مارون عبود - أم نخول

[SIZE=5]قبل هاتيك الحرب …
[/SIZE]
سمعت باسم أم نخول وأنا ابن خمس ، فكنت اكبر ويكبر معي . إذا دّبرت امرأة تدبيراً فيه صلاح لعيلتها نوَّهوا باسمها قائلين : عاشت ام نخول . وإن عزّ شيْ في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا : هذي ام نخول ثانية . وإن مرَّت على الطريق امرأة مترجلة لا تبالي بمن يتشمسون قدَّام الأبواب ، تنحنحوا وتغامزوا قائلين : إحم … ام نخول . وهكذا انطبع هذا الاسم في ذهني كالأبانا والسلام . فالمرحوم ، على قلة تقديره للمرأة ، كان يلقبها أخت الرجال فــُيحفظ أمي ولا يبالي ، بل يصب النفط على النار فيقول : آه على مرأة مثلها !

ورأيت بيتها وأنا ابن سبع . كنت مع والدتي في طريقنا الى ” البترون ” ، فأومأت باصبعها الى بيت نعلق على صدر جبل وقالت : هذاك بيت ام نخول . فمشيت ، ولكن نظري ظل عالقاً بذاك البيت ، فقلت : وأين هي ام نخول ؟

فضحكت أمي وقالت : من يعلم ؟ أشغالها كثيرة.

فقلت حجارة بيتها بيضاء .

فقالت : عجـّل يا صبي ، إمشِ ، هذا كلس .

لم يخرج كرّ السنين ذاك الاسم من رأسي ، بل قامت الى جانبه صورة بيتها . وسمعت عنها أحاديث أغرتني بزيارتها ، ولكني تهيبت العفاب القائمة دونــه . وأخيراً ، ولا أدري كيف … رأيتني على مقربة من بيتها ، وكلبها ” غبار ” يستقبلني استقبالاً صارخاً كان له النهر والأودية والكهوف كمضخمات الصوت .

لو كان غبار وحده لاتقيته ، ولكن أسرته الكريمة معه ، وكانت أشد احتفاء بي منه .


تسمَّـرت في مكاني أنتظر العون ، فإذا براع ٍ صغير يصيح من ورائي ، في الجبل المناوح ، ويسألني أين أقصد . فأجبته : اني زائر . فصاح الولد على البيت ، فردّت عليه أنثى بصوت يسمعه من هم على الشط .

وما عتمت أن انتصبت بالباب ، فقال لها : ردّي الكلاب . فاجابته : ما عليك ، انتبه لعنزاتك .

ثم نادت قائد الكلاب باسمه ، ففهم عنها ولفّ الذنب الذي كان لرأسه اكليلاً ، وعاد وجيشه .

وجدتني تلقاء امرأة لا هي طويلة ولا قصيرة ، لا ضخمة ولا هزيلة ، لا جميلة ولا قبيحة ، لا صبية ولا عجوز . تعصب جبهتها بقدة سوداء ، وتلفّ رأسها بفوطة بيضاء نظيفة كأنها من ممرضات اليوم . تلبس فسطاناً منتفخاً على كتفيها كأن هناك رمانتين . قماش كثير من الزنـَّار ونازلاً فكأنها خابية من خوابي بيت شباب .

وقبل أن ابلغ البيت الأبيض مررت بين أشجار كلها حوامل ، بعضها مؤزَّر بشباك ترد عنها الطير فلا تفسد ثمارها ، وعلى رؤوس الغصون الشامخة جماجم غنم ومعزى ، وقشور بيض مرفوعة على قصب مغروز في الأرض ، وعلى شناخيب مساميك العريش قدد من نسيج مختلفة ألوانه ، كأنها سمات أوسمة منحتها ام نخول أشجارها المتفوقة في الحمل ، تمائم وتعاويذ تتقي بها عيون الحساد فلا تصيب مزروعاتها . أما الأوابد فلها دواء آخر : هنا نطــَّار على هيئة رجل ، وهنا لعين بشكل امرأة . أشكال وألوان تقشعر لرؤيتها جلود البشر فكيف لا تفزع ابن آوى والعصافير .

خلتني وأنا مار بينها كأنني بين خفراء مختلفي السحن وكلهم فظ غليظ القلب .

وحدجني غبار بعينيه المحمرَّة وكشَّر عن أنيابه البيضاء ، وتحسس كمن يريد الوثوب فقالت له : غبار ، سد بوزك ، هذا ضيف . فتبدات ملامحه في الحال ، واستخذى وزحف صوبي حتى دنا مني يشمني .

فقالت لي : لا تخف ، أهلاً وسهلاً .

وغابت ثم آبت وفي يدها كأس فشربت شراباً استطيبته جداً حتى قلت : طـّيب شرابكم .

فقالت : الليمون بلدي ، والسكر بلدي ، والماء من رأس العين ، وأنت عطشان .

فضحكت ضحكة فيها تعجب وحيرة وقلت : وكيف يكون السكر البلدي ؟

فقالت : نحن نعقــَّده من قصب المص ّ . السكر غال والعصير يمد أكثر وهو ألذّ .

فقالت في نفسي : هذه إحدى عجائبها ، انها هي . واستولت ام نخول على المبادرة فأجبتها : شاب من الجيرة ، سمعت باسمك ، جئت أتعرّف بك .

فقالت بتعجب صادق : باسمي أنا ؟

– نعم باسمك أنتِ .

فسكتت وشاع الابتسام في وجهها قبل أن تقول : طيـّب يا حبيبي ، شباب كثير في الجيرة ، فمن أنت منهم ؟

فقلت لها : فلان ابن فلان .

فتنهدت ورحـّبت .

ودخلت علينا صبية لا تعلم اني هناك فأرتـدَّت مذعورة ، فقالت لها أمها : منـّا وفينا .

فتقدمت وسلّمت عليّ تسليم حيط الكنيسة . وخرجت بعد أن تلـقـّت أمر أمها بإيماءة لم أفهم معناها إلا عند الظهر .

أما أم نخول فقالت : ترانا اليوم مهموكين بتقميع اللوز وتشميسه ، وغداً لمّ التين وقطاف العنب ، وبعده الزيتون وعصره . الحياة كلها شغل .

فقلت : بيتكم منفرد ، ألا تضجرون وحدكم ؟

فضحكت لأول مرة ضحكة عامرة وقالت : ما عندنا وقت حتى نضجر .

فقلت : أنت ِ مستاهلة هذا الصيت يا ست ام نخول .

فجادت بربع ابتسامة وقالت : ستّـك العضرا يا روحي ، كلمة ست صارت رخيصة في زمانكم .

وانقطع الحديث فخـِلت أني أسأت اليها ولكنها قالت : فكري قال لي انك مأمور حكومة ، فأخذت حذري منك .

فقلت لها : والحكومة تفزّع .

فأجابت : لا ، ولكن ضرائبها تخوّفنا . الحكومة ملح الأرض ولولاها ما كنا نعيش في لحف هذا الجبل . سمعنا عن الباشا الجديد انه حطّ ضرائب على البقر والحمير والدجاج . أخبار لا تصدّق .

– لاتخافي يا عمتي ، احكي لي عن أحوالكم ، عن المواسم عندكم .

فقالت : أية مواسم تريد ؟ وأخذت تعدُّ على أصابعها : الحرير وسط ، والدخان مليح ، واللوز عال ، والتين ممتاز ، والعنب كسر المساميك ، والزيتون أكثر مما كنا ننتظر . سنة خير ، المرعى بحر والمواشي شبعانة ، والأسعار لا هي شرف ولا هي طرف .

فقلت : وأنت كيف ؟

فأجابت : مثل الناس ، ولا بأس .

فقلت : قالوا لي عندك تسعة أولاد.

فأجابت : وأنت الصادق ، عندي عشرة ، أربع بنيـَّات وستة صبيان لألله .

– إذن عيلتكم دزينة .

فأجابت : وعمي وحماتي .

قلت : إذن بيتكم دير.

فهزت برأسها وقالت : وأي دير!

فقلت : وكيف تعيشون ؟

فقلت : من الأرض . في الأرض خير كثير يلاقيه من يشتغل .

انظر البيت خالي . واحد مع المعزى ، والثاني مع البقر ، والثالث يكاري ، والبقية مع والدهم ينقبون الأرض ، والبنات واحدة تطبخ وتنفخ ، والبقية لأشغال البيت ، وانا للحياكة والخياطة والترقيع .

قلت : ترتاحون في أيام الشتاء .

فابتسمت وقالت : ومن أين لنا الراحة ؟ أنا والبنات نغزل ونسدّي للحياكة في أيام الشتاء ، والرجال للزرع والقلع . من لا يزرع لا يشبع .
قلت : وكل هذا من أين ؟


فأجابت بنبرة : من أين ؟ من الأرض يا حبيبي ، من الأرض . الله يبارك فيها .

قلت : والخيطان من أين ؟

فأجابت : من صوف الغنم والشرانق ، والقطن من البترون .

لوكان البيت يلبس من السوق كان خرب ونزحنا من هذي البرية.

ثم أخذتني بيدي وأرتني ما في صناديقها من نسيج وقالت : هذا جهاز البنات . ثم أرتني نولها باسمة . وكنت أرى في كل مكان قطارميز الدهن ، وبراني السمن والعسل ، وخوابي الزيت والنبيذ والدبس ، وبتيات العرق ، وأخيراً أرتني صيرة المعزى ، وقبو البقر ، ودلتني على قن الدجاج والأرانب .

قلت : وهل أملاككم واسعة ؟

فقالت : بين بين . ولكن الشغل متواصل ، والزبل كثير ، وشريك الماء لا يُغلب . عندنا مئة رأس معزى وما فوق ، عدا الغنم . وراءها السنة أكثر من خمسين جدياً . وعندنا ستة رؤوس بقر . وعندنا ، يا سيدي الأكرام ، دابة مثل البغلة ، خلفها جحش يسوى نوم العينين ، حلو حلو أكثر مما تتصور . والتفتت نحو الأرض وقالت : هذي الارض نقبها أبو نخول العتيق ، عاش فوق المئة ، ما دخن ولا شرب أبداً . كان أغلب شغله في ضوء القمر . كانوا يسمعون ضربة مهدته ونحيطه من المدفون . نحن اشتغلنا وزدنا عليه الفواكه. الفواكه لا تنقطع . عندنا من كل شيء ، حتى الأدوية من أعشابنا ، الكينا قنطاريون ، والمساهل دبس خرُّوب . قال الله لا تكذب ، لا نشتري إلا حبة الرز . الأحد مخصص للملح وصيد السمك .

فقلت : والسكافة يا أم نخول ؟

فهرولت أمامي وأرتني آلات السكافة والجلود .

فقلت : والعلم ؟

فهزَّت كتفيها وقالت باستهزاء : تقبر العلم ، جارنا علَّـم ابنه وعرفنا النتيجة . تعلَّـم أولادي القراءة والكتابة والحساب ، وهذا كاف . المدرسة مجاناً من كيس الوقف .
ونوديت من خلف الستار فلبـّت . وفيما هي راجعة دقّ جرس الظهر فوقفت ” تبشَّر” حيث كانت . ولما انهت صلاتها أمسكت بيدي وقالت : تفضَّـل الغدا حاضر . فاعتذرت منها ، فعزمت عليَّ وقالت لي : بيننا وبينكم خبز وملح . لو كان لنا نصيب كنت أنت ابن اختي .


وتغدينا دجاجاً وأرانب وبيضاً ولبناً وأكثر خضرة الوقت . وكان الحلو عسلاً وقريشة وفواكه متنوعة . أما شرابنا فنبيذ عتيق .

وانصرفتُ قرب العصر أردد قول المثل اللبناني : ” فلاَّح مكفي ملك مخفي ” . ورأيت أبا نخول يستريح وأولاده تحت التينة ، فذكرتني صلعته النحاسية بصلعة أبي حفص الورَّاق التي قال فيها ابن الرومي :

كأن ساحتها مرآة فولاذ
ترنّ ان قرعت أرجاء بغداد


[SIZE=5]… بعد هاتيك الحرب
[/SIZE]
خوى عرشُ الملكة المخفية فزرتُ القريةَ َ مرة ثانية . بُهتُّ إذ وجدتني قدَّام باب هامد كان بالأمس نبَّـاضاً كقلب العصفور المروّع .

البيت بلا سكان كجسم بلا دم ، والوقوف عنده وعند المقبرة سواء بسواء.

كان الجاهليون على حق إذ بكوا على الطلول ، فخراب البيوت كموت الأحياء . كان بيت أم نخول دنيا عامرة مؤنسة ، فإذا به اليوم كهيكل مهجور . لا كلاب تعزف فتنفخ روحاً محيياً في ذاك المحيط الأعزل ، ولا حيوانات أليفة تناجينا عيونها البريئة الحلوة . لا ثور يخور ، ولا جدي يمعو ، ولا حمار ينهق ولا هرة تموء . سكون راعب ناء بكلكله على ذلك البيت كأنه ليل امرىء القيس .

الشجيرات الغضّـة الشباب نحلت واصفرَّت فهي قائمة حوالى البيت كالمسلولين يتفرّجون حول المصحّ . والعرائش سقطت عن أرائكها فهي مبعثرة هنا وهناك كأشلاء المحاربين بعد المعركة . الأرض بور منذ سنوات فسيطر الشوك على مملكة أم نخول فبدت كالحسناء في الأطمار .

دققت الباب دقة يائس فما ردّ عليّ أحد . ودفعته فانفتح فخلتني أمام باب قبر .

البيت الذي كان لـّماعاً مصقولاً كترائب أُم الرباب ، أمسى منكوتاً كأنه وكر قنفذ تنبعث منه روائح العفن ، وقد فارقه صفاء القرية النقي .

في أرضه الزبالة ، وعلى حيطانه ستائر من نسيج العنكبوت ، والرتيلاء تروح في سقفه وتجيء كأنها ام نخول حين كانت تسدّي .

لم أسمع حس أحد في ذلك البيت القائم الأعماق ، الخالي إلا من الذكريات الصامتة ، فصحت محدثاً نفسي : وأين هي ام نخول ؟ فإذا بصوت يقول : من ؟

فالتفت حيث نجم الصوت فرأيت في الزاوية الغربية الشمالية لحافاً يتحرك وامرأة تصلَّب على وجهها ثم تقول : تفضل . أهلاً وسهلاً .

وبعد تسليم شرحه طويل ، جلست قبالتها على كرسي يصوصي تحتي ويقوقي كلما تحركت ، فأحكمت جلستي معتمداً على ركبتي أكثر من اعتمادي على تلك الخشبات المفككة ، وقلت لها :

– عرفتِ من أنا يا أم نخول ؟

فتفرست بي بحدقتين منفتحتين وقالت : أمهلني .

وطالت المهلة ، فقلت ممهداً طريق المعرفة : وأين “غبار” يستقبلني ذاك الاستقبال الراعب ؟

فضحكت وأجابت بحسرة زادتها ابتسامتها الفاترة وضوحاً : مسكين غبار ! راح مع من راحوا .

وأطرقت تعصر صدغيها بيسراها .

أردت أن أكفيها مؤونة الجهد وأعرّفها بي ، فأومأت بجـُمع يدها أن امهل ، فقلت لها : لاتكلفي نفسك يا خالتي ، يستحيل أن تعرفيني ، الدنيا تغيرت ، ونحن تغيرنا معها ، فكيف تعرفينني ؟

فأجابت : عرفتك ، عرفتك . أنت جئتنا منذ عشرين سنة . نعم ، نعم . أنت كبرت ونحن شخنا . لا تحسب أنا نسيناك . زيارتك تاريخ للضيعة . كيف حال الوالد ؟

فقلت : وهبك الله عمره .

فأجابت : والقائل . من خلّـف ما مات .

والتفتُّ فعلق نظري بالمذبح المنصوب فوق رأسها ، وهو رفّ عليه بضع صور وصليب كِسوته من حياكة أم نخول ، وكشكشه شغل صنَّـارتها .

ودخلت بُـنية في يمينها إبريق ، فراعني تطرّف الدهر في جوره على هذه المرأة النفيسة .

وعقب الشرب سكوت كصمت المعزَّين في الخطب المدلهم .

قالت : هنيئاً . وتنهدت وأطرقت كأنها تتذكر الماضي .

وأجبت : هنَّـاك الله .

ورحت أفتش عن كلمة لا تثير ذكرى ، فما حضرتني واحدة .

ولكن أم نخول استولت على الكلام فقالت : تأمل ، أين كنا ، وكيف صرنا .

وكرجت دمعات من عينيها ما لبثت أن تكسرت في ثلوم تجاعيد وجنتيها .

تمرمرت قليلاً ثم قالت : انفخت الدف وتفرّق العشاق . راح جمهور البيت الذي سميته ديراً . ما بقي إلا قريد العش – تعني أصغر أولادها – دبّ الفنا فينا ، ما بقي عندنا شيء يدب على الأربع . بلى عندنا دابة يكاري عليها الصبي لأنه قليل الجلد كثير الحكي . إذا قلت له : حُـسَّ الدابة ضحك واستهزاء ، وتمغط ربع ساعة قبل الوقوف .

فقلت : وأين بقية العيلة يا أم نخول ؟

فأجابت : الكبار في ديار البلى ، والصغار تاهوا في البلاد .

وشرعت تتولَّـه وتبكي . وبعد دقائق قالت : قصتنا قصة طويلة . راحوا كلهم وبقيت وحدي مثل البومة العميا . آخره شنيعة . لا تقل خرفت أم نخول . عشنا مدة الحرب بألف خير ، الناس باعوا ما فوقهم وما تحتهم ونحن اشترينا . وبعد الحرب دار الدولاب بالمقلوب . بعض الناس قال : حسد ، وبعضهم قال : إصابة عين .

وسكتت . فاغتنمت الفرصة وقلت : وانت ايش قلت ؟

فقالت : أمهل يجئك الخبر .

وأخذت منديلاً كان عند مخدتها ومسحت به دموعها ، ثم أحكمت جلستها وقالت ك انتهت الحرب وتغير كل شيء ، أولادنا كانوا طوع والدهم فصاروا يردون الكلمة كلمتين . أعجبتهم عيشة المدن . كان ابن جارنا يقف على بابنا حتى نطعمه لقمة ، فترك الضيعة بعد الحرب ورجع اليها كأنه خواجا ، لا يحكي إلا عن المغنيات والرقاصات ، حاشا قدرك فأفسد واحداً من أولادنا وأخذه معه . أما البقية فقضوا الأيام متكرهين ومتذمرين . ذاقوا طعم ركوب السيارات فاستخفوا بالدواب . استنكفوا من رعاية المعزى وكرهوا البقر . صاروا متزنترين ، فبعنا الطروش – الحيوانات الداجنة – أنفقوا كل ما جمعته أم نخول والقلة تورّث النـقـار . فصار بيتنا مثل جهنم الحمرا . حديثهم الدائم : فلان ما عنده رزق وعيشته أحسن من عيشتنا ، وفلان أفقر أهل الضيعة وثيابه جوخ وحرير شغل البلاد – تعني أوروبا – ونحن نلبس من حياكتك . الله الله من الأيام ، فضلوا الشيت والمقصور على الحرير لأنه حياكتي . ابن فلان مستريح أكثر منا لا يمشي ربع ساعة ونحن نقتل من المشي قبل الوصول إلى طريق البحر. قنطار الحطب عندنا بربع ليرة ، وعند غيرنا بليرتين . إجاصنا وتفاحنا وسفرجلنا يسقط تحت أمه . الزبل ينفق عند غيرنا ونحن نحتار كيف نصرّف حاصلاتنا . راحت الأيام التي عرفوا فيها قيمة الزبل . كان عندنا ولد يحب الأرض ، أخذه عزرايل . مات موتة بشعة ، أبعدها الله عن كل محب . كان يحطب لوليمة أحد التهنئة فهيّـأ حمل حطب وحزمه بالحبل ، وبدلاً من أن يحمله خطر له فكر كان سبب موته : دفر الحبل برجله من فوق صخر علوه عشر قامات ، فعلق الحبل برجله وسقط مع الحمل الى الوادي . وصار أحد التهنئة مناحة . البنت التي سقتك هي بنته .

وطفقت تنوح وتبكي زهاء ربع ساعة ، فحاولت أن أحوّل مجرى الحديث فصاحت : لا تقاطعني ، أنا ألتذ بالبكاء كما يلتذ غيري بالغناء والرقص . وأبو نخول ، يا حزني عليه ، عضته حية فحملناه الى جسر المدفون لنعالجه في بيروت ، فمات في بعشتا . مات بعد ابنه بتسعة أشهر ، ليته مات قبله ! كان استراح من مصيبته فيه . آخر ولد ترك الضيعة منذ شهرين . قدمنا وأخرنا فما نفع الحكي . خبروني انه يخدم في لوكندة . تأمل ضعف العقل . كان يحكم ويأمر في بيته فصار أجيراً للناس . وهكذا تم فينا قول المثل . راح الرزق مع أصحابه .

– ومن أين تأكلون اليوم يا ام نخول ؟

– من ظهر الدابة ، أجلك الله . كنا نشـبَّع جبيل والبترون من خيرات أرضنا فصرنا نشتهي عنقود العنب في أيدي البشر . ما بقي من العمر أكثر مما مضى ، ولكن يقول المثل : تموت

الدجاجة وعينها بفراخها . عزّ عليّ خراب بيتي قدّام عيني .

وأخذت تتفجع ولا تدري من تلوم . ثم هدأت ثورتها بغتـة ً وشرعت تبدي نظرات ٍ عمرانية اقتصادية لو عمل الناس بها لصارت كل قرية جنة . ثم عاودتها ذكرى أيامها السالفة ، أيام كان بيتها يضيق من غلّـة أرضها فعَلِـقت تعدد عقاراتها قطعة قطعة ، وتتفجع على مواسمها واحداً واحداً ، وتصفـَّق على ركبتيها توجعاً والتياعاً ، فنهضت إذ ذاك ، فقالت بانكسار : اقعد . فاعتذرت ، فقبضت على يدي بيديها الثنتين وقالت ، كل مصائبي هيـّنة عند خروجك من عندنا بلا أكل . آخ من الأيام ! ثم تنهدت وقالت : ما لك جود إلا من الموجود . لا تؤاخذنا .
وما بلغتُ الباب حتى سمعتها تقول لي بصوت يخالطه البكاء : ردَّ الباب خلفك .


وبلغتُ التينة التي رأيت تحتها أبا نخول بين أولاده فاذا هي معصفرة الإزار ، بعد أن كانت كعذارى دوار . فخطرت في بالي كلمة قالها جبران : مصيبة الأمم في من لا يستنبتُ بذرةً ، ولا يرفع حجراً ، ولا يحوك ثوباً .

وانتصبت قُـبالتها كلمة قالتها ام نخول في بحثها العمراني : ماذا يصير بالبلاد لو هجر الضياع أهلها ، ومن أين يأكل الحكَّـام والتجار إذا خربت بيوت القرى مثلما خَـرِب بيتُـنا ؟

وفي صباح اليوم التالي دقَّ جرس القرية المعلقة على ربة الحقل .

ماتت سيدة الضيعة ولحقت بمن سبقوها الى ظل السنديانة العظم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...