[SIZE=5]قبل هاتيك الحرب …
[/SIZE]
سمعت باسم أم نخول وأنا ابن خمس ، فكنت اكبر ويكبر معي . إذا دّبرت امرأة تدبيراً فيه صلاح لعيلتها نوَّهوا باسمها قائلين : عاشت ام نخول . وإن عزّ شيْ في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا : هذي ام نخول ثانية . وإن مرَّت على الطريق امرأة مترجلة لا تبالي بمن يتشمسون قدَّام الأبواب ، تنحنحوا وتغامزوا قائلين : إحم … ام نخول . وهكذا انطبع هذا الاسم في ذهني كالأبانا والسلام . فالمرحوم ، على قلة تقديره للمرأة ، كان يلقبها أخت الرجال فــُيحفظ أمي ولا يبالي ، بل يصب النفط على النار فيقول : آه على مرأة مثلها !
ورأيت بيتها وأنا ابن سبع . كنت مع والدتي في طريقنا الى ” البترون ” ، فأومأت باصبعها الى بيت نعلق على صدر جبل وقالت : هذاك بيت ام نخول . فمشيت ، ولكن نظري ظل عالقاً بذاك البيت ، فقلت : وأين هي ام نخول ؟
فضحكت أمي وقالت : من يعلم ؟ أشغالها كثيرة.
فقلت حجارة بيتها بيضاء .
فقالت : عجـّل يا صبي ، إمشِ ، هذا كلس .
لم يخرج كرّ السنين ذاك الاسم من رأسي ، بل قامت الى جانبه صورة بيتها . وسمعت عنها أحاديث أغرتني بزيارتها ، ولكني تهيبت العفاب القائمة دونــه . وأخيراً ، ولا أدري كيف … رأيتني على مقربة من بيتها ، وكلبها ” غبار ” يستقبلني استقبالاً صارخاً كان له النهر والأودية والكهوف كمضخمات الصوت .
لو كان غبار وحده لاتقيته ، ولكن أسرته الكريمة معه ، وكانت أشد احتفاء بي منه .
تسمَّـرت في مكاني أنتظر العون ، فإذا براع ٍ صغير يصيح من ورائي ، في الجبل المناوح ، ويسألني أين أقصد . فأجبته : اني زائر . فصاح الولد على البيت ، فردّت عليه أنثى بصوت يسمعه من هم على الشط .
وما عتمت أن انتصبت بالباب ، فقال لها : ردّي الكلاب . فاجابته : ما عليك ، انتبه لعنزاتك .
ثم نادت قائد الكلاب باسمه ، ففهم عنها ولفّ الذنب الذي كان لرأسه اكليلاً ، وعاد وجيشه .
وجدتني تلقاء امرأة لا هي طويلة ولا قصيرة ، لا ضخمة ولا هزيلة ، لا جميلة ولا قبيحة ، لا صبية ولا عجوز . تعصب جبهتها بقدة سوداء ، وتلفّ رأسها بفوطة بيضاء نظيفة كأنها من ممرضات اليوم . تلبس فسطاناً منتفخاً على كتفيها كأن هناك رمانتين . قماش كثير من الزنـَّار ونازلاً فكأنها خابية من خوابي بيت شباب .
وقبل أن ابلغ البيت الأبيض مررت بين أشجار كلها حوامل ، بعضها مؤزَّر بشباك ترد عنها الطير فلا تفسد ثمارها ، وعلى رؤوس الغصون الشامخة جماجم غنم ومعزى ، وقشور بيض مرفوعة على قصب مغروز في الأرض ، وعلى شناخيب مساميك العريش قدد من نسيج مختلفة ألوانه ، كأنها سمات أوسمة منحتها ام نخول أشجارها المتفوقة في الحمل ، تمائم وتعاويذ تتقي بها عيون الحساد فلا تصيب مزروعاتها . أما الأوابد فلها دواء آخر : هنا نطــَّار على هيئة رجل ، وهنا لعين بشكل امرأة . أشكال وألوان تقشعر لرؤيتها جلود البشر فكيف لا تفزع ابن آوى والعصافير .
خلتني وأنا مار بينها كأنني بين خفراء مختلفي السحن وكلهم فظ غليظ القلب .
وحدجني غبار بعينيه المحمرَّة وكشَّر عن أنيابه البيضاء ، وتحسس كمن يريد الوثوب فقالت له : غبار ، سد بوزك ، هذا ضيف . فتبدات ملامحه في الحال ، واستخذى وزحف صوبي حتى دنا مني يشمني .
فقالت لي : لا تخف ، أهلاً وسهلاً .
وغابت ثم آبت وفي يدها كأس فشربت شراباً استطيبته جداً حتى قلت : طـّيب شرابكم .
فقالت : الليمون بلدي ، والسكر بلدي ، والماء من رأس العين ، وأنت عطشان .
فضحكت ضحكة فيها تعجب وحيرة وقلت : وكيف يكون السكر البلدي ؟
فقالت : نحن نعقــَّده من قصب المص ّ . السكر غال والعصير يمد أكثر وهو ألذّ .
فقالت في نفسي : هذه إحدى عجائبها ، انها هي . واستولت ام نخول على المبادرة فأجبتها : شاب من الجيرة ، سمعت باسمك ، جئت أتعرّف بك .
فقالت بتعجب صادق : باسمي أنا ؟
– نعم باسمك أنتِ .
فسكتت وشاع الابتسام في وجهها قبل أن تقول : طيـّب يا حبيبي ، شباب كثير في الجيرة ، فمن أنت منهم ؟
فقلت لها : فلان ابن فلان .
فتنهدت ورحـّبت .
ودخلت علينا صبية لا تعلم اني هناك فأرتـدَّت مذعورة ، فقالت لها أمها : منـّا وفينا .
فتقدمت وسلّمت عليّ تسليم حيط الكنيسة . وخرجت بعد أن تلـقـّت أمر أمها بإيماءة لم أفهم معناها إلا عند الظهر .
أما أم نخول فقالت : ترانا اليوم مهموكين بتقميع اللوز وتشميسه ، وغداً لمّ التين وقطاف العنب ، وبعده الزيتون وعصره . الحياة كلها شغل .
فقلت : بيتكم منفرد ، ألا تضجرون وحدكم ؟
فضحكت لأول مرة ضحكة عامرة وقالت : ما عندنا وقت حتى نضجر .
فقلت : أنت ِ مستاهلة هذا الصيت يا ست ام نخول .
فجادت بربع ابتسامة وقالت : ستّـك العضرا يا روحي ، كلمة ست صارت رخيصة في زمانكم .
وانقطع الحديث فخـِلت أني أسأت اليها ولكنها قالت : فكري قال لي انك مأمور حكومة ، فأخذت حذري منك .
فقلت لها : والحكومة تفزّع .
فأجابت : لا ، ولكن ضرائبها تخوّفنا . الحكومة ملح الأرض ولولاها ما كنا نعيش في لحف هذا الجبل . سمعنا عن الباشا الجديد انه حطّ ضرائب على البقر والحمير والدجاج . أخبار لا تصدّق .
– لاتخافي يا عمتي ، احكي لي عن أحوالكم ، عن المواسم عندكم .
فقالت : أية مواسم تريد ؟ وأخذت تعدُّ على أصابعها : الحرير وسط ، والدخان مليح ، واللوز عال ، والتين ممتاز ، والعنب كسر المساميك ، والزيتون أكثر مما كنا ننتظر . سنة خير ، المرعى بحر والمواشي شبعانة ، والأسعار لا هي شرف ولا هي طرف .
فقلت : وأنت كيف ؟
فأجابت : مثل الناس ، ولا بأس .
فقلت : قالوا لي عندك تسعة أولاد.
فأجابت : وأنت الصادق ، عندي عشرة ، أربع بنيـَّات وستة صبيان لألله .
– إذن عيلتكم دزينة .
فأجابت : وعمي وحماتي .
قلت : إذن بيتكم دير.
فهزت برأسها وقالت : وأي دير!
فقلت : وكيف تعيشون ؟
فقلت : من الأرض . في الأرض خير كثير يلاقيه من يشتغل .
انظر البيت خالي . واحد مع المعزى ، والثاني مع البقر ، والثالث يكاري ، والبقية مع والدهم ينقبون الأرض ، والبنات واحدة تطبخ وتنفخ ، والبقية لأشغال البيت ، وانا للحياكة والخياطة والترقيع .
قلت : ترتاحون في أيام الشتاء .
فابتسمت وقالت : ومن أين لنا الراحة ؟ أنا والبنات نغزل ونسدّي للحياكة في أيام الشتاء ، والرجال للزرع والقلع . من لا يزرع لا يشبع .
قلت : وكل هذا من أين ؟
فأجابت بنبرة : من أين ؟ من الأرض يا حبيبي ، من الأرض . الله يبارك فيها .
قلت : والخيطان من أين ؟
فأجابت : من صوف الغنم والشرانق ، والقطن من البترون .
لوكان البيت يلبس من السوق كان خرب ونزحنا من هذي البرية.
ثم أخذتني بيدي وأرتني ما في صناديقها من نسيج وقالت : هذا جهاز البنات . ثم أرتني نولها باسمة . وكنت أرى في كل مكان قطارميز الدهن ، وبراني السمن والعسل ، وخوابي الزيت والنبيذ والدبس ، وبتيات العرق ، وأخيراً أرتني صيرة المعزى ، وقبو البقر ، ودلتني على قن الدجاج والأرانب .
قلت : وهل أملاككم واسعة ؟
فقالت : بين بين . ولكن الشغل متواصل ، والزبل كثير ، وشريك الماء لا يُغلب . عندنا مئة رأس معزى وما فوق ، عدا الغنم . وراءها السنة أكثر من خمسين جدياً . وعندنا ستة رؤوس بقر . وعندنا ، يا سيدي الأكرام ، دابة مثل البغلة ، خلفها جحش يسوى نوم العينين ، حلو حلو أكثر مما تتصور . والتفتت نحو الأرض وقالت : هذي الارض نقبها أبو نخول العتيق ، عاش فوق المئة ، ما دخن ولا شرب أبداً . كان أغلب شغله في ضوء القمر . كانوا يسمعون ضربة مهدته ونحيطه من المدفون . نحن اشتغلنا وزدنا عليه الفواكه. الفواكه لا تنقطع . عندنا من كل شيء ، حتى الأدوية من أعشابنا ، الكينا قنطاريون ، والمساهل دبس خرُّوب . قال الله لا تكذب ، لا نشتري إلا حبة الرز . الأحد مخصص للملح وصيد السمك .
فقلت : والسكافة يا أم نخول ؟
فهرولت أمامي وأرتني آلات السكافة والجلود .
فقلت : والعلم ؟
فهزَّت كتفيها وقالت باستهزاء : تقبر العلم ، جارنا علَّـم ابنه وعرفنا النتيجة . تعلَّـم أولادي القراءة والكتابة والحساب ، وهذا كاف . المدرسة مجاناً من كيس الوقف .
ونوديت من خلف الستار فلبـّت . وفيما هي راجعة دقّ جرس الظهر فوقفت ” تبشَّر” حيث كانت . ولما انهت صلاتها أمسكت بيدي وقالت : تفضَّـل الغدا حاضر . فاعتذرت منها ، فعزمت عليَّ وقالت لي : بيننا وبينكم خبز وملح . لو كان لنا نصيب كنت أنت ابن اختي .
وتغدينا دجاجاً وأرانب وبيضاً ولبناً وأكثر خضرة الوقت . وكان الحلو عسلاً وقريشة وفواكه متنوعة . أما شرابنا فنبيذ عتيق .
وانصرفتُ قرب العصر أردد قول المثل اللبناني : ” فلاَّح مكفي ملك مخفي ” . ورأيت أبا نخول يستريح وأولاده تحت التينة ، فذكرتني صلعته النحاسية بصلعة أبي حفص الورَّاق التي قال فيها ابن الرومي :
كأن ساحتها مرآة فولاذ
ترنّ ان قرعت أرجاء بغداد
[SIZE=5]… بعد هاتيك الحرب
[/SIZE]
خوى عرشُ الملكة المخفية فزرتُ القريةَ َ مرة ثانية . بُهتُّ إذ وجدتني قدَّام باب هامد كان بالأمس نبَّـاضاً كقلب العصفور المروّع .
البيت بلا سكان كجسم بلا دم ، والوقوف عنده وعند المقبرة سواء بسواء.
كان الجاهليون على حق إذ بكوا على الطلول ، فخراب البيوت كموت الأحياء . كان بيت أم نخول دنيا عامرة مؤنسة ، فإذا به اليوم كهيكل مهجور . لا كلاب تعزف فتنفخ روحاً محيياً في ذاك المحيط الأعزل ، ولا حيوانات أليفة تناجينا عيونها البريئة الحلوة . لا ثور يخور ، ولا جدي يمعو ، ولا حمار ينهق ولا هرة تموء . سكون راعب ناء بكلكله على ذلك البيت كأنه ليل امرىء القيس .
الشجيرات الغضّـة الشباب نحلت واصفرَّت فهي قائمة حوالى البيت كالمسلولين يتفرّجون حول المصحّ . والعرائش سقطت عن أرائكها فهي مبعثرة هنا وهناك كأشلاء المحاربين بعد المعركة . الأرض بور منذ سنوات فسيطر الشوك على مملكة أم نخول فبدت كالحسناء في الأطمار .
دققت الباب دقة يائس فما ردّ عليّ أحد . ودفعته فانفتح فخلتني أمام باب قبر .
البيت الذي كان لـّماعاً مصقولاً كترائب أُم الرباب ، أمسى منكوتاً كأنه وكر قنفذ تنبعث منه روائح العفن ، وقد فارقه صفاء القرية النقي .
في أرضه الزبالة ، وعلى حيطانه ستائر من نسيج العنكبوت ، والرتيلاء تروح في سقفه وتجيء كأنها ام نخول حين كانت تسدّي .
لم أسمع حس أحد في ذلك البيت القائم الأعماق ، الخالي إلا من الذكريات الصامتة ، فصحت محدثاً نفسي : وأين هي ام نخول ؟ فإذا بصوت يقول : من ؟
فالتفت حيث نجم الصوت فرأيت في الزاوية الغربية الشمالية لحافاً يتحرك وامرأة تصلَّب على وجهها ثم تقول : تفضل . أهلاً وسهلاً .
وبعد تسليم شرحه طويل ، جلست قبالتها على كرسي يصوصي تحتي ويقوقي كلما تحركت ، فأحكمت جلستي معتمداً على ركبتي أكثر من اعتمادي على تلك الخشبات المفككة ، وقلت لها :
– عرفتِ من أنا يا أم نخول ؟
فتفرست بي بحدقتين منفتحتين وقالت : أمهلني .
وطالت المهلة ، فقلت ممهداً طريق المعرفة : وأين “غبار” يستقبلني ذاك الاستقبال الراعب ؟
فضحكت وأجابت بحسرة زادتها ابتسامتها الفاترة وضوحاً : مسكين غبار ! راح مع من راحوا .
وأطرقت تعصر صدغيها بيسراها .
أردت أن أكفيها مؤونة الجهد وأعرّفها بي ، فأومأت بجـُمع يدها أن امهل ، فقلت لها : لاتكلفي نفسك يا خالتي ، يستحيل أن تعرفيني ، الدنيا تغيرت ، ونحن تغيرنا معها ، فكيف تعرفينني ؟
فأجابت : عرفتك ، عرفتك . أنت جئتنا منذ عشرين سنة . نعم ، نعم . أنت كبرت ونحن شخنا . لا تحسب أنا نسيناك . زيارتك تاريخ للضيعة . كيف حال الوالد ؟
فقلت : وهبك الله عمره .
فأجابت : والقائل . من خلّـف ما مات .
والتفتُّ فعلق نظري بالمذبح المنصوب فوق رأسها ، وهو رفّ عليه بضع صور وصليب كِسوته من حياكة أم نخول ، وكشكشه شغل صنَّـارتها .
ودخلت بُـنية في يمينها إبريق ، فراعني تطرّف الدهر في جوره على هذه المرأة النفيسة .
وعقب الشرب سكوت كصمت المعزَّين في الخطب المدلهم .
قالت : هنيئاً . وتنهدت وأطرقت كأنها تتذكر الماضي .
وأجبت : هنَّـاك الله .
ورحت أفتش عن كلمة لا تثير ذكرى ، فما حضرتني واحدة .
ولكن أم نخول استولت على الكلام فقالت : تأمل ، أين كنا ، وكيف صرنا .
وكرجت دمعات من عينيها ما لبثت أن تكسرت في ثلوم تجاعيد وجنتيها .
تمرمرت قليلاً ثم قالت : انفخت الدف وتفرّق العشاق . راح جمهور البيت الذي سميته ديراً . ما بقي إلا قريد العش – تعني أصغر أولادها – دبّ الفنا فينا ، ما بقي عندنا شيء يدب على الأربع . بلى عندنا دابة يكاري عليها الصبي لأنه قليل الجلد كثير الحكي . إذا قلت له : حُـسَّ الدابة ضحك واستهزاء ، وتمغط ربع ساعة قبل الوقوف .
فقلت : وأين بقية العيلة يا أم نخول ؟
فأجابت : الكبار في ديار البلى ، والصغار تاهوا في البلاد .
وشرعت تتولَّـه وتبكي . وبعد دقائق قالت : قصتنا قصة طويلة . راحوا كلهم وبقيت وحدي مثل البومة العميا . آخره شنيعة . لا تقل خرفت أم نخول . عشنا مدة الحرب بألف خير ، الناس باعوا ما فوقهم وما تحتهم ونحن اشترينا . وبعد الحرب دار الدولاب بالمقلوب . بعض الناس قال : حسد ، وبعضهم قال : إصابة عين .
وسكتت . فاغتنمت الفرصة وقلت : وانت ايش قلت ؟
فقالت : أمهل يجئك الخبر .
وأخذت منديلاً كان عند مخدتها ومسحت به دموعها ، ثم أحكمت جلستها وقالت ك انتهت الحرب وتغير كل شيء ، أولادنا كانوا طوع والدهم فصاروا يردون الكلمة كلمتين . أعجبتهم عيشة المدن . كان ابن جارنا يقف على بابنا حتى نطعمه لقمة ، فترك الضيعة بعد الحرب ورجع اليها كأنه خواجا ، لا يحكي إلا عن المغنيات والرقاصات ، حاشا قدرك فأفسد واحداً من أولادنا وأخذه معه . أما البقية فقضوا الأيام متكرهين ومتذمرين . ذاقوا طعم ركوب السيارات فاستخفوا بالدواب . استنكفوا من رعاية المعزى وكرهوا البقر . صاروا متزنترين ، فبعنا الطروش – الحيوانات الداجنة – أنفقوا كل ما جمعته أم نخول والقلة تورّث النـقـار . فصار بيتنا مثل جهنم الحمرا . حديثهم الدائم : فلان ما عنده رزق وعيشته أحسن من عيشتنا ، وفلان أفقر أهل الضيعة وثيابه جوخ وحرير شغل البلاد – تعني أوروبا – ونحن نلبس من حياكتك . الله الله من الأيام ، فضلوا الشيت والمقصور على الحرير لأنه حياكتي . ابن فلان مستريح أكثر منا لا يمشي ربع ساعة ونحن نقتل من المشي قبل الوصول إلى طريق البحر. قنطار الحطب عندنا بربع ليرة ، وعند غيرنا بليرتين . إجاصنا وتفاحنا وسفرجلنا يسقط تحت أمه . الزبل ينفق عند غيرنا ونحن نحتار كيف نصرّف حاصلاتنا . راحت الأيام التي عرفوا فيها قيمة الزبل . كان عندنا ولد يحب الأرض ، أخذه عزرايل . مات موتة بشعة ، أبعدها الله عن كل محب . كان يحطب لوليمة أحد التهنئة فهيّـأ حمل حطب وحزمه بالحبل ، وبدلاً من أن يحمله خطر له فكر كان سبب موته : دفر الحبل برجله من فوق صخر علوه عشر قامات ، فعلق الحبل برجله وسقط مع الحمل الى الوادي . وصار أحد التهنئة مناحة . البنت التي سقتك هي بنته .
وطفقت تنوح وتبكي زهاء ربع ساعة ، فحاولت أن أحوّل مجرى الحديث فصاحت : لا تقاطعني ، أنا ألتذ بالبكاء كما يلتذ غيري بالغناء والرقص . وأبو نخول ، يا حزني عليه ، عضته حية فحملناه الى جسر المدفون لنعالجه في بيروت ، فمات في بعشتا . مات بعد ابنه بتسعة أشهر ، ليته مات قبله ! كان استراح من مصيبته فيه . آخر ولد ترك الضيعة منذ شهرين . قدمنا وأخرنا فما نفع الحكي . خبروني انه يخدم في لوكندة . تأمل ضعف العقل . كان يحكم ويأمر في بيته فصار أجيراً للناس . وهكذا تم فينا قول المثل . راح الرزق مع أصحابه .
– ومن أين تأكلون اليوم يا ام نخول ؟
– من ظهر الدابة ، أجلك الله . كنا نشـبَّع جبيل والبترون من خيرات أرضنا فصرنا نشتهي عنقود العنب في أيدي البشر . ما بقي من العمر أكثر مما مضى ، ولكن يقول المثل : تموت
الدجاجة وعينها بفراخها . عزّ عليّ خراب بيتي قدّام عيني .
وأخذت تتفجع ولا تدري من تلوم . ثم هدأت ثورتها بغتـة ً وشرعت تبدي نظرات ٍ عمرانية اقتصادية لو عمل الناس بها لصارت كل قرية جنة . ثم عاودتها ذكرى أيامها السالفة ، أيام كان بيتها يضيق من غلّـة أرضها فعَلِـقت تعدد عقاراتها قطعة قطعة ، وتتفجع على مواسمها واحداً واحداً ، وتصفـَّق على ركبتيها توجعاً والتياعاً ، فنهضت إذ ذاك ، فقالت بانكسار : اقعد . فاعتذرت ، فقبضت على يدي بيديها الثنتين وقالت ، كل مصائبي هيـّنة عند خروجك من عندنا بلا أكل . آخ من الأيام ! ثم تنهدت وقالت : ما لك جود إلا من الموجود . لا تؤاخذنا .
وما بلغتُ الباب حتى سمعتها تقول لي بصوت يخالطه البكاء : ردَّ الباب خلفك .
وبلغتُ التينة التي رأيت تحتها أبا نخول بين أولاده فاذا هي معصفرة الإزار ، بعد أن كانت كعذارى دوار . فخطرت في بالي كلمة قالها جبران : مصيبة الأمم في من لا يستنبتُ بذرةً ، ولا يرفع حجراً ، ولا يحوك ثوباً .
وانتصبت قُـبالتها كلمة قالتها ام نخول في بحثها العمراني : ماذا يصير بالبلاد لو هجر الضياع أهلها ، ومن أين يأكل الحكَّـام والتجار إذا خربت بيوت القرى مثلما خَـرِب بيتُـنا ؟
وفي صباح اليوم التالي دقَّ جرس القرية المعلقة على ربة الحقل .
ماتت سيدة الضيعة ولحقت بمن سبقوها الى ظل السنديانة العظم
[/SIZE]
سمعت باسم أم نخول وأنا ابن خمس ، فكنت اكبر ويكبر معي . إذا دّبرت امرأة تدبيراً فيه صلاح لعيلتها نوَّهوا باسمها قائلين : عاشت ام نخول . وإن عزّ شيْ في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا : هذي ام نخول ثانية . وإن مرَّت على الطريق امرأة مترجلة لا تبالي بمن يتشمسون قدَّام الأبواب ، تنحنحوا وتغامزوا قائلين : إحم … ام نخول . وهكذا انطبع هذا الاسم في ذهني كالأبانا والسلام . فالمرحوم ، على قلة تقديره للمرأة ، كان يلقبها أخت الرجال فــُيحفظ أمي ولا يبالي ، بل يصب النفط على النار فيقول : آه على مرأة مثلها !
ورأيت بيتها وأنا ابن سبع . كنت مع والدتي في طريقنا الى ” البترون ” ، فأومأت باصبعها الى بيت نعلق على صدر جبل وقالت : هذاك بيت ام نخول . فمشيت ، ولكن نظري ظل عالقاً بذاك البيت ، فقلت : وأين هي ام نخول ؟
فضحكت أمي وقالت : من يعلم ؟ أشغالها كثيرة.
فقلت حجارة بيتها بيضاء .
فقالت : عجـّل يا صبي ، إمشِ ، هذا كلس .
لم يخرج كرّ السنين ذاك الاسم من رأسي ، بل قامت الى جانبه صورة بيتها . وسمعت عنها أحاديث أغرتني بزيارتها ، ولكني تهيبت العفاب القائمة دونــه . وأخيراً ، ولا أدري كيف … رأيتني على مقربة من بيتها ، وكلبها ” غبار ” يستقبلني استقبالاً صارخاً كان له النهر والأودية والكهوف كمضخمات الصوت .
لو كان غبار وحده لاتقيته ، ولكن أسرته الكريمة معه ، وكانت أشد احتفاء بي منه .
تسمَّـرت في مكاني أنتظر العون ، فإذا براع ٍ صغير يصيح من ورائي ، في الجبل المناوح ، ويسألني أين أقصد . فأجبته : اني زائر . فصاح الولد على البيت ، فردّت عليه أنثى بصوت يسمعه من هم على الشط .
وما عتمت أن انتصبت بالباب ، فقال لها : ردّي الكلاب . فاجابته : ما عليك ، انتبه لعنزاتك .
ثم نادت قائد الكلاب باسمه ، ففهم عنها ولفّ الذنب الذي كان لرأسه اكليلاً ، وعاد وجيشه .
وجدتني تلقاء امرأة لا هي طويلة ولا قصيرة ، لا ضخمة ولا هزيلة ، لا جميلة ولا قبيحة ، لا صبية ولا عجوز . تعصب جبهتها بقدة سوداء ، وتلفّ رأسها بفوطة بيضاء نظيفة كأنها من ممرضات اليوم . تلبس فسطاناً منتفخاً على كتفيها كأن هناك رمانتين . قماش كثير من الزنـَّار ونازلاً فكأنها خابية من خوابي بيت شباب .
وقبل أن ابلغ البيت الأبيض مررت بين أشجار كلها حوامل ، بعضها مؤزَّر بشباك ترد عنها الطير فلا تفسد ثمارها ، وعلى رؤوس الغصون الشامخة جماجم غنم ومعزى ، وقشور بيض مرفوعة على قصب مغروز في الأرض ، وعلى شناخيب مساميك العريش قدد من نسيج مختلفة ألوانه ، كأنها سمات أوسمة منحتها ام نخول أشجارها المتفوقة في الحمل ، تمائم وتعاويذ تتقي بها عيون الحساد فلا تصيب مزروعاتها . أما الأوابد فلها دواء آخر : هنا نطــَّار على هيئة رجل ، وهنا لعين بشكل امرأة . أشكال وألوان تقشعر لرؤيتها جلود البشر فكيف لا تفزع ابن آوى والعصافير .
خلتني وأنا مار بينها كأنني بين خفراء مختلفي السحن وكلهم فظ غليظ القلب .
وحدجني غبار بعينيه المحمرَّة وكشَّر عن أنيابه البيضاء ، وتحسس كمن يريد الوثوب فقالت له : غبار ، سد بوزك ، هذا ضيف . فتبدات ملامحه في الحال ، واستخذى وزحف صوبي حتى دنا مني يشمني .
فقالت لي : لا تخف ، أهلاً وسهلاً .
وغابت ثم آبت وفي يدها كأس فشربت شراباً استطيبته جداً حتى قلت : طـّيب شرابكم .
فقالت : الليمون بلدي ، والسكر بلدي ، والماء من رأس العين ، وأنت عطشان .
فضحكت ضحكة فيها تعجب وحيرة وقلت : وكيف يكون السكر البلدي ؟
فقالت : نحن نعقــَّده من قصب المص ّ . السكر غال والعصير يمد أكثر وهو ألذّ .
فقالت في نفسي : هذه إحدى عجائبها ، انها هي . واستولت ام نخول على المبادرة فأجبتها : شاب من الجيرة ، سمعت باسمك ، جئت أتعرّف بك .
فقالت بتعجب صادق : باسمي أنا ؟
– نعم باسمك أنتِ .
فسكتت وشاع الابتسام في وجهها قبل أن تقول : طيـّب يا حبيبي ، شباب كثير في الجيرة ، فمن أنت منهم ؟
فقلت لها : فلان ابن فلان .
فتنهدت ورحـّبت .
ودخلت علينا صبية لا تعلم اني هناك فأرتـدَّت مذعورة ، فقالت لها أمها : منـّا وفينا .
فتقدمت وسلّمت عليّ تسليم حيط الكنيسة . وخرجت بعد أن تلـقـّت أمر أمها بإيماءة لم أفهم معناها إلا عند الظهر .
أما أم نخول فقالت : ترانا اليوم مهموكين بتقميع اللوز وتشميسه ، وغداً لمّ التين وقطاف العنب ، وبعده الزيتون وعصره . الحياة كلها شغل .
فقلت : بيتكم منفرد ، ألا تضجرون وحدكم ؟
فضحكت لأول مرة ضحكة عامرة وقالت : ما عندنا وقت حتى نضجر .
فقلت : أنت ِ مستاهلة هذا الصيت يا ست ام نخول .
فجادت بربع ابتسامة وقالت : ستّـك العضرا يا روحي ، كلمة ست صارت رخيصة في زمانكم .
وانقطع الحديث فخـِلت أني أسأت اليها ولكنها قالت : فكري قال لي انك مأمور حكومة ، فأخذت حذري منك .
فقلت لها : والحكومة تفزّع .
فأجابت : لا ، ولكن ضرائبها تخوّفنا . الحكومة ملح الأرض ولولاها ما كنا نعيش في لحف هذا الجبل . سمعنا عن الباشا الجديد انه حطّ ضرائب على البقر والحمير والدجاج . أخبار لا تصدّق .
– لاتخافي يا عمتي ، احكي لي عن أحوالكم ، عن المواسم عندكم .
فقالت : أية مواسم تريد ؟ وأخذت تعدُّ على أصابعها : الحرير وسط ، والدخان مليح ، واللوز عال ، والتين ممتاز ، والعنب كسر المساميك ، والزيتون أكثر مما كنا ننتظر . سنة خير ، المرعى بحر والمواشي شبعانة ، والأسعار لا هي شرف ولا هي طرف .
فقلت : وأنت كيف ؟
فأجابت : مثل الناس ، ولا بأس .
فقلت : قالوا لي عندك تسعة أولاد.
فأجابت : وأنت الصادق ، عندي عشرة ، أربع بنيـَّات وستة صبيان لألله .
– إذن عيلتكم دزينة .
فأجابت : وعمي وحماتي .
قلت : إذن بيتكم دير.
فهزت برأسها وقالت : وأي دير!
فقلت : وكيف تعيشون ؟
فقلت : من الأرض . في الأرض خير كثير يلاقيه من يشتغل .
انظر البيت خالي . واحد مع المعزى ، والثاني مع البقر ، والثالث يكاري ، والبقية مع والدهم ينقبون الأرض ، والبنات واحدة تطبخ وتنفخ ، والبقية لأشغال البيت ، وانا للحياكة والخياطة والترقيع .
قلت : ترتاحون في أيام الشتاء .
فابتسمت وقالت : ومن أين لنا الراحة ؟ أنا والبنات نغزل ونسدّي للحياكة في أيام الشتاء ، والرجال للزرع والقلع . من لا يزرع لا يشبع .
قلت : وكل هذا من أين ؟
فأجابت بنبرة : من أين ؟ من الأرض يا حبيبي ، من الأرض . الله يبارك فيها .
قلت : والخيطان من أين ؟
فأجابت : من صوف الغنم والشرانق ، والقطن من البترون .
لوكان البيت يلبس من السوق كان خرب ونزحنا من هذي البرية.
ثم أخذتني بيدي وأرتني ما في صناديقها من نسيج وقالت : هذا جهاز البنات . ثم أرتني نولها باسمة . وكنت أرى في كل مكان قطارميز الدهن ، وبراني السمن والعسل ، وخوابي الزيت والنبيذ والدبس ، وبتيات العرق ، وأخيراً أرتني صيرة المعزى ، وقبو البقر ، ودلتني على قن الدجاج والأرانب .
قلت : وهل أملاككم واسعة ؟
فقالت : بين بين . ولكن الشغل متواصل ، والزبل كثير ، وشريك الماء لا يُغلب . عندنا مئة رأس معزى وما فوق ، عدا الغنم . وراءها السنة أكثر من خمسين جدياً . وعندنا ستة رؤوس بقر . وعندنا ، يا سيدي الأكرام ، دابة مثل البغلة ، خلفها جحش يسوى نوم العينين ، حلو حلو أكثر مما تتصور . والتفتت نحو الأرض وقالت : هذي الارض نقبها أبو نخول العتيق ، عاش فوق المئة ، ما دخن ولا شرب أبداً . كان أغلب شغله في ضوء القمر . كانوا يسمعون ضربة مهدته ونحيطه من المدفون . نحن اشتغلنا وزدنا عليه الفواكه. الفواكه لا تنقطع . عندنا من كل شيء ، حتى الأدوية من أعشابنا ، الكينا قنطاريون ، والمساهل دبس خرُّوب . قال الله لا تكذب ، لا نشتري إلا حبة الرز . الأحد مخصص للملح وصيد السمك .
فقلت : والسكافة يا أم نخول ؟
فهرولت أمامي وأرتني آلات السكافة والجلود .
فقلت : والعلم ؟
فهزَّت كتفيها وقالت باستهزاء : تقبر العلم ، جارنا علَّـم ابنه وعرفنا النتيجة . تعلَّـم أولادي القراءة والكتابة والحساب ، وهذا كاف . المدرسة مجاناً من كيس الوقف .
ونوديت من خلف الستار فلبـّت . وفيما هي راجعة دقّ جرس الظهر فوقفت ” تبشَّر” حيث كانت . ولما انهت صلاتها أمسكت بيدي وقالت : تفضَّـل الغدا حاضر . فاعتذرت منها ، فعزمت عليَّ وقالت لي : بيننا وبينكم خبز وملح . لو كان لنا نصيب كنت أنت ابن اختي .
وتغدينا دجاجاً وأرانب وبيضاً ولبناً وأكثر خضرة الوقت . وكان الحلو عسلاً وقريشة وفواكه متنوعة . أما شرابنا فنبيذ عتيق .
وانصرفتُ قرب العصر أردد قول المثل اللبناني : ” فلاَّح مكفي ملك مخفي ” . ورأيت أبا نخول يستريح وأولاده تحت التينة ، فذكرتني صلعته النحاسية بصلعة أبي حفص الورَّاق التي قال فيها ابن الرومي :
كأن ساحتها مرآة فولاذ
ترنّ ان قرعت أرجاء بغداد
[SIZE=5]… بعد هاتيك الحرب
[/SIZE]
خوى عرشُ الملكة المخفية فزرتُ القريةَ َ مرة ثانية . بُهتُّ إذ وجدتني قدَّام باب هامد كان بالأمس نبَّـاضاً كقلب العصفور المروّع .
البيت بلا سكان كجسم بلا دم ، والوقوف عنده وعند المقبرة سواء بسواء.
كان الجاهليون على حق إذ بكوا على الطلول ، فخراب البيوت كموت الأحياء . كان بيت أم نخول دنيا عامرة مؤنسة ، فإذا به اليوم كهيكل مهجور . لا كلاب تعزف فتنفخ روحاً محيياً في ذاك المحيط الأعزل ، ولا حيوانات أليفة تناجينا عيونها البريئة الحلوة . لا ثور يخور ، ولا جدي يمعو ، ولا حمار ينهق ولا هرة تموء . سكون راعب ناء بكلكله على ذلك البيت كأنه ليل امرىء القيس .
الشجيرات الغضّـة الشباب نحلت واصفرَّت فهي قائمة حوالى البيت كالمسلولين يتفرّجون حول المصحّ . والعرائش سقطت عن أرائكها فهي مبعثرة هنا وهناك كأشلاء المحاربين بعد المعركة . الأرض بور منذ سنوات فسيطر الشوك على مملكة أم نخول فبدت كالحسناء في الأطمار .
دققت الباب دقة يائس فما ردّ عليّ أحد . ودفعته فانفتح فخلتني أمام باب قبر .
البيت الذي كان لـّماعاً مصقولاً كترائب أُم الرباب ، أمسى منكوتاً كأنه وكر قنفذ تنبعث منه روائح العفن ، وقد فارقه صفاء القرية النقي .
في أرضه الزبالة ، وعلى حيطانه ستائر من نسيج العنكبوت ، والرتيلاء تروح في سقفه وتجيء كأنها ام نخول حين كانت تسدّي .
لم أسمع حس أحد في ذلك البيت القائم الأعماق ، الخالي إلا من الذكريات الصامتة ، فصحت محدثاً نفسي : وأين هي ام نخول ؟ فإذا بصوت يقول : من ؟
فالتفت حيث نجم الصوت فرأيت في الزاوية الغربية الشمالية لحافاً يتحرك وامرأة تصلَّب على وجهها ثم تقول : تفضل . أهلاً وسهلاً .
وبعد تسليم شرحه طويل ، جلست قبالتها على كرسي يصوصي تحتي ويقوقي كلما تحركت ، فأحكمت جلستي معتمداً على ركبتي أكثر من اعتمادي على تلك الخشبات المفككة ، وقلت لها :
– عرفتِ من أنا يا أم نخول ؟
فتفرست بي بحدقتين منفتحتين وقالت : أمهلني .
وطالت المهلة ، فقلت ممهداً طريق المعرفة : وأين “غبار” يستقبلني ذاك الاستقبال الراعب ؟
فضحكت وأجابت بحسرة زادتها ابتسامتها الفاترة وضوحاً : مسكين غبار ! راح مع من راحوا .
وأطرقت تعصر صدغيها بيسراها .
أردت أن أكفيها مؤونة الجهد وأعرّفها بي ، فأومأت بجـُمع يدها أن امهل ، فقلت لها : لاتكلفي نفسك يا خالتي ، يستحيل أن تعرفيني ، الدنيا تغيرت ، ونحن تغيرنا معها ، فكيف تعرفينني ؟
فأجابت : عرفتك ، عرفتك . أنت جئتنا منذ عشرين سنة . نعم ، نعم . أنت كبرت ونحن شخنا . لا تحسب أنا نسيناك . زيارتك تاريخ للضيعة . كيف حال الوالد ؟
فقلت : وهبك الله عمره .
فأجابت : والقائل . من خلّـف ما مات .
والتفتُّ فعلق نظري بالمذبح المنصوب فوق رأسها ، وهو رفّ عليه بضع صور وصليب كِسوته من حياكة أم نخول ، وكشكشه شغل صنَّـارتها .
ودخلت بُـنية في يمينها إبريق ، فراعني تطرّف الدهر في جوره على هذه المرأة النفيسة .
وعقب الشرب سكوت كصمت المعزَّين في الخطب المدلهم .
قالت : هنيئاً . وتنهدت وأطرقت كأنها تتذكر الماضي .
وأجبت : هنَّـاك الله .
ورحت أفتش عن كلمة لا تثير ذكرى ، فما حضرتني واحدة .
ولكن أم نخول استولت على الكلام فقالت : تأمل ، أين كنا ، وكيف صرنا .
وكرجت دمعات من عينيها ما لبثت أن تكسرت في ثلوم تجاعيد وجنتيها .
تمرمرت قليلاً ثم قالت : انفخت الدف وتفرّق العشاق . راح جمهور البيت الذي سميته ديراً . ما بقي إلا قريد العش – تعني أصغر أولادها – دبّ الفنا فينا ، ما بقي عندنا شيء يدب على الأربع . بلى عندنا دابة يكاري عليها الصبي لأنه قليل الجلد كثير الحكي . إذا قلت له : حُـسَّ الدابة ضحك واستهزاء ، وتمغط ربع ساعة قبل الوقوف .
فقلت : وأين بقية العيلة يا أم نخول ؟
فأجابت : الكبار في ديار البلى ، والصغار تاهوا في البلاد .
وشرعت تتولَّـه وتبكي . وبعد دقائق قالت : قصتنا قصة طويلة . راحوا كلهم وبقيت وحدي مثل البومة العميا . آخره شنيعة . لا تقل خرفت أم نخول . عشنا مدة الحرب بألف خير ، الناس باعوا ما فوقهم وما تحتهم ونحن اشترينا . وبعد الحرب دار الدولاب بالمقلوب . بعض الناس قال : حسد ، وبعضهم قال : إصابة عين .
وسكتت . فاغتنمت الفرصة وقلت : وانت ايش قلت ؟
فقالت : أمهل يجئك الخبر .
وأخذت منديلاً كان عند مخدتها ومسحت به دموعها ، ثم أحكمت جلستها وقالت ك انتهت الحرب وتغير كل شيء ، أولادنا كانوا طوع والدهم فصاروا يردون الكلمة كلمتين . أعجبتهم عيشة المدن . كان ابن جارنا يقف على بابنا حتى نطعمه لقمة ، فترك الضيعة بعد الحرب ورجع اليها كأنه خواجا ، لا يحكي إلا عن المغنيات والرقاصات ، حاشا قدرك فأفسد واحداً من أولادنا وأخذه معه . أما البقية فقضوا الأيام متكرهين ومتذمرين . ذاقوا طعم ركوب السيارات فاستخفوا بالدواب . استنكفوا من رعاية المعزى وكرهوا البقر . صاروا متزنترين ، فبعنا الطروش – الحيوانات الداجنة – أنفقوا كل ما جمعته أم نخول والقلة تورّث النـقـار . فصار بيتنا مثل جهنم الحمرا . حديثهم الدائم : فلان ما عنده رزق وعيشته أحسن من عيشتنا ، وفلان أفقر أهل الضيعة وثيابه جوخ وحرير شغل البلاد – تعني أوروبا – ونحن نلبس من حياكتك . الله الله من الأيام ، فضلوا الشيت والمقصور على الحرير لأنه حياكتي . ابن فلان مستريح أكثر منا لا يمشي ربع ساعة ونحن نقتل من المشي قبل الوصول إلى طريق البحر. قنطار الحطب عندنا بربع ليرة ، وعند غيرنا بليرتين . إجاصنا وتفاحنا وسفرجلنا يسقط تحت أمه . الزبل ينفق عند غيرنا ونحن نحتار كيف نصرّف حاصلاتنا . راحت الأيام التي عرفوا فيها قيمة الزبل . كان عندنا ولد يحب الأرض ، أخذه عزرايل . مات موتة بشعة ، أبعدها الله عن كل محب . كان يحطب لوليمة أحد التهنئة فهيّـأ حمل حطب وحزمه بالحبل ، وبدلاً من أن يحمله خطر له فكر كان سبب موته : دفر الحبل برجله من فوق صخر علوه عشر قامات ، فعلق الحبل برجله وسقط مع الحمل الى الوادي . وصار أحد التهنئة مناحة . البنت التي سقتك هي بنته .
وطفقت تنوح وتبكي زهاء ربع ساعة ، فحاولت أن أحوّل مجرى الحديث فصاحت : لا تقاطعني ، أنا ألتذ بالبكاء كما يلتذ غيري بالغناء والرقص . وأبو نخول ، يا حزني عليه ، عضته حية فحملناه الى جسر المدفون لنعالجه في بيروت ، فمات في بعشتا . مات بعد ابنه بتسعة أشهر ، ليته مات قبله ! كان استراح من مصيبته فيه . آخر ولد ترك الضيعة منذ شهرين . قدمنا وأخرنا فما نفع الحكي . خبروني انه يخدم في لوكندة . تأمل ضعف العقل . كان يحكم ويأمر في بيته فصار أجيراً للناس . وهكذا تم فينا قول المثل . راح الرزق مع أصحابه .
– ومن أين تأكلون اليوم يا ام نخول ؟
– من ظهر الدابة ، أجلك الله . كنا نشـبَّع جبيل والبترون من خيرات أرضنا فصرنا نشتهي عنقود العنب في أيدي البشر . ما بقي من العمر أكثر مما مضى ، ولكن يقول المثل : تموت
الدجاجة وعينها بفراخها . عزّ عليّ خراب بيتي قدّام عيني .
وأخذت تتفجع ولا تدري من تلوم . ثم هدأت ثورتها بغتـة ً وشرعت تبدي نظرات ٍ عمرانية اقتصادية لو عمل الناس بها لصارت كل قرية جنة . ثم عاودتها ذكرى أيامها السالفة ، أيام كان بيتها يضيق من غلّـة أرضها فعَلِـقت تعدد عقاراتها قطعة قطعة ، وتتفجع على مواسمها واحداً واحداً ، وتصفـَّق على ركبتيها توجعاً والتياعاً ، فنهضت إذ ذاك ، فقالت بانكسار : اقعد . فاعتذرت ، فقبضت على يدي بيديها الثنتين وقالت ، كل مصائبي هيـّنة عند خروجك من عندنا بلا أكل . آخ من الأيام ! ثم تنهدت وقالت : ما لك جود إلا من الموجود . لا تؤاخذنا .
وما بلغتُ الباب حتى سمعتها تقول لي بصوت يخالطه البكاء : ردَّ الباب خلفك .
وبلغتُ التينة التي رأيت تحتها أبا نخول بين أولاده فاذا هي معصفرة الإزار ، بعد أن كانت كعذارى دوار . فخطرت في بالي كلمة قالها جبران : مصيبة الأمم في من لا يستنبتُ بذرةً ، ولا يرفع حجراً ، ولا يحوك ثوباً .
وانتصبت قُـبالتها كلمة قالتها ام نخول في بحثها العمراني : ماذا يصير بالبلاد لو هجر الضياع أهلها ، ومن أين يأكل الحكَّـام والتجار إذا خربت بيوت القرى مثلما خَـرِب بيتُـنا ؟
وفي صباح اليوم التالي دقَّ جرس القرية المعلقة على ربة الحقل .
ماتت سيدة الضيعة ولحقت بمن سبقوها الى ظل السنديانة العظم