يقول الناقد الفرنسي فيليب سولرس " إن الأثر الأدبي العظيم يتنفس برئة الدين" ، لأن التعبير الديني في الفن الروائي، كما يرى البروفيسور إبراهيم محمد زين، هو الذي يبرز الصلة القائمة بين المطلق والمقيد (المتجذر). وتبدو هذه الصلة بين الاثنين بدخول المطلق إلى حيز التاريخ الذي يصنعه الإنسان في خلال توظيفه للعلاقة الجامعة بين الحق والخلق، وهنا تتمايز أنماط التوظيف البشري بين الديانات التي تسعى إلى تأليه الإنسان، والديانات التي تفصل بين إطلاقية الحق ونسبية الخلق . ويظهر هذا التواصل بين المطلق والمقيد جلياً في روايات الطيب الصالح التي ترتكن إلى الإرث الصوفي كوسيلة للبحث عن الحقيقة المطلقة في عالم الغيب، وكيفية توظيفها للعودة بالكون إلى صفائه، وانسجامه، وتصالح متناقضاته. والربط بين الطرفين يعكس مدى إلمام الراوي (الطيب صالح) بمدونات التصوف الكلاسيكية، وقدرته الفائقة على اصطحاب تجلياتها في قاموس الحياة السودانية، وذلك من خلال استدعائه للخطاب الصوفي المحلي إلى دائرة السرد الروائي العالمي، المشبعة بحوار البُعْد الصوفي المطلق مع الذات الإنسانية المقيدة. وبذلك يضحى توطين المطلق في حيز المقيد (المتجذر) سلوكاً جارحاً في رتابة الفعل البشري المألوفة؛ لأنه يسهم في توسيع أوعيتها المحلية وفق تطلعات البشارة الصوفية (الكرامة)، أو التجليات الأسطورية، الناقضة لغزل القوانين الاجتماعية وأنساقها المرعية. وعند هذا المنعطف تتبلور النظرة الكونية للأديب الطيب صالح، شاخصةً بكلياتها تجاه قيم التعايش الإنساني واستيعاب الآخر بتناقضاته المختلفة، ومتحديةً لجدلية التسلط الإنساني الرافضة لحقوق الآخر في العيش الكريم، وبهذه النظرة الاستعلائية يفقد التعايش الإنساني مضمونه الحضاري. لذا نلحظ أن التدافع الإنساني في روايات الطيب صالح يستمد شرعيته من الإرادة الإنسانية القوية المغايرة لأعراف الاجتماع البشري، والتي تجسد نمط المجاهدة الصوفية، أو بشائرها المتجاوزة لموروثات الفعل البشري ومضامينه الشرعية والاجتماعية.
تطرَّق الأستاذ إبراهيم محمد زين إلى هذه الخصومة والتصالح بين المطلق والمتجذر في روايات الطيب صالح من خلال مناقشته الرصينة والممتعة في آنٍ واحدٍ لمعاني الميلاد والزواج في محيط التعبير الديني الطقسي، وموقع ذلك التعبير الديني في النص الروائي وشبكة علاقاته الإنسانية المعقدة. أما الأستاذ رجاء النقَّاش (1935-2008م) فقد قدم قراءة ذهنية شاعرية لإشكالية الموت، وتجلياته الصوفية في فضاء الجزء الثاني من رواية مريود (بندرشاه). وفي هذا البحث نحاول أن نستدعي هذه القراءات النقدية الثاقبة للأستاذين زين والنقَّاش، ثم نسلط الضوء على أنماط التعبير الصوفي في روايات الطيب صالح من خلال ثلاث زوايا رئيسة، تجسد النمط الصوفي المرتبط بشرعية وجود الأشياء المحسوسة كـ"دومة ود حامد" في فضاء النص الروائي، ثم الإرادة الإنسانية القوية المسكونة بقيم الهاجس الصوفي كمواقف مريم "القُنْديّل"، وسعيها في طلب العلم، ثم إصرارها على طلب الزواج من مريود. وأخيراً نناقش معنى الموت وتجلياته الصوفية في رحيل بلال الطوعي من ود حامد الرمز إلى دار البقاء، ونصطحب ذلك بانتقال مريوم العُرسي الذي كان يعبر عن "موت حُلم" في أقصى تجلياته الصوفية. ثم نتوج هذه السياحة في ثنايا السرد الروائي المدهش وطقوسه المصاحبة بقراءة تحليلية للبُعد الصوفي خارج موسيقى النص الروائي، مستأنسين في ذلك بسلوك الراوي (الطيب صالح) الممزوج بالحس الصوفي، ومنهجه الحياتي المُشبَّع بنفحات القُوم.
دومة ود حامد بين جدلية الباطن والظاهر
ود حامد هي قرية ريفية رمز، تحمل بين ثناياها تناقضات المجتمع الإنساني البسيط، وفي أحشائها ثنائية الريف والحضر، وقيم الماضي والحاضر والمستقبل، وإشكاليات التحديث ورد الفعل التقليدي الموازي لها، وفوق هذا وذاك تعيش قرية ود حامد مثقلة بإسقاطات العلاقة الجدلية بين المطلق والمقيد، وكيفية توظيفها في فضاءات الصراع البشري. وإذا أمعنا النظر في ود حامد من كُوة السرد الروائي نلمح أنها مطوقة في صعيدها بحلة القوز، حيث يقطن عرب الكبابيش، والهواوير، والمريصاب الوافدين من كردفان، وفي وسطها بمساكن أهلها الطيبين ومقابرهم، وفي سافلها بمجرى النيل وحقوله الغناءة ومراتع ضروعه الحوالب، وفوق الضريح، والأرض المزروعة، والبيوت، والمقبرة، تتمدد دومة ود حامد شامخةً، كأنها "عقاباً خرافياً باسطٌ جناحيه على البلد بكل ما فيها" . والدومة لا يوجد أحد يدعي أنه زرعها، بل "أغلب الظن أنها نمت وحدها"، في "أرض حجرية مسطحة مرتفعة ارتفاعاً بيناً على ضفة النهر، كأنها قاعدة تمثال، والنهر يتلوى تحتها، كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة" . ويجزم جميع أهل ود حامد أنهم لم يروها "على غير حالتها التي ... [هي] عليها الآن" . وإن الشيخ ود حامد الذي حملت القرية اسمه يقال إنه كان "في الزمن السالف مملوكاً لرجل فاسق، وكان من أولياء الله الصالحين، يتكتم إيمانه، لا يجرؤ على الصلاة جهاراً حتى لا يفتك به سيده الفاسق. ولما ضاق ذرعاً بحياته مع ذلك الكافر، دعا الله أن ينقذه منه. فهتف به هاتف أن أفرش مصلاتك على الماء، فإذا وقفت بك على الشاطئ فأنزل. وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن، وكان مكاناً خراباً" . وبعد ذلك الميلاد الصوفي أضحى ود حامد يظهر في أحلام الناس ومجالس أنسهم في صورة "رجل صبوح الوجه، له لحية بيضاء غزيرة، قد غطت صدره، رداؤه أبيض ناصع، وفي يده سبحة من الكهرمان" ، لكنهم لا يعرفون أين يسكن هذا الرجل الصالح، ومن أين يأتي، وإلى أي جيل ينتمي. أما قرية ود حامد فكذاب "من يقول لك أنه يعرف تاريخ نشأتها. البلاد الأخرى تبدأ صغيرة ثم تكبر. ولكن [ود حامد] قامت دفعة واحدة. وأهلها لا يزيد عددهم ولا ينقص، وهيأتها لا تتغير" .
بَيْدَ أن هذا الغياب الحسي للشيخ ود حامد، لم يؤثر في حضوره الدائم في ذاكرة الناس الجمعية وعقولهم الباطنة، وأحلامهم التي تشبه أحلام اليقظة. و يحضرنا في هذا المقام الحُلم الذي روته إحدى السيدات لصاحبة لها، قائلة: "كأنني في مركب سائر في مضيق البحر، فإذا مددتُ يديَّ مسستُ الشاطئ في كلا الجانبين. وكنتُ أرى نفسي على قمة موجة هوجاء تحملني حتى أكاد أمس السحاب، ثم تهوي بي في قاع سحيق مظلم ... رأيتُ على الشاطئ دومة ود حامد. ووقف القارب تحت الدومة، وخرج منه الرجل قَبْلِي، فربط القارب، ومد لي يده فأخرجني. ثم ضربني برفق بسبحته على كتفي، والتقط من الأرض دومة وضعها في يدي. والتفتُ فلم أجده" . فتشَّهدت الصاحبة واستغفرت لربها، ثم قالت مفسرة الحُلم: إن الرجل الذي كان معك في القارب هو "ود حامد .. تمرضين مرضاً تشرفين منه على الموت. لكنك تشفين منه. تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة" ، وبجوار الضريح.
أما زيارة ضريح ود حامد فكانت تمثل بُعداً آخر في منظومة الصراع بين القديم والحديث، فلعل رفض الأهالي إنشاء محطة للباخرة الأسبوعية بجوار الدومة، يمثل شاهداً قوياً في هذا المضمار؛ علماً بأن حجتهم كانت دافعة بأن مواعيد الباخرة تتعارض مع مواعيد زيارتهم الأسبوعية، يوم الأربعاء عصراً، إلى ضريح ود حامد، والتي يصطحبون فيها نساءهم وأطفالهم، ويذبحون تحت ظلال الدومه الوارفة نذورهم المنذورة، تثميناً لفيض صاحب الضريح عليهم. فاقترح موظف الحكومة عليهم، في طيب خاطر يماس القشامة، بأن يغيروا مواعيد الزيارة الأسبوعية، دون أن يدرك أنه لو قال: "لأولئك الرجال في تلك اللحظة أن كلاً منهم ابن حرام، لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. فهبوا لتوهم هبة رجل واحد، وعصفوا بالرجل، وكادوا يفتكون به" . ونتيجة لذلك الموقف العفوي المتشدد والممزوج بمحبة الأهالي لضريح ود حامد أضحت الباخرة لا تقف في قريتهم التي آثر سكانها امتطاء حُمرهم الأهلية إلى المحطات القريبة على ضفة النيل اليسرى بدلاً من أن يغيروا مواعيد زيارة الضريح التي توارثوها أباً عن جد، وهم غير نادمين على ذلك، ولا على رفضهم لمقترح الحكومة بإنشاء محطة للباخرة الأسبوعية في قريتهم.
لا جدال أن هذا الحادث يؤكد علو كعب رجال الحقيقة على أهل السلطان، ويثبت أن شأن الضريح الديني والاجتماعي يضاهي دور المجلس في تلك القرية القصية، وبشارات أهل القوم أشد وقعاً في نفوس الناس من قرارات الحكام. ويبدو أن الكاتب قد استدعى ذلك التأثير الصوفي من طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، التي تثمن علو شأن رجال الحقيقة على علماء الشريعة وأهل السلطان. وأبلغ شاهد في هذا المقام هو السجال الديني الذي جرت حلقاته في جامع أربجي بوسط السودان بين الشيخ محمد الهميم ود عبد الصادق الركابي وقاضي العدالة دشين، فكانت النُّصرة لصالح الشيخ محمد الهميم وسلوكه الاجتماعي المستند إلى تزكية الشيخ إدريس ود الأرباب، علماً بأن الشيخ الهميم تجاوز في زيجاته الأربع، وجمع بين الأختين. لكن الطريف في الأمر أن جمهور الحاضرين ناصروا الشيخ في كشفه الصوفي، القائم على تجليات الباطن، وبخسوا حكم قاضي العدالة دشين المسترشد بثوابت الشرع الظاهرة.
ويتجسد هذا الموقف نفسه في ود حامد، حيث تحظى المؤسسة الصوفية بتأييد السواد الأعظم من الأهلين؛ لأنهم كانوا يعتقدون في صلاح الشيخ الحنين الذي "كان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة. يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم، ثم يحمل أبريقه ومصلاته ويضرب مصعداً في الصحراء، ويغيب ستة أشهر، ثم يعود. لا يدري أحد إلى أين ذهب. ولكن الناس يتناقلون قصصاً غريبة عنه. يحلف أحدهم أنه رآه في مروي في زمن معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كَرْمَة في ذلك الوقت نفسه، وبين البلدين مسيرة ستة أيام" . وفي المقابل يبخسون كيل الإمام الأزهري الذي عينته الحكومة إماماً راتباً لمسجدهم العتيق في ود حامد، ولا ينادونه باسمه؛ لأنه في نظرهم ليس شخصاً، بل مؤسسة لها هدفها المرسوم في القرية. ومن ثم يصفونه بأنه رجل ملحاح، ومتزمت، وكثير الكلام، ويحتقرونه في دخيلتهم؛ لأنه "كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملاً واضحاً ...لم يكن له حقل يزرعه، ولا تجارة يهتم بها، ولكنه كان يعيش على تعليم الصبيان، وله في كل بيت ضريبة مفروضة، يدفعها الناس عن غير طيب خاطر" . ويعلق زعيم القرية محجوب عن واقع الإمام بينهم بكلمات موجزات، مفادها أن الإمام "راجل صعب. لا يأخذ ولا يدي" في أحاديثهم وقضاياهم التي تهم شأنهم المحلى وواقع قرية ود حامد؛ ولكن شغله الشاغل يتمركز حول تتبع أخبار العالم في الصحف والإذاعات وصراع الأضداد وحروباتهم.
ومن القضايا التي تعكس طرفاً من أطراف هذا النزاع الذي كان قائماً بين رجال الحقيقة وفقهاء الشريعة في ود حامد قصة زواج الزين، الذي تصفه أمه بالولاية والصلاح، ويعُده أهل ود حامد رسول حب، ينقل عطره من مكان إلى مكان؛ لأن حب الحِسان كان يبدأ به، وينتهي بصاحب حظوة آخر، يقطف ثمار ذلك الحب. فشأن الزين في هذا المقام كشأن "سمسار، أو دلال، أو ساعي بريد"، فعندما يلهج لسانه بذكر الفتاة المقتول في حبها، "يصبح اسمها حيثما كان، فلا تلبث الآذان أن ترهف، وما تلبث العيون أن تنتبه، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد[ها]" . هذا السلوك الوظيفي الذي أضحى سلوكاً محموداً في ود حامد جعل الناس يساومون بين خِلْقَة الزين الدميمة وسلوكه المنبوذ أحياناً، ويرجحون الظن بأنه "نبي الله الخضر" أو ملاكٌ أنزله "الله في هيكل آدمي زري، ليذكِّر عباده أن القلب الكبير قد يخفق؛ حتى في الصدر المجوف، والسمت المضحك، كصدر الزين وسمته". وتتجه نظرة الشيخ الحنين في الاتجاه ذاته؛ لأنه يصف الزين بـ "المبروك"، ويَعِدَه بأنه سيتزوج أجمل حسناوات القرية، ويؤثر صحبته على مجالسة الآخرين. الأمر الذي جعل محجوب يحس بخفقة قلب، لأنه كان يدرك في عقله الباطن أن "نبوءات ... النساك لا تذهب هدراً" ، ولكنه في الوقت نفسه كان يخاطب شعوره الذاتي بصفته زعيم لقرية ود وحامد، فـ"يقول بصوت مرتفع فيه رنة احتقار: "منو البتعرس البهيم دا؟ داير يجيب لنا جنيه" . أما موقف الإمام فهو موقف نشاز من موقف المؤسسة الصوفية وسواد القرية المناصرين لها؛ لأنه كان معارضاً لزواج الزين من الآنسة نعمة بنت حاج إبراهيم، الشابة المتنورة والدارسة للقرآن، بحجة أن الزين إنسان غير كفؤ، و"إن الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ"، وإن القول بأنه "ولي صالح حديث خرافة، وأنه لو ربي تربية حسنة لنشأ عادياً كبقية الناس".
في ظل هذا الصراع الخفي بين المؤسستين الدينيتين حول عُرس الزين، صدعت حليمة بائعة اللبن بالقول الذي كان يمثل ضمير ود حامد النابض، عندما أخبرت زبونتها آمنه: "بأن نعمة رأت الحنين في منامها. فقال لها: "عرسي الزين. التعرس الزين ما بتندم". وأصبحت الفتاة، فحدثت أباها وأمها، فأجمعوا على الأمر. فهذا الحُلم يمثل انتصاراً حقيقياً للمؤسسة الصوفية في ود حامد؛ لأن عرس الزين من نعمة بنت حاج إبراهيم جمع بين إرادة نعمة الإنسانية القوية في اتخاذ القرار، والبشارة الصوفية التي اقنعت الرأي العام بشرعية ذلك الاختيار الذي كان مرفوضاً من وجهة نظر بعض وجهاء القوم وأهل عصبية نعمة؛ إلا أنهم كظموا غيظهم، وأذعنوا لموقف المؤسسة الصوفية التي تقف خلف قرار نعمة بنت حاج إبراهيم الجريء والشجاع. هكذا كان دور المؤسسة الصوفية فاعلاً في تغير الأنساق الاجتماعية في قرية ود حامد، وتلك الفاعلية حسب قراءة إبراهيم محمد زين هي التي أعطت الزين الدرويش، وسيف الدين بن البدوي العابث بإرث والده الديني والاجتماعي ميلاداً اجتماعياً جديداً في قرية ود حامد.
الإرادة الإنسانية وشرعية التغيير الصوفي
أحدث الطيب صالح نقلة نوعية في الأدب الروائي العربي، عندما انتقل من عالم الواقعية التقليدي إلى المشهد الصوفي والأسطوري في تصوير سلوكيات شخصياته الروائية، التي تجسد أنماطاً حياتيةً مختلفةً في جدل الماضي والحاضر والمستقبل، وتتفاعل مع موروثات التاريخ الثقافي في قالبها المحلي وانبساطها العالمي القائم على ثلة من المتناقضات. فلا مندوحة أن هذه النقلة النوعية قد أضفت على النص المروي نوعاً من الحركة والتجدد في إطار الفعل الإنساني المقيد بقيم الواقع الاجتماعي؛ لأن الراوي كان يحاول دوماً أن يصنع التحدي ويبعث الاستجابة داخل نسيج النص الروائي، وكانت الاستجابة في كثير من الأحيان تأتي في شكل إرادة إنسانية قادحة في موروثات الواقع المعيش، وأحياناً معضدة بالسند الصوفي الذي يجسد إرادة الله في الأرض.
فهذا النمط الصوفي المتدثر بجدلية التحدي البشري والاستجابة الصوفية كان حاضراً حضوراً كثيفاً في سيرة حسناء الريف، "حواء بنت العربي"، التي هبطت إلى ود حامد من ديار الكبابيش مع أبويها في سنوات قحط وجدب. "فماتا عنها، وبقيت وحدها، تمشط وتغزل، وتعمل في دور الميسورين في البلد. ووصفوا أن وجهها كان كفلق الصباح، وشعرها أسود كالليل، مُسدل فوق ظهرها إلى عجيرتها، وأنها كانت فرعاء لفَّاء، طويلة رموش العينين، أسيلة الخدين، كأن في فمها مشتار عسل، وأنها كانت مع ذلك شديدة الذكاء، قوية العين، مهذاراً، حلوة الحديث، متبرجة، في حديثها شيء من تفحش وتغنج. فأرادها الكثيرون. ومنهم بعض علاة أهل البلد، فتمنعت واعتصمت، ولم تقبل منهم طالب حلال، أو حرام".
لعمري هذه لوحة شاعرية مدهشة وموحية بالجمال عن حواء بنت العربي، التي لم يقعدها شقاء الحال الظاهري، ويُتْم الأبوين، والإغراءات المادية، من أن تؤثر وجدها الصوفي ومحبتها الباسقة إلى بلال، الذي "كانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته، فلا يرد عليها، ولا يجاوبها"؛ إلا أنها هامت به هياماً كاد يذهب عقلها، ولكن عندما أعيتها الحيلة في إقناع الحبيب الناسك الذي كان يرى في تبادل حبها بحب انصراف بغيض إلى شأن الحال الدنيوي، اتصلت بالشيخ نصر الله ود حبيب، وشكت له وجدها المكلوم في بيداء حبيبها الناسك. فأشار الشيخ نصر الله على بلال أن يتزوج حواء بنت العربي؛ لأن زواجها ربما يجسد طرفاً من إرادة الله سبحانه وتعالى في الأرض. فرد عليه صاحبنا في طوعٍ مشوب بالحياء: "يا سيدي روحي فداك. لكن لا تخفى عليك خافية من أحوال عبدك المسكين. أنا ماشي في دروب أهل الحضرة، وأنت تأمرني بأفعال أهل الدنيا". فأردف الشيخ نصر الله حجته السابقة بحجة أقوى منها، مفادها: "يا بلال. إن دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة. مشيئة الحق غامضة. يا بلال، إن حب بعض العباد من حب الله، وهذه المسكينة تحبك حباً لا أجده من جنس حب أهل الدنيا، فعسى الحق أن يكون أرسلها إليك لأمر أراده. عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك، فإما صحوت وانقطع سبيلك، وإما ازددت ظمأ إلى كأس الحب السرمدي، ويكون سبحانه وتعالى قد أنفذ مشيئته بإذلالك في إرادته القصوي".
لا مرية أنها حجةً صوفيةً شامخةً، شموخاً يلامس نهايات حب حواء بنت العربي إلى بلال، وإرادتها القوية الناهضة نحو إقناعه، وبالفعل صدقت العزيمة الصوفية عندما تزوج بلالاً حواء، زواجاً كانت غايته إرضاء الشيخ نصر الله الذي أعلن بلال فداءه بروحه. هكذا حدث زواج حواء بنت العربي على صيغة غير قابلة للتأبيد؛ لأن بلالاً لم يجتمع بعروسه البكر "إلا ليلة واحدة، بعدها استأذن شيخه أن يسمح له بأن يبرئ ذمته منها، فأذن له" . فكانت تلك الليلة اليتيمة ليلة سُعدٍ بالنسبة لحواء بنت العربي؛ لأنها حبلت من بلال، فأنجبت ابنها الوحيد الطاهر ود الرواسي. وبعد ذلك "أبت أن تدخل على رجل آخر، وانصرفت لتربية ابنها، فكان شأنها في ذلك شأن المتصوفة العاكفين. وذكروا أنها لما رحلت عن الدنيا، وهي تناهز السبعين، كانت على أبهى هيئتها وحسنها، لم ينقص من جمالها مثقال ذرة، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة، فكأن تصاريفه كانت في حصن حصين".
أما حبها الجارف إلى ابنها الوحيد، الطاهر ود الرواسي، فصوره لنا المحبوب في لوحة شاعرية موحية بحنان تلك الأم التي كانت أحق الناس بحسن صحابته: "ما رأيت حباً مثل حب تلك الأم، وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم، ملت قلبي بالمحبة حتى صرتُ مثل نبع لا ينضب. ويوم الحساب، ويوم الخلق بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم، وزكاتهم، وحجهم، وصيامهم، وهجودهم، وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت، عبدك المسكين الطاهر ود بلال، ولد حواء بنت العربي، يقف بين يديك خالي الجراب، ومقطع الأسباب، وما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوي المحبة".
يعلق الأستاذ رجاء النقَّاش على أن المقطوعة الغنائية بقوله: إن المحبة التي يصفها الطاهر ود الرواسي ليست "المحبة العادية التي تربط بين شخص وشخص، أو بين مجموعة أشخاص، فالمحبة هنا هي قوة دافعة من قوى الحياة، وهي قوة كبرى تحرك الإرادة الإنسانية، وتضعها في موضع الفعل والحركة والتأثير، وهي قوة من قوى الحضارة، تواجه قوة أخرى هي التسلط". وبهذه الملاحظة الثاقبة نصل إلى أن حب حواء بنت العربي إلى بلال كان يمثل ضرباً من ضروب المحبة التي تسهم في تعبيد المسارات الإنسانية لإحداث نقلة نوعية في قيم المجتمع الموروثه، والتي لا يفت عضدها إلا الإرادة الإنسانية المصممة على التغيير والمعضدة بتجليات المطلق في حيز الوجود التاريخي.
الموت الصوفي وأحلام الضياع
كما نعلم أن أهل القوم يفرقون بين موت الجسد وموت الروح؛ لأن في الأول تخرج الروح من الجسد وتنفصل عنه، ويظل الأموات الصلحاء أحياء عند ربهم، وفي الثاني تنفصل الروح عن تواصلها مع الذات الإلهية، ويظل الأحياء الناشزون عن طرق القوم في ظلوماتهم يعمهون. إلا أن الدكتور عبد الرحمن الخانجي لم يصطحب هذا البُعد الصوفي في معالجته الحصيفة لـ "رؤية الموت ودلالتها في عالم الطيب صالح الروائي" ؛ لأنه عمد إلى المقابلة بين موت الأنثى (الشر) وموت الرجل (الخير)، بحجة أن الأول في أكثر معانية مرتبط بغريزة الجنس والعنف الناشئ من الخطيئة، والثاني مرتكز إلى الكبرياء والسمو الذي لا يخلو من التضحية. وبهذه المقابلة الجندرية حاول الخانجي أن يجسد مفهوم الموت في بُعدي الشر والخير، المستبطنين في نسيج النص الروائي، والممثلين لإشكاليات الصراع بين الحضارتين الغربية والشرقية. وانسحاباً على هذه الرؤية التصادمية فقد جاءت مقاربته للموت الجسدي في صورة الوفاة، والقتل، والانتحار، دون أن تعطي حيزاً مناسباً للموت في قمة مضامينه الصوفية الموحية بالجمال الروحي، رغم أنف مرارة الانتقال الجسدي. ولا غرو أن هذه الصورة الصوفية الموطِّنة لحركة المطلق في حيز المقيد تجسد نفسها في موت بلال، ومريوم؛ لأن موت الأول أشهر نفسه في رسالة عرفانية لمبدأ الاختيار الصوفي الزاهد في الحياة الدنيا وزخرفها، والطامع في الدار الآخرة وتصالحها مع الذات الإلهية العليا؛ وموت الثاني (مريوم) كان يشكل طرفاً من أحلام الضياع العذرية التي كانت تنشدها تلك الآنسة المثابرة، لأحداث تغيير حضاري في مجتمع ود حامد المثقل بتقاليده المحلية الموروثة.
كانت مريوم، كما كان يدللها حبيبها مريود، شخصية قوية، وصاحبة إرادة ذاتية خلاقة منذ أيام طفولتها الباكرة، وقد تجلت تلك الإرادة الفاعلة في تحديها لموروثات الواقع المعيش في ود حامد، حينما أصرت على دخول خلوة حاج سعد لقراءة القرآن مع الأولاد، وهي دون الرابعة من عمرها الزاهر. ويوثق مريود لهذا المشهد بقوله: كانت "تقرأ معنا القرآن في خلوة حاج سعد، فعلت ذلك قدرة واقتداراً، ولا راد لرغبتها العارمة في فك طلاسم الحروف. تجيء فنطردها فلا تنطرد، فاضطررنا أنا ومحجوب أن نعلمها، فكأننا أطلقنا جناً من قمقم ... فصارت تقارعنا الآية بالآية حتى ضقنا منها زرعاً. ولما دخلنا المدرسة سعدنا أننا نتعلم أشياء لا تفهمها، ونرجع فنقرأ لها التاريخ، والجغرافيا، والحساب، ونغيظها بذلك. فأخذت تمالئنا، وتستعطفنا لنأخذها معنا. قلنا لها: "المدرسة للأولاد. ما في بنات في المدرسة" ، فاستجابت لحجتنا بقولها: "يمكن إذا شافوني يقبلوني ... الحكاية مش قراية وكتابة؟ أيه الفرق بين الولد والبنت؟". فرد عليها أخوها محجوب بلهجة غاضبة: "نظام الحكومة كذا. مدرسة للأولاد يعني للأولاد. أنت عايزة الحكومة تعملك نظام خصوصي؟". فردت عليه في حرقة جامحة: "ليش لا؟ خلاص، ما دام الحكومة لا تقبل غير الأولاد أصير ولد ... ألبس جلابية، وعمة، وأمشي معاكم، متلي متلكم. ما في أي إنسان يعرف أي حاجة. أية الفرق بين الولد والبنت... ". وبذلك استطاعت مريم "القنديل" أن تقنع أترابها من حولها بشرعية حقها في التعليم، فخرجت معهم في الصباح الباكر، و"لم تكن خجلة"، بل جعلت "الأفق البعيد يتراءى" لهم، وهم يرددون استجابتها لرفضهم الممزوج بالخجل: "ليش لا"، ويشعرون برجاحة وجهة نظرها الثاوية في مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في ذلك الريف القصي. يعلق رجاء النقَّاش على هذه الخطوة التقدمية بقوله: "المرأة عند الطيب صالح قوية جداً، ذات إرادة صلبة، وقدرة على الاختيار في كل الأمور، وبالذات فيما يتصل بأمور الزواج، والحب، [وهي] تتطلع دائماً إلى الأمام، تختار الأحسن والأفضل، وتحلم أحلام زاهية عن المستقبل".
هكذا كانت مريوم بفضل إرادتها الإنسانية عالية الهمة رمزاً للتحديث في ود حامد. فعندما انتقلت إلى الدار الآخرة من غير سابق إنذار، شيعها أهل ود حامد والقرى القابعة عند منحنى النيل في موكب حزين، ثم واروها الثرى مع ثلة أحلامها الوردية الجميلة، التي ذبلت في أرض ود حامد النكدة؛ إلا أنهم بهذا الغرس غير المسبوق كانوا يأملون أن تزهر تلك الأحلام العذارى بفضل جهد الأجيال اللاحقة، وإشراقات المستقبل المصاحبة لها.
ويصف لنا مريود "العاشق" رحيل "معشوقته" مريوم في لوحة تراجيدية ممعنة في العزاء، عزاءً سبق عقد قرانه بمريوم، فيقول: "لم تكن بها علة، ولم تلزم فراشها غير يوم واحد، كأنها قررت أن ترحل فجأة. كأن كل الذي حدث لم يحدث. هو على يمينها [أي أخوها محجوب] وأنا على يسارها، وحدنا معها كما أرادت. كانت خضلة مثل عروس. ليس بها شيء سوى بعض حبات العرق على جبهتها، كان وجهها متألقاً، وعيناها تتلامعان مثل البروق. نظرت إلي وهلة كأنها لا تعرفني، ثم قالت وهي تنظر إلى محجوب: "بس مريود لسَّع ما وصل. كيف يحصل الزواج، مريود لسّع ما رجع من السفر". هكذا خلطت مريوم في غيبوبتها بين مريود وبكري، وهي في هذه الحالة الذاهلة عن مقاصد الأحداث، ورد عليها هاجس بأن مريود قد مات، ومن ثم آثرت بقولها: "أحسن أنا كمان أموت، ولا أتزوج بكري". ويعبر مريود عن تلك اللحظة الرهيبة والفاجعة، بقوله: "وسمعت حس بكائي كأن أحداً غيري يبكي ... هذه حصتي من كل شيء. هذا نصيبي وإرثي. مات عنها، وتركها لي لتموت على صدري. لعلني لهذا عدتُ".
ثم يصف مريود الجريح موكب جنازة مريوم التراجيدي، بقوله: "دفناها عند المغيب، كأننا نغرس نخلة، أو نستودع باطن الأرض سراً عزيزاً سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الأشكال. محجوب قَبَّل خدها. وأنا قبلتُ جبهتها، وكاد الطريفي يهلك من البكاء، وحملناها برفق نحن الستة، ووضعناها على حافة القبر. أسمع ذلك الصوت يجئني من بعيد مثل ناي سحري، في غلالة من أضواء الأقمار في ليالي الصيف، ولمع الشعاع على سعف النخل الندي، ووهج النوار في حدائق البرتقال. تقول وهي تجر عمامتي من رأسي: "نسكن البندر. سامع؟ البندر. الموية بالأنابيب، والنور بالكهرباء، والسفر بالسكة الحديد. فاهم؟ اتمبيلات وتطورات. اسبتاليات، ومدارس، حاجات وحاجات. البندر. فاهم؟ الله يلعن ود حامد ... فيها المرض، والموت، ووجع الرأس. أولادنا كلهم يطلعوا أفندية. فاهم؟"
بهذا النفس التراجيدي رحلت مريوم (مريم) العذراء بأحلامها الحضارية، بعد أن استطاعت "أن تجمع في شخصيتها بين المعني الخاص للمرأة المحبوبة، والمعنى العام للطريق والرؤية"، وأن تكون رمزاً "لحُلم الحياة وشوقها إلى التجديد"، وأن تكسر "الأسلاك الشائكة التي تحول بيننا وبين الانطلاق الروحي والانطلاق الحضاري معاً". ويمضى الأستاذ النقَّاش في الاتجاه ذاته، ويقول: إن موت مريوم ليس نمطاً من أنماط الموت الذي ألفناه، "ولكنه وعد جديد بالنور بحياة أخرى، تنبع من باطن التراب الذي فيه جسد مريم، هذه هي مريم "العذراء" الثانية التي أنجبت لعالمنا بلا زواج: حُلماً، وعشرة بنين وبنات، لم يولدوا إلا في الخيال، ووصية بالطريق تضيء الظلام أمام أهل الطريق، وأصحاب القلوب التائهة فلا تضل".
أما بلال فقد كان "عبداً هملاً"، بمعايير أهل ود حامد، محتلاً بذلك أدنى مراتب الدونية في النسب؛ بَيْدَ أن إبراهيم ود طه يقف موقفاً مغايراً لموقف أهل ود حامد، ويصف بلالاً بقوله: "إن بلال ليس من عبيد ملك نصراني، ولا أمير حبشي، ولا ملك وثني، ولا غير ذلك ... وإنما سيده شخص يعرفه كل أحد، ليس مجهول الحسب، ولا مطعون النسب، وهو عيسى ود ضو البيت". ويبين إبراهيم ود طه أن عيسى وُلَد بعد وفاة أبيه ضو البيت الذي ترك له ثروة طائلة وهائلة، رفل في نعيمها، وتمتع بحنان والدته التي كانت تغدق في العطاء عليه، إلى درجة جعلت أترابه من الصبية يطلقون عليه "بندر شاه" تندراً. وإن عيسى بعد أن استقام عوده، وبلغ سن الرجولة، تزوج ابنة خاله رجباً، فأنجب منها أحد عشر ولداً. وبعد وفاتها تزوج "من جارية له سوداء جميلة ذكية كان يحبها ويؤثرها" ، فأنجبت له بلالاً، الذي لم يُلحق نسبه بأبيه، ولم يسترقه إخوته خجلاً من وصمة الرق، ولكنهم استكنفوا أمر إلحاقه بهم، وإشراكه في ميراث أبيه. وبهذه الكيفية "نشأ بلال لا هو حر يقال له ابن فلان، ولا هو عبد يقال له عبد فلان"، بل "عبداً هملاً بلا سيد. كل الرقيق لهم أسياد إلا بلال"، هذه عبارات نطقها لسان حال ابنه الطاهر ود الرواسي وفي حلقه غصة. يعلق إبراهيم محمد زين على هذا المشهد الاجتماعي الفاضح بقوله: إن وضع بلال هو "أسوأ من وضع الرقيق"؛ لأن الرقيق جزء من مؤسسة الرق التي تحدد وضعهم الاجتماعي، "مهما كان سيئاً، فهو مكانة في خريطة ترتيب الاجتماع البشري، فهو وجود اجتماعي له مساحته، أما أن يكون الشخص رقيقاً بلا سيد، فهذه الحالة هي عدم اجتماعي لا يسعها المكان، وحالة من الضياع الاجتماعي والإحساس بالعدم" .
إذاً السؤال الذي يطرح نفسه: كيف ارتقى بلال صُعداً في سُلم الترتيب الاجتماعي في قرية ود حامد التي وضعته في قاع الدونية الاجتماعية نسبة لعدم "نقاء" أصله الترائبي؟ هناك عدة خصال خُلقية وأخلاقية أسهمت في إعطاء بلال فضاءً اجتماعياً في مجتمع ود حامد، ويتصدر تلك الخصال صوته الجميل في الآذان، الذي جعل الناس ينادونه: بـ"ولد لا إله إلا الله"، وبذلك خرج بلال من دائرة الانتساب إلى المجهول، وأضحى اسمه ونسبه معلقاً بقيم دينية سامية. وحول هذه النقلة النوعية يقول الراوي: "كان اسمه حسن، وسماه الناس بلال؛ لأن صوته في الآذان كان جميلاً، وفيه لكنة، قالوا أن الشيخ نصر الله ود حبيب هو الذي أعطاه الاسم لما سمع صوته، وعلَّمه الآذان، وجعله مؤذناً، وكان يقول له "طوبى لمن شهد صلاة الفجر في المسجد على صوتك يا بلال، فوالله أن صوتك ليس من هذه الدنيا، ولكنه من السماء". وتكمن الخصلة الثانية في وسامته اليوسفية التي زادت شعبيته في أوساط الجنس الآخر؛ وتتجلى الخصلة الثالثة في تدينه الصادق، وخلقه الرفيع، وتواضعه الجم بين الناس، لذلك أضحى محل تقدير واحترام عند الشيخ نصر الله ود حبيب الذي كان "قطب زمانه بلا منازع، كان الناس يقصدونه من أطراف الأرض، طلباً لعلمه، وتبركاً بصحبته، يجيئونه في قوافل من ديار المغرب، وتونس، والشام، وبلاد الهوسا والفلاني". وبناءً على هذه الخصال الحميدة وصف إبراهيم ود طه بلالاً، بقوله: "وكان هو خاصة نفسه إنساناً عجيباً، جميل الهيئة، جميل الطباع، متعففاً ورعاً، أخلاقه أخلاق سادة أماجد". إلا أن القارئ المتبصر في ثنايا شهادة إبراهيم ود طه يشتم فيها رائحة جاهلية؛ لأنها استحت أن ترفع نسب بلال إلى مصافي أولئك الذين ورثوا سيادتهم ومجدهم من "نقاء" أنسابهم وأحسابهم، لا بفضل مجاهداتهم العرفانية. فالشيخ نصر الله ود حبيب تحدى هذا الواقع الاجتماعي المجحف والمتدثر بمساوئ مؤسسة الرق عندما صعَّد بلالاً إلى مرافئ النسب الرباني، مزكياً إياه بأنه: "ليس عبداً لأحد ...[ بل هو] بلال عبد الله، والله لو علمتم من أمره ما أعلم لانصدعت قلوبكم خشية، لأصابكم الجزع والبلبلة ... والله إن بلالاً لو سأل الله لأبرَّه، ولو طلب من الحق جل وعلا أن يخسف بكم الأرض لفعل". ثم يمضي في الاتجاه ذاته ويعضد تزكيته، بقوله: "يا بلال. أنت عبد الله وأنا عبد الله. وأنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عز وجل. ويوم لا يجزي والد عن ولد، يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله. كفتي أنا أرجح من كفتك في ميزان الدنيا، لكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل".
وفي ظل هذا الاعتراف الصوفي وُلَد بلال ود عيسى ود ضو البيت ميلاداً اجتماعياً جديداً، كما يرى الأستاذ إبراهيم زين، وتزوج بفضل ذلك الميلاد الاجتماعي زيجة رفيعة، ظلت تشكل حدثاً فريداً في ود حامد؛ لأن عقيلته كانت حواء بنت العربي، أجمل حسناوات ود حامد على الإطلاق، وأرفعهن نسباً إلى أرومة العرب، بفضل انتسابها إلى عربان الكبابيش الذين يقطنون حلة القوز.
تبلورت حصيلة هذا الزواج النوراني في ميلاد الطاهر ود الرواسي، وحيد أبويه؛ إلا أن عظمة بلال لم ترتكن عند هذا المنعطف في مجتمع ود حامد، بل تجاوزته متجلية في انتقاله إلى الدار الآخرة، ذلك الانتقال الذي رتبه بطوع إرادته المعتبرة شرعاً، بدلاً من أن يتمرق في رمضاء الحياة الدنيا، ونعيمها الزائل. ومن ثم اختار لنفسه ميعاد الرحيل، ونادى الناس إلى صلاة صبح جامعة في جامع ود حامد العتيق، ليشهدوا مراسيم تشييعه إلى الدار الآخرة. ويصف لنا الراوي هذه المشهد الرهيب، بقوله: "قالوا أنه مكث حولاً واحداً فقط بعد وفاة الشيخ نصر الله ود حبيب، وإنه توفي مثله في نفس الساعة، وفي نفس اليوم من أيام شهر رجب. كان قد امتنع عن الآذان ودخول الجامع بعد وفاة شيخه واحتجب، وذات فجر استيقظ الناس على صوته ينادي من على مئذنة الجامع، صوتاً وصفه الذين سمعوه بأنه كان كأنه مجموعة أصوات، تأتي من أماكن شتى ومن عصور غابرة، وإن ود حامد ارتعشت لرحابة الصوت، وأخذت تكبر وتكثر وتعلو وتتسع، فكأنها مدينة أخرى في زمان آخر. قام كل واحد منهم من فراشه، وتوضأ وسعى إلى منبع الصوت، كأن النداء عناه وحده في ذلك الفجر. ولما وقفوا للصلاة رأوا بلال يلبس كفناً، وكان الجامع غاصاً بخلق كثير، من أهل البلد ومن غير أهل البلد. كان أمراً عجباً. كبر للصلاة كما كان يفعل أيام ود حبيب، ثم وقف ليصلي بهم، فلم يقف أمامهم حيث كان يقف الشيخ، بل وقف معهم في وسط الصف الأول، وهو على تلك الهيئة. قرأ سورة الضحى بصوت فرح، فإذا بالآيات نضرة كأنها عناقيد كُرم. بعد الصلاة التفت إليهم بوجه متوهج سعيد، وحياهم مودعاً، وطلب منهم ألا يحملوه على نعش، بل على أكتافهم، وأن يدفنوه بجوار الشيخ نصر الله ود حبيب ... وبعد ذلك تمدد على الأرض عند المحراب وتشهد واستغفر، والناس ينظرون في رهبة ودهشة، ثم رفع يده كأنه يصافح أحداً، وأسلم روحه إلى بارئها. فحملوه من موضعه ذاك من الجامع إلى المقبرة ... ودفنوه عند الشروق فيما روا، وأم بهم الصلاة رجل مهيب، لم ير وجهه أحد، ولكن أكثرهم قال إنه كان كأنه الشيخ نصر الله ود حبيب".
هكذا كان موت بلال ضرباً آخر من ضروب الموت الصوفي، الذي تنفصل الروح فيه عن الجسد ظاهرياً في خشوع وثبات، ثم تصعد إلى بارئها، مقرةً حياة العبد في رحاب الحضرة الإلهية. لذا فإن الذين حضروا مراسيم تشييعه اشتهوا أن تقبض أرواحهم في تلك الساعة؛ لأن بلال "جعل مذاق الموت في أفواههم كمذاق العسل".
البُعد الصوفي خارج النص الروائي
الإشارة هنا إلى الراوي، الطيب صالح، فهو إنسان مُشبَّع بتعاليم الصوفية سلوكاً ومنهجاً، فالبعد السلوكي تجسده قيم الرجل العرفانية التي كانت ترى الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة. هكذا "يأسرك الطيب صالح بإنسانيته قبل تبهرك موهبته". فيأتي الحديث في الطرف الأول من هذا المبحث عن الجانب الإنساني الصوفي الذي تجسده شخصية الطيب صالح، ثم بعد ذلك ننتقل إلى الجانب الصوفي القائم على الإلهام الروحي في النظم الروائي عند الطيب صالح. ويصور لنا صديقه محمد بن عيسى مشهداً من الجانب الإنساني الصوفي، بقوله: الطيب صالح "كل كامل لا ينافق، ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه ومستحقاته... كل شيء لدى الطيب ملفوف في الحشمة، والتقشف، ونكران الذات. وليّ صالح حتى دون عمامته... يتحدث معك عن أي شيء؛ إلا عن نفسه، وعن أعماله. وتحدثنا مرات بالتلفون بين واشنطن ولندن للتحضير لحفل تكريمه في أصيلة، شيء لا يصدق؛ في كل مناسبة شعرتُ بأن الطيب صالح كان يتهرب في عفوية الطفل، وامتعاض العذراء، لم يستسغ قط فكرة تكريمه: "لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه"، كان يردد لي ذلك كلما فتحتُ الموضوع معه؛ حتى أحسستُ أنه فعلاً لا يرغب في أن يُكرَّم، وأنه فعلاً غير قادر على الرفض، وصارحتُه بذلك، واعترف". وفي انسياب متدفقٍ في الاتجاه ذاته يأتي حديث الدكتورة غادة السمان، عندما قدمت الطيب صالح في رسالة إلى مفيد فوزي بهذه العبارات الصادقة: "لأني أعرف إبحارك في الأدباء والمفكرين، وأعرف أنك تفتش في بحارهم عن الأصداف واللآليء، سوف تلتقي في القاهرة بوجه أبنوسي قلَّما يظهر في حفلات الكوكتيل في السفارات، والندوات التلفزيونية، أو الإذاعية، وليتك تقنعه بالحوار معك؛ أنه لا يدري كم هو مبدع، الطيب صالح، متواضع كالعشب، ولا تزال في ضحكته تلك البراءة الطفولية التي تجدها في قاع العباقرة عادة. أعرف أنه قد يعتذر عن عدم الحديث معك، وأنا أفهم دوافعه، فهو مثلي من المؤمنين بقول جوته: "عالم الفن شاسع لكن حياتنا قصيرة". مثلما هو مبهر في كتاباته، فشخصيته أيضاً مبهرة من خلال تواضعه، وبساطته العفوية التي يتلقاك بها" . أحسب أن القارئ الكريم يوافقني الرأي بأن هاتين الشاهدتين المختارتين من آلاف الشهادات الأخرى هما جامعتان لما قبلهما، ومانعتان لما بعدهما، وعليه نوجز تعليقنا عليهما بالمقولة المأثورة عن أسماء بنت عبد الله العذرية: "لا عطر بعد عروس".
أما بُعْد الإلهام الروحي في روايات الطيب الشاعرية فنجده مبثوثاً في بعض أحاديثه الخاصة التي سر بها صديقه الأستاذ رجاء النقَّاش، ونقل هذا الأخير طرفاً منها في مقال منشور بمجلة الدوحة، حين قال: "وقد حدثني الطيب - هو عندي صادق أمين- أن بعض مقاطع القصة كانت تهبط عليه فجأة، وفي أوقات لا يكون فيها على أهبة للكتابة، وعندما تهبط عليه هذه المقاطع يستجيب لها كما يستجيب لنداء مقدس، ويكتبها كما أملاها عليه إلهام الروح، وهذه الحالات عند الطيب من أحوال المتصوفة وأهل العشق. وهي حالات تفيض بالنور على كثير من صفحات مريود، وتملؤها بالعطر الروحي الجميل. ومن المقاطع التي هبطت على الطيب صالح فجأة فكتبها كما هي، عندما استيقظ ذات صباح، فوجدها حديثاً في قلبه، ذلك المقطع الأخير من رواية مريود، حيث تقول مريوم لمريود: "يامريود. أنت لا شيء. أنت لا أحد يا مريود. إنك اخترت جدك، وجدك اختارك؛ لأنكما أرجح في موازين أهل الدنيا. وأبوك أرجح منك ومن جدك في ميزان العدل. لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل. حَلِمَ أحلام الضعفاء، وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها، ولما نادته الحياة ... لما نادته الحياة ...". وعلق الأستاذ محمد خير عوض الله، الذي كانت تربطه بالطيب علاقة ودٍّ شفيفٍ، على شهادة رجاء النقَّاش دون أن يقف عليها، بتوارد خاطر عجيب، عندما أفصح بقوله: "إن الطيب ... ينطوي على سر عظيم، حتى موهبته، ليست موهبةً عاديةً، توضع في صف واحد من المواهب، هذه موهبة غير عادية، وغير معتادة في بني البشر، نادرة جداً." ولا مندوحة أن حدس الأخ محمد خير عوض الله حدس صادق في تثمين شهادة الأستاذ رجاء النقَّاش، فضلاً عن تثمين القارئ البسيط الذي يستنشق رائحة النفس الصوفي فواحاً في كل أرجاء روايات الطيب صالح، سواء كان ذلك في المصطلحات الصوفية المستخدمة في النص، أو الشخصيات الروائية، أو المساجلات المروية عن الصراع بين الباطن والظاهر، وكيفية توظيفها في منظومة التاريخ الإنساني. هذا هو الطيب صالح الذي يأسرك بإنسانيته، قبل أن تأخذ لباب عقلك رواياته المحلية ذات الأبعاد العالمية والإنسانية المنبسطة في هذا الكون الفسيح، لذا فقد جذبت قراءها بطيب خاطر من كل حدب وصوب، حيث وقفوا على ترجماتها بألسنه أقوامهم المختلفة.
خاتمة
يحمل البُعد الصوفي في روايات الطيب صالح ثقلاً محلياً واضحاً، ومكنوزاً بثقافة أهل السودان، وملامح تاريخهم الديني، والسياسي، والاجتماعي. ونلحظ هذه الخصوصية باهرةً في مسرح الأحداث بود حامد، القرية الرمزية الكون، وملامح شخصياتها الروائية الدائرية، وبيئتها الزاخرة بحراك المجتمع الريفي وتناقضاته عند منحنى النيل في شمال السودان. بَيْدَ أن هذه المحلية لم تجعل قراءة النص الروائي منكفأة على ذاتها، بل منداحة في فضاء واسع من القيم الاجتماعية ذات القواسم المشتركة على الصعيدين القومي والعالمي. فـ"النَفَس الصوفي الطاغي" في روايات الطيب صالح، كما يرى الدكتور خالد محمد فرح ، يخرجها من نطاق المحلية إلى فضاءات العالمية؛ لأن فيه تعويض للذات الإنسانية المثقلة بهمومها اليومية، وأحلامها الضائعة في بيداء الزمان والمكان. فضلاً عن ذلك، فإن النفس الصوفي يعيد إلى العالم تسامحه الإنساني، وتعايشه المثالي في رحاب مدينة فاضلة كان ينشدها الأديب الطيب صالح في ثنايا سرده الروائي. ولعلنا نلمح معالم تلك المدينة الفاضلة زاهيةً في عُرس الزين، ذلك العُرس الذي جمع بين ظهرانية كل المتناقضات، الجواري يرقصن "تحت سمع الإمام وبصره، والمشايخ يرتلون القرآن في بيتٍ، والمدَّاحون يقرعون الطار في بيتٍ، والشبان يسكرون في بيتٍ" . ويعني هذا التصوير الرمزي للاحتفال بعُرس الزين، الذي كان يجسد مجموعة من الأفراح، تتباين فيها أذواق المحتفلين الفنية، وكيفية احتفائهم بالحدث، أن بني البشر لو راعوا خصوصيات بعضهم بعضاً، وثقفوا آليات تواصلهم مع الآخر في نسق حضاري-إنساني، يمكنهم أن يعيشوا في وئام وسلام، بعيداً عن مؤامرات إقصاء الآخر وسُمها السياسي الفاتك، وإفرازات الحروب المدمرة، وتداعيات صدام الحضارات والعولمة. وبذلك يمكن أن يهدأ روع العالم ويسكن باله، وتعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها، ويضحى حُلم وحدة السودان الجاذبة من ضمن القضايا المحلية والعالمية الأخرى حُلماً مشروعاً، وقريب المنال.
https://www.facebook.com/AlTayib.Salih/posts/1407615272759108
تطرَّق الأستاذ إبراهيم محمد زين إلى هذه الخصومة والتصالح بين المطلق والمتجذر في روايات الطيب صالح من خلال مناقشته الرصينة والممتعة في آنٍ واحدٍ لمعاني الميلاد والزواج في محيط التعبير الديني الطقسي، وموقع ذلك التعبير الديني في النص الروائي وشبكة علاقاته الإنسانية المعقدة. أما الأستاذ رجاء النقَّاش (1935-2008م) فقد قدم قراءة ذهنية شاعرية لإشكالية الموت، وتجلياته الصوفية في فضاء الجزء الثاني من رواية مريود (بندرشاه). وفي هذا البحث نحاول أن نستدعي هذه القراءات النقدية الثاقبة للأستاذين زين والنقَّاش، ثم نسلط الضوء على أنماط التعبير الصوفي في روايات الطيب صالح من خلال ثلاث زوايا رئيسة، تجسد النمط الصوفي المرتبط بشرعية وجود الأشياء المحسوسة كـ"دومة ود حامد" في فضاء النص الروائي، ثم الإرادة الإنسانية القوية المسكونة بقيم الهاجس الصوفي كمواقف مريم "القُنْديّل"، وسعيها في طلب العلم، ثم إصرارها على طلب الزواج من مريود. وأخيراً نناقش معنى الموت وتجلياته الصوفية في رحيل بلال الطوعي من ود حامد الرمز إلى دار البقاء، ونصطحب ذلك بانتقال مريوم العُرسي الذي كان يعبر عن "موت حُلم" في أقصى تجلياته الصوفية. ثم نتوج هذه السياحة في ثنايا السرد الروائي المدهش وطقوسه المصاحبة بقراءة تحليلية للبُعد الصوفي خارج موسيقى النص الروائي، مستأنسين في ذلك بسلوك الراوي (الطيب صالح) الممزوج بالحس الصوفي، ومنهجه الحياتي المُشبَّع بنفحات القُوم.
دومة ود حامد بين جدلية الباطن والظاهر
ود حامد هي قرية ريفية رمز، تحمل بين ثناياها تناقضات المجتمع الإنساني البسيط، وفي أحشائها ثنائية الريف والحضر، وقيم الماضي والحاضر والمستقبل، وإشكاليات التحديث ورد الفعل التقليدي الموازي لها، وفوق هذا وذاك تعيش قرية ود حامد مثقلة بإسقاطات العلاقة الجدلية بين المطلق والمقيد، وكيفية توظيفها في فضاءات الصراع البشري. وإذا أمعنا النظر في ود حامد من كُوة السرد الروائي نلمح أنها مطوقة في صعيدها بحلة القوز، حيث يقطن عرب الكبابيش، والهواوير، والمريصاب الوافدين من كردفان، وفي وسطها بمساكن أهلها الطيبين ومقابرهم، وفي سافلها بمجرى النيل وحقوله الغناءة ومراتع ضروعه الحوالب، وفوق الضريح، والأرض المزروعة، والبيوت، والمقبرة، تتمدد دومة ود حامد شامخةً، كأنها "عقاباً خرافياً باسطٌ جناحيه على البلد بكل ما فيها" . والدومة لا يوجد أحد يدعي أنه زرعها، بل "أغلب الظن أنها نمت وحدها"، في "أرض حجرية مسطحة مرتفعة ارتفاعاً بيناً على ضفة النهر، كأنها قاعدة تمثال، والنهر يتلوى تحتها، كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة" . ويجزم جميع أهل ود حامد أنهم لم يروها "على غير حالتها التي ... [هي] عليها الآن" . وإن الشيخ ود حامد الذي حملت القرية اسمه يقال إنه كان "في الزمن السالف مملوكاً لرجل فاسق، وكان من أولياء الله الصالحين، يتكتم إيمانه، لا يجرؤ على الصلاة جهاراً حتى لا يفتك به سيده الفاسق. ولما ضاق ذرعاً بحياته مع ذلك الكافر، دعا الله أن ينقذه منه. فهتف به هاتف أن أفرش مصلاتك على الماء، فإذا وقفت بك على الشاطئ فأنزل. وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن، وكان مكاناً خراباً" . وبعد ذلك الميلاد الصوفي أضحى ود حامد يظهر في أحلام الناس ومجالس أنسهم في صورة "رجل صبوح الوجه، له لحية بيضاء غزيرة، قد غطت صدره، رداؤه أبيض ناصع، وفي يده سبحة من الكهرمان" ، لكنهم لا يعرفون أين يسكن هذا الرجل الصالح، ومن أين يأتي، وإلى أي جيل ينتمي. أما قرية ود حامد فكذاب "من يقول لك أنه يعرف تاريخ نشأتها. البلاد الأخرى تبدأ صغيرة ثم تكبر. ولكن [ود حامد] قامت دفعة واحدة. وأهلها لا يزيد عددهم ولا ينقص، وهيأتها لا تتغير" .
بَيْدَ أن هذا الغياب الحسي للشيخ ود حامد، لم يؤثر في حضوره الدائم في ذاكرة الناس الجمعية وعقولهم الباطنة، وأحلامهم التي تشبه أحلام اليقظة. و يحضرنا في هذا المقام الحُلم الذي روته إحدى السيدات لصاحبة لها، قائلة: "كأنني في مركب سائر في مضيق البحر، فإذا مددتُ يديَّ مسستُ الشاطئ في كلا الجانبين. وكنتُ أرى نفسي على قمة موجة هوجاء تحملني حتى أكاد أمس السحاب، ثم تهوي بي في قاع سحيق مظلم ... رأيتُ على الشاطئ دومة ود حامد. ووقف القارب تحت الدومة، وخرج منه الرجل قَبْلِي، فربط القارب، ومد لي يده فأخرجني. ثم ضربني برفق بسبحته على كتفي، والتقط من الأرض دومة وضعها في يدي. والتفتُ فلم أجده" . فتشَّهدت الصاحبة واستغفرت لربها، ثم قالت مفسرة الحُلم: إن الرجل الذي كان معك في القارب هو "ود حامد .. تمرضين مرضاً تشرفين منه على الموت. لكنك تشفين منه. تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة" ، وبجوار الضريح.
أما زيارة ضريح ود حامد فكانت تمثل بُعداً آخر في منظومة الصراع بين القديم والحديث، فلعل رفض الأهالي إنشاء محطة للباخرة الأسبوعية بجوار الدومة، يمثل شاهداً قوياً في هذا المضمار؛ علماً بأن حجتهم كانت دافعة بأن مواعيد الباخرة تتعارض مع مواعيد زيارتهم الأسبوعية، يوم الأربعاء عصراً، إلى ضريح ود حامد، والتي يصطحبون فيها نساءهم وأطفالهم، ويذبحون تحت ظلال الدومه الوارفة نذورهم المنذورة، تثميناً لفيض صاحب الضريح عليهم. فاقترح موظف الحكومة عليهم، في طيب خاطر يماس القشامة، بأن يغيروا مواعيد الزيارة الأسبوعية، دون أن يدرك أنه لو قال: "لأولئك الرجال في تلك اللحظة أن كلاً منهم ابن حرام، لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. فهبوا لتوهم هبة رجل واحد، وعصفوا بالرجل، وكادوا يفتكون به" . ونتيجة لذلك الموقف العفوي المتشدد والممزوج بمحبة الأهالي لضريح ود حامد أضحت الباخرة لا تقف في قريتهم التي آثر سكانها امتطاء حُمرهم الأهلية إلى المحطات القريبة على ضفة النيل اليسرى بدلاً من أن يغيروا مواعيد زيارة الضريح التي توارثوها أباً عن جد، وهم غير نادمين على ذلك، ولا على رفضهم لمقترح الحكومة بإنشاء محطة للباخرة الأسبوعية في قريتهم.
لا جدال أن هذا الحادث يؤكد علو كعب رجال الحقيقة على أهل السلطان، ويثبت أن شأن الضريح الديني والاجتماعي يضاهي دور المجلس في تلك القرية القصية، وبشارات أهل القوم أشد وقعاً في نفوس الناس من قرارات الحكام. ويبدو أن الكاتب قد استدعى ذلك التأثير الصوفي من طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، التي تثمن علو شأن رجال الحقيقة على علماء الشريعة وأهل السلطان. وأبلغ شاهد في هذا المقام هو السجال الديني الذي جرت حلقاته في جامع أربجي بوسط السودان بين الشيخ محمد الهميم ود عبد الصادق الركابي وقاضي العدالة دشين، فكانت النُّصرة لصالح الشيخ محمد الهميم وسلوكه الاجتماعي المستند إلى تزكية الشيخ إدريس ود الأرباب، علماً بأن الشيخ الهميم تجاوز في زيجاته الأربع، وجمع بين الأختين. لكن الطريف في الأمر أن جمهور الحاضرين ناصروا الشيخ في كشفه الصوفي، القائم على تجليات الباطن، وبخسوا حكم قاضي العدالة دشين المسترشد بثوابت الشرع الظاهرة.
ويتجسد هذا الموقف نفسه في ود حامد، حيث تحظى المؤسسة الصوفية بتأييد السواد الأعظم من الأهلين؛ لأنهم كانوا يعتقدون في صلاح الشيخ الحنين الذي "كان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة. يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم، ثم يحمل أبريقه ومصلاته ويضرب مصعداً في الصحراء، ويغيب ستة أشهر، ثم يعود. لا يدري أحد إلى أين ذهب. ولكن الناس يتناقلون قصصاً غريبة عنه. يحلف أحدهم أنه رآه في مروي في زمن معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كَرْمَة في ذلك الوقت نفسه، وبين البلدين مسيرة ستة أيام" . وفي المقابل يبخسون كيل الإمام الأزهري الذي عينته الحكومة إماماً راتباً لمسجدهم العتيق في ود حامد، ولا ينادونه باسمه؛ لأنه في نظرهم ليس شخصاً، بل مؤسسة لها هدفها المرسوم في القرية. ومن ثم يصفونه بأنه رجل ملحاح، ومتزمت، وكثير الكلام، ويحتقرونه في دخيلتهم؛ لأنه "كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملاً واضحاً ...لم يكن له حقل يزرعه، ولا تجارة يهتم بها، ولكنه كان يعيش على تعليم الصبيان، وله في كل بيت ضريبة مفروضة، يدفعها الناس عن غير طيب خاطر" . ويعلق زعيم القرية محجوب عن واقع الإمام بينهم بكلمات موجزات، مفادها أن الإمام "راجل صعب. لا يأخذ ولا يدي" في أحاديثهم وقضاياهم التي تهم شأنهم المحلى وواقع قرية ود حامد؛ ولكن شغله الشاغل يتمركز حول تتبع أخبار العالم في الصحف والإذاعات وصراع الأضداد وحروباتهم.
ومن القضايا التي تعكس طرفاً من أطراف هذا النزاع الذي كان قائماً بين رجال الحقيقة وفقهاء الشريعة في ود حامد قصة زواج الزين، الذي تصفه أمه بالولاية والصلاح، ويعُده أهل ود حامد رسول حب، ينقل عطره من مكان إلى مكان؛ لأن حب الحِسان كان يبدأ به، وينتهي بصاحب حظوة آخر، يقطف ثمار ذلك الحب. فشأن الزين في هذا المقام كشأن "سمسار، أو دلال، أو ساعي بريد"، فعندما يلهج لسانه بذكر الفتاة المقتول في حبها، "يصبح اسمها حيثما كان، فلا تلبث الآذان أن ترهف، وما تلبث العيون أن تنتبه، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد[ها]" . هذا السلوك الوظيفي الذي أضحى سلوكاً محموداً في ود حامد جعل الناس يساومون بين خِلْقَة الزين الدميمة وسلوكه المنبوذ أحياناً، ويرجحون الظن بأنه "نبي الله الخضر" أو ملاكٌ أنزله "الله في هيكل آدمي زري، ليذكِّر عباده أن القلب الكبير قد يخفق؛ حتى في الصدر المجوف، والسمت المضحك، كصدر الزين وسمته". وتتجه نظرة الشيخ الحنين في الاتجاه ذاته؛ لأنه يصف الزين بـ "المبروك"، ويَعِدَه بأنه سيتزوج أجمل حسناوات القرية، ويؤثر صحبته على مجالسة الآخرين. الأمر الذي جعل محجوب يحس بخفقة قلب، لأنه كان يدرك في عقله الباطن أن "نبوءات ... النساك لا تذهب هدراً" ، ولكنه في الوقت نفسه كان يخاطب شعوره الذاتي بصفته زعيم لقرية ود وحامد، فـ"يقول بصوت مرتفع فيه رنة احتقار: "منو البتعرس البهيم دا؟ داير يجيب لنا جنيه" . أما موقف الإمام فهو موقف نشاز من موقف المؤسسة الصوفية وسواد القرية المناصرين لها؛ لأنه كان معارضاً لزواج الزين من الآنسة نعمة بنت حاج إبراهيم، الشابة المتنورة والدارسة للقرآن، بحجة أن الزين إنسان غير كفؤ، و"إن الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ"، وإن القول بأنه "ولي صالح حديث خرافة، وأنه لو ربي تربية حسنة لنشأ عادياً كبقية الناس".
في ظل هذا الصراع الخفي بين المؤسستين الدينيتين حول عُرس الزين، صدعت حليمة بائعة اللبن بالقول الذي كان يمثل ضمير ود حامد النابض، عندما أخبرت زبونتها آمنه: "بأن نعمة رأت الحنين في منامها. فقال لها: "عرسي الزين. التعرس الزين ما بتندم". وأصبحت الفتاة، فحدثت أباها وأمها، فأجمعوا على الأمر. فهذا الحُلم يمثل انتصاراً حقيقياً للمؤسسة الصوفية في ود حامد؛ لأن عرس الزين من نعمة بنت حاج إبراهيم جمع بين إرادة نعمة الإنسانية القوية في اتخاذ القرار، والبشارة الصوفية التي اقنعت الرأي العام بشرعية ذلك الاختيار الذي كان مرفوضاً من وجهة نظر بعض وجهاء القوم وأهل عصبية نعمة؛ إلا أنهم كظموا غيظهم، وأذعنوا لموقف المؤسسة الصوفية التي تقف خلف قرار نعمة بنت حاج إبراهيم الجريء والشجاع. هكذا كان دور المؤسسة الصوفية فاعلاً في تغير الأنساق الاجتماعية في قرية ود حامد، وتلك الفاعلية حسب قراءة إبراهيم محمد زين هي التي أعطت الزين الدرويش، وسيف الدين بن البدوي العابث بإرث والده الديني والاجتماعي ميلاداً اجتماعياً جديداً في قرية ود حامد.
الإرادة الإنسانية وشرعية التغيير الصوفي
أحدث الطيب صالح نقلة نوعية في الأدب الروائي العربي، عندما انتقل من عالم الواقعية التقليدي إلى المشهد الصوفي والأسطوري في تصوير سلوكيات شخصياته الروائية، التي تجسد أنماطاً حياتيةً مختلفةً في جدل الماضي والحاضر والمستقبل، وتتفاعل مع موروثات التاريخ الثقافي في قالبها المحلي وانبساطها العالمي القائم على ثلة من المتناقضات. فلا مندوحة أن هذه النقلة النوعية قد أضفت على النص المروي نوعاً من الحركة والتجدد في إطار الفعل الإنساني المقيد بقيم الواقع الاجتماعي؛ لأن الراوي كان يحاول دوماً أن يصنع التحدي ويبعث الاستجابة داخل نسيج النص الروائي، وكانت الاستجابة في كثير من الأحيان تأتي في شكل إرادة إنسانية قادحة في موروثات الواقع المعيش، وأحياناً معضدة بالسند الصوفي الذي يجسد إرادة الله في الأرض.
فهذا النمط الصوفي المتدثر بجدلية التحدي البشري والاستجابة الصوفية كان حاضراً حضوراً كثيفاً في سيرة حسناء الريف، "حواء بنت العربي"، التي هبطت إلى ود حامد من ديار الكبابيش مع أبويها في سنوات قحط وجدب. "فماتا عنها، وبقيت وحدها، تمشط وتغزل، وتعمل في دور الميسورين في البلد. ووصفوا أن وجهها كان كفلق الصباح، وشعرها أسود كالليل، مُسدل فوق ظهرها إلى عجيرتها، وأنها كانت فرعاء لفَّاء، طويلة رموش العينين، أسيلة الخدين، كأن في فمها مشتار عسل، وأنها كانت مع ذلك شديدة الذكاء، قوية العين، مهذاراً، حلوة الحديث، متبرجة، في حديثها شيء من تفحش وتغنج. فأرادها الكثيرون. ومنهم بعض علاة أهل البلد، فتمنعت واعتصمت، ولم تقبل منهم طالب حلال، أو حرام".
لعمري هذه لوحة شاعرية مدهشة وموحية بالجمال عن حواء بنت العربي، التي لم يقعدها شقاء الحال الظاهري، ويُتْم الأبوين، والإغراءات المادية، من أن تؤثر وجدها الصوفي ومحبتها الباسقة إلى بلال، الذي "كانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته، فلا يرد عليها، ولا يجاوبها"؛ إلا أنها هامت به هياماً كاد يذهب عقلها، ولكن عندما أعيتها الحيلة في إقناع الحبيب الناسك الذي كان يرى في تبادل حبها بحب انصراف بغيض إلى شأن الحال الدنيوي، اتصلت بالشيخ نصر الله ود حبيب، وشكت له وجدها المكلوم في بيداء حبيبها الناسك. فأشار الشيخ نصر الله على بلال أن يتزوج حواء بنت العربي؛ لأن زواجها ربما يجسد طرفاً من إرادة الله سبحانه وتعالى في الأرض. فرد عليه صاحبنا في طوعٍ مشوب بالحياء: "يا سيدي روحي فداك. لكن لا تخفى عليك خافية من أحوال عبدك المسكين. أنا ماشي في دروب أهل الحضرة، وأنت تأمرني بأفعال أهل الدنيا". فأردف الشيخ نصر الله حجته السابقة بحجة أقوى منها، مفادها: "يا بلال. إن دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة. مشيئة الحق غامضة. يا بلال، إن حب بعض العباد من حب الله، وهذه المسكينة تحبك حباً لا أجده من جنس حب أهل الدنيا، فعسى الحق أن يكون أرسلها إليك لأمر أراده. عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك، فإما صحوت وانقطع سبيلك، وإما ازددت ظمأ إلى كأس الحب السرمدي، ويكون سبحانه وتعالى قد أنفذ مشيئته بإذلالك في إرادته القصوي".
لا مرية أنها حجةً صوفيةً شامخةً، شموخاً يلامس نهايات حب حواء بنت العربي إلى بلال، وإرادتها القوية الناهضة نحو إقناعه، وبالفعل صدقت العزيمة الصوفية عندما تزوج بلالاً حواء، زواجاً كانت غايته إرضاء الشيخ نصر الله الذي أعلن بلال فداءه بروحه. هكذا حدث زواج حواء بنت العربي على صيغة غير قابلة للتأبيد؛ لأن بلالاً لم يجتمع بعروسه البكر "إلا ليلة واحدة، بعدها استأذن شيخه أن يسمح له بأن يبرئ ذمته منها، فأذن له" . فكانت تلك الليلة اليتيمة ليلة سُعدٍ بالنسبة لحواء بنت العربي؛ لأنها حبلت من بلال، فأنجبت ابنها الوحيد الطاهر ود الرواسي. وبعد ذلك "أبت أن تدخل على رجل آخر، وانصرفت لتربية ابنها، فكان شأنها في ذلك شأن المتصوفة العاكفين. وذكروا أنها لما رحلت عن الدنيا، وهي تناهز السبعين، كانت على أبهى هيئتها وحسنها، لم ينقص من جمالها مثقال ذرة، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة، فكأن تصاريفه كانت في حصن حصين".
أما حبها الجارف إلى ابنها الوحيد، الطاهر ود الرواسي، فصوره لنا المحبوب في لوحة شاعرية موحية بحنان تلك الأم التي كانت أحق الناس بحسن صحابته: "ما رأيت حباً مثل حب تلك الأم، وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم، ملت قلبي بالمحبة حتى صرتُ مثل نبع لا ينضب. ويوم الحساب، ويوم الخلق بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم، وزكاتهم، وحجهم، وصيامهم، وهجودهم، وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت، عبدك المسكين الطاهر ود بلال، ولد حواء بنت العربي، يقف بين يديك خالي الجراب، ومقطع الأسباب، وما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوي المحبة".
يعلق الأستاذ رجاء النقَّاش على أن المقطوعة الغنائية بقوله: إن المحبة التي يصفها الطاهر ود الرواسي ليست "المحبة العادية التي تربط بين شخص وشخص، أو بين مجموعة أشخاص، فالمحبة هنا هي قوة دافعة من قوى الحياة، وهي قوة كبرى تحرك الإرادة الإنسانية، وتضعها في موضع الفعل والحركة والتأثير، وهي قوة من قوى الحضارة، تواجه قوة أخرى هي التسلط". وبهذه الملاحظة الثاقبة نصل إلى أن حب حواء بنت العربي إلى بلال كان يمثل ضرباً من ضروب المحبة التي تسهم في تعبيد المسارات الإنسانية لإحداث نقلة نوعية في قيم المجتمع الموروثه، والتي لا يفت عضدها إلا الإرادة الإنسانية المصممة على التغيير والمعضدة بتجليات المطلق في حيز الوجود التاريخي.
الموت الصوفي وأحلام الضياع
كما نعلم أن أهل القوم يفرقون بين موت الجسد وموت الروح؛ لأن في الأول تخرج الروح من الجسد وتنفصل عنه، ويظل الأموات الصلحاء أحياء عند ربهم، وفي الثاني تنفصل الروح عن تواصلها مع الذات الإلهية، ويظل الأحياء الناشزون عن طرق القوم في ظلوماتهم يعمهون. إلا أن الدكتور عبد الرحمن الخانجي لم يصطحب هذا البُعد الصوفي في معالجته الحصيفة لـ "رؤية الموت ودلالتها في عالم الطيب صالح الروائي" ؛ لأنه عمد إلى المقابلة بين موت الأنثى (الشر) وموت الرجل (الخير)، بحجة أن الأول في أكثر معانية مرتبط بغريزة الجنس والعنف الناشئ من الخطيئة، والثاني مرتكز إلى الكبرياء والسمو الذي لا يخلو من التضحية. وبهذه المقابلة الجندرية حاول الخانجي أن يجسد مفهوم الموت في بُعدي الشر والخير، المستبطنين في نسيج النص الروائي، والممثلين لإشكاليات الصراع بين الحضارتين الغربية والشرقية. وانسحاباً على هذه الرؤية التصادمية فقد جاءت مقاربته للموت الجسدي في صورة الوفاة، والقتل، والانتحار، دون أن تعطي حيزاً مناسباً للموت في قمة مضامينه الصوفية الموحية بالجمال الروحي، رغم أنف مرارة الانتقال الجسدي. ولا غرو أن هذه الصورة الصوفية الموطِّنة لحركة المطلق في حيز المقيد تجسد نفسها في موت بلال، ومريوم؛ لأن موت الأول أشهر نفسه في رسالة عرفانية لمبدأ الاختيار الصوفي الزاهد في الحياة الدنيا وزخرفها، والطامع في الدار الآخرة وتصالحها مع الذات الإلهية العليا؛ وموت الثاني (مريوم) كان يشكل طرفاً من أحلام الضياع العذرية التي كانت تنشدها تلك الآنسة المثابرة، لأحداث تغيير حضاري في مجتمع ود حامد المثقل بتقاليده المحلية الموروثة.
كانت مريوم، كما كان يدللها حبيبها مريود، شخصية قوية، وصاحبة إرادة ذاتية خلاقة منذ أيام طفولتها الباكرة، وقد تجلت تلك الإرادة الفاعلة في تحديها لموروثات الواقع المعيش في ود حامد، حينما أصرت على دخول خلوة حاج سعد لقراءة القرآن مع الأولاد، وهي دون الرابعة من عمرها الزاهر. ويوثق مريود لهذا المشهد بقوله: كانت "تقرأ معنا القرآن في خلوة حاج سعد، فعلت ذلك قدرة واقتداراً، ولا راد لرغبتها العارمة في فك طلاسم الحروف. تجيء فنطردها فلا تنطرد، فاضطررنا أنا ومحجوب أن نعلمها، فكأننا أطلقنا جناً من قمقم ... فصارت تقارعنا الآية بالآية حتى ضقنا منها زرعاً. ولما دخلنا المدرسة سعدنا أننا نتعلم أشياء لا تفهمها، ونرجع فنقرأ لها التاريخ، والجغرافيا، والحساب، ونغيظها بذلك. فأخذت تمالئنا، وتستعطفنا لنأخذها معنا. قلنا لها: "المدرسة للأولاد. ما في بنات في المدرسة" ، فاستجابت لحجتنا بقولها: "يمكن إذا شافوني يقبلوني ... الحكاية مش قراية وكتابة؟ أيه الفرق بين الولد والبنت؟". فرد عليها أخوها محجوب بلهجة غاضبة: "نظام الحكومة كذا. مدرسة للأولاد يعني للأولاد. أنت عايزة الحكومة تعملك نظام خصوصي؟". فردت عليه في حرقة جامحة: "ليش لا؟ خلاص، ما دام الحكومة لا تقبل غير الأولاد أصير ولد ... ألبس جلابية، وعمة، وأمشي معاكم، متلي متلكم. ما في أي إنسان يعرف أي حاجة. أية الفرق بين الولد والبنت... ". وبذلك استطاعت مريم "القنديل" أن تقنع أترابها من حولها بشرعية حقها في التعليم، فخرجت معهم في الصباح الباكر، و"لم تكن خجلة"، بل جعلت "الأفق البعيد يتراءى" لهم، وهم يرددون استجابتها لرفضهم الممزوج بالخجل: "ليش لا"، ويشعرون برجاحة وجهة نظرها الثاوية في مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في ذلك الريف القصي. يعلق رجاء النقَّاش على هذه الخطوة التقدمية بقوله: "المرأة عند الطيب صالح قوية جداً، ذات إرادة صلبة، وقدرة على الاختيار في كل الأمور، وبالذات فيما يتصل بأمور الزواج، والحب، [وهي] تتطلع دائماً إلى الأمام، تختار الأحسن والأفضل، وتحلم أحلام زاهية عن المستقبل".
هكذا كانت مريوم بفضل إرادتها الإنسانية عالية الهمة رمزاً للتحديث في ود حامد. فعندما انتقلت إلى الدار الآخرة من غير سابق إنذار، شيعها أهل ود حامد والقرى القابعة عند منحنى النيل في موكب حزين، ثم واروها الثرى مع ثلة أحلامها الوردية الجميلة، التي ذبلت في أرض ود حامد النكدة؛ إلا أنهم بهذا الغرس غير المسبوق كانوا يأملون أن تزهر تلك الأحلام العذارى بفضل جهد الأجيال اللاحقة، وإشراقات المستقبل المصاحبة لها.
ويصف لنا مريود "العاشق" رحيل "معشوقته" مريوم في لوحة تراجيدية ممعنة في العزاء، عزاءً سبق عقد قرانه بمريوم، فيقول: "لم تكن بها علة، ولم تلزم فراشها غير يوم واحد، كأنها قررت أن ترحل فجأة. كأن كل الذي حدث لم يحدث. هو على يمينها [أي أخوها محجوب] وأنا على يسارها، وحدنا معها كما أرادت. كانت خضلة مثل عروس. ليس بها شيء سوى بعض حبات العرق على جبهتها، كان وجهها متألقاً، وعيناها تتلامعان مثل البروق. نظرت إلي وهلة كأنها لا تعرفني، ثم قالت وهي تنظر إلى محجوب: "بس مريود لسَّع ما وصل. كيف يحصل الزواج، مريود لسّع ما رجع من السفر". هكذا خلطت مريوم في غيبوبتها بين مريود وبكري، وهي في هذه الحالة الذاهلة عن مقاصد الأحداث، ورد عليها هاجس بأن مريود قد مات، ومن ثم آثرت بقولها: "أحسن أنا كمان أموت، ولا أتزوج بكري". ويعبر مريود عن تلك اللحظة الرهيبة والفاجعة، بقوله: "وسمعت حس بكائي كأن أحداً غيري يبكي ... هذه حصتي من كل شيء. هذا نصيبي وإرثي. مات عنها، وتركها لي لتموت على صدري. لعلني لهذا عدتُ".
ثم يصف مريود الجريح موكب جنازة مريوم التراجيدي، بقوله: "دفناها عند المغيب، كأننا نغرس نخلة، أو نستودع باطن الأرض سراً عزيزاً سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الأشكال. محجوب قَبَّل خدها. وأنا قبلتُ جبهتها، وكاد الطريفي يهلك من البكاء، وحملناها برفق نحن الستة، ووضعناها على حافة القبر. أسمع ذلك الصوت يجئني من بعيد مثل ناي سحري، في غلالة من أضواء الأقمار في ليالي الصيف، ولمع الشعاع على سعف النخل الندي، ووهج النوار في حدائق البرتقال. تقول وهي تجر عمامتي من رأسي: "نسكن البندر. سامع؟ البندر. الموية بالأنابيب، والنور بالكهرباء، والسفر بالسكة الحديد. فاهم؟ اتمبيلات وتطورات. اسبتاليات، ومدارس، حاجات وحاجات. البندر. فاهم؟ الله يلعن ود حامد ... فيها المرض، والموت، ووجع الرأس. أولادنا كلهم يطلعوا أفندية. فاهم؟"
بهذا النفس التراجيدي رحلت مريوم (مريم) العذراء بأحلامها الحضارية، بعد أن استطاعت "أن تجمع في شخصيتها بين المعني الخاص للمرأة المحبوبة، والمعنى العام للطريق والرؤية"، وأن تكون رمزاً "لحُلم الحياة وشوقها إلى التجديد"، وأن تكسر "الأسلاك الشائكة التي تحول بيننا وبين الانطلاق الروحي والانطلاق الحضاري معاً". ويمضى الأستاذ النقَّاش في الاتجاه ذاته، ويقول: إن موت مريوم ليس نمطاً من أنماط الموت الذي ألفناه، "ولكنه وعد جديد بالنور بحياة أخرى، تنبع من باطن التراب الذي فيه جسد مريم، هذه هي مريم "العذراء" الثانية التي أنجبت لعالمنا بلا زواج: حُلماً، وعشرة بنين وبنات، لم يولدوا إلا في الخيال، ووصية بالطريق تضيء الظلام أمام أهل الطريق، وأصحاب القلوب التائهة فلا تضل".
أما بلال فقد كان "عبداً هملاً"، بمعايير أهل ود حامد، محتلاً بذلك أدنى مراتب الدونية في النسب؛ بَيْدَ أن إبراهيم ود طه يقف موقفاً مغايراً لموقف أهل ود حامد، ويصف بلالاً بقوله: "إن بلال ليس من عبيد ملك نصراني، ولا أمير حبشي، ولا ملك وثني، ولا غير ذلك ... وإنما سيده شخص يعرفه كل أحد، ليس مجهول الحسب، ولا مطعون النسب، وهو عيسى ود ضو البيت". ويبين إبراهيم ود طه أن عيسى وُلَد بعد وفاة أبيه ضو البيت الذي ترك له ثروة طائلة وهائلة، رفل في نعيمها، وتمتع بحنان والدته التي كانت تغدق في العطاء عليه، إلى درجة جعلت أترابه من الصبية يطلقون عليه "بندر شاه" تندراً. وإن عيسى بعد أن استقام عوده، وبلغ سن الرجولة، تزوج ابنة خاله رجباً، فأنجب منها أحد عشر ولداً. وبعد وفاتها تزوج "من جارية له سوداء جميلة ذكية كان يحبها ويؤثرها" ، فأنجبت له بلالاً، الذي لم يُلحق نسبه بأبيه، ولم يسترقه إخوته خجلاً من وصمة الرق، ولكنهم استكنفوا أمر إلحاقه بهم، وإشراكه في ميراث أبيه. وبهذه الكيفية "نشأ بلال لا هو حر يقال له ابن فلان، ولا هو عبد يقال له عبد فلان"، بل "عبداً هملاً بلا سيد. كل الرقيق لهم أسياد إلا بلال"، هذه عبارات نطقها لسان حال ابنه الطاهر ود الرواسي وفي حلقه غصة. يعلق إبراهيم محمد زين على هذا المشهد الاجتماعي الفاضح بقوله: إن وضع بلال هو "أسوأ من وضع الرقيق"؛ لأن الرقيق جزء من مؤسسة الرق التي تحدد وضعهم الاجتماعي، "مهما كان سيئاً، فهو مكانة في خريطة ترتيب الاجتماع البشري، فهو وجود اجتماعي له مساحته، أما أن يكون الشخص رقيقاً بلا سيد، فهذه الحالة هي عدم اجتماعي لا يسعها المكان، وحالة من الضياع الاجتماعي والإحساس بالعدم" .
إذاً السؤال الذي يطرح نفسه: كيف ارتقى بلال صُعداً في سُلم الترتيب الاجتماعي في قرية ود حامد التي وضعته في قاع الدونية الاجتماعية نسبة لعدم "نقاء" أصله الترائبي؟ هناك عدة خصال خُلقية وأخلاقية أسهمت في إعطاء بلال فضاءً اجتماعياً في مجتمع ود حامد، ويتصدر تلك الخصال صوته الجميل في الآذان، الذي جعل الناس ينادونه: بـ"ولد لا إله إلا الله"، وبذلك خرج بلال من دائرة الانتساب إلى المجهول، وأضحى اسمه ونسبه معلقاً بقيم دينية سامية. وحول هذه النقلة النوعية يقول الراوي: "كان اسمه حسن، وسماه الناس بلال؛ لأن صوته في الآذان كان جميلاً، وفيه لكنة، قالوا أن الشيخ نصر الله ود حبيب هو الذي أعطاه الاسم لما سمع صوته، وعلَّمه الآذان، وجعله مؤذناً، وكان يقول له "طوبى لمن شهد صلاة الفجر في المسجد على صوتك يا بلال، فوالله أن صوتك ليس من هذه الدنيا، ولكنه من السماء". وتكمن الخصلة الثانية في وسامته اليوسفية التي زادت شعبيته في أوساط الجنس الآخر؛ وتتجلى الخصلة الثالثة في تدينه الصادق، وخلقه الرفيع، وتواضعه الجم بين الناس، لذلك أضحى محل تقدير واحترام عند الشيخ نصر الله ود حبيب الذي كان "قطب زمانه بلا منازع، كان الناس يقصدونه من أطراف الأرض، طلباً لعلمه، وتبركاً بصحبته، يجيئونه في قوافل من ديار المغرب، وتونس، والشام، وبلاد الهوسا والفلاني". وبناءً على هذه الخصال الحميدة وصف إبراهيم ود طه بلالاً، بقوله: "وكان هو خاصة نفسه إنساناً عجيباً، جميل الهيئة، جميل الطباع، متعففاً ورعاً، أخلاقه أخلاق سادة أماجد". إلا أن القارئ المتبصر في ثنايا شهادة إبراهيم ود طه يشتم فيها رائحة جاهلية؛ لأنها استحت أن ترفع نسب بلال إلى مصافي أولئك الذين ورثوا سيادتهم ومجدهم من "نقاء" أنسابهم وأحسابهم، لا بفضل مجاهداتهم العرفانية. فالشيخ نصر الله ود حبيب تحدى هذا الواقع الاجتماعي المجحف والمتدثر بمساوئ مؤسسة الرق عندما صعَّد بلالاً إلى مرافئ النسب الرباني، مزكياً إياه بأنه: "ليس عبداً لأحد ...[ بل هو] بلال عبد الله، والله لو علمتم من أمره ما أعلم لانصدعت قلوبكم خشية، لأصابكم الجزع والبلبلة ... والله إن بلالاً لو سأل الله لأبرَّه، ولو طلب من الحق جل وعلا أن يخسف بكم الأرض لفعل". ثم يمضي في الاتجاه ذاته ويعضد تزكيته، بقوله: "يا بلال. أنت عبد الله وأنا عبد الله. وأنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عز وجل. ويوم لا يجزي والد عن ولد، يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله. كفتي أنا أرجح من كفتك في ميزان الدنيا، لكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل".
وفي ظل هذا الاعتراف الصوفي وُلَد بلال ود عيسى ود ضو البيت ميلاداً اجتماعياً جديداً، كما يرى الأستاذ إبراهيم زين، وتزوج بفضل ذلك الميلاد الاجتماعي زيجة رفيعة، ظلت تشكل حدثاً فريداً في ود حامد؛ لأن عقيلته كانت حواء بنت العربي، أجمل حسناوات ود حامد على الإطلاق، وأرفعهن نسباً إلى أرومة العرب، بفضل انتسابها إلى عربان الكبابيش الذين يقطنون حلة القوز.
تبلورت حصيلة هذا الزواج النوراني في ميلاد الطاهر ود الرواسي، وحيد أبويه؛ إلا أن عظمة بلال لم ترتكن عند هذا المنعطف في مجتمع ود حامد، بل تجاوزته متجلية في انتقاله إلى الدار الآخرة، ذلك الانتقال الذي رتبه بطوع إرادته المعتبرة شرعاً، بدلاً من أن يتمرق في رمضاء الحياة الدنيا، ونعيمها الزائل. ومن ثم اختار لنفسه ميعاد الرحيل، ونادى الناس إلى صلاة صبح جامعة في جامع ود حامد العتيق، ليشهدوا مراسيم تشييعه إلى الدار الآخرة. ويصف لنا الراوي هذه المشهد الرهيب، بقوله: "قالوا أنه مكث حولاً واحداً فقط بعد وفاة الشيخ نصر الله ود حبيب، وإنه توفي مثله في نفس الساعة، وفي نفس اليوم من أيام شهر رجب. كان قد امتنع عن الآذان ودخول الجامع بعد وفاة شيخه واحتجب، وذات فجر استيقظ الناس على صوته ينادي من على مئذنة الجامع، صوتاً وصفه الذين سمعوه بأنه كان كأنه مجموعة أصوات، تأتي من أماكن شتى ومن عصور غابرة، وإن ود حامد ارتعشت لرحابة الصوت، وأخذت تكبر وتكثر وتعلو وتتسع، فكأنها مدينة أخرى في زمان آخر. قام كل واحد منهم من فراشه، وتوضأ وسعى إلى منبع الصوت، كأن النداء عناه وحده في ذلك الفجر. ولما وقفوا للصلاة رأوا بلال يلبس كفناً، وكان الجامع غاصاً بخلق كثير، من أهل البلد ومن غير أهل البلد. كان أمراً عجباً. كبر للصلاة كما كان يفعل أيام ود حبيب، ثم وقف ليصلي بهم، فلم يقف أمامهم حيث كان يقف الشيخ، بل وقف معهم في وسط الصف الأول، وهو على تلك الهيئة. قرأ سورة الضحى بصوت فرح، فإذا بالآيات نضرة كأنها عناقيد كُرم. بعد الصلاة التفت إليهم بوجه متوهج سعيد، وحياهم مودعاً، وطلب منهم ألا يحملوه على نعش، بل على أكتافهم، وأن يدفنوه بجوار الشيخ نصر الله ود حبيب ... وبعد ذلك تمدد على الأرض عند المحراب وتشهد واستغفر، والناس ينظرون في رهبة ودهشة، ثم رفع يده كأنه يصافح أحداً، وأسلم روحه إلى بارئها. فحملوه من موضعه ذاك من الجامع إلى المقبرة ... ودفنوه عند الشروق فيما روا، وأم بهم الصلاة رجل مهيب، لم ير وجهه أحد، ولكن أكثرهم قال إنه كان كأنه الشيخ نصر الله ود حبيب".
هكذا كان موت بلال ضرباً آخر من ضروب الموت الصوفي، الذي تنفصل الروح فيه عن الجسد ظاهرياً في خشوع وثبات، ثم تصعد إلى بارئها، مقرةً حياة العبد في رحاب الحضرة الإلهية. لذا فإن الذين حضروا مراسيم تشييعه اشتهوا أن تقبض أرواحهم في تلك الساعة؛ لأن بلال "جعل مذاق الموت في أفواههم كمذاق العسل".
البُعد الصوفي خارج النص الروائي
الإشارة هنا إلى الراوي، الطيب صالح، فهو إنسان مُشبَّع بتعاليم الصوفية سلوكاً ومنهجاً، فالبعد السلوكي تجسده قيم الرجل العرفانية التي كانت ترى الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة. هكذا "يأسرك الطيب صالح بإنسانيته قبل تبهرك موهبته". فيأتي الحديث في الطرف الأول من هذا المبحث عن الجانب الإنساني الصوفي الذي تجسده شخصية الطيب صالح، ثم بعد ذلك ننتقل إلى الجانب الصوفي القائم على الإلهام الروحي في النظم الروائي عند الطيب صالح. ويصور لنا صديقه محمد بن عيسى مشهداً من الجانب الإنساني الصوفي، بقوله: الطيب صالح "كل كامل لا ينافق، ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه ومستحقاته... كل شيء لدى الطيب ملفوف في الحشمة، والتقشف، ونكران الذات. وليّ صالح حتى دون عمامته... يتحدث معك عن أي شيء؛ إلا عن نفسه، وعن أعماله. وتحدثنا مرات بالتلفون بين واشنطن ولندن للتحضير لحفل تكريمه في أصيلة، شيء لا يصدق؛ في كل مناسبة شعرتُ بأن الطيب صالح كان يتهرب في عفوية الطفل، وامتعاض العذراء، لم يستسغ قط فكرة تكريمه: "لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه"، كان يردد لي ذلك كلما فتحتُ الموضوع معه؛ حتى أحسستُ أنه فعلاً لا يرغب في أن يُكرَّم، وأنه فعلاً غير قادر على الرفض، وصارحتُه بذلك، واعترف". وفي انسياب متدفقٍ في الاتجاه ذاته يأتي حديث الدكتورة غادة السمان، عندما قدمت الطيب صالح في رسالة إلى مفيد فوزي بهذه العبارات الصادقة: "لأني أعرف إبحارك في الأدباء والمفكرين، وأعرف أنك تفتش في بحارهم عن الأصداف واللآليء، سوف تلتقي في القاهرة بوجه أبنوسي قلَّما يظهر في حفلات الكوكتيل في السفارات، والندوات التلفزيونية، أو الإذاعية، وليتك تقنعه بالحوار معك؛ أنه لا يدري كم هو مبدع، الطيب صالح، متواضع كالعشب، ولا تزال في ضحكته تلك البراءة الطفولية التي تجدها في قاع العباقرة عادة. أعرف أنه قد يعتذر عن عدم الحديث معك، وأنا أفهم دوافعه، فهو مثلي من المؤمنين بقول جوته: "عالم الفن شاسع لكن حياتنا قصيرة". مثلما هو مبهر في كتاباته، فشخصيته أيضاً مبهرة من خلال تواضعه، وبساطته العفوية التي يتلقاك بها" . أحسب أن القارئ الكريم يوافقني الرأي بأن هاتين الشاهدتين المختارتين من آلاف الشهادات الأخرى هما جامعتان لما قبلهما، ومانعتان لما بعدهما، وعليه نوجز تعليقنا عليهما بالمقولة المأثورة عن أسماء بنت عبد الله العذرية: "لا عطر بعد عروس".
أما بُعْد الإلهام الروحي في روايات الطيب الشاعرية فنجده مبثوثاً في بعض أحاديثه الخاصة التي سر بها صديقه الأستاذ رجاء النقَّاش، ونقل هذا الأخير طرفاً منها في مقال منشور بمجلة الدوحة، حين قال: "وقد حدثني الطيب - هو عندي صادق أمين- أن بعض مقاطع القصة كانت تهبط عليه فجأة، وفي أوقات لا يكون فيها على أهبة للكتابة، وعندما تهبط عليه هذه المقاطع يستجيب لها كما يستجيب لنداء مقدس، ويكتبها كما أملاها عليه إلهام الروح، وهذه الحالات عند الطيب من أحوال المتصوفة وأهل العشق. وهي حالات تفيض بالنور على كثير من صفحات مريود، وتملؤها بالعطر الروحي الجميل. ومن المقاطع التي هبطت على الطيب صالح فجأة فكتبها كما هي، عندما استيقظ ذات صباح، فوجدها حديثاً في قلبه، ذلك المقطع الأخير من رواية مريود، حيث تقول مريوم لمريود: "يامريود. أنت لا شيء. أنت لا أحد يا مريود. إنك اخترت جدك، وجدك اختارك؛ لأنكما أرجح في موازين أهل الدنيا. وأبوك أرجح منك ومن جدك في ميزان العدل. لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل. حَلِمَ أحلام الضعفاء، وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها، ولما نادته الحياة ... لما نادته الحياة ...". وعلق الأستاذ محمد خير عوض الله، الذي كانت تربطه بالطيب علاقة ودٍّ شفيفٍ، على شهادة رجاء النقَّاش دون أن يقف عليها، بتوارد خاطر عجيب، عندما أفصح بقوله: "إن الطيب ... ينطوي على سر عظيم، حتى موهبته، ليست موهبةً عاديةً، توضع في صف واحد من المواهب، هذه موهبة غير عادية، وغير معتادة في بني البشر، نادرة جداً." ولا مندوحة أن حدس الأخ محمد خير عوض الله حدس صادق في تثمين شهادة الأستاذ رجاء النقَّاش، فضلاً عن تثمين القارئ البسيط الذي يستنشق رائحة النفس الصوفي فواحاً في كل أرجاء روايات الطيب صالح، سواء كان ذلك في المصطلحات الصوفية المستخدمة في النص، أو الشخصيات الروائية، أو المساجلات المروية عن الصراع بين الباطن والظاهر، وكيفية توظيفها في منظومة التاريخ الإنساني. هذا هو الطيب صالح الذي يأسرك بإنسانيته، قبل أن تأخذ لباب عقلك رواياته المحلية ذات الأبعاد العالمية والإنسانية المنبسطة في هذا الكون الفسيح، لذا فقد جذبت قراءها بطيب خاطر من كل حدب وصوب، حيث وقفوا على ترجماتها بألسنه أقوامهم المختلفة.
خاتمة
يحمل البُعد الصوفي في روايات الطيب صالح ثقلاً محلياً واضحاً، ومكنوزاً بثقافة أهل السودان، وملامح تاريخهم الديني، والسياسي، والاجتماعي. ونلحظ هذه الخصوصية باهرةً في مسرح الأحداث بود حامد، القرية الرمزية الكون، وملامح شخصياتها الروائية الدائرية، وبيئتها الزاخرة بحراك المجتمع الريفي وتناقضاته عند منحنى النيل في شمال السودان. بَيْدَ أن هذه المحلية لم تجعل قراءة النص الروائي منكفأة على ذاتها، بل منداحة في فضاء واسع من القيم الاجتماعية ذات القواسم المشتركة على الصعيدين القومي والعالمي. فـ"النَفَس الصوفي الطاغي" في روايات الطيب صالح، كما يرى الدكتور خالد محمد فرح ، يخرجها من نطاق المحلية إلى فضاءات العالمية؛ لأن فيه تعويض للذات الإنسانية المثقلة بهمومها اليومية، وأحلامها الضائعة في بيداء الزمان والمكان. فضلاً عن ذلك، فإن النفس الصوفي يعيد إلى العالم تسامحه الإنساني، وتعايشه المثالي في رحاب مدينة فاضلة كان ينشدها الأديب الطيب صالح في ثنايا سرده الروائي. ولعلنا نلمح معالم تلك المدينة الفاضلة زاهيةً في عُرس الزين، ذلك العُرس الذي جمع بين ظهرانية كل المتناقضات، الجواري يرقصن "تحت سمع الإمام وبصره، والمشايخ يرتلون القرآن في بيتٍ، والمدَّاحون يقرعون الطار في بيتٍ، والشبان يسكرون في بيتٍ" . ويعني هذا التصوير الرمزي للاحتفال بعُرس الزين، الذي كان يجسد مجموعة من الأفراح، تتباين فيها أذواق المحتفلين الفنية، وكيفية احتفائهم بالحدث، أن بني البشر لو راعوا خصوصيات بعضهم بعضاً، وثقفوا آليات تواصلهم مع الآخر في نسق حضاري-إنساني، يمكنهم أن يعيشوا في وئام وسلام، بعيداً عن مؤامرات إقصاء الآخر وسُمها السياسي الفاتك، وإفرازات الحروب المدمرة، وتداعيات صدام الحضارات والعولمة. وبذلك يمكن أن يهدأ روع العالم ويسكن باله، وتعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها، ويضحى حُلم وحدة السودان الجاذبة من ضمن القضايا المحلية والعالمية الأخرى حُلماً مشروعاً، وقريب المنال.
https://www.facebook.com/AlTayib.Salih/posts/1407615272759108