خلالها الطلاب من ترسيخ ما درسوه نظريا فى تخصص علم الانسان، او ما يعرف عند علماء الاجتماع اصطلاحا بـ (الانثروبولجيا ).
فاجأ الاستاذ الجميع باختياره معسكر كلمة للنازحين بجنوب دارفور ليكون محط الدراسة التى شدد الاستاذ على اهميتها لكل دارس حتى تكون عونا له فى حياته العلمية والعملية..
- ستكون رحلتنا العلمية ذات الطابع البحثى تجربة عملية.. وعليه؛ فقد قررت ان اذهب بكم فى جولة استطلاعية الى معسكر كلمة..
ختم الاستاذ محاضرته بتلك العبارة بعد ان تحدث باستفاضة عن تقلبات سلوك الافراد فى المجتمعات التى تتعرض للكوارث والحروب والنزاعات والنزوح وما الى ذلك.. سبحت سارحا فى كل كلمة نطق بها الاستاذ فى المحاضرة.. فكل عبارة وردت فيها كانت كانها تشير الى شخصيتى التى تتسم بالقسوة والعناد واللا مبالاة.
فأنا نشات وترعرعت فى منطقة لم تشهد استقرارا منذ ان تفتحت عيناي على الحياة الدنيا، كنا نننام ونصحو على صوت المدافع والهاونات وسحب الدخان التى تغطى سماء المنطقة بالكامل.. وكانت جلبة العساكر تأتينا مع هدير صيحاتهم التى تتقاطع وتتشابك مع صوت أذان الفجر وصياح انعامنا التى ربما افزعتها شظايا حائرة تناثرت حول حظائرها.. كنا ننصت الى تلك الاصوات بعدم اكتراث كان الامر لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد، وكانت حياتنا تمضى على هذا المنوال كما لو كنا جزء لا يتجزأ من حلقة جهنمية لا ينطفىء اوارها الا ليشتعل تارة أخرى.
فى وسط ذلك الجو الصاخب بدمدمة المدافع والمجنزرات وازيز الطائرات شببت.. وفى مثل ذلك الجو المشحون بالخوف والتوتر والقلق ورائحة الموت نشأت وترعرعت، إذاً فأنا نموذج حى للذى يبحث عنه استاذنا ليجرى عليه زملائىَ دراستهم، فرؤية الاشلاء الممزقة التى تطفح بها حمامات الدم بصفة شبه يومية جعلت منى شخصا يعانى مما يسمى بالاضطرابات السيكوسوماتية، بل انسان بلا قلب، ولا عقل، ولا روح.. انسان يفتقر لابسط قواعد الانسانية.. انا شخص يمشى بين الناس بلا عاطفة ولا احاسيس، اننى صورة رمادية جوفاء ليس لها من آدمية البشر سوى ملامح هلامية فقط.
- استاذ..
- تفضل يا آدم..
- لماذا معسكر كلمة وانا بين ظهرانيكم؟ القيت بسؤالى بطريقة ميلو درامية وانا انظر بريبة فى عيني استاذنا ذا العقود السبعة.. واردفت بغير ما اكتراث؛ أنا النموذج الامثل عما تبحثون عنه.
كنت اجلس فى آخر المدرج، فنهضت واقفا وبدأت اسرد قصتى على مسامع زملائيَ الذين فاجأهم موقفى فالتفت جميع من كان بالقاعة الى حيث اقف ونظرات اعينهم التى ابرقت استغرابا تكاد تخترق تقاطيع وجهى.
طفقت ابحث عن مقدمة ابدأ بها حديثى حول ما أعانيه، فقلت فى لهجة جافة يملؤها البؤس والحزن والأسى؛ فى اجازة العام قبل الماضى ذهبت الى المعسكر المذكور لملاقاة بعضا من اصدقاء الطفولة، ولم يكن دافعى فى ذلك ايا من الاواصر التى جمعتنا فى الماضى، فالحنين والشوق والمودة، هى كلمات ليست لها ايّةُ دلالة ومعانٍ فى قاموس مشاعرى المدمرة، فعواطفى قُبِرت منذ اول غارة شهدتها بلدتنا، إذ رأيت يومها كيف مات صديقى ذى الاثنى عشرة ربيعا (بحر الدين حريكة ) بتلك الصورة البشعة، لقد تقطعت وتناثرت اعضاء جسده الغض بعد ان تفجرت بالقرب منه قنبلة كان يشعل فتيلها الاستعلاء والحقد والكراهية، تلك الغارة التى تواترت بعدها غارات وغارات فهلك فيها من هلك، ومن بقى على قيد الحياة نفذ بجلده الى حيث الملاجىء ومعسكرات النزوح.. توقفت قليلا لارى وقع كلامى على الزملاء قبل ان استطرد بحسرة ومرارة؛ ذهبت الى المعسكر لذات الغاية التى طلب الاستاذ منا الآن العمل على انفاذها، ثم علاوة على ذلك اردت ان اقارن بين حالتى المتأخرة جدا وبين من فرقت بينى وبينهم عاديات الدهر، وهنا اريد ان اشير الى شيء مهم، وهو؛ ان اسوا ما يجده المرء من معاناة فى ما يخص آلامه النفسية هو ادراكه لِكُنْهِ تلك الآلام وصعوبة التغلب عليها، وقد ضاعف من معاناتى دراستى لعلم االانسان، لا سيما ذلك الذى يختص بدراسة السلوك البشرى، فمن خلاله تاكدت من تشخيص حالتى ومعرفة ما اعانيه.
كنت اعلم بان المعسكر يعج بالسيكوسوماتيين ضحايا الخوف والتوتر والقلق والموت المجانى الشنيع.. وكنت اشك فى وجود بعض مختلى العقل، بيد انى لم اكن لأتخيل هذا الكم الهائل من المجانين الذين يجوبون ارجاء المعسكر على غير هدى، وهنا دعونى اشير إلى حالة واحدة فحسب، وهى ليست بمعزل عن بقية الحالات التى رايتها، كما انها ليست بأشد بأسا وبؤسا من مثيلاتها من حالات كنت قد وقفت على الدمار النفسى الذى اصاب اصحابها، وفى احد ابحاثى سميت ذلك بـ (الجنون المميت ).
اذكر بانى دلفت الى المعسكر قبيل صلاة المغرب، وكان ان مررت فى طريقى بمسجد شيد من القش، توضأت بلا حماس حقيقى، فصلاتى ونسكى ليستا على ما يرام، فلو لا وجود المسجد امامى وضيق وقت المغرب لكنت استأنفت مسيرى.. صحيح لم ابلغ درجة الكفر بهذه الطقوس ومُشرِّعها، غير انى كفرت بكل الذين يؤدونها كعبادات شكلية فقط، إذ لا وجود حقيقى لمعانيها فى افعالهم، لا سيما الذين حاربونا وقتلونا وحرقوا قرانا ثم هجّرونا منها باسم الله.
وقفت فى الصف بعد ان اقيمت الصلاة، فى البدء لم اهتم للهمهمات التى كانت تصدر ممن كان يقف بجانبى، ولكن مع كثرة التكرار بدأت اضجر، سرحت قليلا مع بؤسى وبؤس من حولى والامام يتلو بصوت خاشع؛ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ).. فوجئت.. لا، فى الحقيقة لم افاجأ، فقد كنت اتوقع الأسوأ فى مثل هكذا مجتمع، ولكنى انتبهت.. فالرجل ذو الهمهمات صار يصهل كما الخيل تماما حين سماعه تلك الآية الكريمة.. كان يصهل بصورة هستيرية وهو يدق بقدميه الارض حتى ظننته سيركل من كان خلفه.. حين فرغنا من الصلاة سألت عنه فعلمت بانه قد شهد مقتل ابنيه الوحيدين على ايدى ملثمين كانو يمتطون جيادا، ومنئذ صار يصهل كالخيل.. كالخيل تماما، هكذا روى محدثى.
إن حياتنا ليس لها معنى ان هى فقدت اسباب الطمأنينة والسلام، فما فائدة الحياة ان نحن عشنا فيها بلا عاطفة واحساس، لقد نزعت الحروب عنى انسانيتى، فصرت قاسيا، لا افرح إلا بقدر، ولا احزن إلا لماما.. لا احب، ولا أكره.. لا ابتسم الا اذا رأيت احدهم يتألم، اننى اعانى من الجمود، والقسوة، واللا مبالاة، ولا اخلو كذلك من سادية امارسها حتى مع نفسى، واعانى كذلك من اشد الامراض النفسية التى تفتك بالبشر.. حتى ملامحى لم تعد ملامح انسان سوى، فعلامات القسوة والجمود واللا انسانية تظهر فى كل تقاطيع وجهى.. ولعلكم كلكم لمستم ذلك فيّ، فانا مكثت بينكم قرابة الثلاث سنوات لا اكلم منكم احد وليس لى فيكم اصدقاء..
اذاً يا اخوتى الاعزاء لا تتجشموا عناء الذهاب إلى المعسكر اياه ، فحالتى ستغنيكم عن اى حالة ستجدونها هناك، فقط افتحوا دفاتركم لتدونوا عليها قصة رجل فقد فى نفسه السلام، السلام الذى يمنحنا كل معانى الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...