بشرى قشمر - في شتاء محزن كهذا الشتاء..

في شتاء محزن كهذا الشتاء
التقينا لأول مرة في مكتبة الجامعة .. للصدفة, كنا نبحث عن الرواية نفسها, أو لعله ادعى ذلك فقط, لا أعلم.. لم يكن هنالك سوى نسخة واحدة.. فتحدثنا قليلا, ثم أعطاني الرواية على وعد أن أعيره إياها بعد أسبوع.. فكرت فيه قليلا ذلك اليوم , وضحكت على احتمال أن يكون قد خدعني لنلتقي مرة أخرى.. لكنني لم أعر الموضوع أية أهمية.. لم يشغل بالي أبدا.. فانهمكت في قراءة الرواية حتى غفوت.. ونمت نوما عميقا وجميلا.. نوما افتقدته لثلاثة أعوام قادمة..

وبصدفة أخرى رتبها الله أو رتبها هو , لا أعلم أيضا.. لكننا في اليوم التالي التقينا.. وكان من المفترض أننا غريبين.. وأننا سنجامل بعضنا قليلا ثم نمضي.. لكنني وجدت نفسي أتحدث معه لعدة ساعات.. ولولا أن الشمس قاربت على المغيب, ما توقفنا.. وعدت إلى البيت, ولا شيء سواه يشغل تفكيري..

وبدون أن أدري كنا قد دخلنا في علاقة.. بهدوء لكن بحزم.. تماما كما يحتل المد الشاطئ.. كان بارعا جدا في اختيار الكلمات.. وكان لديه تلك القدرة العجيبة على جعل علاقتنا لزجة وجميلة في الوقت ذاته.. لم تكن حبا.. لكنها لم تكن صداقة أيضا.. كانت تقف في منطقة الحياد الباردة تلك.. المنطقة التي تسكن فيها كل الاحتمالات الموجعة.. كان يقول لي كل الأشياء التي تسعدني, لكنه يتجنب كل الأشياء التي تطمئنني.. كان يقول لي أشياء جميلة, لكنها ليست شخصية.. موجهة لكل فتاة في هذه الأرض, لكن ليس لفتاة بعينها.. وعبثا انتظرت أذناي الكلمة التي كانت تنتظرها دوما.. لكنه لم يقلها.. لم يقل لي أبدا جملة واحدة أنتمي لها وتنتمي لي.. جملة واحدة يمكنني أن آخذها معي إلى البيت, أو أعلقها على جدار قلبي..

لا أعلم للآن كيف تقبلت هذا الوضع الذي ربما يجب أن لا تتقبله أي فتاة, لكنني تقبلته.. ربما ظننت أن هذه هي البداية, وأن شيئا عظيما سيحدث فيما بعد.. ومع أن أمنياتي كانت دائما تخيب, إلا أنني كنت لا أزال آمل في شيء.. ربما أصبت بتلك اللوثة التي تدعى أمل العاشقين الكاذب.. لا أعلم.. لكنني بعد كل حساب ظللت واقفة هناك.. طوع يمينه.. يملكني ولا أملكه..

عندما كنت أكون معه, كنت أكون سعيدة.. لكنني إذا ما عدت إلى غرفتي, كان يهاجمني الخوف.. وتتجسد الحقيقة أمامي كعجوز عارية.. كنت أعرف في قرارة نفسي أنني أقف على جليد رقيق.. وأن كل شيء من الممكن أن ينهار في أي لحظة.. لم يكن مدينا لي بشيء, ولم يعدني بأي شيء.. لكنني في ذات الوقت لم أكن حرة لأهرب.. كان يستعبدني بشكل أو بآخر, وبدون قيود.. وقد حاولت فعلا الهروب منه.. لكنني كنت أكذب على نفسي فقط.. كان من الأسهل علي أن أخرج من جلدي على أن أخرج منه..

وتحطمت ثقتي بنفسي.. كان السؤال الأبدي عن انعدام دوافعه ليحبني يؤرقني في كل ليلة.. هل هي الطريقة التي أتحدث بها؟ التي أفكر بها؟ هل هو جسدي؟ هل هل هل؟ وآلاف الأسئلة التي تثقب القلب كالحراب.. والتي لم أجد لها أي إجابة.. وفقدت القدرة على الحياة ذاتها.. نسيت حتى كيف كانت حياتي قبله.. لم أعد أقرأ الروايات كما كنت أفعل.. لم تعد تدهشني الأغاني كما كانت تفعل.. حتى الأطفال الذين لطالما انتزعوا الضحكة انتزاعا من قلبي, لم أعد أدهش لرؤيتهم.. لم أعد أرى في الحياة سوى حبي له وألمي منه..

وبعد ثلاث سنوات من الخيبات المتكررة وحياة العذاب الجميل هذه, قررت أن أتركه.. واستغرقني الأمر ثمانية أشهر كاملة للخلاص منه.. ثمانية أشهر كاملة لإخراج سمّه من دمي.. ثمانية أشهر من الحزن الطويل.. من البكاء المر.. من تطهير الذاكرة وغسلها من أي أثر له.. من البكاء الذي يعقبه ضحك يعقبه بكاء.. كل شيء في داخلي قد تحطم.. فعليا هدمت كل شيء في صدري وأعدت بناءه مرة أخرى..

- وكيف قررت تركه؟
- في لحظة من لحظات اليأس العظيم, فكرت أنه لن يكون أبدا السبب في سعادتي, بل الصخرة التي تقف في طريقها.. وقررت أن أقنع نفسي بهذه الحقيقة, مهما قال قلبي الكاذب عكس ذلك..
- هل تكرهينه الآن؟
- لا أبدا.. الكره هو الوجه الآخر للاهتمام.. لو حاولت كرهه لما استطعت نسيانه.. الفكرة كلها أنني وجهت عيوني إلى داخلي.. وآمنت أنني أستحق شيئا أفضل.. وموقنة أنه سيأتي.. موقنة تماما بذلك..

#في_شتاء_محزن_كهذا_الشتاء




https://soundcloud.com/niveen-tamimi%2Fhulg3unvdwkk
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...